|
بوَّابـات العُـبور المـوجِـع نحـو الكتَـابة
يتحدَّد فعلُ الكتابة باعتباره تطلُّعًا إلى الحُلول في مقام البوح، بحثًا عن صيغة وجود طافحة بلذة متوهَّمة أو مُشتهاة. الانخراط في هوس الكتابة هو نوع من التلبُّس بلبوس كثافة الكلمات وعرائها الموغل في السفور. في الكتابة نوع من النرجسية الحالمة بإحلال الذات في مقامات التجلِّي أو مدارات التخفِّي المتحصِّن خلف دغل الحروف والكلمات. إن الأصل في الظواهر والمظاهر والعوالم والأشياء هو التواري خلف أقنعة الصمت والتمترُس وراء ألوية االتمنُّع والترفع والكتمان. لكن منطق الحياة هو تعرية الثاوي خلف النقاب، إنطاق الصامت، الإمساك بالمنفلت والعابر، وإخراج الأشياء من حيِّز التواري إلى غَوْرِ الحضور، من وحشة العَيِّ إلى احتفالية الحياة وخربشات الكتابة. ليس تاريخ العلم، من حيث مبدؤه العام، سوى تاريخ استجلاء سرِّ المكنون في الظاهر والمظاهر. وليس الإنسان نفسه، في مستوى تجربته الوجودية، إلا وحدة قياس عاقلة ومتعقلة مهمَّتها إماطة اللثام عن المتستِّر في تطبُّعها وطبيعتها، وإزاحة الستار عن اللابد في ما يحيط بها من أشياء ورموز وخواء وامتلاء وطفح. وهذا المقياس يسري، بدوره، على مبدأ الكتابة نفسه، وذلك بالنظر إلى أن هذا المبدأ يستمد مقوِّم اشتغاله وجدواه انطلاقًا من قدرته على تَجْلِيَة التجربة الفردية والجماعية والوعي بها في بُعدها الجمالي وتحقُّقها الوجودي ورمزيتها الإنسانية، بما فيها من حيِّز ظلمة أو إشراق نور. وبهذا المعنى، فالكتابة كشف وانكشاف وتَجْلِيَة درامية لترنُّحات الذات في مسارها اللاهث خلف غُرَّة اكتمال ممكن أو مستحيل. فالكتابة ملاحقة مسرفة للرغبة، لأن النصَّ المكتوب، كما يقول موريس بلانشو Maurice Blanchot (1907-2003)، «ليس سوى مجال للتعبير عن الرغبة». ومن هذه الزاوية، فالكتابة عند بلانشو هي مجال الموت بامتياز: إنه موت رمزي، تغذِّيه المسافةُ القصوى الفاصلةُ بين حدِّ التحقق في الكتابة وحدِّ الانتفاء في احتضان الرغبة وتطويعها، الرغبة التي تمثل شرط مراودة حلم الحياة أو كابوسها. حين حصل الكاتب الياباني الشهير أوي كينزابورو Oe Kenzaburo على جائزة نوبل في الآداب سنة 1994، قرَّر التوقف نهائيًّا عن الكتابة، معلنًا أنه يترك لابنه مهمَّة استلام المشعل ومتابعة المسار. وكان ذلك الموقف سابقة في مجال «توريث» الكتابة، وكأن تحقُّق الاعتراف عبر الحصول على جائزة نوبل كان هو منتهى التوق الذي احتضنتْه الذاتُ في سعيها الطويل نحو تحقيق الشهرة في مجال الإبداع. إن موقف أوي كينزابورو يوحي بأن الكتابة لديه كانت بمثابة «عبء» أثقلَ الكاهلَ وناءَ به المنكبُ والأناملُ الممسكة سنواتٍ طويلةٍ بالريشة والقلم. لذلك حالما تهيأت فرصةُ الفرج والخلاص، لم تتردد الذاتُ في إعلان طَلاقها المشهود للكتابة والإبداع. وقد كان كينزابورو يردد دومًا أن «الكتابة هي المشي اللاهث فوق حبل مشدود»! أما جان جاك روسو، الذي قال عنه كانط إنه «نيوتن مجال الأخلاق»، فقد تعامَل مع الكتابة، في سيرته الذاتية التي جاءت بعد الاعترافات les Confessions والتي حملت عنوان Rêveries du promeneur solitaire (1782)، من منطلق العزاء الوحيد الذي يتبقى للذات بعد أن تنهكها السنون وتحاصرها العزلةُ والوحدةُ وانحسارُ الشباب وتنكُّرُ الأصدقاء والناس، فتختار التنسك المسرف في رحاب الوحدة والاستوحاش، بعيدًا عن «جحيم الآخرين» (سارتر). وهكذا تتحول الكتابة إلى ملاذ للكاتب الذي «يفضل الهروب من مجتمع الناس بدل كراهيته». لذلك يكتب جان جاك روسو، متحدثًا عن نفسه في مستهل هذه السيرة الذاتية، قائلاً: هاأنذا وحيد على وجه هذه الأرض، ليس لي من أخ أو أهل أو صديق أو مجتمع سوى نفسي. ولكي تسند الذاتُ هامتَها المتردِّية في وحشتها وفي حمأة وحدتها المنهِكة القاتلة، تُغَافِل ما تبقى لها من أيام وزمن بالكتابة الحُلمية المتنسِّكة في رحاب التوحُّد واعتزال الناس، بحثًا عن «سعادة خالصة»، عبر تبئير مأزق الذات المتوحدة وهي تستعيد، من خلال الكتابة، لحظات الاستفاقة من حالة إغمائها في مِنيلمونتان Ménilmontant أو لحظات الانعزال الإرادي على شاطئ بحيرة بيين Bienne، حيث كان سارتر يستلذ هدهدة المياه وهو مستلقٍ على ظهر مركبه بعيدًا عن متناول الناس، طافحًا بلذة الإيمان. وقد أُثِرَ عن سارتر قولُه: «أنا مشدود إلى رغبتي في الكتابة» Je suis ligoté à mon désir d'écrire، لأنها ظلت متنفَّسه الوسيع الذي يجد فيه العزاء كلما ضاقت به الأنفاسُ بسبب ما اكتوى به من تنكُّر الأصدقاء وعداوة الحاقدين والمعارضين والحُسَّاد. أما مارسيل پروست Marcel Proust (1871-1922)، ففي روايته الزمن المستعاد Le temps retrouvé، التي تَوَّجَ بها صرح عمله الروائي الباهر بحثًا عن الزمن الضائع À la recherché du temps perdu، الذي قيل إنه «عاش من أجله ومات من أجله»، فإنه يتوجَّه نحو البحث عن صيغةِ تَوافُق جديد مع الزمن، لكن ليس بالبحث عن زمن «ضائع»، منفلت وموغل في الفوات والغياب، بل باتخاذ الكتابة جسرًا مشتهى نحو بوابة الاكتمال والسعادة. لذلك يقول: إن الكتابة تمثل بنظر الكاتب وظيفةً صحيةً وضروريةً يؤدي إنجازُها إلى الإحساس بالسعادة، كما يؤدي إنجازُ التمارين البدنية والاستحمام والعرق إلى الشعور بالسعادة لدى الرياضيين. ومعنى هذا أن الكتابة عند پروست تتحول إلى مبدأ حيوي يبعث في الذات دفء التنعم بالسعادة والارتياح، لأنها سبيل للهروب من ذاته التي كان يقول عنها إنها ذات سطحية و«كريهة»، ويؤكد في المقابل أن ذاته الحقيقية هي تلك الذات الثاوية في كتاباته، الذات التي «تسبغ طابعًا فرديًّا على شخصياته وتمنحها بالتالي الحياة والديمومة والاستمرار». وبالنسبة إلى الكاتب الفرنسي ميشيل تورنييه Michel Tournier، أحد أعضاء أكاديمية گونكور Goncourt، فإن الكتابة تتخذ صيغةً غير معهودة، تتبدى رمزيًّا من خلال مبدأ «الكتابة وقوفًا» écrire debout، أي الكتابة التي تتخذ من خطابها دعوةً مفتوحةً دائبةً ومستمرةً لزرع الفوضى والاحتجاج. وبهذا يتحول فعل الكتابة إلى ممارسة مشاغِبة، غايتها تغيير المعهود والمألوف، وذلك بحثًا عن إرساء حقيقة متعالية بديلة. وتندرج حكاياته الخرافية ضمن أفق فلسفي يستعيد حكايات روبنسون والغول والقزم وغيرها من الحكايات الشعبية المعروفة، من أجل توظيفها في سياق «كتابة واقفة»، يتحول فيها هو نفسه إلى «رجل–قلم» homme-plume، كما كان يحلو له أن يقول، أي رجل لا يدرك هويته الذاتية ككاتب إلا بالتوحد مع أداة الكتابة المتمثلة، ماديًّا ومجازيًّا، في القلم وسلطته التخييلية والرمزية. وقد تتحول الكتابة، في مقابل ذلك، إلى وسيلة تَصالُح مع الحياة أو ترميم ما ابتُليت به الذاتُ من شرخ وانتكاسة ومأساة وهلاك، كما هو متمثل في حالة الكاتب الفرنسي جوي بوسكيه Joe Bousquet (1897-1950)، الذي اتخذ من الكتابة طوق نجاة من الموت الكلِّي والانهيار الشامل بعدما أصيب في الحرب العالمية الأولى، يوم 27 مايو 1918، برصاصة اخترقت نخاعه الشوكي وحكمت عليه بالشلل التام وألزمتْه السرير والاعتكاف في بيته في منطقة كاركاسون Carcassonne، حيث أبدع أعمالاً قصصية وشعرية متميِّزة تتغذى من نفحات رومانسية ورمزية وسوريالية. وعلى الرغم من أنه كان أكثر أفراد الفيلق حصولاً على أوسمة الإقدام والشجاعة خلال الحرب، إلا أنه كان يقول إن أجمل نياشينه وأوسمته هي الكتابة، التي أحرز من خلالها نصره المرتجى على الشلل والإحباط والإعاقة. أما الكاتبة البرازيلية، الأوكرانية الأصل، كلاريس لِسپيكتور Clarice Lispector (1925-1977)، فكانت تقول: «إن الكتابة فعل قهري». وحين سُئلت عن سبب تعاطيها الكتابة، أجابت إنني أكتب [...] لأنها مشيئة القدر، ولأنني لا أملك شيئًا آخر أفعله في هذا العالم. فأنا أشعر أن وجودي زائد ولا مكان لي على هذه الأرض. ولولا هذا التجدد المتجدد المتمثل في الكتابة، لكنت أموت رمزيًّا كلَّ يوم. ومعنى هذا أن الكتابة، في حالة كلاريس، هي البوابة السحرية التي تستمد منها الذاتُ دفق إكسير الحياة وتدفُّقه. إنها الكتابة التي تنجي من الموت، لأنها المحاكاة الشهية لتطلُّعات الذات نحو الخلود. في ضوء هذه اللمحات، يمكن لنا القول إن الكتابة، بنظر بعض الكتَّاب الكبار الذي اشتغلوا بها، تبدو نوعًا من «اللعنة» أو سبيلاً للانفلات من لعنة. إنها تبدو ارتماءً هوسيًّا في غمار اللذة أو النشوة المشوبة بهاجس التعويض عمَّا تهدره الحياةُ من رغبات الذات وتطلُّعاتها المجهَضة. ويرى پول كْلي Paul Klee (1879-1940)، الذي جمع بين الأستاذية وممارسة فنِّ الرسم، أن الكتابة والرسم يتشابهان تشابُهًا كليًّا في العمق؛ وقد طرح هذه الفكرة في الفصل السابع من كتابه نظرية الفن الحديث. وكان الكاتب البلجيكي جورج سيمُنون Georges Simenon (1903-1989)، الذي نشر مقالاته وقصصه بأكثر من عشرين اسمًا مستعارًا، يؤكد هذه العلاقة بين الكتابة والرسم بقوله: إنني في كتاباتي أشعر بأنني أقرب إلى الرسامين منِّي إلى الكتَّاب. إنني أمارس الرسم الانطباعي من خلال الرواية. وهذه العلاقة بين الرسم والكتابة تُستحضَر، مجازيًّا أيضًا، لدى نزار قباني، الذي عَنْوَنَ أحد دواوينه بـالرسم بالكلمات، وفيه يقدم تصوُّره للكتابة باعتبارها الأفق الوحيد المتاح أمام الذات المحاصَرة والمطوَّقة، مثل شخصية طنطال Tantale، سجين الماء والشجر والرغبة والحرمان في الأساطير الإغريقية. يقول نزار:
مارستُ ألف عبادة وعبادة فهل الكتابة فعلاً خلاص أم وهم انعتاق؟ هل هي فورة التجلِّي أم غمرة الانمحاء؟ هل هي السعير المقيم أم الجِنانُ الخَضِرُ الخصيب؟ إنها بالتأكيد هذا وذاك: هي درب ارتحال السندباد، وهي مغامرة عوليس الطويلة المنهِكة؛ هي التدحرج العبثي لصخرة سيزيف، وهي دبيب تأوُّه الحلاج: «أنا أتألم لأنني إنسان»؛ هي احتفال الروح قبل الرواح، وهي الإشراقة المُطاوِلة غسقَ المغيب؛ وهي، فوق هذا وذاك، حكاية كلِّ المجانين والحكماء، وكلِّ الكتاب والمبدعين، الذين يؤمنون بضرورة الكتابة «بحق» والكتابة «بصدق»، على حدِّ تعبير الكاتب الفرنسي جول رونار Jules Renard (1864-1910). وإذا توقَّفنا عند الكاتب الفرنسي هرڤيه گيبير Hervé Guibert (1955-1991)، نلاحظ لديه أيضًا هذا الحضور القوي لهاجس تَجْلِيَة الحقيقة من خلال فعل الكتابة التي ينبغي أن ترسم للكاتب «صورته الحقيقية» و«أنَاهُ» المتوارية خلف عتمات التنكر والأقنعة. لذلك تحولت الكتابة لديه إلى عالم سرديٍّ تسكنه وتؤثِّثه شخصياتٌ واقعيةٌ هي: صديقه ميشيل فوكو وصديقته الممثلة الفرنسية المعروفة إيزابيل أدجاني وهرڤيه گيبير نفسه، وخاصة في روايته إلى الصديق الذي لم ينقذ حياتي، التي يبوح فيها ببعض أسرار أصدقائه ويتحدث فيها عن مرض الإيدز الذي كان قد أصيب به والذي جعله يعيش «حالة ضعف واستسلام»، حالة لا سبيل إلى مجابهتها ومجاهدتها إلا بالكتابة التي تتحول إلى «صديق أو مُخاطِب يتيح للذات التنعم بالحلم أو الاكتواء بالكابوس». وقد قال وهو يتحدث عن هذه الرواية: لقد كان من الضروري أن تقع كارثة الإيدز على رأسي من أجل أن يخرج هذا الكتاب إلى النور. وكأن المأساة هي بداية شوط العبور الموجع نحو بوابة الكتابة والتردِّي المدوِّي في حضيضها، بحثًا عن سُدَّةٍ علياء أو شبه ارتقاء أو كوَّة نور. والواقع أن هذا النوع من تصوُّر الكتابة أو تصويرها مثَّل على الدوام هاجس الكتَّاب وانشغالهم، وذلك لأن تحديد علاقة الكاتب بالكتابة هو الخطوة الحاسمة في ترتيب العلاقة بين الأشياء والذات والكلمات. ويمكن القول إن ما يمكن أن نصادفه لدى الكتَّاب من آراء أو تصورات أو أحكام حول الكتابة نابعٌ، في جزء كبير منه، من خصوصية تجربة كلِّ كاتب، وذلك بالنظر إلى أن «كل مَن يحكم على شيء فإنما يحكم عليه بما يناسب الصورة الحاصلة منه في ذهنه»، كما قال الجبرتي في كتاب تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار. فالكاتب الإيطالي پييترو كياري Pietro Chiari (1711-1785)، مثلاً، تخلَّى عن عمله في التدريس ولاَحَقَ حلمَ التعيُّش بالكتابة. وعلى الرغم من أنه كان يطمح إلى تأسيس كتابة مسرحية قادرة على إدخال «إصلاح مسرحي حقيقي» أكثر جذرية مما أتى به كارلو گولدوني Carlo Goldoni (1707-1793)، الذي كان متهمًا بمحاباة الممثلين المتطفلين، إلا أنه سرعان ما أدرك أنه ليس من المتاح أن تكتب ما تريد، بل أقصى ما تستطيعه الذات هو كتابة ما تُمليه الإكراهاتُ التي تتجاوز الكاتب وتمسخه. لذلك اعترَفَ بأنه «قد حُكِمَ عليه بتسخير كتابته لمجرد تحقيق أكبر امتلاء ممكن لقاعة المسرح بالمتفرجين»، وكأن المفلس الحقيقي الوحيد بين حدِّ الحرية وحدِّ الإكراه في الكتابة هو الكاتب المتورط، إراديًّا أو رغمًا عنه، في الامتثال لمنطق الربح والخسارة ومعادلة الشبع والجوع. وبالنسبة للكاتبة الفرنسية مارغريت دوراس Marguerite Duras (1914-1996)، التي أغرقت حياتها في الخمر والسكر، فإن «الكتابة لا تنقذ الكاتب من أيِّ شيء، ولا تنجيه من كربة الموت ولا من خيبة الحب»، بل هي مجرد ملاحقة لترهُّلات الذات عبر سبر أغوار ذلك «الظل الداخلي» الذي يسكن الإنسان والذي يتشكل من النسيان والذكرى. إن الكتابة لديها تمثل «انشغالاً تراجيديًّا» عاجزًا عن الحيلولة دون تردِّي العالم في الخُسْرِ والمَهْلكة. وقد أرست لنفسها توجُّهًا في الكتابة سمَّتْه بـ«الكتابة الدارجة» l'écriture courante؛ وهي كتابة لا تحدِّد لنفسها مقاييس أدبية صارمة، بل تتخذ من كلِّ الخطابات اليومية والصحفية وغيرها مادةً وشكلاً للكتابة والتعبير. ودائمًا في إطار ملاحقة هذه اللمحات حول علاقة الكتاب بالكتابة، يمكن لنا أن نتوقف عند الكاتب والشاعر والرسام الفرنسي، البلجيكي الأصل، هنري ميشو Henri Michaux (1899-1984)، الذي كان يقول: الكتابة هي فعل قتل. وأنا أكتب من أجل مساءلة مسألة الكائن والفحص عنها والاقتراب منها أكثر. لكن مسار الكتابة هو أيضًا مسار الارتقاء إلى مدارج التبصر والحكمة. لذلك كانت فترة الشيخوخة فرصةً لهذا الكاتب من أجل طرح تمرُّده جانبًا وإعادة النظر في علاقته بالكتابة من زاوية جديدة. فكان كتابه Poteaux d'angle، الذي أورد فيه مجموعة من الحِكَمِ والدروس التي علَّمته إياها الكتابة والحياة والذي يقول فيه: مهما حصل، لا تَنْسَقْ أبدًا وراء اعتبار نفسك أستاذًا، لأنه مازال أمامك تعلُّم الكثير، الكثير جدًّا، مازال أمامك تعلُّم كلِّ شيء تقريبًا قبل الوصول إلى ذلك. وتأكَّدْ أنه حتى حين ستأتي لحظةُ رحيلك وموتك، لن يجد الموت فيك سوى ثمرة أبعد ما تكون عن النضج والمعرفة. إن مسار هنري ميشو يمثل فعلاً مسار كاتب متنوِّر تعلَّم من ممارسة الكتابة أن آفة الكاتب هي تصديق أنه التجسيد الحي للفهم والمعرفة! وإذا انتقلنا إلى الكاتب الفرنسي پول نيزان Paul Nizan (1905-1940)، فإننا نصادف حالة كاتب يتعامل مع الكتابة باعتبارها «التزامًا وجوديًّا كليًّا»، لدرجة أنه تخلَّى في حياته العملية عن كلِّ ما لا علاقة له بالكتابة، فتوقف عن ممارسة النقد الفني وأعرض عن الانتماء إلى أية جماعة أدبية، وانعزل في ورشته انعزالاً كليًّا من أجل الكتابة، وذلك من منطلق الإيمان بأن الحلم والاستيهامات والخواطر والأفكار يمكن لها وحدها، دون أية علاقة مع الواقع الخارجي، أن تمثل مادة تشييد عالم أدبي أكثر جذرية وأبهى وأجمل وأكثر قدرة على الدوام والاستمرار من هذا العالم الواقعي الممسوخ الذي نتمرَّغ فيه دون كبير أمل في تغييره أو تحسين وضع الإنسان فيه. وإذا عَرَّجْنا على الشاعر الفرنسي، السويسري الأصل، بليز ساندرارس Blaise Cendrars (1887-1961)، نجده يعلن تصوُّره للكتابة بقوله: «إننا لا نكتب سوى ذواتنا»، بحيث تتحول الكتابةُ في عرفه إلى تخثُّر تنكتب من خلاله الذاتُ بحثًا عن صيغة وجود طافحة بنُسَغِها النرجسي اللابد خلف القناع والنقاب. وقد كرَّس، من خلال حياته المليئة بالحركة والتنقل والمغامرات عبر العالم وعبر هضاب سيبيريا، صورةَ الشاعر الذي يغزو العالم بدل الاكتفاء بالحلم به وتخيُّل نجاده ووهاده، جنانه وجحيمه. وكان يقول متحدثًا عن نفسه: «أنا هو الآخر، أي ذلك الرجل الذي يكتب»؛ وهي صيغة تذكِّرنا بما قاله قبله الشاعر الفرنسي رامبو: «الأنا هو آخَرَ» Je est un autre. وعلى الرغم من أن ساندرارس كان يكتب الشعر، إلا أنه كان يحتقر الكتَّاب والشعراء لأنهم لا يعيشون الحياة، بل يكتفون بالحلم بها وتخيُّلها في ما يشبه الهلوسة أو الهذيان، وكان يردِّد أن اشتغاله بالكتابة ليس سوى محاولة لتخفيف وطأة الوحدة المرافقة له في أسفاره الطويلة عبر العالم دون أنيس أو رفيق. حين كان الحلم ببناء مجتمع اشتراكي يراود خيال ماركس، قال إن هذا المجتمع لن يكون فيه رسامون، بل سيكون فيه مجرَّد أناس يرسمون. وبما أن الأمر يتعلق هنا بالكتابة، فهل في الإمكان اعتبار هؤلاء الكتَّاب الذين سُقْنا الحديث عنهم في هذا المقال «كتَّابًا»، أم مجرد أشخاص يكتبون هروبًا من عزلة قاتلة، أو تطلُّعًا إلى انفلات من وطأة الوحدة، أو مراودةً لحلم بعيد المنال، أو إقبارًا للذات في هيكل التعبد بالكلمات وأداء فروض الصلاة بالكتابة؟ هل الكتابة مَدْرَجٌ من «مدارج السالكين» نحو الطفح بنبض الامتلاء، أم هي الهوة السحيقة التي تتردَّى فيها الذاتُ تلمُّسًا لخلاص أو بحثًا عن شبه اكتمال؟ لماذا تتحول تجربة الكتابة إلى نوع من التصوف الحالم بحضرة صَمَدَانِيَّة تُعانِقُ فيها الذاتُ اكتمالها عبر بوابة الانعزال أو غُصَّة القهر أو فورة التمرد أو ذروة الاستسلام؟ إن أية محاولة للإجابة عن هذا النوع من الأسئلة لهي بداية التورط في مكابدة حلاوة «الجرح والكتابة» أو مرارتها. ولهذه المكابدة عشاقها الذين يَنْسلونَ إليها عبر كلِّ سبيل، ساهرين يأتون إليها، راكبين صهوة الكلمات، ممتقعين بِلَطَخَاتِ المداد أو إهاب الحزن والحداد، متوشِّحين الريشة والأقلام، متلفِّعين بياض الأوراق كالمتلفعين الأكفان. ولهم في ذلك، مثل المتصوفين، مشاهدات ومقامات وأحوال، ولهم في ذلك احتفال... وجرح... وجمر... وخلود... وتَرقٍّ إلى ما كان يسميه هنري ميشو، بحكمته بالغة الحزن، «الحياة المضادة التي تولد من رحم الكتابة». *** *** *** [*] باحث في الأدب وكاتب ومترجم من المغرب، أگادير، ينشر في عدد من الدوريات العربية المرموقة؛ بريده الإلكتروني: said.araq@voila.fr، مدوَّنته: http://saidarak.maktoobblog.com. |
|
|