|
لغـز الحـبل الأسـود
الطريق إلى قريتي، في مقطع منها، تمر بجوار المقابر. وفي صغرنا كنَّا نشعر بالرهبة كلما اجتزنا ذلك المقطع، ولاسيما في الليل. أما إذا اضطر أحدُنا إلى اجتيازه بمفرده، فكان يعتريه خفقان، وبعضنا كان من شدة الخوف يطلق ساقيه للريح! وتعاقبت الأجيال، ولم يَسلَمْ جيلٌ من تذوق طعم ذلك الخوف. فكأنه إرث لا يَفْنى. ولكن ما العمل؟ فلا طريق سواها إلى قريتي. والأنكى أن ساحتها الخارجية، حيث اعتاد الصبية والصبايا اللعب والمرح، تقع في آخر هذه الطريق. وكم كان يطيب لهم، على الرغم من ذلك، أن يترافقوا إلى تلك الساحة تحت ضوء القمر في ليالي الصيف الرائعة. وأقبل يومٌ شاء فيه أحدُ الصبية – واسمه ناصر – أن يزيد من إرعاب رفاقه، فجاء بحبل أسود ثخين، ومدَّه على عرض المقطع المذكور، ولطى في الجل تحت الطريق ممسكًا بطرف الحبل (وهذا ما تخيَّله التحقيق فيما بعد). كانت الساعة العاشرة ليلاً حين هَمَّ الرفاقُ بالعودة إلى منازلهم، وكان القمر يتأهب لتسلق الجبل المقابل للقرية، مما جعل الظلمة سيدة المكان. وما إن أصبحوا على بعد متر تقريبًا من الحبل حتى سحبه ناصر في بطء، فبدا في تلك الظلمة كأنه أفعى تنسل أمامهم. عندئذٍ انفرطوا كحبات مسبحة، وراحوا يَعْدون، كلٌّ من جهة، حتى بُهروا. في صبيحة اليوم التالي، ضجَّت القرية بموت ناصر بلدغة أفعى. نقل الخبرَ أبو مرعي عند غدوِّه كعادته إلى كَرْمه الواقع في تلك الناحية، حيث وجد ناصرًا جثةً هامدةً وقد التفَّ الحبلُ حول عنقه. وكثرت التأويلات والاستنتاجات: إذا كان ناصر قد مزح هذه المزحة لإفزاع الرفاق فكيف انقلبت إلى مزحة قاتلة؟! كيف التفَّ الحبلُ حول عنقه أو مَن لفَّه؟! وكيف صادف أن اتكأ طرف الحبل على دائرة اللدغة تمامًا؟! ثم ما الذي أمات ناصرًا، ولا أثر لأيِّ سُمٍّ في دورته الدموية (وهذا ما أكدَّه لاحقًا الطبيبُ الشرعي)؟! أحد أبناء القرية رأى أن الابن قد يكون ذهب ضحية أبيه. حيث إن الأب قتل سابقًا، في ذلك الموقع بالذات، – وكان برفقة ابنه، – فرخ أفعى. ومن المرجح أن تكون الأفعى الأم شاهدت مصرع فرخها، فحقدت عليهما، كما يؤثَر عن سلوك الأفاعي. ولكن سرعان ما استُبعِدَ هذا الترجيح بعد التقرير الطبي. ورأى آخر – وكان مغتربًا في القارة السوداء – أن الحبل قد يكون فعلاً تحول لثوانٍ إلى أفعى. فالأفعى عند الأقزام البدائيين من زنوج الكاميرون، مثلاً، تُمثَّل في بعض نقوشهم الأثرية العائدة إلى العصر الحجري بخطٍّ على الأرض. ويمكن القول إنهم أرجعوا الأفعى إلى تعبيرها الأولي: فهي ليست سوى خط، ولكنه خط حي؛ أي أنها تجريد متجسِّد. والخط، بيانيًّا، لا بداية له ولا نهاية. وهو قد ينتعش ويصبح قابلاً لكلِّ التجسيدات والانمساخات. ونحن لا نبصر من الخطِّ سوى ظاهره الماثل أمامنا، ولكننا نعلم أنه يمتد من هنا وهناك حتى اللانهاية غير المرئية. أما كاهن القرية – وكان في الوقت نفسه مدرِّسًا للأدب الفرنسي في دير مجاور للرهبان – فأرجع ذلك إلى نوع من التماهي قد يكون تمَّ بين الضحية وفعلته. وأورد مثلاً عن لسان أندرييڤا، زوجة مكسيم غوركي، جاء فيه أنها حين كانت ومكسيم في جزيرة كاپري، سمعت من الغرفة المجاورة لغرفتها، حيث كان زوجها يعمل على كتابة روايته بلدة أوكوروڤ، صدى سقطة ثقيلة على الأرض، فأسرعت إليه، فألفته ممددًا على الأرض وذراعاه مبسوطتان، فنزعت عنه على الفور سترته وقميصه الداخلي لتضع لبخةً على قلبه. وكم كانت دهشتها كبيرة حين رأت خطًّا أحمر يمتد من ثُندوءته اليمنى إلى أسفل، وسمعتْه يقول: "آه، يا له من إثم!" وإذ قالت له: "انظر ماذا أصاب صدرك؟" أجاب: "آه، يا للشيطان! تصوَّري كم من المؤلم أن تنغرز سكينُ اللحم في كبدي!" فخافت، وخالتْه يهذي. وبعدما عاد إلى وعيه، سَرَدَ لها ما كان دوَّنه في الرواية. وذكر الكاهن أيضًا حالاتٍ من التماهي عُرِفَت عن بعض الورعين، فكانت تظهر على أجسامهم جراحُ المسيح الخمسة في أسبوع الآلام، وتظل تدمى حتى يوم القيامة. هؤلاء المتماهون، أضاف الكاهن، يتمتعون بقوى ذهنية تتحكم في أجسامهم. ومنهم مَن أوتي السيطرة الصارمة على النفس، كالوَرِع الألماني صوصو (القرن الثالث عشر) الذي أخضع جسمَه لارتداء قميص من الجلد مبطَّن بالمسامير الحادة، طوال ثمانية أعوام، ولحمل صليب ثقيل من الخشب غُرِزَتْ فيه مسامير مماثلة، أو كالناسك السوري سمعان العمودي (القرن الخامس) الذي عاش 37 عامًا على رأس عمود. وذكر آخرون قصصًا أخرى مشابهة، قديمة وحديثة، حول بعض الأشخاص الذين في إمكانهم السيطرة الإرادية على الجسد أو على مواد وأشياء محيطة بهم. ولكن ذلك كلَّه لم يُفِدِ التحقيقَ في شيء، وبقي اللغز: ما الذي أمات ناصرًا؟ وفجأة صرخت امرأة: "أين أبو ناصر؟! ألم تلاحظوا غياب أبي ناصر؟ ألم ينقل إليه أحدٌ الخبر الفاجعة؟!" وأسرع بعضهم – وأنا في المقدمة – إلى منزل أبي ناصر المنعزل في آخر القرية، حيث يعيش مع ابنه وحدهما منذ سنوات بعد فقده زوجته. ويا للمفاجأة! كان أبو ناصر منسطحًا على أرض الدار جثةً هامدة، وقد التفَّ حبلٌ أسود حول عنقه (اتضح بعد التدقيق أنه مقتطَع من الحبل نفسه الذي قضى به ابنُه). تملَّكنا خوفٌ كبير. وفي الحال أرسلنا من يُخْبر رجالَ الأمن الذين كانوا يتولون التحقيق بالحادث الجديد. وما لبثت أن أخذتُ أجيل طَرفي في أنحاء المنزل، فلمحتُ من الباب المشقوق لغرفة النوم زاوية مكتبة. دلفت إلى الداخل، فشاهدت أمامي رفوفًا تنوء بالكتب على طول الجدارين الشرقي والغربي. واللافت أن معظمها ذو عناوين طريفة، مثل: قوة العقل لآدم سميث، الحياة بعد الموت لآرثر فورد، نافذة على الماضي لهانز هولزر، الطبيعي وفوق الطبيعي لبرايان إنكلِس، الأذهان المتفوقة لجون تيلر، التخاطر الحلمي لستانلي كرپنر وڤوغان أولمان، جذور الوعي لكارل غوستاف يونغ، جذور المصادفة لآرثر كوستلر، الحدود الجديدة للذهن لراين، وغيرها من العناوين التي تتناول الإنسان وقدراته المجهولة، إلى جانب العديد من كتب السحر والأديان والأساطير والتاريخ والفلسفة. وعلى مكتب صغير في إحدى زوايا الغرفة، وجدتُ دفترًا سميكًا من القطع الوسط، كُتِبَتْ على غلافه العبارةُ الآتية: "بحث في قدرات الإنسان المفقودة". فأخذت أقلِّب صفحاته في فضول زائد، حتى إني لم أتمالك نفسي من الاستيلاء عليه كي أختلي به طويلاً. وأنقل هنا موجزًا لمدخل هذا البحث، لعلَّه يفسِّر بعض الغموض العجيب الذي اكتنف هاتين المأساتين المترابطتين، ربما مصادفة، كأنَّ وراءهما عقلاً واحدًا يراسل عبر الأثير جزءًا آخر قُصَّ منه ويأتمر به، من دون أن تعوقه مسافة، قصرت أو طالت: يعتقد أبو ناصر أن العقل الإنساني كان في ماضٍ سحيق يتصف بقدرات أعظم بكثير مما هو عليه اليوم، وأن في إمكانه أن يسترجعها إذا عرف كيف ينمِّيها. وهو قد بلغ عتبةً لا يقوى على تجاوُزها إلاَّ إذا أيقظ طاقاته الدفينة في ذاته السامية. فالإنسان السامي كان دائمًا هاجعًا في لاوعي الشعوب، حتى إن كتاب التحولات ("يي تشنغ") المقدس عند الصينيين القدماء يزخر بالإشارات إلى ذلك الإنسان. والواقع أن لكلِّ إنسان، في رأي كارل يونغ، نوعًا من الشعور بأنه يشبه الآلهة، أو بأنه إنسان من نوع أسمى. فنيتشه، مثلاً، كان يشعر بـ"الارتفاع ستة آلاف قدم فوق البشر والزمن". ووفقًا لما يقوله يونغ أيضًا، ثمة سر مقدس كامن داخل المادة؛ وهذا السر هو ما بحث عنه الخيميائيون، أي سر تحول الوعي وانتقاله إلى حالة تشبه حالة الإله، أي التفرُّد المطلق. وهذا مشابه لما يقوم به ممارسو اليوغا: فالقدرات غير الطبيعية التي يعزوها بعضُهم إلى المادة هي نتيجة طبيعية للتحول الروحي لدى اليوغي، تمامًا كما لدى الخيميائي. كان يونغ مدفوعًا إلى مجابهة ما هو في النهاية المشكلة الوحيدة للنفس المعاصرة: هل يمكن للإنسان أن يتخطَّى ذاته، وبأية طريقة؟ والظاهر أنه كان أسعد حظًّا من سابقه نيتشه، فلم يُصَبْ بلوثة، وأُعطِيَ له أن يتجنب أخطار هذا المشروع الجبار ويجعله ممكنًا، وذلك بتقديمه، في آخر مسيرته، نموذجًا لبطله: بطل ليس في حجم زيغفرد أو فاوست أو الإنسان المتفوق، بل هو على مثال الزوجين العجوزين الوديعين فِليمون وباوكيس اللذين استضافا زفس وهرمس وأكرماهما فكوفئا بالخلود. أي أن يونغ، مع ارتقائه بالإنسان إلى مصاف الآلهة، جعله يقاربهم كخادم، لا كسيد. "إن الإنسانية تتَّجه نحو شيء أعظم منها، كما النهر نحو البحر"، يقول تِلار دُه شاردان. ويرى العالم البيولوجي جان روستان أننا "على علاقة سحرية مع الطبيعة، والتغير البيولوجي سوف ينتج كائنات واعية لهذه العلاقة". ولكن يبدو من الصعب على الإنسان أن يسير قُدُمًا في هذا الاتجاه ما لم يقفز من فوق أسوار العلم. و"العلم، يقول لنا برتراند راسل، يُطلِعنا على ما نستطيع معرفته، وهو قليل. فإذا تجاهلنا ما لا نستطيع معرفته، نفقد الحسَّ بالكثير من الأشياء البالغة الأهمية". الساعة أزفت، إذن، للنظر إلى قفا العملة: أي أن نقوم بجردة حساب للخسائر التي أُصِبْنا بها في مسار العلم المظفَّر إلى الأمام، لكنْ من جانب واحد. وإن تكن هذه الخسائر، بدايةً، بنَّاءة، نتيجة تقويضها قلاع المعرفة التقليدية، إلا أنها انتهت إلى هدَّامة، بعدما امتدَّ ذلك المسار إلى حدِّ إلغاء بعض الأسُس الحيوية والجوهرية في عالم المعرفة. للعملة وجهٌ وقفا. وفي لغة شوپنهاور: "للكون حاكمان: السببية المادية، ووجود ميتافيزيقي – نظام غيبي أو وعي كوني. وعليه، فكل الحوادث في حياة الإنسان لا بدَّ لها من أن تحصل في أحد هذين النوعين من الاتصال: إما اتصال سببي طبيعي وإما اتصال ذاتي خاص بالشخص الذي حصل له الحادث." لكن ما لفت انتباهي أكثر، بعد هذا الإيجاز، هو فصل عن تناغم الأذهان بعضها مع بعض، بحيث يمكن لها تبادل الأفكار والرؤى من دون أن تنطق بكلمة! وقد روى فيه أبو ناصر عن مستشرق إيطالي معروف يدعى توتشي أن في التيبت مدارس للصمت التأملي يتبع فيها بعض اللاماوات هذه الطريقة الغريبة في نقل تعاليمهم إلى تلامذتهم. وهنا تساءل أبو ناصر: "هل يمكن القول إنه التخاطر أو الانعكاس النفسي؟ الأمر يبدو أبعد من ذلك. إذ كيف يمكن وضع ذهن ما في تناغُم كامل مع ذهن آخر، بحيث يكتسب الواحد من الآخر خبراته ومهاراته التي قد يعجز أحيانًا الكلامُ عن إيصالها؟" "ألا يصح القول، يضيف أبو ناصر، إن "في أعماق الكائن الإنساني جسورًا خفيةً كانت في قديم الأزمان تربط بين أفراد الجماعات، وانهارت بفعل مطالبة الشخصية الواعية باستقلاليتها المطلقة؟ ألا يذكِّرنا ذلك بقول يونغ بأن ثمة عقلاً جمعيًّا يشترك فيه الأحياءُ قاطبة؟" لدى قراءة ذلك شعرت، للوهلة الأولى، بأني أمسكت بطرف خيط أرْيادْني. فمما لا شكَّ فيه الآن، في تصوري، أن أبا ناصر وابنه كانا يتصفان بموهبة التناغم ذاك؛ وقد وصلا بها إلى مرحلة متقدمة سمحتْ لهما بالتراسل، حتى عن بُعد، كما تبادر إلى ذهني من قبل. وهما قد أعدَّا تلك المزحة التخويفية اختبارًا لمقدرتهما، على أن يستعين الابنُ بطاقة أبيه النفسية على تحريك الأشياء عن بُعد، وهي طاقة لمَّح إليها أبو ناصر في دفتره. ولكن ما لبثتُ أن تبيَّنت أن تصوري هذا، وإن يكن محتملاً في خطوطه الأولى، لا يجيب عن سبب ذاك الموت المزدوج للأب وابنه، وإن يكن يشكل قاعدة له. وتذكرت هنا الجملة التي أنهى بها أبو ناصر بحثه: "وفي الآخر، لا يغبْ لنا عن بال أن رائد الفضاء الداخلي أكثر تعرُّضًا للخطر من رائد الفضاء الخارجي. وفي بحث لاحق سأوضح ذلك." غير أن هذا "الخطر" داهَم أبا ناصر. ويقيني أن العقل الجمعي لن يعدم أبا ناصر آخر وآخر وآخر، ليكمل ما بدأه سلفُه ويكشف لنا السر، هذا إنْ لم يكن ولد أو يولد في هذه الثانية بالذات. فكما أن نقطة الماء لا تستطيع الرجوع إلى منبعها، كذلك لا تستطيع البشرية مقاومة التيار الذي يجذبها نحو "شيء أعظم منها"! *** *** *** |
|
|