|
الـركض وراء الذئـاب
"كيف تحوَّل الثوارُ من موقع الثورة إلى موقع المقهى؟ كيف تقاعدوا؟" على هذا السؤال المفصلي يبني العراقي علي بدر روايته الأخيرة الصادرة بعنوان جميل وموحٍ هو الركض وراء الذئاب[*].
تشكِّل هذه الرواية محاولةً راديكاليةً لنسف الفكر "الثوري" الذي استبدَّ في منتصف القرن الفائت بأجيال كاملة تركتْ كلَّ شيء وسارت خلف الحلم بتغيير العالم، قبل أن تنتهي بها الحالُ في المقاهي تجترُّ مصطلحاتٍ بائدة. يروي بدر الخيبة والمرارة والتهشُّم الداخلي، فاضحًا جيلاً كاملاً من الثوار والثوريين، محطِّمًا ليس فقط أسطورة الثوار العراقيين الذين ينطلق بطلُه بحثًا عنهم في أفريقيا، بل "الأسطورة الثورية" كاملةً بيوتوپياتها المخذولة. كالذئب ينقضُّ على شخصياته، يعرِّيهم من أوهامهم، وهمًا وهمًا، ومن دون أن يترك لهم حتى فرصة الدفاع عن أنفسهم، يفرغ فيهم علي بدر رصاصاتِه القاتلةَ على شكل تهكُّم ماكر ولئيم. ينجح علي بدر في صفحات الرواية الـ169 في تقديم صورة عن تناقضات العالم الراهن وفراغه اليوتوپي، حيث صار [...] أتباع غيڤارا وهوشي مِنِه وتروتسكي، في ما مضى، هم أتباع ليو شتراوس ومايكل ليدن ووليم كريستول اليوم، وحيث [...] المحافظون الجُدُد هم ثوار العصر الجديد بعدما تقاعد الثوارُ وجلسوا في المقاهي، بتعبير بطله. لوهلة، قد يشعر القارئ أنه بإزاء كاتبٍ عجول، يبني روايته على پورتريهات وخطوط سردية عريضة، ثم "يدلق" في هذا الوعاء أفكاره وآراءه بتنويعاتها المختلفة: أفكار يعرف كيف يقوم بتعليبها وتقديمها على شكل استعارات بليغة تهمِّش أحيانًا تعقيدات الحقيقة لصالح ابتكارية في الصورة تمنع التنويع من أن يكون اجتراريًّا. إلا أن ما ينقذ الرواية من أن تتحول إلى مرافعة طويلة، ذات نبرة خطابية مرهقة، هو هذا المكر الذي نستطيع أن نشتمَّه من بين السطور التي تواري، خلف الخيبة حينًا والغنائية الكاذبة حينًا آخر، تهكُّمًا سامًّا ولؤمًا هدامًا يجعلان إمكان ترميم الدمار الذي يُحدِثانه عملاً متعذرًا. قد يبدو النص مثل ثور هائج يحطِّم كلَّ ما في طريقه تحطيمًا أعمى. لكنْ، شيئًا فشيئًا، يتبيَّن أن هذا الهيجان نفسه مخطَّط له، يدرك وجهته جيدًا، ويعرف كيف يتحول إلى ما يشبه نشيدًا هجائيًّا طويلاً يتقنَّع بغنائية ماكرة: الثورة هي الشعور بالتحليق الكامل. الشعور بالأخوَّة العالمية والتصالح مع الأشجار والحيوانات. الثورة هي العلم الأحمر وهو يرتفع عاليًا على منازل القشِّ في القارة السوداء. ربما تسكر طويلاً وأنت تغازل أفريقية في عتمة الحانات، لكنك عظيم حتى لو لم تملك فلسًا واحدًا. العظمة في النساء اللواتي يجادلن حول فائض القيمة. في السود الذين يصنعون الحقيقة ويكشفون الكذبة اللعينة في التاريخ. من خلال بطله العراقي الذي يعيش في أمريكا منذ 25 عامًا، متسترًا باسم مستعار هو جورج پاركر، يقدِّم الكاتب نموذج الشخصية الفصامية المعاصرة، المتأرجحة بين ماضٍ يساري وحاضر يحكمه المحافظون الجدد. فلنسمعه يعرِّف بنفسه: أنا رجل قديم، قادم من الشرق الأوسط، أعيش هنا في نيويورك، متزوج من امرأة أمريكية، وأخونها مع مهاجرة پولونية، ولديَّ أولاد أمريكيون طيبون، لا يعرفون شيئًا عن الشرق الأوسط ومشاكله. كنتُ مؤمنًا باليسار، وبالحركات الثورية، ومتعاطفًا مع القضية الفلسطينية ومع الاستقلال، وأعمل في شركة أمريكية يملكها مردوخ، أكبر كارتل صحافي هنا في الغرب. أنا يساري من الداخل، ولكني مؤمن بالديموقراطية وبحقوق الإنسان مثل أكثر الغربيين، يميني في الوكالة ومنفتح مع عائلتي جدًّا. لم أكن يومًا ضدَّ الحداثة أو معاديًا للغرب، كنتُ أقول في نفسي: لم يكن ليو شتراوس على خطأ قط، لم يكن مخطئًا حين قال إن الديموقراطية يمكن تعميمها على العالم كلِّه بالقوة. لا تعكس هذه الازدواجية، التي نستشفُّها من كلام البطل ومن أسلوب عيشه، نفاقًا خبيثًا، بقدر ما هي مآلٌ تراجيدي نتيجة محاولة التوفيق بين التناقضات التي ينبني عليها واقعُه. فهو، من ناحية، لا ينفك يحاول تأكيد انتمائه الأمريكي، مستخدمًا "نحن" كلما أراد الحديث عن الأمريكيين ومكررًا عنوان منزله في "الدرب السادس جنوب هيوستن" مثل لازمة مضنية، كما لو ليرسِّخ، على الأقل لفظيًّا، هذا الانتماء المستعار على غرار اسمه. من ناحية ثانية، نراه غير قادر على التوفيق تمامًا بين متطلبات العائلة الأمريكية المعاصرة وجذوره "الشرق أوسطية". سريعًا ما سنتبيَّن هشاشة وضعه وانتماءاته، لتتشكَّل صورتان على طرفَي نقيض لعالمَين وفكرَين وثقافتين و"موقعين" يتحقق بينهما فصامُه ويتأكَّد. هو فصام سيظل البطل قادرًا على "إدارته"، إذا جاز التعبير، في الحدِّ الأدنى، إلى الوقت الذي سترسله فيه وكالةُ الأخبار التي يعمل فيها إلى أديس أبابا لكتابة تقرير عن الثوار العراقيين الذين غادروا بغداد في السبعينيات للالتحاق بالثورة العالمية ضد المصالح الغربية والشركات الكبرى: جبر سالم، الصحافي الثوري المتأثر بريجيس دوبريه، أحمد سعيد، الثوري العقائدي، وميسون عبد الله، رفيقته وحبيبته ذات المسيرة النضالية ذائعة الصيت. ثلاثة أشخاص، أو شخصيات بالأحرى، استقرتْ بهم الحالُ منذ ثلاثين عامًا في أديس أبابا بعد وصول منغستو إلى السلطة. في بحثه عن هذه الأيقونات الثورية الثلاث، سيجد البطل كلَّ أفريقيا ما بعد الثورة: خليط متفجِّر من الفقر والفساد والأحقاد الإثنية وبقايا حداثة غربية، فيما العملاق الغربي مستمر في امتصاص دمائها السوداء. سيلتقي ثوارًا متقاعدين، كلُّ شيء فيهم يفضح "الطريقة التي يتعفَّن فيها الثوري بعد سقوط الثورة"، ومثقفين تحولت الثورةُ معهم إلى اجترارات لفظية وكليشيهات متعفنة ومصطلحات بائدة. "أين الثورة؟"، سيظل يتساءل طوال رحلته، كأنه يتحدث عن كائن من لحم ودم. لكنه لن يجد لا ثورة ولا ثوارًا ولا مَن يثورون، بل قارةٌ غارقةٌ في ظلام لا مخرج منه، باتت اليوم [...] مثل امرأة سوداء تحمل شوالاً ضخمًا مكتظًّا بأحذية من الپلاستيك الرخيص، على مقربة منها شحاذ يحتضر. لهؤلاء الذين عصفتْ بهم ذات يوم أفكارُ "الثورة الأممية"، يحقق الكاتب حلمهم بأن يكونوا أبطالاً، لكن من على المنقلَب الآخر للبطولة: يجعل منهم أبطالاً مضادين، عبثيين، مهزومين، واهمين، مجموعة من "السكارى والقوَّادين والعاهرات" وأشباه المثقفين الذين ينتمون إلى لامكان ويقبعون خارج الزمن يجترُّون خيباتهم. لا يكتفي بهذا المَسخ الذي يمارسه عليهم، بل تصل به الحالُ إلى حدِّ نفيهم وإلغائهم. وقد يكون عدم تمكُّن بطل الرواية من العثور على أحمد سعيد وميسون عبد الله رمزًا لهذا الوجود السرابي، وكأن بدر لا يريد أن يمنَّ عليهم حتى بحضور مورفولوجي. وإذا حضروا، على غرار جبر سالم، تبيَّن أنهم مسكونون بالخذلان والمرارة وقد اكتشفوا أنهم خُدِعوا، أنهم وقعوا ضحايا انسحارهم بصور سينمائية وشعرية لثوار ينكشون شعورهم ويلبسون الملابس الكاكية ويقرؤون الكتب الحمراء ويحلمون [...] بالثورة الدائمة، بالفوضى والإرباك الذي يمكننا أن نصنعه للإمپريالية والكولونيالية والبورجوازية والإقطاع. أو كانوا على صورة جمال وحيد، الشيوعي السابق الذي خرج من سجون صدام حسين في الثمانينيات بعدما وشى برفاقه لأنه لم يحتمل التعذيب، ليصير اليوم صائد ذئاب في أديس أبابا: "هربت من الذئاب، وها أنا أطارد الذباب"، يقول عن نفسه، بينما يحاول مداراة فوضاه وحطامه الداخليين خلف مظهر لامع، تعكسه النظافةُ والترتيبُ والتقشفُ في منزله، وادعاؤه العمل مع منظمة أوروبية لمطاردة العصابات التي تلاحق الحيوانات من أجل جلودها. إلا أن إمعان الكاتب في تهشيم شخصياته يبلغ لحظاته القصوى في المشهد المتخيَّل الذي يضمِّنه البطلُ تقريرَه عن لقائه الذي لم يحصل مع أحمد سعيد وميسون عبد الله. وهو مشهد تراجيدي من فرط كاريكاتوريته، يأتي لينسف الأسطورة بكاملها. أما بطله، فيتركه في الصفحات الأخيرة يحكي ويحكي ويحكي، مفرغًا الخيبة والإرباك اللذين عاد بهما من رحلته الأفريقية، بحيث يمَّحي وجودُ صديقته الپولونية تمامًا أمامه، لولا بعض العبارات المعترضة التي تنقذ كلامه من شبهة المونولوغ. يتركه ينقض كلَّ شيء، الثورة وما بعد الثورة وما بعدهما معًا، اليساريين والرأسماليين والمحافظين والمتدينين... فلا يبقى في النهاية إلا نوع من الفوضوية الكلامية، يظل يحاول ترتيب معطياتها المتناقضة، قبل أن ترسو على مشهد صورة سياحية وفولكلورية لا تخلو من بُعد داعر: صورة فوتوغرافية عاد بها من أفريقيا، تُظهِرُه واقفًا ومبتسمًا وحوله عشرون امرأة وطفلاً من مشوَّهي الحرب الأهلية، قرَّرت زوجتُه تأطيرها وتعليقها على جدار منزلهما الأمريكي! *** *** *** [*] علي بدر، الركض وراء الذئاب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2007. |
|
|