|
التوحـيد ومشـكلة الشـرِّ
1 تنطوي الزرادشتية أو المزدية Mazdéisme، تقول موسوعة Larousse الميثولوجية الفرنسية، حتى في أكثر مظاهرها ثَنَويَّة dualiste، على شرف تمنحه لله – تعالى – يجعله أكثر من مجرد عدوٍّ أو ضدٍّ للشيطان. فكما أن الله كان واحدًا أحدًا في "العصر الذهبي" في الزمان الماضي (في الأزل)، لسوف يظل كذلك واحدًا أحدًا في الزمان الآتي (في الأبد) بعد أن يقضي على عدوِّه قضاءً مبرمًا. 2 يقول الشهرستاني: أصحاب المقدم الأول كيومرث أثبتوا أصلين: يزدان [اهورامزدا أو أورمزد] وأهْرمن [انكرامانيو]، وقالوا: يزدان أزليٌّ قديم، وأهْرمن مُحدَث مخلوق. ويتابع صاحب الملل والنحل: وقالوا إن سبب خلق أهْرمن أن يزدان فكَّر في نفسه إنه لو كان لي مُنازع كيف يكون؟ وهذه الفكرة كانت رديئة غير مناسبة لطبيعة النور، فحدث الظلامُ من هذه الفكرة، وسُمِّيَ أهْرمن، وكان مطبوعًا على الشرِّ والفتنة والفساد والفسق والضرر والإضرار، فخرج على النور وخالَفَه طبيعةً وفعلاً. وجرت محاربةٌ بين عسكر النور وعسكر الظلمة. ثم إن الملائكة توسَّطوا، فصالحوا على أن يكون العالمُ السفلي خالصًا لأهْرمن سبعة آلاف سنة، ثم يخلي العالمَ ويسلمه إلى النور. 3 ويقول الشهرستاني في مكان آخر: وربما جعل [زرادشت] النورَ أصلاً وقال: وجوده وجود حقيقي، وأما الظلمة فَتَبَعٌ كالظلِّ بالنسبة إلى الشخص: فإنه يُرى أنه موجود، وليس بموجود حقيقةً؛ فأبدع النورَ وحصل الظلامُ تَبَعًا، لأن من ضرورة الوجود التضاد: فوجوده ضروري واقع في الخلق، لا بالقصد الأول، كما ذكرنا في الشخص والظل. إذن، أهْرمن كائن مخلوق ومُحدَث؛ وبالتالي، إن موقعه من اهورامزدا في الزرادشتية كموقع إبليس من الله – تعالى – في الإسلام. 4 ويرى بعضهم أن التوءمين اسپنتامانيو[1] (روح الخير أو الروح المقدس) وانكرامانيو (أهرمن) لم يخلقهما اهورامزدا، بل يلتقيان فيه؛ إذ كانا موجودين من قبلُ، قبل خلق العالم، لكنهما لم يقوما بوظائفهما إلا بعد أن أضحت الأرضُ "ساحة قتال" بين القوتين المتخاصمتين. يضعنا هذا الفهم أمام "تثليث" للألوهة، كما هي الحال في المسيحية والهندوسية؛ وفي هذا دليل على أن العقل الآري يرث طريقةً بعينها في فهمه للألوهة والعالم، في نظر مَن يرون أن للأمم والأعراق خصائص عقلية تَرِثُها عن السلف وتوِّرثها إلى الخلف، تمامًا مثلما ترث وتورِّث الخصائصَ الجسمانية: فعلى الصعيد الديني، الوحدة الإيديولوجية عند الهندأوروبيين (الآريين) ظاهرة جدًّا. فالبنية الثلاثية نجدها في المجتمع (تقسيم العمل بين المفكرين والمحاربين والمنتجين)، كما نجدها في الپانثيون، مجمع الآلهة (آلهة ذوو وظائف ثلاث: السيادة السحرية–الحقوقية، السلطة الزمنية التي تحافظ على النظام الكوني، توزيع الثروات). وبهذا الخصوص، تجد الطبقات الهندية تسويغَها فلسفيًّا في النصوص السنسكريتية بالرجوع إلى مفهوم ڤرْنا varna (ومعناها "اللون")، والمراد به "وظائف". وليس من قبيل المصادفة أن الله العلي القدير يُعتبَر في الهند ثالوثًا يضم براهما (الباري) وڤشنو (الحافظ أو القيُّوم: دهرْما dharma) وشيڤا (المميت، الضامن للنعيم الأبدي). عن موضوع التوحيد الزرادشتي يقول صاحب الأديان في أبعادها الأربعة (كوفمن): يوصف زرادشت أحيانًا بأنه موحِّد على أساس أن الـدايڤا ليست آلهة في الحقيقة وأن أهورامزدا يعلو على جميع الأهورات [الملائكة]. ويتابع كوفمن: لكن هذا التوحيد يضعنا أمام مشكلة أصل الشر، من حيث أن إله الخير، أهورامزدا، لا يخلق إلا خيرًا. فإن كان الشر من خلقه لم يكن إلهًا للخير، وإن كان الشر من خلق غيره، انتفى أن يكون إلهُ الخير الإلهَ الواحد الأحد. 5 بودِّنا أن نتوقف قليلاً عن تناول هذه المشكلة لكي نعود إليها فيما بعد. يقول كوفمن إن مسألة التوحيد غير واضحة تمامًا في "المزامير" (گاتها gāthā)، التي تتحدث عن روحين كانا في بداية الوجود، وفيها يقول المقدس للشرير: لا تتفق أفكارُنا ولا تعاليمُنا، لا إرادتُنا ولا خياراتُنا، لا أقوالُنا ولا أفعالُنا، لا اعتقاداتُنا ولا نفوسُنا. (45: 2) ثم يورد كوفمن "مزمور التوءمين" بكامله للتدليل على أن فكرة التوحيد غير واضحة فيه، وهو المزمور الذي جرت العادة على الاستشهاد به في كلِّ بحث يتطرق إلى موضوع التوحيد الزرادشتي. والمزمور يذهب كما يلي:
1. على كلِّ الذين يسمعون
2. اسمعْ بأذنيك ما هو خير
3. روحان اثنان أوَّليَّان،
4. هذان الروحان تلاقيا في البدء
5. من هذين الروحين، اختار
6. بين الباطل والحق، الشياطين
7. أيها الإله مزدا، عندما يلقى الأشرارُ
8. نريد أن نجعل هذا الوجود
9. ثم يحلُّ الخراب
10. عندما تتذكَّر، أيها الإنسان، 6 تعقيبًا على هذا المزمور (گاتها) يقول كوفمن: لو كان زرادشت موحِّدًا حقًّا، لقال إن الروحين التوءمين – الشرِّير والخيِّر – كليهما قد صدرا عن أهورامزدا. وعلى الرغم من أن لهذا الرأي أنصاره، إلا أن المزامير أبعد ما تكون عن التصريح به. ويضيف كوفمن: على العكس، إن المزامير ما انفكت تُشعِرُنا بأن الروحين اصطدم بعضهما ببعض في بدء الوجود؛ لا بل هي تفسح لنا في مجال النظر في علاقة الروح الخيِّر بالروح الأقدس، وعلاقة الروح الشرير بالباطل. لكن يبدو أن مثل هذه الدقائق المدرسية صرخة بعيدة عن الرؤية الشعرية التي اشتملت عليها المزامير. لكن كوفمن ما يلبث أن يخلص إلى القول: إن ما يعطينا بعض الحق في اعتبار زرادشت موحِّدًا التباينُ بين المزامير [گاتها] والزرادشتية المتأخرة. فالاعتقاد بإلهين عظيمين، أورمزد وأهريمن، أولهما للخير والنور والثاني للشر والظلام، وهو اعتقاد يرتبط باسم زرادشت إلى حدٍّ كبير – هذا الاعتقاد لم يوجد إلا بعد وفاة النبي الفارسي. عندئذٍ فقط أصبح أهورامزدا يحمل اسم أورمزد، وتسمَّى انكرامانيو، الروح الشرير، باسم أهريمن. في المزامير لا يضادُّ أهورامزدا إلهٌ آخر من نفس الحجم، لكن علاقته بالتوءمين الآخرين غير واضحة. ثم إننا لا نجد في المزامير إلهًا آخر غير أهورامزدا يوصف بأنه كذلك، حتى ولا ميثرا Mithra الذي ظل معبودًا حتى في زمن النبي. 7 وأخيرًا، يخلص كوفمن إلى النتيجة التالية: يجب أن لا نسمي زرادشت تعدديًّا أو مُشرِكًا polytheist، أو مؤمنًا بإلهين عظيمين، بل يجب أن نسميه ثَنَويًّا dualist، من حيث إن ثنويَّته كانت ثنوية أخلاقية في الأساس، لكونها ثنوية ذات بُعد كَوْني. وقد دعا الناس إلى أهورامزدا وحضَّهم على قتال الشر – يريد بذلك الناس الأشرار والأديان الزائفة والأرواح الشريرة، بما في ذلك، وقبل كلِّ شيء، الروح الشرير. على أنه لا بدَّ لنا من الإشارة إلى أن الإله اهورامزدا راح يتخذ في الحقبة الساسانية (224 ب م حتى الفتح الإسلامي)، شيئًا فشيئًا، مظهر الإله الواحد الأحد، وباتت الآلهة الأخرى تُعتبَر مجرد صدورات أو تجلِّيات لقدرته الكلِّية. لكن، في هذه الحالة، كيف يمكن تفسير الشر؟ كان حتمًا أن يقود هذا السؤالُ رجالَ اللاهوت إلى افتراض وجود عدوٍّ سموه انكرامانيو، وجعلوا منه شخصًا إلهيًّا مساويًا في القدرة لروح الخير، اسپنتامانيو. لكن، نشأ عن هذه الثنائية، وهي في حالتها الأولى، الهرطقة (الزندقة) التي عُرِفَتْ فيما بعد باسم "المانوية" Manichéisme. لكن، المزديين، بمناسبة دعوة ماني، وللردِّ كذلك على خصومهم المسيحيين، ثم المسلمين فيما بعد، أعادوا تشييد عقيدة التوحيد على أسُس جديدة، فجعلوا من اسپنتامانيو نوعًا من ملاك كبير يأتي في المرتبة دون اهورامزدا. ومنذئذٍ أصبحت البنية الأساسية كما يلي: اهورامزدا، الرب الوحيد الذي يحكم العالم الذي تتصارع فيه قوى الشر، بقيادة انكرامانيو، وقوى الخير، بقيادة اسپنتامانيو. وبعد الفتح الإسلامي، كُتِبَ اللاهوت المزدي باللغة الفهلوية، فاتخذ اهورامزدا اسم "أورمزد" وانكرامانيو اسم "أهريمن". قلنا إنْ كان زرادشت موحِّدًا – وهذا ما نميل إليه –، تضعنا مشكلةُ الشر أمام أحد قولين: إما أن يكون إله الخير اهورامزدا هو خالق الشرِّ أيضًا، مما يترتب عليه أن اهورامزدا ليس بالإله الخيِّر؛ وإما أن يكون إلهٌ آخر قد خلق الشر، وفي هذه الحالة لا يكون اهورامزدا الإله الوحيد! 8 وقد طرح الفيلسوف الإغريقي أپيقور المسألة على النحو التالي: إنْ كان الله يريد أن يمنع الشرَّ ولا يستطيع، فهو غير قدير؛ وإنْ كان يستطيع أن يمنعه ولا يفعل، فهو غير خيِّر؛ وإن كانت لديه القدرة والإرادة كلتاهما، فمن أين الشر إذن؟ 9 يردُّ زرادشت منشأ الشرِّ إلى سوء اختيار الإنسان. بما أن الشياطين هي من ذرية انكرامانيو، وتحاول أن تُضِلَّ الإنسان عن سواء السبيل بالأفكار الخبيثة والأقوال البذيئة والأفعال الذميمة، فإن الواجب الأعلى للإنسان، المهمة الأولى التي تقع على عاتقه، أن يقاوم هذه الإغراءات ويقضي عل القوى الشريرة باختياره الصحيح. إذ إن اهورامزدا عندما خلق الإنسان خَلَقَه كائنًا أخلاقيًّا يستطيع التمييز والاختيار بين الخير والشر: فالروح الأقدس، الروح الخيِّر، اسپنتامانيو، يلهم الإنسان من خلال بوهومناه (بهمن) إلى الحق والصواب ويُعينه على تحقيقه؛ لكنه متروك لكلِّ إنسان أن يتخيَّر طريقه. وقد أجملت المزامير – كما مرَّ معنا – الوضع على النحو التالي:
روحان
اثنان أوَّليَّان 10 في مؤلَّفه الشهير نداء إلى الأحياء، يقول روجيه غارودي: يذهب زرادشت إلى أنه ليس هناك غير إله واحد هو أهورامزدا، وهو إله لا يصدر عنه شر. لقد خلق أهورامزدا لدى الإنسان حرية الاختيار بين الخير والشر، وكلُّ إنسان مسؤول عن اختياره. هذا هو المبدأ الأساس لتعليم النبي الفارسي. فللإنسان أن يتطوع في جيش الشر، وينقاد إلى رئيس ملائكة مخلوع، أهريمن، أو يكون "من الذين يشتغلون في تنمية النهار منذ الصباح"، من أجل انتصار مبدأ الخير، اسپنتامانيو. 11 ويحاجج روجيه غارودي: ما من شكٍّ في أن معركة تدور رحاها في الزمان والمكان بين مبدأين: مبدأ النور ومبدأ الظلام. ولكن، فيما وراء ذلك، هناك الحرية. لقد جعلت هذه الحريةُ من اختيار الشرِّ أمرًا ممكنًا. وهذه الحرية قد خلقها الله الواحد الأحد. والإنسان يستطيع في كلِّ لحظة نيل خلاصه – وأعني استرجاع حريته الأصلية التي كان يتمتع بها قبل اختيار الشر. هكذا، في البداية ليس السقوط، بل الاختيار. ويقول متابعًا: هذه الرؤية الجديدة لله تقود إلى رؤية جديدة للعالم، رؤية لا تحمل الإنسان على الهروب من العالم بحجة أن الشرَّ إله في نفس قوة الخير واقتداره، وأن الخلاص في التخلِّي له عن الأرض من أجل أن نحيا حياة سماوية. على العكس، يرى زرادشت أن الحياة معركة، معركة لا تنقسم: داخليًّا (ضد غرائزنا الشريرة المظلمة الخاصة) وخارجيًّا (ضد مؤيِّدي عمل الظلام). 12 ويتابع غارودي أيضًا: هذه العقيدة تضع العمل بجميع أبعاده، وفيما هو داخلي من الفعالية، في المقام الأول. كل إنسان محارب ومتصوف في آنٍ واحد: له ثقة مطلقة بالنصر في نهاية المطاف على يد المنقذ الأخير، المخلِّص الذي سوف يأتي لكي يتمِّم تحوُّل العالم في نهاية الأزمنة. ولسوف يكون انتصار ساوشيانت، في آنٍ واحد، انتصارًا للحرية المسترَدة وانتصارًا لنظام إنساني على الأرض. وكل مَن يشارك في مجيء المنقذ يكون هو ساوشيانت أيضًا. وهذا الانتصار هو في آنٍ واحد بعث وثورة. إذن، محاربة الشر، والقضاء على الباطل، وسلوك مسلك الأخيار، هي الطريق إلى استعادة الحرية المفقودة. فأنت حر بمقدار ما أنت خيِّر، وأنت عبد بمقدار ما أنت شرير. هنا ترتبط الحرية بقيمة أخلاقية تنأى بها عن التحلُّل أو التحرر الذي يؤدي إلى انحلال الفرد والمجتمع. 13 والشقاء الذي يصيب الإنسان هو الثمن الذي يدفعه لقاء حريته. بهذا الصدد يقول الفيلسوف الروسي نيكولاي برديايف: العالم ممتلئ بالشر والشقاء، لا لشيء إلاَّ لأنه مؤسَّس على الحرية – ومع ذلك فهذه الحرية تشكِّل كرامة الإنسان وعالمه كليهما. ولا شكَّ أنه على حساب رفض الحرية يمكن القضاء على الشر والألم، ويُجبَر العالم على "الحرية" و"السعادة". في هذه الحالة يفقد الإنسان شَبَهَه بالله الذي يكمن أصلاً في حريته. 14 لكن، ما بال الشرور الآتية من الطبيعة ولا يد للإنسان فيها؟ الفيضانات والزلازل والحرائق تقع على الإنسان، ويذهب ضحيتها مئات ألوف البشر بضربة واحدة. هل يمكن لنا القول بأنها متأتية عن سوء اختيار الطبيعة، وهي غير عاقلة، أو عن سوء اختيارٍ اختارَه الإنسان؟ قطعًا، لا يمكن لنا القول بأن الطبيعة اختارت الإنسان وبأنها اختارت كوارثها التي تنزلها به، لأنها ليست من صنعه. لكن يمكن لنا القول، من منطق ميتافيزيقي، بأن الإنسان هو الذي اختار الطبيعة، إن تكن هي لم تختره، واختار أن يعيش في عالم الزمان والمكان، وكان من قبلُ ينعم في حياة "لدنية"، غير منفصل عن الله، حياة لا يتطرق إليها فسادٌ أو خلل، لا ألم ولا موت! 15 يشير الشهرستاني إلى شيء من هذا القبيل: [...] وزعموا أن النور خيَّر الناس، وهم أرواح بلا أجساد، بين أن يرفعهم عن مواضع أهْرمن، وبين أن يُلبسَهم الأجساد فيحاربون أهْرمن، فاختاروا لبس الأجساد ومحاربة أهْرمن، على أن تكون لهم النصرة من عند النور، والظفر بجنود أهْرمن، وحسن العاقبة. وعند الظفر به وإهلاك جنوده تكون القيامة. 16 إذن لقد اختارت الأرواح أن تلبس الأجساد وتحارب أهرمن وتنتصر عليه، بعد أن خُيِّرتْ بين لبس الأجساد وبين أن تبقى بمنأى عنه و"ترتفع عن مواضعه"، على حدِّ تعبير الشهرستاني. فأهرمن ليس في الإنسان وحسب، وإنما هو في الطبيعة أيضًا! إن هذا يذكِّرنا بقوله تعالى: إنَّا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبَيْنَ أن يحملْنَها وأشفقْنَ منها وحَمَلَها الإنسان إنَّه كان ظَلومًا جهولاً (الأحزاب 72) 17 فالإنسان قَبِلَ التحدِّي، وعليه أن يتحمل المسؤولية ("الأمانة"): مسؤوليته تجاه العالم أن يكتشف أسراره ونواميسه بغية الإفادة منها في سعيه الدءوب الهادف إلى إبطال الشرط البشري، بالتحرر من الألم والانتصار على الموت، وبالتالي التحقق بالألوهة. فالعالم مابرح ذلك المخزون الهائل من الأسرار التي لم يُفضَّ عنها الفدام، وهو ما برح يُخلَق خلقًا جديدًا في كلِّ يوم. وليست المصائب تنزل بالإنسان إلا تنبيهًا له إلى سرٍّ لم يكتشفه، أو لفتًا له إلى ناموس لم يبلغ وعيَه. حتى إذا اكتشف السرَّ وقبض على الناموس اتسعت أبعادُ ملكوت الخير وضاقت أبعادُ ملكوت الشر. والإنسان، إذ يكتشف السرَّ الجديد ويقبض على الناموس الجديد، إنما يُخلَق خلقًا جديدًا، وتتسع أبعادُ حريته، ويدنو قُرْبًا من هدف قهر الموت ومعانقة الخلود. هنا يمكن لنا قَرْنُ الحرية بالمعرفة والقول: أنت حر بمقدار ما تعرف، وأنت عبد بمقدار ما تجهل، بعد أن قَرَنَّا الحرية بالخير والعبودية بالشر. يجب ألا يُنظَر دائمًا إلى الشرِّ مقيدًا في لحظة وقوعه وفي آثاره المباشرة؛ يجب النظر إليه في سياق ما سوف يليه من آثار غير مباشرة بعيدًا عن تلك اللحظة: فإذا كان وقوعُ صاعقة على مبنى شرًّا بحدِّ ذاته، خصوصًا إذا نجم عنه خرابٌ وموت، فإنَّ بحث الإنسان عن وسيلة يتلافى بها آثار الصاعقة، واختراعه لهذه الوسيلة، وإنقاذ أعداد لا حصر لها من الناس والمباني بفضل هذه الوسيلة، أمر لا يُنازَع في أنه خير؛ وهذا الخير هو الذي ترتَّب على الشرِّ الحادث من جراء وقوع الصاعقة[2]. 18 يعرض صاحب الأديان في أبعادها الأربعة حلولاً لمشكلة تَعارُض خلق الشر مع كون الإله إلهًا واحدًا رحيمًا عادلاً محبًّا خيِّرًا، فيقول: لا يمكن الإجابة على مشكلة الشر مادام المرءُ يؤمن بإله واحد قدير خيِّر رحيم عادل. لكنه حالما ينكر واحدة أو أكثر من هذه الصفات تزول المشكلة: الإيمان بإلهين، أحدهما خيِّر والآخر شرير، هو طريقة لحلِّ هذا الإشكال؛ التعددية الإلهية [الإيمان بآلهة متعددة] طريقة أخرى؛ الإيمان بإله واحد فقط، لكنه غير خيِّر إلى ما لا نهاية، ولا عادل إلى ما لا نهاية، ولا رحيم إلى ما لا نهاية، طريقة ثالثة؛ الإيمان بإله يتصف بهذه الصفات الأخلاقية، لكنه غير قدير، طريقة رابعة؛ عدم الإيمان أصلاً بإله طريقة خامسة. 19 تعقيبنا على هذه "الحلول" أنها لا تشكل حلولاً بقدر ما تشكل هروبًا من اتخاذ موقف محدَّد وسط خيارات صعبة. وإنما وَضَعَ كوفمن هذه "الحلول" من أجل إجابة العقل البشري الواقع في أَسْر مقولاته categories، من مثل مقولة "مَن خلق الله؟"، أو مقولة "استحالة انبعاث الإنسان جسدا وروحًا"، أو مقولة "لا يُخلَق شيء من عدم". فإما أن يصوغ الإنسانُ عقيدتَه الدينية وفقًا لهذه المقولات، فنكون عندئذٍ أمام فلسفة لا دين؛ وعندئذٍ تعبُر الأفكار الدينية من "فلتر" العقل البشري، فيبقى منها ما يؤيِّده العقل (أي عقل؟ وعقل من؟) ويسقط ما لا يتفق معه؛ وعندئذٍ يكون الإيمان (وهو نوع من معرفة حدسية لا دليل عليها) أثرًا من نشاط عقلي (ناتجًا ثانويًّا byproduct)، يضعف أو يشتد تبعًا لقناعة الإنسان العقلية إمَّا تعاوَرَها ضعفٌ أو شدة. وإما أن نعتبر العقل ومقولاته جانبًا واحدًا فقط من جوانب النفس البشرية التي تتخطَّى حدود الزمان والمكان؛ وعندئذٍ يكون العقلُ البشري ترجمانًا عن خبرة تحيط بالعقل ولا يحيط بها! *** *** *** تنضيد: نسرين أحمد |
|
|