|
"التحول العظيم" و"الطريق إلى العبودية"
من مفارقات التاريخ الفكري الغربي الحديث أن يصدر في العام 1944، قبل النهاية الفعلية للحرب العالمية الثانية، كتابان شهيران ينحو كلٌّ منهما منحًى مضادًّا تمامًا للآخر: الأول كتاب المؤرخ الاقتصادي المجري كارل پولانيي التحول العظيم: أصول عصرنا السياسية والاقتصادية[2]، والثاني كتاب المفكر السياسي، المجري أيضًا، فريدرش أوغست فون حايك الطريق إلى العبودية[3]. أما الكتاب الأول فمازال، منذ صدوره، يُعتبَر الكتاب "العمدة" في التأريخ لنشأة السوق الرأسمالية. غير أنه لم يقم بالدراسة التاريخية للسوق وحسب، وإنما تجاوز ذلك لكي ينقد نقدًا عنيفًا فكرة السوق الرأسمالية الذاتية التنظيم self-regulated، أي السوق التي تنظِّم نفسها بنفسها من خلال آلية العرض والطلب.
غلاف إحدى الطبعات الإنكليزية من التحول العظيم وأكثر من ذلك، فإن كارل پولانيي بشَّر صراحةً بضرورة القضاء على اقتصاد السوق والعودة، بصورة أو بأخرى، إلى ما قبل ظهور السوق الرأسمالية التي تبيَّن، من خلال التطبيق، أن سيئاتها أكثر من حسناتها، لأن من شأنها أن تمزِّق نسيج المجتمع، وذلك بحُكْم منطقها الذي يقوم على أساس تحقيق الربح الوفير للوحدات الرأسمالية، ولو أدى ذلك إلى إفقار الطبقات الاجتماعية الوسطى والدنيا.
غلاف إحدى الطبعات الإنكليزية من الطريق إلى العبودية وإذا نظرنا إلى الكتاب المضاد الذي ألَّفه فون حايك – الطريق إلى العبودية – لوجدناه وثيقة إدانة إيديولوجية عنيفة ضد تجربة الاتحاد السوڤييتي في تطبيق فكرة "الاقتصاد المخطط"، الذي يقوم أساسًا على إلغاء السوق بحكم التدخل الواسع المدى للدولة في مجرى العملية الاقتصادية. ومنذ صدور هذا الكتاب، اعتُبِرَ من أقوى الأسلحة الفكرية التي وُجِّهَتْ إلى صميم تجربة الاتحاد السوڤييتي، وذلك حتى قبل نشوب الحرب الباردة بين الاتحاد السوڤييتي والولايات المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة. والسؤال الذي يطرحه تاريخُ الأفكار في خصوص هذين الكاتبين وما كان بينهما من خصومة فكرية حادة يتمثل في: ما هو مآل كلٍّ منهما بعد مرور أكثر من ستين عامًا على صدورهما؟ الإجابة المدهشة أن كتاب فون حايك صدقت نبوءتُه، لأن الاتحاد السوڤييتي الذي هاجمه في شدة سقط بالفعل سقوطًا مدويًّا حوالى العام 1989؛ وبالتالي انتهت قصة كتاب حايك الذي أدى دوره في كفاءة عظيمة في الصراع الإيديولوجي العنيف بين الشيوعية والرأسمالية. أما كتاب پولانيي فكان من المفروض أن يسقط من ذاكرة التاريخ بحكم فشل نبوءته في سقوط نظام السوق، وذلك لأننا، بكلِّ بساطة، نعيش في عصر العولمة حقبةَ ازدهار غير مسبوق لفكرة السوق الرأسمالية الحرة، وخصوصًا في ظل "اللبرالية الجديدة" التي أصبحت الإيديولوجية الاقتصادية السائدة في بداية القرن الحادي والعشرين، خصوصًا بعد السقوط المدوِّي لفكرة "التخطيط الاقتصادي" وانهيار النظم التي قامت على أساس اقتصاد الأوامر.
كارل پولانيي (1886-1964) غير أن "دهاء التاريخ" له منطق آخر! – لأن تناقضات العولمة المعاصرة، التي تجلَّت أساسًا في التاتشرية (نسبة إلى تاتشر، رئيسة وزراء إنكلترا السابقة) والريغانية (نسبة إلى رونالد ريغان، الرئيس الأسبق للولايات المتحدة) واللبرالية الجديدة وما أُطلِقَ عليه اسمُ "إجماع واشنطن" Washington Consensus – هذه الصور المتعددة لاقتصاد السوق الحرة كلها ظهرت سلبياتُها العميقة في التطبيق. فقد هوجمت هذه العولمة الرأسمالية المتوحشة من وجهات نظر متعددة، عرقية ودينية وقومية، وبُنِيَتْ الانتقاداتُ الموجَّهةُ إليها على أساس أن العولمة الرأسمالية لم تؤدِّ إلى عمليات إقصاء اجتماعي لطبقات عريضة وحسب، بل أدت إلى تهميش عدد من البلاد النامية في إطار الدورة الرأسمالية العالمية أيضًا، بحُكْم تحكُّم المؤسسات الدولية (مثل "البنك الدولي" و"صندوق النقد الدولي") في اقتصادياتها، وذلك تحت ضغوط الهيمنة الأمريكية في المقام الأول. وهكذا – على غير توقُّع – حدثت عمليةُ إحياء فكري واسعة المدى لفكر كارل پولانيي في كتابه التحول العظيم، بحُكْم أنه كان الرائد الفكري الذي سبق له أن انتقد فكرة السوق الرأسمالية انتقادًا عنيفًا وبشَّر بسقوطها بالمعنى التاريخي للكلمة. "بطل النظام القديم" ولم يكن غريبًا أن يتصدى فون حايك (الذي هاجر، مثله في ذلك كمثل پولانيي، إلى الغرب في الأربعينيات) لعملية إحياء فكر خصمه اللدود كارل پولانيي في الوقت الراهن. لذلك نشر فون حايك مقالة نقدية مهمة بعنوان "بطل النظام القديم: سلطوية كارل پولانيي في كتاب التحول العظيم". ويقرِّر حايك في صدر مقالته أن [...] السنوات التي جرت فيها الحرب العالمية الثانية مثَّلت حقبةً سادها خوفٌ عظيم، وإنْ كان فُتِحَ الباب أمام أمل عظيم. وكتاب پولانيي التحول العظيم كُتِبَ في سياق هذا الخوف والفزع، ومثَّل في الواقع تراكُمًا لعقائد المؤلِّف حول الاقتصاد والمجتمع. وأضاف فون حايك أن غرضه من كتابة المقالة هو التحليل النقدي لأفكار پولانيي عن السوق والمجتمع واللبرالية، بالإضافة إلى إثبات أن المعالجة الإيديولوجية، لا المعالجة العلمية، هي التي سيطرت على الكتاب.
فريدرش أوغست فون حايك (1899-1992) والواقع أن مقالة فون حايك يمكن اعتبارها نقدًا صارمًا لأفكار پولانيي الأساسية من خلال تفنيد الأمثلة التاريخية التي استند إليها، وخصوصًا فيما يتعلق بتشريحه ظاهرةَ الاستغلال الرأسمالي في بلد مثل الهند، وذلك بالإضافة إلى نقده نزعةَ پولانيي "غير العلمية" في مجال التغني بالتماسك الاجتماعي في المجتمعات ما قبل الرأسمالية التي لم يكن دافعُ الربح فيها الحافزَ الأساسي للدورة الاقتصادية. بل إنه يضيف أن المصدر الرئيسي للمجاعات في نصف القرن السابق لصدور كتابه هي السوق الحرة في الحبوب، مصحوبةً بتدنِّي دَخْل السكان المحليين. ويحاول فون حايك أن يفنِّد حجج پولانيي على أساس أنها لا تستند إلى معطيات تاريخية صحيحة ولا إلى تحليل اقتصادي دقيق. ويضيق بنا المقام لو حاولنا أن نعرض كلَّ أوجُه انتقادات فون حايك لفكر پولانيي. غير أننا نرى أنه بالَغ مبالغةً ضخمةً حين ادَّعى أن پولانيي من أبطال "النظام القديم"، ويعني النظام الاقتصادي قبل الحديث، أو بعبارة أخرى قبل الرأسمالي. ذلك أن پولانيي لم يكن على سبيل القطع من السذاجة بحيث ينفي إيجابيات النظام الرأسمالي كلَّها ويدعو للعودة إلى النظام القديم، وذلك لأن المعادلة البسيطة والعميقة معًا التي صاغها پولانيي هي أنه من دون اقتصاد عادل ليس هناك مجتمع عادل؛ وهو يعني بذلك أنه لا يمكن تحقيق الحرية للبشر في اقتصاد يقوم أساسًا على حرية العرض والطلب. ومن هنا فإن نقده لفكرة السوق الحرة دعوة لابتداع نظام جديد يتضمن من الضوابط ما يمنع الرأسمالية من أن تصبح – بحسب توصيف شائع – "رأسمالية متوحشة"، والسعي بدلاً من ذلك في إيجاد "رأسمالية ذات وجه إنساني". والواقع أن أفكار پولانيي، على الرغم من تقادُم العهد بها، أصبحت مصدر وحي للعديد من المفكرين المعاصرين، سواء كانوا من أهل اليمين أو من أنصار اليسار. فقد حدث ما تنبأ به پولانيي، وهو أن الجماهير لن ترضخ طويلاً لويلات نظام السوق الحرة ولا بدَّ لها، في لحظة تاريخية ما، من أن تثور على الاستغلال الذي تتعرض له. وقد رأينا أنه في مواجهة "منتدى داڤوس" الذي عُقِدَ مؤتمرُه السنوي هذه المرة في مدينة شرم الشيخ، تبلورت حركةٌ عالميةٌ واسعة المدى "ضد داڤوس" تدعو إلى تحقيق فكرة "الاقتصاد العادل" التي سبق لپولانيي أن بشَّر بها. والحقيقة أن فون حايك لم يكن بمفرده في مجال نقد پولانيي؛ بل لقد انضم إليه كتَّاب كُثُر من أنصار "اللبرالية الجديدة"، من أمثال الاقتصادي النمساوي موراي ن. روثبارد (1926-1995)، الذي نُشرت على الإنترنت بتاريخ 17 أيلول 2004 مقالةٌ غير منشورة له (تعود إلى حزيران 1961) يكفي عنوانُها للدلالة على مضمونها، وهو: "تسقُط البدائية: نقد صارم لپولانيي"[4]. وهو يتهم پولانيي فيها بأنه يدعو للعودة إلى نمط الحياة الذي كانت تعيشه الشعوب البدائية، تأثُّرًا بأفكار روسو الرومانسية عن العودة للطبيعة وبساطة الحياة؛ بل إنه يتهمه بـ"التعبد في محراب الحياة البدائية"! لكن هذا النقد لا يرقى، بحُكْم تشويهه لفكرة پولانيي، إلى مستوى النقد العلمي الرصين الذي سبق لحايك أن مارسه في مناقشته الممتازة لكتاب التحول العظيم. وأيًّا ما كان الأمر، فإن عملية إحياء فكر پولانيي لم تتوقف عند حدود نقد فكرة السوق الرأسمالية والاستناد إليها في مجال نقد العولمة الاقتصادية الراهنة، لكنها تعدَّت ذلك بكثير، لتكون أساسًا لعملية البحث عن نظام عالمي جديد، كما فعل الأستاذ بيورن هِتْنِه من جامعة غوتِبُرغ[5]، أو في دراسة "ديناميَّات النزاع وتغير المنظومات"، كما فعلت الأستاذة ساندرا هالپرِن من جامعة سَسِّكْس[6]. إن حياة فكر كارل پولانيي تمثل حالة دراسية نموذجية يُعنى بها أشد العناية تاريخُ الأفكار وسوسيولوجيا المعرفة – ونعني إحياءَ نظرية قديمة وبَسْطَ نطاقها لتحليل ظواهر معاصرة وتفسيرها. جدير بالذكر أن فكر كارل پولانيي يقترب كثيرًا من فكر المفكر الاقتصادي النمساوي الأصل يوزف شومپيتر الذي نشر في الولايات المتحدة، منذ أكثر من خمسين عامًا، كتابه المعروف الرأسمالية والاشتراكية والديموقراطية[7]، وفي هذا الكتاب قدَّم فكرة محورية مُفادها أن الرأسمالية نظام غير مقدَّر له البقاء بالمعنى التاريخي للكلمة لأنه يحمل في طياته تناقضًا جوهريًّا بين جماعية الإنتاج وفردية جني الأرباح. في عبارة أخرى، إذا كان النظام الرأسمالي سيعيش زمنًا، إلا أنه لا بدَّ له من أن يسقط تحت وطأة هذا التناقض في مرحلة ما من مراحل التاريخ الإنساني، ليحلَّ محلَّه نظامٌ اقتصادي جديد أعدل. القاهرة *** *** *** عن النهار، الأربعاء 24 أيار 2006 [1] كاتب مصري. [2] Karl Polanyi, The Great Transformation: The Political and Economic Origins of Our Time. [3] Friedrich August von Hayek, The Road to Serfdom. [4] "Down With Primitivism: A Thorough Critique of Polanyi," by Murray N. Rothbard, posted 9/17/2004 (http://mises.org/story/1607). [5] Björn Hettne, "Regionalism vs. Pax Americana: Karl Polanyi and the Search for World Order," Göteborg University. [6] Sandra Halperin, "Dynamics of Conflict and System Change: The Great Transformation Revisited," University of Sussex. [7] Joseph Schumpeter, Capitalism, Socialism and Democracy.
|
|
|