|
آخِـر مَن تبقَّـى من مـوالـيده
كان لوقفة سيارته تلك أمام باب حديقة الشهداء[*] ونزوله منها برفقة حفيده أثرٌ كبيرٌ على ذلك الوجه الذي زيَّنتْه تجاعيدُ العمر. وهو يدخل من باب الحديقة الخارجي ندت عنه تنهيدةٌ من هواء محتبس من سبعين أو تزيد. توقَّف وسطها وعيناه تقودان فؤاده إلى حيث تشاء ذاكرتُه بين مساطب الخشب على جانبَي الممرات الدائرية الضيقة، المرصوفة بقطع الشتايكر المتآكل. كانت كفُّه تتحسَّس طعم اللحظات التي غادرتْه منذ زمن وهي تمسِّد على جذع شجرة الكينا العجوز وعلى روحه المتآكلة. ضحك، فضحك الحفيدُ لضحكه. نظر إليَّ مستغربًا. قلت: - أضحكُ لضحكتك التي لم أرَ مثلها من قبل... إنها الذكريات... فقد لا نعرف قيمة ما مرَّ بنا إلا بعد أن يتخطَّانا. وكانت جملةٌ حملتْها ذاكرتُه دينًا، كلما مرَّت الأيام زادت من ثقلها على هامته. ما الذي يعرفه هذا الغر المتبجح عنها؟! فقد كان يقول دائمًا إنها أوقات وتمضي، وما قلناه قبل قليل بات خلفنا الآن، وسيبتعد عنَّا أكثر حتى التعتُّق. أطرق برأسه. لقد غزاه الاكتئاب مؤخرًا بعد موت آخر أصدقائه، فتيقن من أنه أمسى وحيدًا. فابنه، مدير السجل المدني، مازحه قائلاً: - أبي، أنت آخِر مَن تبقَّى من مواليدك! سرت قشعريرةٌ في بدنه المنهك، فسحب يده من على الشجرة. نظر إلى أشجار الكينا والسرو والبرتقال التي لم يؤثر في أوراقها شتاءُ المدينة الطويل. ابتسم الفتى وهو ينظر إلى جدِّه الذي يستشعر من عمق ذاكرته العجوز اخضرارَ الكلمات التي يبَّسها قانونُ الخمس والثمانين عامًا من عمره، وعيناه على المسطبة الإسمنتية التي بدأ لونُها القديم يعود إليها والتكسرات التي على جوانبها تزول. كان صديقه الشاعر يقف عليها وهو يلقي الشعر على الطريقة المربدية. كانوا أربعة في مرحلة دراسية واحدة: قاص ورسام والشاعر، وكان أكبرهم سنًّا. كانوا يتفاخرون بما يملكون وما يقرءون. - "مسطبة الشاعر..."، غمز للفتى بعينيه وإصبعه مسدَّد إليها. - ماذا يعني؟! - كان فتى في عمرك. - وأين هو الآن؟! - انتحر في الثلاثين من عمره... - أعرف ذلك! - سأحدثك عن شيء آخر هذه المرة... نوايا الارتباط كلها تبدأ بالحب. ولاعتبارات ومسمَّيات كثيرة تُرافِقُ مَن تجاوز الثمانين، كانت لهذا الحفيد الحظوةُ الكبرى في نفسه، دون فصيل الأبناء والأحفاد. لذلك كان الحفيد هو المصب لِما لم يجهر به لأحد، فكان هذا الحب. كان أكثر اعترافاته تكرارًا هي قصة حبِّه الفاشلة لزميلة له في الكلِّية، وهو يصور في براعة تصوير الحكواتي وقوفَه برأس الزقاق ليلة زفافها، وهي تخرج مع عريسها الثري ليستقلا السيارة الفارهة إلى فندق ضخم لقضاء شهر العسل. ثم، بعد مدة من الزمن، يكتب قصيدة سرعان ما تنتشر في كلِّيته، فيحفظها طلبةُ الجامعة، وبعد سنوات يغنِّيها مطربٌ مشهورٌ باسم شاعر آخر! لم يكن الفتى يُظهِرُ أمام جدِّه عدم اهتمامه لحكايات كهذه. وعلى الرغم من معرفة الجدِّ بهذا الأمر، إلا أنه لم يعرف أن الحفيد قد أمسك بخيوط حقيقة من خلال كلمات سلتت من لسان جدِّه عن غير وعي منه، فكشفتْ قوة خياله. لكنه بقي يتساءل عما هو أهم، وهو الذي جاء به إلى الحديقة، لأنه يعرف أن جدَّه مُفاخِرٌ كبير بماضيه الشخصي، المرتب وفق خياله الذي أوصله إلى الثروة والجهبذة والاسم الرنَّان في المجتمع، – إلا فيما يخص أصدقاءه الثلاثة، تلك الفجوة الزمنية المبتورة من عمره التي أعقبتْها حكاياتٌ كثيرةٌ هي من نسج خياله، وخاصة حين يكونان وحدهما، والجد في استرخائه، ووجهه وضَّاح وثغره باسم ويبدأ في النسج: أحداث وبطولات فريدة، واضحة، دقيقة، خالية من شوائب العفوية والغموض غير المصطنع – كيف مات الاثنان – هذا إنْ صدقتْ رواية انتحار الشاعر –، وما علاقة سيد حديقة الشهداء بموتهم. جلس الاثنان على مسطبة الشاعر. رفع الشيخ إصبعه في وجه الفتى، متحديًا جرأة حفيده وصفاقته: - كان رجلاً وسيمًا، بطوله الفارع وألفته المصطنعة، ونحن فتية في المرحلة الأخيرة من الدراسة الإعدادية، حيث كنا متَّفقين على مراجعة مادة كلَّ يوم. كان حصة ذلك اليوم التاريخ... مازلت أتذكر كلماته. - مَن أطلق عليه هذا الاسم؟ - الرسام. - لماذا؟ - لِمَ تستبق إجاباتي دائمًا؟!. دَعْ لساني ينساب بما فيه... إنها ذكريات، يا ولد، ذكريات... في ذلك اليوم، رفع يديه عاليًا كخطيب مفوَّه: - "أتعرفون ما معنى التاريخ؟ إنه إنسان! - "إنسان؟! - "مثلي ومثلكم، يأكل ويشرب ويزعل ويحب ويكره." كان رد الشاعر مشوبًا بسخرية مبطَّنة بإعجاب. - "ومَن أبواه؟ - "إنهما يتغيران باستمرار عبره... منذ السيد هيرودوت. - "ومتى وُلد؟ - "أواه، ذلك خارج إدراكنا للزمن. - "طيب، وأين مسقط رأسه؟ - "هنا... هنا..." ثم ابتعد عنا ودار في الحديقة وهو يصيح: "هنا... هنا..."، وجُلاَّس الحديقة ينظرون إليه ويضحكون، حتى قال الشاعر: - "لقد أضيف مجنونٌ جديد إلى الحديقة"، ووقف مراقبًا ممرات الحديقة المرصوفة بالشتايكر المحاط بأزهار الجنبد والجولونيا وحلق السبع والقرنفل وورد الدفلى، التي هي أشبه بأسوار معطَّرة تحيط بتلك الدوائر التي غلَّفها بساطُ الثيل. انتبه إلى الجموع التي افترشت تلك الأرضية الخضراء، من طلبة ومجانين وسكيرين مقطوعي العائلة وجهابذة غادروا أزمانهم ومسنِّين متوحدين، والجميع سعداء بهذا الملاذ الآمن، وسيد حديقة الشهداء يدور بينهم موزعًا تعليقاته عليهم وعباراته التي تُضحِك الآخرين. كان يفعل ذلك كلَّ يوم قبيل مغادرته الحديقة، يسير ماسحًا بعينيه موجودات الحديقة كلَّها، من بشر وكائنات أخرى، وهو يرسل إليهم قُبَلاً في الهواء، حتى ينتهي إلى آخر مسطبة قبيل الباب الخارجي، حيث مجموعة من الأرمن المسنِّين، بقبعاتهم وغلايينهم وقمصانهم المزركشة بمربعات حمر وزرق وصفر. وقبل أن يصل إلى الباب الخارجي، يمر على صيادي اليانصيب: مجموعة من الحمَّالين والباعة الجوالين ومَن توقف عن الاستمرار واكتفى بأحلامه الرمادية عن الثراء الذي يهبط فجأة. كانوا يجتمعون هناك كلَّ أسبوع ويتحدثون بقناعة الرابح عن حلم الجائزة الأولى، ويذهبون بعيدًا في أحلام يعيشونها بأقدامهم الطينية. لقد قطعوا عن أفواههم الكثير من متع الدنيا، وحوَّلوها إلى تلك الأوراق الوردية المزيفة. ثم في نهاية اليوم، يغادرون الحديقة، تاركين خلفهم كومة من الأوراق الممزقة وأحلام متسربلة بالمستحيل ولعنات كنَّاس الحديقة. لم يكن الفتى بقادر على مجاراة جدِّه، لكنه كان مصمِّمًا على معرفة الحقيقة التي كان جده يمنحه نصفها طوال السنوات الماضية. أراح الجد بدنَه على المسطبة: - "كان ما يُعرَف الآن ببنك معلومات... أو هذا المسمَّى بالإنترنت." وغطس خيالُ الشيخ عميقًا إلى ذلك اليوم حين وقف الرسام أمامه في محاولة للإيقاع به. - "حدِّثنا عن الحديقة. - "قبل خمس وثمانين عامًا كانت تُعرَف باسم حديقة فانشو، على اسم الجنرال الإنكليزي الذي حكم المدينة... وهذه الأشجار التي رضعت صمت الحديقة وهي شتلات ما تزال واقفة، عملاقة، سلوانها الصمت... ألم أقل لكم إن مسقط رأس التاريخ هنا." وصعد على "مسطبة الشاعر"، وكدلاَّل ينادي على بضاعة صاح بصوت جهوري: "من هنا خرج شلمنصر الثالث، فقاتل العيلاميين ودحرهم. أما الطين الذي كان كتبةُ آشور بانيپال يعملون منه الرقُم فقد كان يأتي من هنا، حتى اكتملت أول مكتبة في التاريخ وقد حوت عشرة آلاف رقيم. أمَّا حملة العشرة آلاف مقاتل التي كان يقودها كسينوفون فقد مرَّت من هنا، من هنا..." هنا تدارك الفتى الموقف، لعلمه بأن جدَّه سيأخذه بعيدًا عن مقصده في سياحة كلام عن التاريخ والجغرافية، فسأله: - وما الذي حلَّ بالآخرين؟ - "لا تسبقني، يا ولد... سآتيك بالحكي..." نظر بعيدًا، ثم أردف: "أما الرسام فبعد إنهائه الإعدادية سافر إلى إيطاليا حالمًا باسمه الذي سيلمع. وهناك تعرَّف إلى فتاة إيطالية وتزوَّجها، لكنه قُتِلَ بعدها، لأنها كانت ابنة أحد زعماء المافيا." - والقاص؟ - القاص؟ القاص... أصبح مهووسًا به، فقرأ لنا قصة رائعة عنه، وسافر... لكنه مات في حادث سيارة على الطريق السريع، وماتت معه قصتُه. - وأنت؟ - "أنا ماذا؟!." عرف الجد بحدس الشيخوخة المعتق أن الحفيد لم يصدِّق هذه النهاية لأصدقائه الثلاثة هي الأخرى. ذلك أنه، كعادته، نسي الحكاياتِ السابقةَ كلَّها عنهم. لكن الفتى لم ينسَ شيئًا! لذلك، في محاولة منه لتغيير الموضوع، قال وهو يرسم ابتسامةً على وجهه: - لم تسألني عن سيد حديقة الشهداء... أتعرف؟ سمعتُ أنه مات. - لماذا؟ - هو العمر، ربما... فقد كان أسنَّ منَّا... ترك الفتى جدَّه، وسار في الحديقة وهو يمرِّر كفَّه على نبات الآس، تلك الجدران المنخفضة المحيطة بمساحات الثيل. من أعلى أشجار الكينا والسدر، كان يأتيه غناء كوكوختي، مغنِّي المدينة الحزين الذي تعرفه أشجارُها كلها، ذلك المواطن الرابع بعد منارة الحدباء وقلعة باشطابيا. كان الصوت الرخيم يُسمَع جليًّا وهادئًا في زحمة فوضى الأصوات التي تعج بها الحديقة، من الزرازير والسنونو وحمام طوران، الذي يلقِّبه أبناءُ المدينة بـ"قلاش" تندُّرًا. ومن خلف هذه الفوضى الجميلة وحركة الريح الشرقية يحدث ما يشبه انتشار الضوع الجاذب لِمَن فيها الذي يملأ الحديقة بأمان خاص بها. ملأ الفتى إحساسٌ غريب، ردَّد في نفسه: "غير معقول!" أسرع إلى جدِّه: - هل تشعر بما أشعر به؟ - سبقتُك إلى ذلك بأربعين عامًا. - ما هذا؟! - إنها حاضنة الحياة... كمدينتنا: مَن يدخلها لا يخرج منها أبدًا... وحتى لو رحل سيحملها في قلبه. - لِمَ لا تصارحني، يا جدي؟ - وهل كذبت عليك، يا ولد؟! - لا، يا جدي، ولكنك تربأ عن إخباري بالحقيقة. - أية حقيقة؟! - ما حدث قبل أربعين عامًا. - أتقصد سيد حديقة الشهداء؟ كان رجلاً تحبه كل موجودات الحديقة، من بشر وطيور و... - "أعرف هذا..." هنا تذكَّر الشيخ إنه قد أعاد على مسمع حفيده كثيرًا من الحكايات، فصمت. تركه الفتى، وراح يتجول في الحديقة، وهو ينظر إلى الجُلاَّس المنفردين على المقاعد الإسمنتية. أحسَّ بأن عليه أن يتكلم ويكشف الحقيقة التي أخفاها عنه جده. عاد سريعًا، لكنه لم يجد أحدًا في المكان! ردَّد في نفسه: "أين هو؟! أين هو؟!" هل غادر وتركه؟! دار في الحديقة وهو غاضب من تصرف جده، لكن ذلك الغضب كان مدفوعًا بخوف لا يعرف كُنهه، مرده إلى إحساس بأن لجدِّه يدًا في اختفائهم، ومن ثم اختلاق قصة لعنة سيد حديقة الشهداء... "سأجبره هذه المرة على الاعتراف!" قادتْه قدماه إلى شجرة عجوز في زاوية بعيدة، فوجده جالسًا على كرسي عند أسفلها وبيده قطعة صمون، وأمامه مجموعة طيور تلتقط فتات الصمون. وهو يتقدم نحوه، أوقفه فجأةً إحساسٌ بالمهابة من مواجهة كهذه، فتحرك من خلف الكرسي ووقف وظهرُ جدِّه إليه، متحاشيًا نظراتِه المخيفة، وبصوت مضطرب خرج الكلام من فمه: - منذ أربعين وأنا أسمع وهم اختفائهم من خلال قصصك الخيالية عنهم. وفي كلِّ مرة تكون القصة هي وسيلتك الجديدة لإقناعي... تصورتَني صديقًا لها، لكنك كنتَ واهمًا في هذا أيضًا... وهو يتكلم توقَّع انتباه جدِّه للزمن الوهمي الذي ذكره وهو ابن الثمانية عشر عامًا. - أتعرف؟ إن الوهم الذي صنعتَه لإقناعي أقنعتَ نفسك به فقط، تغاضيتَ عني، بل تجاهلتَني، ناسيًا أنني ربما قد أفكر فيما قلتَه. وعند ذاك سيتغير حتمًا كل شيء – وهو ما حصل. فقد لملمتَ من كلِّ قصة فتات كلام سقط منها، كما يسقط فتات الصمون من يدك الآن لهذه الطيور، وجمعتَها، فشكَّلتَ الحقيقة التي حاولتَ إخفاءها عني... أنت، يا جدي... توقف لحظة ملتقطًا أنفاسه. كانت الطيور قد التقطت الفتات كلَّه، وصعد غراب على كفِّه وأخذ ينقر في قطعة الصمون والجد ساكن... حاول الفتى منع الاضطراب عن صوته وهو يتكلَّم بصوت كان أعلى مما توقَّع: - "أنت، يا جدي، متَّهم بقتلهم..." وصمت متوقعًا المفاجأة، لكن الجد لم يلتفت إليه. أغضب ذلك الفتى. مدَّ يده ووضعها على كتف جدِّه: - "هل تخادعني؟!. أنا لم أعد صغيرًا!.. أنا أعرف الحقيقة!.." وكان انفعاله قويًّا لدرجة أنه ضغط بيده على كتف الرجل العجوز الذي مال إلى جانبه، فسقطت الصمونة من يده وطار الغراب. أيقن الفتى أنه بإزاء أمر كبير... اقترب من جدِّه و... عرف. * * * من ذلك البعيد العالي، كان صقر يحوم فوق الحديقة بعد أن أتعبتْه ضيافةُ المكان التي حوَّلتْه إلى أثاث عجائبي. لقد ملَّت عيناه من حشره في الأماكن الضيقة ومن سهولة توفُّر الطعام، وهو القنَّاص الذي لا يأكل إلا من صيده. قرَّر مغادرتهم جميعًا، محطمًا إسار القفص الذهبي، في حنين أصيل إلى رمال الجزيرة والإحساء وسيناء والنقب والصحراء الكبرى... بعيدًا عن صراخ الآلات الهادر وسواتر الأبنية العالية التي تصطج في وهج شمس الصحراء. لكن شيئًا ما أعاده إلى تلك المساحة الخضراء التي التقطها قنصُ عينيه للبعيد في وسط المدينة الكبيرة، بعد أن تعب من الطيران العالي، ولا مِنْ طريدة. لقد سرقت المدنُ طرائده أيضًا! دار فوق المكان، ثم توقف لحظة، وكمن يهوي، انقضَّ سريعًا على شجرة الجوز. دفعةً واحدةً هبَّت الطيور من على الأشجار، تناثرت في سماء المدينة، فيما استكان كوكوختي بين مخالب الصقر، مستسلمًا لقَدَر الطريدة. ساد الحديقةَ سكون... رآه أحد صيادي اليانصيب، فنبَّه رفاقه إليه بعد أن مزَّقوا آخر ورقة يانصيب. اتجهت أنظارُهم إلى أعلى، فالتمعتْ ببريق كأشد ما يكون: - إنه صقر... أقسم على ذلك! - كم يساوي؟ - الله – عزَّ وجل – يعلم! حطَّ كل منهم في رأسه أرضيةً خرافيةً لحلمه. تَشارَك الجميعُ في نظرة واحدة، ولمع بريقٌ واحدٌ في عيونهم التي أتعبتْها الأرقام. ركض أكبرهم سنًّا نحو الشجرة، محاولاً تسلُّقها في يأس واضح وإصرار غير مجدٍ، وهم يشاهدونه يتنطَّط كطفل صغير يركب التسلق لأول مرة فضحكوا. لقد أسقط الصقر البعيدُ عن أيديهم في أيديهم قناعةَ حلمهم المستحيل، وكان ضحكهم خير ردٍّ على فشلهم. ولم يفهم الصقر القابض بمخالبه على فريسته، مغنِّي المدينة الحزين، سبب خروج أولئك هاربين من حلمهم المستحيل. فجأةً علا هديرُ طائرة أپاتشي من أفق المدينة، ودوَّى انفجارٌ من بعيد. ثم مرقتْ سريعًا، كعادتها، مدرعةُ همِّر من الشارع الموازي لسور الحديقة. رفع الفتى يديه إلى السماء، ثم دار برأسه في المكان. هل يراه أحد؟ كانت الحديقة خالية، إلا من مسطبة واحدة يجلس عليها مجنون يهز رأسه ويضحك. حامت الطائرةُ فوق الحديقة. طار الصقرُ تاركًا فريسته التي سقطتْ على كومة أوراق اليانصيب الممزقة. وكان الطيار قد انتبه خائفًا إلى فتى يرفع يديه وينزلهما، وبجانبه جثة رجل عجوز، ومن وراء الحديقة مجموعة شبان يسيرون بمحاذاة السور وهم يضحكون. نظر أحدهم باتجاه الجندي إلى المدرعة المارقة، وقد شاب بياضَ وجهه امتقاعُ الخوف اصفرارًا، فبصق عليه. وكان رفاقه منشغلين برؤية فتى في الحديقة لا يظهر منه غير رأسه وذراعيه اللتين تصعدان وتنزلان. لم يعلم أحد بأن الفتى يبكي جدَّه الذي غادر، آخذًا معه سرَّ اختفاء القاص والشاعر والرسام و... سيد حديقة الشهداء. * * * تلك الليلة، كان الفتى ممددًا على سريره وحيدًا، مشبعًا بلوم أهله وتقريعهم لأنه أخذ جدَّه إلى تلك الحديقة المشئومة. لكن ذلك لم يروِّ ظمأ حزنه العميق حدَّ الخوف. لقد خدعه من جديد، وذلك بمجيئه إلى الحديقة باعتبارها مقبرة آخر الأفيال المدوَّنين في السجل المدني. سينام تلك الليلة وهو عارف بالحلم الذي سيأتيه مرة واحدة في حياته، حلم توسَّل به الإتيان الذي سيغير من لبنة الفتى في اتجاه أنْ لا يُخدَع مرة أخرى، كما فعل الجد الذي لم يزرْ الحديقة من أربعين عامًا. وستستيقظ المدينة على مطر أوراق ملأت شوارعها وأزقَّتها، وسرب كبير من صقور بلون الطين المذهَّب تحوم في سمائها، صقور هربت من إسارها الذهبي باحثة عن معنى جديد للخوف والموت والحب، – وهذه المعاني الثلاثة كانت أنقى من مطر الأوراق المكتوب عليها سر اختفاء الثلاثة إياهم. وسيستيقظ كل أبناء المدينة ويمسكون بأوراق ويقرءون، يقرءون، ويبكون عميقًا قاصها وشاعرها ورسامها. فقد حطَّ الحزنُ رِحالَه فيها لزمن قد يطول ويطول ويطول... الموصل، في 13/03/2008 *** *** *** [*] حديقة معروفة في مدينة الموصل.
|
|
|