أرتــور رامبــو
الحلم مضاءً بالموت والسيرة ممغنطةً بالعدم

 

زينـب عسـاف

 

ليس رغبةً في الإضاءة على ما لا يُضاء أصدر صلاح ستيتية كتابه الشامل (كي لا نقول "البحثي"، تفاديًا لجفاف الكلمة) حول الشاعر الفرنسي الأكثر جاذبية وإثارة للجدال: أرتور رامبو[*]، إنما ابتغاءً لقياس كثافة الليل بضوء صغير. في هذا الكتاب يستجوب ستيتية رامبو في مساره الساخط – "نهر النار"، كما يسمِّيه – بأسئلته الممزِّقة والفوضوية، طوال فصول ثمانية، خصَّص آخرَها للمرحلة "العدنية".

لا بيكار، لا خريطة، لا بوصلة، لا قواعد، لا علم منطق، لا لغويات، ولا شعارات، كما يعلن المؤلِّف في مقدمته، بل نضارة فقط: نضارة الغريزة التي نعرف أنها غير عبثية. لذلك يخبرنا ستيتية منذ البداية أن البحث ليس عبارة عن عمل "تأويلي"، على غرار أبحاث لامعة حول شاعر "المركب السكران" لباحثين آخرين، معترفًا أن رامبو، الذي قرأه وأعاد قراءته مرات على مدى حياة كاملة، كان، ولا يزال، يفرُّ منه كحفنة ماء، وأنه هنا يحاول الإمساك بمادة حيوية لا يمكن الإمساك بها!

ليس في وسعنا، والحال هذه، استخدام قواعد صارمة للحكم، لأن هذا العمل حميم بقدر ما هو عام، شخصي بقدر ما هو علمي. إنه العلم المحلوم به، العلم على طريقة جغرافيي القرون الوسطى في رسم محيط المكان ومعالمه، بما أن الحيِّز هو حيِّز اللاَّمكان. "علم نصف نائم"، على قول ستيتية، يستعين بمخيِّلة لانهائية. على هذا النحو، يأتي الحوار أو المونولوغ شركًا لإبعاد الأبصار، لاصطياد اللاَّصوت الذي، عبر إسقاطه في المكان، يضحي لامكانًا. فالمؤلِّف يحاول استخلاص المفرد من "ذاك المثنَّى الدرامي الذي، على الرغم من الجهود المبذولة، يبقى مثنَّى". لذلك فإن الأسئلة المطروحة لا تحتمل الرتابة، بل تطير كملائكة الهواء أو شياطينه، ليصبح اللاَّمكان هو المكان الواقعي لأنه مكان الحلم الذي نبلغه عبر كلمات النائم الممغنطة مغنطةً غريبة.

في بساطة أكثر، لا بدَّ من أخذ هذا العمل بـ"الخفَّة" التي يستحق، الخفة التي تتسبَّب في الطيران والتألُّق، بحسب وصفة تشسْتِرتون: "إذا كانت الملائكة تطير فهذا عائد إلى كوننا نأخذها بخفَّة" – خفة فهمنا حيال قوة المضمون وغناه. فقد استند ستيتية، في بحثه هذا، إلى مجموعة ضخمة من المراجع، بدءًا بـإشراقات Illuminations وفصل في الجحيم Une saison en enfer ورسائل رامبو إلى أصدقائه، وأبرزهم پول ڤرلين، وصولاً إلى أبحاث أخرى حوله، فضلاً عن أعمال ذات صلة لرونيه شار ودانتي ولوي ماسينيون وغيرهم.

حياة رامبو الخاطفة تشكِّل منطلقًا جيدًا لبحث علاقته بالزمن، وتاليًا بالمكان. وفي هذا الإطار، يجزم ستيتية أن الشاعر صنع بالخطوات القوية نفسها حياته وشعره؛ لذلك تبدو مغامرته الأرضية والروحية محصورة في الزمن: كأنها حلقة مقفلة أو ثعبان يعض ذيله، مقلِّصًا الأمس والغد إلى حاضر أبدي، "آنٍ دائم" بالتعبير الصوفي، بعدما اتخذ موقعًا وسطيًّا يسمح له بالتأمل، بجمع قوس حياته الكاملة في لمحة بصر واحدة. هذه العلاقة لا بدَّ أن تتجلَّى في عملَي رامبو المذكورين.

أرتور رامبو (1854-1891)

ما الفارق، إذن، بين إشراقات وفصل في الجحيم؟ هل أمسك رامبو بالمكان في إشراقات وتأمَّل الوقت في فصل في الجحيم؟ يسجِّل ستيتية أن ثمة سيادة للموسيقى في إشراقات، الموسيقى المتصلة بالمكان، الذي هو أفق الحرية السعيد، معتبِرًا أن رامبو لم يجعل من المكان أرضًا لغزوه إلا بسبب كرهه للوقت. ولا يفرِّق المؤلِّف بين العملين لجهة تقدُّم أحدهما على الآخر في اللمحة الزمنية الفاصلة، لأنهما آتيان من اللمعة نفسها أو نسيج الرحلة الوجيزة نفسه. وإذا كان العنوان متفائلاً نسبيًّا وديناميًّا في إشراقات، فإنه يقترب من التيارات الفكرية التي تجاور جدًّا الحقيقة قبل وقت طويل من ترجمتها إلى أفكار. أما فصل في الجحيم فليس سوى "فصل" من الفرح القاتم المهيب، أو فرح الهدم في حال وجوده، بل ربما فرح تهديم النفس. حاول رامبو دائمًا الفرار من الهدم – هدم المحيط وهدم النفس – بحثًا عن "الجسد الجديد المحبوب"، "اللحم الجديد"، "مجموع الورود الشابة والقوية"، أو "المنطلق في التأثير والضجيج الجديدين"، معتبرًا أن الفصل السيئ هو ذاك الذي نتركه خلفنا.

هذه الجدلية بين الوقت والمكان حاضرة في أشعار رامبو كلِّها، وإن اكتفى ستيتية بإيراد بضعة أمثلة منها، مختارًا التركيز على هدفه: الوصول إلى "حقيقة ذاك الاستحواذ المتواتر للشاعر"، الذي جعله يكتب ويعيش صعوبته الخاصة في الوجود، انقباضه وانبساطه، مجابهته للموجود والبحث عن المكان والمقاربة. لم يبحث رامبو عن التركيبة البودليرية التي تحوِّل الوحل ذهبًا وتضرب بجذورها في علم الخيمياء منذ نشوئه، بل أراد تحديد المكان في تحوُّلاته اللاَّمتوقعة والعاصفة.

علاقة رامبو باللغة لم تكن أقل جدلية من علاقته بالوقت: فقد اختار الكريستال القاطع للتعبير عن رؤى الحلم وتهويماته. كأنه أراد نقل اللاَّمرئي بكلمة واحدة، الكلمة التي تتفتح كلماتٍ أخرى، المحمومة والقابلة للإفراط. وإذا كان بعضهم قد تحدَّث عن محاولة رامبو اجتراح لغته الخاصة الكثيفة حتى الانفجار، إلاَّ أن ستيتية أوجز الأمر بأن نَقَلَ ما قاله ألبير پيغان حول "العقدة" في شعر رامبو؛ إذ يصف الأخير أسلوب رامبو كالآتي:

المدهش في هذا الشعر هو الذائقة المتقشِّفة المشغول بها، فلا نجد سوى ما يلزم من الكلمات المتخلِّصة من أيِّ تزيين ومن أية هالة عاطفية، وهذا ما يمنحها بريقها الهائل.

ويشير ستيتية في مكان آخر إلى أن ما يميِّز لغة رامبو أيضًا هو علاقتها السحرية بالموسيقى: إذ تجتاز أبياتُه مجازيات كامنة ومولِّدة، كالعصافير التي "يستوقفكم غناؤها ويجعلكم تحمرُّون"، أو كالأزهار التي "ترنُّ بنشوة هرمونية فريدة".

صلاح ستيتية (1929- )

المرحلة "العدنية" في حياة رامبو حظيت بفصل كامل في الكتاب، استهلَّه ستيتية بهذه الأبيات من فصل في الجحيم:

بعثت للشيطان سعف الشهداء، أشعة الفن، غرور المخترعين، حدَّة النشالين، وعدت إلى الشرق، إلى الحكمة الأولى والأبدية.

"أرض الحكمة الأولى"، كما هو معروف، كانت اليمن، بنظر الشاعر الهارب، أحد غرقى الإمبراطورية الذين نجوا على شاطئ صنعاء. لذلك اختار المؤلِّف أولاً تقديم نبذة عن "اليمن السعيد"، كما يراه العرب أولاً، وكما يراه الأوروبيون أيضًا: مملكة سبأ، وملتقى قوافل البهار والأحجار الكريمة وحكايات الجن، شارحًا لماذا أصرَّت بريطانيا على الاحتفاظ بعدن، المرفأ الثالث عالميًّا من حيث الأهمية، الذي استقبل على مرِّ العصور "غرقى" كُثُرًا هاربين من رتابة أوروبا، مثل پول نيزان وهنري منفرويد، أبحروا إلى أرض الشرق التي لم تكن يومًا واقعية. أكبر شعراء الفرنسية رامبو لم يعرف من اليمن أيضًا سوى ما يراه الغربي، ولم يُرِدْ سوى الهرب: الهرب من هذا كلِّه الذي أصبح، بضربة واحدة، كذبة، فابتعد ليتذوق "الحقيقة الأقسى: تلك التي تحملها الأرض العارية"، معيدًا تشييد النبي الذي فيه باستخدام صوت الشاعر.

بما أننا لم نغادر قط حدود الدائرة–الزمن، لا بدَّ أن تكتمل حلقةُ هذا الكتاب: يختم ستيتية بما قاله رونيه شار حول الغرفة الكونية الكبرى، أو "الفضاء الداخلي"، على حدِّ تعبير هنري ميشو، فضاء اللامتوقَّع والتحولات المحصورة في داخلنا منذ الأزل. هنا، يربط ستيتية رامبو بـ"صوفية" ما – وهذا ما رفضه آخرون، على اعتبار أن الصوفي "بوصلته" واضحة، وهي الله، أما رامبو فلا بوصلة له – تتجلَّى في خطوط التلاقي التي تقود دائمًا إلى دواخلنا: خطوط الماضي والحاضر في تلك اللحظة العدمية والموهومة، حيث نحن الآن؛ النقطة نفسها التي برهن عن وجودها ابن عربي وجلال الدين الرومي: قلب اللاَّتلاقي، حيث يعاصر جيمس جويس المتنبي وبودلير ريلكه.

وفي المحصِّلة، لا يبقى سوى الصمت: رامبو كان أبح، مثل دانتي في صمته الطويل جدًّا، الصمت الذي سيلتمسه بعيدًا عن العصافير والقطعان والقرويات، صمت عميق يسقط على بُنانا الشعرية كالصاعقة ويقزِّمها إلى بنًى كلامية لا معنى لها. كلمة رامبو ليست "كلمة"، كما يخبرنا ستيتية، إنها مسيرة، فتح؛ وهي، ككلِّ فتح أو مسيرة، ممغنطة بالعدم!

*** *** ***

عن النهار، الثلثاء 8 آب 2006


 

horizontal rule

[*] Salah Stétié, Arthur Rimbaud (avec des dessins de Sarah Kaliski), Fata Morgana, 2006.

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود