|
الموقع الإلكتروني، وقد دُفعتُ دفعًا إليه!
حيرةٌ مريرةٌ وقعتُ في شَرَكِها طويلاً، قبل أن أحزم أمري وأُطلق موقعي الإلكتروني الخاص لجعله متاحًا لعامة الجمهور، أو وفق المصطلحات الإنترنتية، لوضعه online. في الأساس، أنا أمقت أن يقدِّم المرءُ نفسَه للآخرين ويقول لهم: "تعالَوا إلى موقعي، اقرأوني، اسمعوني، أو حتى انظروني!" وفي ظنِّي، أو أقلَّه وفق المناقب الأدبية التي عرفناها منذ اليفاع، أنه ينبغي للكاتب في مختلف وجوهه الترفع عن عرض "أناه"، وليس فقط عدم التباهي بها والصياح يمنة ويسرة: "فعلت كذا، وحقَّقت كذا، وأبدعت في كذا، وأتقنت كذا"، وهلمَّ جرًّا من ألف أمر وأمر يمكن لأيِّ كاتب أن يقيم عليه ما يُسمَّى بالفرنسية matraquage [حرفيًّا: "الضرب بالهراوة"، وهو يعني مجازًا تكرار شعار أو صورة دعائية بهدف "إقناع" متلقِّي "الضرب"! – المحرِّر]. وإنْ عنى لي هذا المصطلح فيعني، وفق رؤيتي، عملية غسل دماغ للمتلقِّي. وبأسف شديد أقول، إلى حدِّ الجزم، إن عملية "غسل الدماغ" تلك تفلح راهنًا فلاح النار في الهشيم. ذاك أن قراءً كُثُرًا جدًّا – والطامة الكبرى أن بينهم مثقفين كُثُرًا جدًّا – يقعون ضحايا غسل دماغهم من حيث لا يدرون! وكم أتذكر هذا المقتطف من إحدى مسرحيات الرحابنة: "بهالبلد كل شي بيصير! وتران يجي بلا خط! بهالبلد كل شي بيصير!" – أتذكَّره كلما أدركت، أقلَّه قارئةً متابِعةً تحاول أن تكون يقظة ونقدية ومجردة، أن ثمة طبلاً وزمرًا هائلاً دائمًا ومبرمَجًا يرافق نتاجات "بعضهم" في المجالات الأدبية والفنية عندنا. ثمة أشخاص تُقام سلفًا لأعمالهم الآتية ولائمُ المديح والإشادة التي تُكال فيها من جعبة اللغة جميعُ المصطلحات الدالة إلى العبقرية لإغداقها على هؤلاء. وهنا رُبَّ سائل يسأل: "وأي قاموس أبقيتم، يا سادة، لاستخدامه في الكلام على العباقرة الحقيقيين؟!" والاعتراض هنا ليس قطعًا ضدَّ أشخاص بعينهم، بل ضدَّ المبدأ وضدَّ هذا الأداء الشاذ والمسيء للأدب وللفن بعامة، بحيث لا يبين في الواجهة سوى مَن جعل سلاح الإعلام والإنترنت مطيَّته السهلة والثمينة لركوب عروش الشهرة الوثيرة. وهذا السلاح مُتاح لمَن يشاء، شرط أن يقرِّر استخدامه، بل الأحرى أن يؤمن به سلاحًا. أمَّا أولئك الممتلئون، الصامتون، المترفِّعون، – المترفِّعون حقًّا، ليس إلا لأنهم مدركون استحقاقهم، أمام ذواتهم في الدرجة الأولى، – فلا يشعرون بالحاجة إلى جلبة وضجيج وصياح على السطوح. وإنْ أزعجتْهم المبالغةُ في الجلبة القائمة لأيٍّ كان، فليس ذلك "غيرةً وحسدًا"، وفق التهمة الجاهزة، السريعة كطعام الـfast food، التي لا يجد مطلقوها سواها للتلطِّي خلفها، بل لأنهم أساسًا ينأون بأنفسهم عن هذا الأداء الثقافي المسطَّح الذي بات يماثل تمامًا الأداء السياسي للأنظمة الدكتاتورية البالية التي تبجِّل أصحابَها معتقدةً أن جميع مَن حولها مجرَّد ملحقات وتابعين يعيشون على فتاتها. – ويا لبؤس هذا الاعتقاد، ويا لسخفه! منذ دخولي عالم الإعلام في البداية، وعالم الأدب والنقد لاحقًا، وأنا أُصاب بخيبات! دعوني أشرح: أقرأ وأسمع وأشاهد إعلانًا عن عمل فني أو أدبي ما، فيفرح قلبي، وأمنِّي نفسي بأنَّني سأُسَرُّ وأغتني وأحلِّق نشوةً بما سأرى وأسمع أو بما سأطالع. لكنَّ المعاينة من كثب لهذا العمل أو ذاك الكتاب غالبًا ما تجعلني أترحَّم على مَن قال يومًا: "اقرأ تفرحْ، جرِّبْ تحزنْ!" طبعًا، يمكن لنا دومًا الخروج بأمور حسنة وجيدة من أيِّ عمل فنِّي أو أدبي، إلاَّ إذا كان في غاية الإفلاس! لكنَّ المؤذي لي كان، ويلبث، ذاك الشعور بأنَّ ثمَّة مَن كذب عليَّ، مَن أوهمني، مَن ضلَّلني، أو أيضًا مَن ظنَّ أنَّ في إمكانه غسل دماغي وجعلي أصدِّق أنَّ هذا العمل أو ذاك الكتاب في مستوى الپروپاغندا التي أثيرت حوله. غالبًا ما أذهب متحمِّسة لأشاهد أو أقرأ أو أسمع، وأعود يأكلني الخذلان، وأيضًا شيءٌ من الغضب، لأنَّ الكلام المروِّج يجعل عملاً ما في مستوى، حين أن العمل في مستوى آخر تمامًا! الهوَّة مرعبة بين القول والحقيقة، بين الدعاية والواقع، بين ما يُراد ويخطَّط للعمل أن يكون وبين ما هو عليه حقًّا! ولنقلها أيضًا: الهوة فظيعة أحيانًا بين طاقة الشخص الإبداعية في ذاتها وبين ما يُعطاه من خارج ذاته البحتة. وأعود إلى نواة مقالتي، لأقول ما لا يخفى على كُثُر، سواء رفضوه أم ارتضوه "لغاية في نفس يعقوب"، سواء رأوا ضرورة ملحَّة لوجوب قول الأشياء على الأقل أم تغاضوا عنها قانعين بمقولة: "وهل أنا مَن سأقوِّم المقتاية؟" سأقول – وكما عادتي في قول أشياء أعرف سلفًا أنها ستخسِّرني في قاموس معايير الربح والخسارة الرائجة، المنضوية تحت لوائها غالبية البشر على هذا الكوكب المهتز –؛ سأقول ما يقولونه في الخفاء لأنفسهم ولأصدقائهم، ويؤثرون عدم الجهر به علانيةً للأسباب السالفة، أو ربما لأسباب أخرى أيضًا؛ سأقول أمرًا ليس مبتكَرًا ولا استثنائيًّا ولا مستجدًّا ولا اكتشافًا، لكنني على طريقتي سأقوله: سأقول إنَّ الأوساط الأدبية في الأرض كلِّها، حتى في الدول المعتبَرة الأكثر تحضُّرًا وتثقُّفًا وديموقراطية وليبرالية واحترامًا لحقوق الإنسان، وخاصةً وتحديدًا في عالمنا العربي وعندنا في لبنان، ثمَّة وضع أدبي نقدي ثقافي، لعلَّه في بعض منه في أوج شذوذه، وأكاد أقول إنَّه حتمًا كذلك. كيف لا، وبعض المشهد الأدبي الثقافي في انحدار مريع إلى هاوية مفاهيم الإغواء الدعائي المبرمَج الذي يبدو غالبًا وقحًا حين هو لسلعة تجارية؛ فما الحال إذا كانت الپروپاغندا تلك لصنيع أدبي! استفيقوا، أيها الأدباء والشعراء والمثقفون! بل أنادي الحقيقيين فيكم: انهضوا من سباتكم أو استسلامكم، وازجروا عاليًا هذا الفساد المتسلِّل من عالمَي السياسة والاقتصاد إلى هيكل الأدب والثقافة، بل أيضًا من عالم الفن المنحدر إلى ما تحت الدرجة العاشرة! أقول "هيكل"، وأقصدها بقوة فائقة! بربكم، تشبثوا بذرَّات باقية بعدُ من ذخيرة المقدس في الأدب! بربكم، أبقوا عليها، ولو أنَّ معايير النقض والهدم والهتك وهلمَّ جرًّا تغريكم شديدًا. وإذ أقول "مقدَّس"، أعني حتمًا نوعًا من الحرمة المعنوية المتحرِّرة من أيِّ منزل يماثل المغلق الديني؛ وإذ أقول "مقدَّس"، أعني فقط النأي بالأدب والكتابة عن "بازارات" الاستهلاك والتسليع والمبارزات الدعائية الرخيصة. ثم، إنْ لم تحُولوا دون انزلاق الأدب والكتابة إلى مدارك ودهاليز خطيرة كهذه، الأجدى الكف عن التباهي باختلافكم عن السياسيين والتجار والسماسرة! الأجدى الكف – وهنا أرفع صوتي عاليًا – عن تغنِّيكم الأجوف بنبل الأدب والكتابة! صراعًا مريرًا – وأكاد أقول داميًا – خُضْتُه مع ذاتي قبل اتخاذ القرار بتشييد موقع إلكتروني خاص بي – وبلغ هذا الصراع حدَّته قبيل إطلاق الموقع ووضعه online. ليالي ثقيلة أمضيتُها في التردُّد الشاق، وكم قلت: "لا لا، لن أدخل هذه اللعبة، ولو أنني تكبَّدت متاعب تشييد الموقع..." – إلى أن رضختُ ووُلِدَ الموقع. وليس ما سأقوله في هذا السياق تبريرًا، بل عرضٌ لمسار واقعيٍّ فرضتْه اختباراتٌ وتجارب شخصية مؤذية، ليس لي ولكُثُر وحسب، بل خاصةً وأساسًا للمشهد الأدبي والثقافي بعامة. لطالما آمنت أنَّ لكلِّ كتاب الحقَّ في نيل فرصة نقده إيجابًا أم سلبًا. وهذا أقلَّه ما حاولت التزامَه قدر المستطاع، ومنذ البدء، ناقدةً أدبية. والقريبون يعرفون ما أردِّده منذ زمن من أنَّ على المرء، خاصةً إنْ كان ناقدًا وكاتبًا، أن يتعامل مع الكتاب والنص على أنهما روح؛ ولذا عليه أن يُعمِلَ ضميرَه فيهما ومعهما. لكنَّ المناخ العام أراني ما لم أكن أودُّ أن أراه: مقايضات فوق الطاولة وتحتها؛ تكتُّلات ثقافية ناشطة على قدم وساق، ترذل كلَّ مَن يرفض دخول "حَرَمها" وثرثراته والخضوع لمعاييره! ومَن يفوِّت على نفسه "نِعَمَ" تلك التكتُّلات "يخسر نفسه كاتبًا، دنيا وآخرة"! أي أنَّ نصَّه وكأنه في نظرهم غير موجود أساسًا – وإنْ كان بعضهم يخشون ربما في أعماقهم سطوة نصِّه ويحسدونه سرًّا عليه، و"تبظُّ" عيونُ بعضهم خُلسةً لنقله أو تقليده، أو بكلِّ بساطة، للسطو عليه بألف حيلة وحيلة. إذن، عليه أن يدرك أنَّه لن يقرأ اسمه لا في مقالة نقدية جدِّية وصادقة عنه؛ لن تَرِدَ حروفُ اسمه في سيل الأنثولوجيات المتدفِّقة من كلِّ حَدَبٍ وصَوْبٍ والمعيبة في استنسابياتها على طريقة أهل البلاط والحاشية والقبيلة! لن يكون له يوما "نعيم" المشاركة في أيِّ مهرجان خارج لبنان، لأن اسمه لم يَعبُر إلى القيِّمين على المهرجانات، وتاليًا، لم يَعبُر إليهم نصُّه؛ – وذلك ليس إلا لأن العبور هذا لا يمرُّ إلا بمباركة بعض تلك التكتُّلات المنصِّبة نفسَها وصيَّة على الأدب والأدباء. شعراء وشاعرات وكتَّاب وكاتبات كُثُر يعانون من هذا الواقع، كلٌّ وحده؛ وثمة يقين أنَّ هؤلاء يدركون تمامًا كُنْهَ ما تقدَّم لأنه يمسُّهم بطريقة أو بأخرى. كم اختبر بعضُهم على مرِّ الأعوام أنَّ ثمَّة "ڤيتو" على أسمائهم ونتاجاتهم في منبر ثقافي معيَّن؛ وكم تأكَّد بعضهم الآخر أنَّ أسماءهم تُستبعَد عن سابق تصوُّر وتصميم من أية أنثولوجيا أو أيِّ نشاط ثقافي، في لبنان أو خارجه. وفي اعتقادي أنَّ الروايات الواقعية المعيشة في هذا السياق أكثر من أن تُحصى. إنَّها محاولة الإلغاء، بل هو الإلغاء بعينه! محاولة الاغتيال المعنوي! (ألا توازي محاولة التصفية الجسدية سياسيًّا؟) وبعدُ، ولكلِّ ما تقدَّم، ولأسباب وحيثيات ووقائع أخرى كثيرة شخصية وغيريَّة لا يتسع المجال لعرضها، وقد لا تليق كتابتُها حتى، أذعنتُ لضرورة قيام موقعي الإلكتروني الخاص. بتُّ أتفهَّم عميقًا لِمَ "استلحق" كتَّاب كُثُر أنفسهم وأقاموا مواقعهم الخاصة، ولو أنهم ترفَّعوا طويلاً عن الفكرة. حضور "إنترنتي" على غرار الموضة الافتراضية؟! لِمَ لا؟ فليكن! أقلَّه لئلا يظنَّنَّ ظانٌّ أو مريض مخيِّلة يحسب الحضور الإنترنتي "سماءه السابعة" وحده أنَّ أولئك المترفِّعين هم في دائرة العدم أو الغياب أو الوهن أو الهُزال! *** *** ***
عن
المستقبل، الأحد 27 نيسان 2008
|
|
|