الصوفيَّة وجوهر الدِّين
من أجل فهم أكثر روحانيةً لأدياننا

 

أكرم أنطاكي

 

1

لست أخفي أنني ترددت قليلاً حين طلب مني الأب رافي حلاوة إلقاء محاضرة حول التصوف في بطريركية الروم الكاثوليك بدمشق. فقد شعرتُ ببعض الخوف من هذا الطلب الذي أحسستُ وكأنه يتجاوزني، حتى إني فكرت في الاعتذار. إذ ماذا في وسع مهندس عَلماني أن يقدم جديدًا في بيت مَن يُفترَض أنهم رُعاة أحد أكثر المناحي الدينية روحانيةً في عالمنا؟!

ثم حسمت أمري، وقررت المجازفة بالحديث عن مفهومي الخاص لهذا المنحى الذي كان له أكبر الأثر في إعادتي إلى الإيمان بألوهة شاملة تتجاوزنا، هي، في الوقت نفسه، في قلب كلٍّ منا.

وأبدأ حديثي من هنا عن ذلك "المنظور الآخر" الذي ربما كان، من بعض جوانبه، هو التصوف، متوقفًا أولاً أمام...

2

التصوف الإسلامي

يقول الأستاذ نهاد خياطة[1] في مقال له بعنوان "مدخل نظري إلى التصوف الإسلامي"[2] إن:

التصوُّف هو أن تعبد الله، لا طمعًا في ثواب، ولا خوفًا من عقاب، بل أن تعبد الله حبًّا في الله – مما يعني انتفاء الغرض؛ وهو ما تقتضيه طبيعةُ الإخلاص. بذلك ينهض التصوف على ركن أساسي هو الحب والإخلاص فيه.

ونتفكر فيما تعنيه هذه المقاربة الأولى والأساسية – تلك التي تنطلق من القلب، فتدعو إلى حبِّ الألوهة في حدِّ ذاتها ومن أجل ذاتها، إلى حبِّها ليس خوفًا من عقاب و/أو طمعًا في جنة – فتراودنا تساؤلاتٌ كثيرة، قد يكون أولها حول ماهية تلك الألوهة التي تدعو إليها الصوفية، حول علاقتها بالخليقة إجمالاً وبالإنسان تحديدًا، وقد لا يكون آخرُها علاقة هذه المقاربة بشريعة دينها، حيث الترغيب والنهي.

فنرى من خلال بعض التعمق في دراسة فكر معلِّميها، وعلى رأسهم طبعًا الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، أن الصوفية تعبِّر عما تدعوه لغتُنا الفلسفية وحدة الوجود – تلك الحقيقة التي قد تكون الحقيقة الأساس في الصوفية. لكن الأمور لم تكن يومًا بهذه البساطة – ما يدفعنا إلى المزيد من التقصي، فنتأمل في هذه المقاربة الثانية للأستاذ خياطة أيضًا، الذي يقول في مقال آخر بعنوان "التصوف الإسلامي بين وحدة الشهود ووحدة الوجود: مدخل إلى فكر محيي الدين بن عربي"[3]:

إذا قال الصوفي: "لا أرى شيئًا غير الله"، فهو في حال وحدة شهود. وإذا قال: "لا أرى شيئًا إلا وأرى الله فيه"، فهو في حال وحدة وجود. ولعل هذا أوجز تبسيط ممكن لهذين الاصطلاحين اللذين يختزلان التجربة الصوفية في كل أبعادها. فحال وحدة الشهود هي حال الفناء، وحال وحدة الوجود هي حال البقاء. والفناء والبقاء متلازمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر؛ وكذلك وحدة الشهود ووحدة الوجود: فإذا كنتَ فانيًا عن شيء، فأنت لا بدَّ باقٍ بغيره؛ أو إذا كنتَ باقيًا في شيء فأنت، لا محالة، فانٍ عن سواه...

لكن هذا المنظور الذي يميِّز الصوفية هو تحديدًا ما يرفضه منتقدوها الذين يتهمونها على أساسه بالحلول pantheism، الذي معناه – والله أعلم –

... امتصاص المبدأ في تجلِّياته بحيث يصبح الخالقُ أسيرَ مخلوقاته: فهي هو من كلِّ وجه، وهو هي من كلِّ وجه...[4]

لكن التصوف، من منطلق ما يسمى بـ"وحدة الوجود"، ليس حلولاً، وإن كان يلتقي معه في بعض جوانبه؛ إنما، كما شرح الأستاذ خياطة في المقال السابق نفسه حين قال إن:

... وحدة الوجود Unity of Being (أو بالفرنسية Unicité de l’Être)، أو على الأقل وحدة الوجود التي يقول بها ابن عربي، تختلف اختلافًا بيِّنًا عن عقيدة الحلول، وإن كانت تتقاطع معها في بعض النقاط لكي تتفارق عنها في بعض النقاط الأخرى، أو حتى في نفس النقاط...

فـ...

... النظريتان تتقاطعان عند اعتبارهما أن الله والعالم كينونة واحدة، وتتفارقان من حيث إن عقيدة الحلول تنفي ثنائية الحق والخلق، على حين أن وحدة الوجود التي قال بها الشيخ الأكبر تعترف بثنائية الحق والخلق وتنفيها في الوقت نفسه. فهي تحافظ على الثنائية فيما تقول بالوحدة، وتحافظ على الوحدة فيما تقول بالثنائية. أي أنها ثنائية في وحدة، أو وحدة في ثنائية؛ لكنها تمنح الوحدة قيمة مطلقة والثنائية قيمة نسبية...

وأيضًا:

... تلتقي عقيدة الحلول مع عقيدة وحدة الوجود في أن الاثنتين تقولان بالمحايثة، محايثة الألوهة للعالم؛ وتفترقان من حيث إن الحلول يقول بالمحايثة المطلقة، على حين أن وحدة الوجود تقول بالمحايثة النسبية. فالحق ليس مباينًا للخلق مباينةً مطلقة، لأنه لو كان كذلك لكان الخلق موجودًا بذاته، ولم يكن حادثًا، وكان حدًّا للألوهة. ويؤدي بنا إلى نتيجة مشابهة القولُ بأن الحق محايث للخلق محايثةً مطلقةً بلا مباينة، فيكون الله تعالى، في هذه الحالة، محدودًا بحدود العالم، متناهيًا كتناهي العالم، نسبيًّا كنسبيَّته. إذن لا بدَّ من الاعتراف بكلتا صفتي التنزيه والتشبيه، أو المباينة والمحايثة، أو المفارقة transcendence والكمون immanence. وقد جمع ابن عربي بين التنزيه والتشبيه في قوله: "... وبالجملة فالقلوب به هائمة والعقول فيه حائرة، يريد العارفون أن يفصلوه تعالى بالكلِّية عن العالم من شدة التنزيه فلا يقدرون، ويريدون أن يجعلوه عين العالم من شدة القرب فلا يتحقق لهم. فهم على الدوام متحيِّرون: فتارة يقولون "هو"، وتارة يقولون "ما هو"، وتارة يقولون "هو ما هو"، وبذلك ظهرت عظمتُه تعالى...[5]

وتجدنا أمام فهم دينيٍّ وفلسفيٍّ في منتهى العمق والروحانية: فهم يتماهى فيه الإنسان مع الكون ومع الألوهة، كما عبَّر بكلِّ بلاغة الحسين بن منصور الحلاج حين قال:

أنا مَن أهوى ومَن أهـوى أنا        نحـن روحـان حللنا بدنـا
فـإذا أبصـرتَنـي أبصرتَـه         وإذا أبصـرتَه أبصـرتَـنـا

فَهْمٍ كان أهمَ ما ميَّز كبار الصوفية، وعلى رأسهم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي[6]، فجعله يقول:

لقد صارَ قلبي قابلاً كلَّ صورةٍ        فمرعًى لغزلانٍ وديرٌ لرهبـانِ
وبيتٌ لأوثـانٍ وكعبةُ طـائـفٍ      وألـواحُ توراةٍ ومصحفُ قرآنِ
أديـن بدين الحبِّ أنَّى توجَّهتْ        ركـائبُه فالحب ديني وإيمـاني

فهمٍ يؤمن بـ"دين الحب" ويتجاوز حرفيةَ شريعة دينه – أو لنقل شريعة أيِّ دين – إنْ تحجَّرت. ونوضح قليلاً، لأن تجاوُز الصوفي من حيث الظاهر لشريعة دينه، الذي قد يبدو، لأول وهلة ربما، من منظور بعض أهل الشرع "كفرًا"، ليس كذلك في الحقيقة. ونسترجع هذين البيتين للحسين بن منصور الحلاج الذي عبَّر عن تلك الحالة حين قال:

إذا بلـغ الحبُّ الكمالَ من الفتـى     وذهل عن وصل الحبيب من السكر
فيشهد صادقًا حيث يُشـهِدُه الهوى   بأن صلاةَ العـارفيـن مـن الكفـر

فتجاوُز الصوفي لشريعة دينه، إنْ تحجَّر، ليس "كفرًا" في الحقيقة، بل هو، كما شرح بكلِّ بلاغة الأستاذ نهاد خياطة:

... في المطلق، حيث تتآلف المتناقضات، وتتواحد المتضادات، لا كفر ثمة ولا إيمان، لا خير ولا شر، لا نور ولا ظلام – وبالتالي، لا حلال ولا حرام، ولا جنة ولا نار... أما في النسبي، حيث الحجاب مسدل على الحقيقة، أو إن شئت قلت: على القلوب والبصائر، وحيث المتناقضات على احتدامها، والمتباينات على تفرُّدها، فلا سبيل إلا الشريعة يعمل الإنسانُ على هدي منها، ولا طريق إلا العبادات يتطهَّر بها من أوضار الحياة اليومية ومن متطلبات الغرائز. والصوفي المتحقِّق، إذ يرجع من المطلق إلى النسبي، إنما يكرر "الخطيئة الأولى" التي هي قدره، مثلما كانت قدر أبويه آدم وحواء. كل ما يقوله أو يفعله في النسبي فهو نسبي: فإن كان خيرًا انطوى على شر، وإن كان إيمانًا انطوى على كفر، وإن كانت صلاة كانت صلاته من "الشرك الخفي" أو الكفر. وعند الصوفي، الانتقال من الجمع إلى الفرق، كالهبوط من السماء إلى الأرض، خطيئة. من هنا كانت "صلاة العارفين من الكفر‍‍‍‍‍‍‍"!

ونتحقق من هذا حين نرى أن ذلك الفهم الأسمى يقود إلى الإيمان بـوحدة الأديان من حيث الجوهر، يتلاقى فيه الحلاج مع ما سبق وأوردناه على لسان بن عربي، ويتماهى فيه الإسلامُ – لا بل يتطابق – مع جوهر المسيحية، حين قال:

ألا ابلــغ أحبائـي بأنِّــي         ركبتُ البحرَ وانكسرَ السفينة
على دين الصَّليب يكون موتي        فلا البطـحا أريد ولا المدينة

وأتفكر أن هذا المنحى النابع من قلب الإسلام إنما كان – وما زال – يعبِّر عن حاجة روحية لدى خيرة أبنائه الذين لم يستطيعوا الامتثال لقسوة فهم "شرائعي" سائد ومتعصب. وهذا الفهم لدينه هو ما حاول الشهيد الحق المعاصر محمود محمد طه الارتقاءَ إليه حين ميَّز في وضوح بين الشريعة وبين السنَّة، فدفع حياتَه من أجل تلك الحقيقة التي آمن بها. يقول محمود محمد طه في كتابه الرسالة الثانية في الإسلام إنه:

... إذا كانت العروة الوثقى هي الشريعة، فإن السنَّة أرفع منها. وإذا كان حبل الإسلام متنزَّلاً من الإطلاق إلى أرض الناس حيث الشريعة، حيث مخاطبة الناس على قدر عقولهم، فإن السنَّة تقع فوق مستوى عامة الناس. فالسنَّة هي شريعة النبي الخاصة به، هي مخاطبته هو على قدر عقله – وفرق كبير بين عقله وبين عقول عامة الناس. وهذا نفسه الفرق بين السنَّة والشريعة. وما "الرسالة الثانية" إلا بعث هذه السُنَّة لتكون شريعة عامة الناس...

وهذه الرسالة تقول إن:

... الإسلام دين واحد، وهو دين الله الذي لا يرضى غيره. قال تعالى فيه: "أفغير دين الله يبغون وله أسلم مَن في السماوات والأرض طوعًا وكرهًا وإليه يُرجَعون"؟ وهو، بهذا المعنى، إنما هو الاستسلام الراضي بالله ربًّا. وبالإسلام جاء جميعُ الأنبياء من لدن آدم وإلى محمد. قال تعالى في ذلك: "شرَّع لكم من الدين ما وصَّى به نوحًا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه... كبر على المشركين ما تدعوهم إليه... الله يجتبي إليه مَن يشاء ويهدي إليه مَن ينيب". "شرَّع لكم من الدين" هنا لا تعني الشرائع، وإنما تعني "لا إله إلا الله"؛ ذلك بأن شرائع الأمم ليست واحدة، وإنما هي مختلفة اختلاف مقدار، وذلك لاختلاف مستوياتها...[7]

لكن الفهم الحرفي–الشرائعي مازال سائدًا إلى يومنا هذا، بكلِّ أسف. وهذا الفهم الذي لا بدَّ من الارتقاء به لمقاربة الألوهة وتفهُّم عمق وحدانيتها الحق هو الذي قادني، ضمن سياق محاولتي الصغيرة هذه، إلى التفكر قليلاً في أصول هذا المنحى وعمقه وعلاقته بالديانات التي سبقتْه في منطقة نشوئه وعلى أرضه، من جهة، وبالديانات الأخرى، وخاصة المشرقية منها، من جهة أخرى...

3

في جدلية العلاقة بين الأديان

... لأنني أعتقد بأن الإسلام ليس، كما يحاول بعضُهم أن يصوِّره، مجرد تنزيل إلهيٍّ في بيئة مسطَّحة، أمِّية، منعزلة عن سواها، بل هو ابن أعماق إنسانية سحيقة ووليد ديانات سبقتْه، فطبعتْه بطابعها، كما طبعتْه البيئةُ التي ولد فيها وترعرع. فكل دعوة تنبع من سواها – وهذا طبيعي جدًّا، وإنساني جدًّا – وأصول أية دعوة لا يمكن إخفاؤها. وأصول الإسلام، كما يشهد بذلك القرآن، كانت قطعًا التوراة والإنجيل، وربما – والله أعلم – التوراة قبل الأناجيل. فتلك "الصحف" – "صحف إبراهيم وموسى" – كانت الألوهة قد أوحت بها في وقتها إلى أمة اختارتْها، وإلى الأمم من بعدُ، كما أوحت بالقرآن...

وكلُّ دعوة تنبع من سواها لا تلبث – وكأنه قدر إلهي – أن تتمايز فتستقل عن أصولها. والإسلام الذي كان دعوةً بـ"لسان عربي مبين" لأمة إسماعيل، كان لا بدَّ من أن يتمايز عن أصوله الإسرائيلية والنصرانية–الإسرائيلية.

فجدلية الحياة ونسبية الإنسان هما اللذان فرضا – ومازالا يفرضان – على جميع تلك "الحقائق" المتمثلة في الأديان والمذاهب، "السماوي" منها وغير السماوي، أن تتحول، بهذا الشكل أو ذاك، إلى شرائع. والجدلية نفسها، كقدر إلهي، فرضتْ على الباحثين عن المعرفة على مرِّ العصور، وقد أصبحت الشريعةُ برقعًا يحجب الحقيقة، تجاوزَ هذه الشريعة.

والشريعة – أية شريعة – مبرَّرة في زمانها. فالحقيقة صعبة جدًّا، وتفهُّمها ليس، مع الأسف، في متناول عوام الناس. والشرائع مازالت، إلى يومنا هذا، مبرَّرة، وستبقى كذلك حتى الأفق المنظور. فالجهالة المحيطة، وما يتبعها من تفسُّخ أخلاقي وانحلال هي، ربما، أكبر برهان على ذلك. ولكن...

حين تصير الشرائع – من خلال مفاهيمها التي تجاوَزَها الزمن، ومن خلال انحطاط القوَّامين عليها – من دوافع تلك الجهالة وما يتبعها، أفلا يكون هذا جانبًا كبيرًا من حقيقة تدفع "أبناء المعرفة" للتمرد عليها، مضحِّين بحياتهم غالبًا، لتجاوُز أحكامها المعلنة؟ وأيضًا...

لأنه إنْ كانت المأساة الأولى للإسلام (ولأيِّ دين، كما ولأية فكرة إنسانية جامعة) تكمن في علاقته بأصوله – ومأساة الإسلام كانت، ربما، في أصوله اليهودية والنصرانية؛ كما كانت مأساة المسيحية ربما، ولم تزل، تكمن في أصولها اليهودية والرواقية؛ وكانت مأساة اليهودية في أصولها المصرية والبابلية والعربية – فإن المأساة الثانية، التي لا تقل عن الأولى أهمية (وأنا أعني هنا طبعًا جميع الأديان والأفكار الجامعة)، تكمن في الفهم المسطَّح لشرائعها وفي علاقتها بعوامها.

ولتلك المآسي أوجُهٌ متعددة ومتشابكة. فكل فكرة تنبع من أخرى أقدم منها، ومن تفاعلات وظروف محيطة جعلت ظهورها من بعدُ محتمًا، إن لم نقل ضرورة. فوعاؤها هو الإنسان، وجدليَّتها هي جدلية الحياة النابعة من احتكاكات البشر وصراعاتهم وتفاعلاتهم... تراكمات كمِّية تتفاعل في الأعماق الإنسانية، لتولِّد تحولاتٍ نوعيةً تبدو لنا فيما بعد وكأنها جديدٌ يختلف نوعيًّا عمَّا سبقه.

والصوفية في الإسلام كانت تحولاً نوعيًّا أسَّس – وما زال يؤسِّس – لفهم دينيٍّ جديد، لأنها في نهاية المطاف، من منظور ما أوردناه سابقًا، تفهُّم "أبناء المعرفة" من أتباع ذلك الدين لحقيقة دينهم التي هي، في النهاية، حقيقة الأديان الأخرى، أي أولاً وآخرًا وقبل كلِّ شيء: "لا إله إلاَّ الله"، كما عبَّر، بكلِّ صدق ومحبة، الشهيد محمود محمد طه.

ونتابع مع هذا الفهم الروحاني والتاريخي والجدلي، لنتحدث قليلاً عما نصطلح في منطقتنا وبشكل عام على تسميته بـ...

4

التصوف المسيحي

فالمسيحية، من حيث أصولُها، هي أيضًا، كالإسلام، ابنةُ بيئتها. وهذه البيئة كانت في البداية، وبشكل أساسي من خلال بولس الرسول، يهودية وهلنستية. فهي كانت ابنة تلك الأيام ونتاج تلك التراكمات التي أوجدتْها وتفاعلاتها. ومفاهيمُها التي ولدت من قلب اليهودية تبلورت وتطورت تدريجيًّا لتصل إلى ما وصلت إليه، فعكستْه كتبُها المقدسة. أي أنها كانت:

-       أولاً: إسرائيلية (إن لم نقل يهودية) في أعماقها، من خلال العهد القديم. وأيضًا و...

-       ثانيًا: يهودية (إن لم نقل إسرائيلية)، فرضتْ عليها ظروفُ أزمتها تجاوزَ نفسها؛ فكان هذا على يد ذلك "الإنسان–الملك–المشيح" الآتي من قلبها الذي حقَّق خلال حياته، عبر فدائه، ألوهيته كابن للإنسان. و...

-       ثالثًا: غنوصية، سرَّانية، كما هو واضح جدًّا من كتبها (وخاصة منها إنجيل يوحنا والرؤيا)؛ ولو لم تكن كذلك لما كان في وسعها أن تكون أيضًا و...

-       رابعًا: هلنستية ورواقية، ولما كان في وسعها أن تنتشر بين الأمم عامة، في قلب العالم الروماني تحديدًا وليس حصرًا.

وكالإسلام، كان الجانب الأكبر من مأساة المسيحية على مرِّ العصور هو ذلك الفهم المسطَّح والأحادي الجانب لشريعتها من قبل القوامين على مؤسساتها، من جهة، وهو علاقتها بالعوام من أتباعها، من جهة أخرى.

ولكن قد يعترض بعضُهم هنا، فيقول إنه ليست للمسيحية شريعة من خلال كتبها التي تقدم سيرة حياة المخلِّص وأتباعه الأوائل عن طريق السير والأمثال. وهذا صحيح، لكنْ على مرِّ عصورها، وخاصة منذ ترسُّخها كدين للدولة الرومانية على يد الإمبراطور الروماني قسطنطين، باتت للمسيحية، على اختلاف توجهاتها، مؤسساتٌ لها قوانينها وأحكامها، مؤسساتٌ سيطرت حينذاك على دول وأمْلَتْ على تلك الدول سياساتِها.

وأتوقف هنا قليلاً للتأمل في تلك الأيام، حيث ساد، من خلال تلك المؤسسات، ذلك الفهم الذي رعى حروبًا سمِّيتْ بـ"الصليبية" وولَّد محاكم التفتيش. أتوقف عند ما ولدته تلك الظروف من مفكرين وتوجهات ومناحٍ نبعت من أعماقها وسعت إلى تصحيح المسار. لأن هذا المنحى ما جاء في تلك الأيام إلا ليؤكد على ما بدا وكأن بعضهم آنذاك قد نسيه من عمق روحاني هو الأساس في المسيحية.

وأتوقف تحديدًا عند المعلم إيكْهَرْت (1260-1327)، لأنه كانت...

... للمعلِّم إيكهرت منزلةٌ على حدة في تاريخ التصوف العالمي. فالمسائل التي طرحها الحكيمُ الريناني المتألِّه والتأويلات التي أتاحها هي عينها القضايا الكبرى التي شغلت التصوف، النظري والعملي، حول شَخْصَنَة الإله وطبيعة علاقته بالعالم وبالنفس الإنسانية. صحيح أنه تأثر لاهوتيًّا بتوما الأكويني، وصحيح كذلك أن إلهياته استمرار لنهج روحيٍّ أفلاطوني يمر من ألبرتوس الكبير وتييري الفرايبُرغي، لكنه نسيج خاص من حيث دفعُه إلهياته حتى تخومها القصوى – تخوم العدم الصوفي التام الذي يشكل "مادة" الإله نفسها – ومن حيث ترجمتُه إلى لغة العوام خبرةً أراد لها أن تلبِّي حاجاتِ مستمعين متعطشين إلى الروحانية، كما يظهر من مواعظه بالألمانية، حيث جرأة العباراتِ الظاهرةِ التناقضِ تؤلِّف تأليفًا خلاقًا بين الخبرة الداخلية والفلسفة العالِمة – تأليفًا جلب عليه، في الوقت نفسه، تكفير الفقهاء واتهامهم له بالزندقة...[8]

و...

... مذهب إيكْهَرْت عبارة عن تأملات في الوجود، الذي، مأخوذًا في مطلقيَّته، يتماهى مع الله. [حيث] يميز إيكْهَرْت تمييزًا دقيقًا بين الألوهة Gottheit وبين الله Gott. فالألوهة هي الذات الإلهية المطلقة، واجبة الوجود بذاتها، المتعالية عن الأسماء والصفات والعلاقات، التي لا نستطيع أن نقول فيها شيئًا غير إنها أحدية مطلقة؛ وبالتالي لا يجوز لنا أن نتكلم عليها إلا بلغة لاهوتية سلبية، بحيث إن مصطلحات، من نحو "الوجود" و"الخير"، كما نستعملها في اللغة البشرية، لا تصح عليها. أما الله، على العكس، فهو الألوهة بوصفها داخلةً في علاقة. فهي تقيم أولاً علاقة أولى، داخلية وضرورية، مع ذاتها، تفضي إلى انبثاق الأقانيم الإلهية للثالوث؛ والأقانيم تفيض فيضًا مستمرًّا من الذات الإلهية وترجع إليها. كذلك فإن الألوهة تصير الله عبر علاقة ثانية، خارجية، هي علاقة الخلق. وبحسب عبارة إيكْهَرْت (التي يتقاطع فيها مع مذهب الشيخ الأكبر ابن عربي)، ليس الله إلهًا إلا بوجود المخلوقات؛ فلو لم تكن لما كان...[9]

و...

... يرتبط التصور الإيكهرتي للخلق بثيمة محورية عند أفلاطون هي ثيمة النموذج البدئي archetype ("العين الثابتة"، بحسب ابن عربي). فالله يعلم منذ الأزل، في كلمته، "أعيان" الخلق كافة. والخلق هو الفعل الإلهي الذي يمر عبره بعضُ هذه الكائنات من عالم الأعيان المثالي إلى عالم الظواهر. كل مخلوق فهو كائن مزدوج: موجود بالقوة في الله، وموجود بالفعل في العالم. وهكذا فإن كلَّ مخلوق، من حيث ارتباطُه بنموذجه أو عينه الثابتة في العلم الإلهي الكلِّي، يحمل نوعًا من "السمة" الإلهية التي هي شرفه الأصلي. ولكن من منظور آخر، فإن الفارق الجذري بين الكائن غير المخلوق وبين الكائن المخلوق هو من السعة بحيث إن هذا الأخير، قياسًا إلى الله، يمكن أن يوصف بالعدم. وهنا يقترب إيكْهَرْت من الفيدنتا الهندوسي الذي ينكر على "المخلوق" أيَّ وجود مستقل عن برهمن ويصفه بـ"الوهم" māyā...[10]

وبحسب إيكْهَرْت فـ...

... إن ثيمة النموذج البدئي تسمح برفع شرف الإنسان على أساس مكين. فهو، ككلِّ الصوفية، ينظر إلى النفس الإنسانية كواقع مركَّب، فيه أقاليم ومناطق. وفي سرِّها الأعمق تُستودَع عينُها الأزلية (آتمن ātman الفيدنتا) التي تربطها إلى الذات الإلهية. وإيكْهَرْت مرارًا ما يشير إلى هذه النقطة المركزية من النفس بمصطلحات من نحو "الكُنْه" أو "النور" أو "الشرارة". وهو يشدِّد على أن هذا السر متوجِّه بكلِّيته إلى الله، ويسميه أحيانًا "العقل". وعن "كُنْه" النفس هذا يقول إيكْهَرْت في إصرار شديد إنه "غير مخلوق وغير قابل للخلق"!

وهكذا فإن النفس، متحدةً بالله عبر مركزها، تشارك مشاركةً فاعلةً ومنفعلةً في حياة الثالوث الإلهي. ففيها يولد الكلمة ولادةً متجددة من الآب، في الوقت الذي تولد هي مع الكلمة من الآب. وهذه النظرات واحدة من قمم التصوف الإيكهرتي، لكنها أيضًا من أصعب جوانبه...[11]

وأخيرًا،

يرى إيكْهَرْت أن السلوك الصوفي محكوم هو الآخر بثيمة النموذج البدئي، كما وبرؤية دورية، أفلاطونية هي الأخرى. فالنفس تصدر أصلاً عن الوحدة الإلهية، لكن الخلق يضعها في القلب من عالم الكثرة، وعليها أن تستخلص نفسَها منه من أجل أن ترجع إلى الوحدة. وهذا يقتضي حالاً جذرية من "الفقر"، تستغني فيه النفسُ عن الخلق كلِّه: عليها أن تزهد في كلِّ إرادة خاصة تفصلها عن الله؛ وعليها أن تتخطَّى العناصر المخلوقة كلَّها، بما فيها طبيعة المسيح البشرية بوصفها مخلوقة؛ وعليها أن تتخطَّى الصور، لا بل أدق الآثار التصورية التي يمكن أن ترسب فيها. ويجب عليها أن تبلغ إلى حالة من الزهد المطلق، بحيث لا يبقى فيها أثرٌ لرغبة، حتى في الخير. وهكذا تفنى النفس، فتنكفئ على ذاتها في حركة يطلق عليها إيكْهَرْت اسم "الانطواء". وهي، إذ تتعالى على الكون المخلوق عبر "اختراق" حقيقي، تبلغ عينها (أو نموذجها البدئي) في مركزها، وتلتحق فيه بأحدية الذات الإلهية، محققةً نوعًا من عدم التمايز عن الله، نوعًا من "التألُّه". وبهذا يتوصل إيكْهَرْت إلى نظرية أفلاطونية أصيلة، متماسكة، في الاتحاد الصوفي...[12]

ونسجل أن محاكم التفتيش حكمت على إيكْهَرْت بعد وفاته، بمقتضى مرسوم In argo dominico الصادر في 27 آذار 1329 عن مقرِّ البابوية في أفينيون، بتحريم نشر 28 عبارة من العبارات المنسوبة إليه. وقد جاء في هذا الحكم أنه: "أراد أن يعلَم أكثر مما يجوز"!

لأن ما "يجوز" تعليمُه أو "لا يجوز" هو ما كانت تقرِّره آنذاك مؤسستُه الدينية. وآنذاك كان فهمٌ معينٌ هو السائد، وكان كل ما يجوز تعليمه للعامة محصور ضمن إطار ما كانت تقرِّره هذه المؤسسة. بينما كان إيكْهَرْت، من منطلق رؤياه وقلبه وفهمه لجوهر دينه، يرى خلاف ذلك. واليوم يتبيَّن للجميع أن إيكْهَرْت كان على حق.

كما كان على حق ذلك المبشِّر اليسوعي ماتيو ريشي (الذي لم يكن صوفيًّا)، حين دعا في القرن السادس عشر إلى تفاعُل بين الكونفوشية وبين المسيحية، فأُهمِلَ ما دعا إليه. كما كان على حق، خاصة، ذلك العالِم اليسوعي والروحاني الكبير تِلار دُه شاردان حين دعا، في أواسط القرن الماضي، إلى فهم أرقى للكتب المقدسة في المسيحية، فدعا إلى تبنِّي نظرية النشوء والارتقاء لداروِن، لا بل طوَّر هذه النظرية – تِلار دُه شاردان الذي عبَّر ذات يوم، في وجه مَن شكَّك في مسيحيته، عن فهمه الأرقى لها. يقول تِلار:

... لا تقلْ أبدًا كما يقول البعض: "المادة شيء مُسْتَهلَكٌ، المادة شيء ميت!" – حتى آخر لحظة من لحظات القرون، لسوف تظل المادةُ في ريعان الشباب، مفرطة الحيوية، متألِّقة لمن يخطب ودَّها.

كذلك لا تكرِّر القول: "المادة ذميمة، المادة سيئة!"، فقد جاءنا شخص ليقول: "تشربون السمَّ ولا يؤذيكم." – كذلك قال: "سوف تخرج الحياةُ من الموت." ثم قال كلمته النهائية من أجل خلاص الإنسان: "هو ذا جسدي!"

لا، ليس الطُّهر باعتزال العالم، بل بالشيوع فيه في أعمق أعماقه. إنما الطهر في حبِّ الجوهر الواحد، الذي لا يحيط به شيء، الذي يشيع في جميع الأشياء ويعمل فيها، من الداخل، – أبعد من المنطقة الفانية، حيث مُضطَّربُ الأشخاص والأعداد. – إنما الطُّهر في الوصال العفيف مع ما هو "نفسه في الكل"...[13]

ونسجِّل أن المؤسسة التي شكَّكتْ ذات يوم في تِلار وتنكَّرت له عادت اليوم عن موقفها إلى تبنِّي مفهومه الأرقى لمسيحيته. وهذا الفهم الأرقى للمسيحية التي هي دينه، هذا الفهم الأرقى للحقيقة كان مأساة تِلار في حياته، كما كان مأساة جميع "أبناء المعرفة" على مرِّ العصور – مما دفعهم في زمانهم إما إلى "التقية" أحيانًا و/أو إلى بذل حياتهم في سبيل ما آمنوا به.

وهذا الفهم الأرقى الذي انعكس على أرض الواقع الإنساني، على مرِّ العصور، صراعًا بين نعومة الحقيقة وجلافة الشريعة وقسوتها طَبَعَ المسيحية، كما طبع الإسلام – هذا الفهم، نقول، تعود أصوله المباشرة إلى اليهودية التي سبقتْهما، مما يدفعنا للتحدث قليلاً عن...

5

السرَّانية اليهودية...

... فنتحدث بعض الشيء عن جانبها الأعمق والأجمل الذي مازال مستمرًّا إلى الآن، وأقصد القبالة – تلك التي استوحى منها وتأثَّر بها جميعُ السرَّانيين في الإسلام كما في المسيحية. فما هي القبالة؟

أصل القبالة من الجذر العبري ق ب ل، "قبل". فالأستاذ، "العارف"، يمنح، والمريد، السائل، "يقبل". والقبَّالي ينظر إلى نفسه بوصفه المريد السائل.

والقبالة هي...

... كلمة عبرية تعني، أول ما تعنيه، مؤلَّفًا مجهول التاريخ، يتضمن عناصر نقلية سرية، كان معاصرًا في بداياته للديانة العبرانية الشعبية...

وهي أيضًا، إن شئنا بعض التعمق،

... طريقة للنظر إلى العالم، بل للنظر إلى النفس وهي ترى العالم. وهذه "الطريقة" طريقة أصيلة لأنها تجمع ما بين انتظار كَشْفٍ ساطع (الطريقة الصوفية أو الكَشْفية) وبين الدراسة المتأنِّية (الطريقة العقلية). بعبارة أخرى، فإن القبَّالي ينمِّي في نفسه فنَّ المقارنة والنظر في مكتشفاته، فيما هو يستبطن خبرة الوحدة المستعادة. إنه يشغِّل، في آنٍ معًا، نِصْفَي كرته المخِّية. ومن شأن هذه الرياضات أن تقيم روابط بين العاقلة والحدس والمخيِّلة. فطريقته عقلية وروحية في آنٍ معًا...[14]

والقبالة كـ...

... عقيدة دينية وفلسفية تستند إلى كتاب الإشراق أو سِفْر الزاهر (وهو مؤلَّف جُمِعَ حوالى العام 1275) الذي يفسِّر التوراة من منظور باطني، كما ويصوِّر الألوهة وكأنها سلسلة متدرجة من التجلِّيات المتتالية التي تنبثق عن ماهيتها الأشياءُ كلُّها. وبهذا يكون الله هو ذلك الكائن الذي لا يمكن وصفُه (إنْ سوف) والذي يتجلَّى عن طريق جحافل من رؤساء الملائكة. كما وترتبط بهذا الجانب الديني المحض رمزيةٌ معقدة من الحروف والأرقام، إضافة إلى نظرية معقدة في المقابَلات الكونية وإلى تفسير لمفهوم الإنسان كصورة مصغَّرة عن العالم وموازية للعالم الأكبر...[15]

ونتوسع في الشرح قليلاً. فـ...

... القبَّالي يرى في الخطاب المنطوق أو المكتوب معنًى يجب فك رموزه. فالسَّرد الكتابي، الواضح في نظر الذهن البسيط، يصير في نظره مبهمًا ومثقلاً بالمعنى. إنه يحدس وجود "بنية" خفية ما تبطِّنه، مُفادها أن كلَّ ما هو متمايز وملموس ينبثق، فيضًا، من نبع أوَّلي قديم، غير متعيِّن، متجانس.

ففي العبرية، هناك كلمة واحدة تشير إلى الكلمة وإلى الشيء: دَوَر. فالأشياء غير موجَدة إلا بمقدار ما تتم تسميتُها. والتعليم القبَّالي يسلِّم بأن الكلمة تحمل الحقيقة، بأن الذبذبة اللانهائية للصوت تحمل الكون. قال الله: "ليكنْ نور"، فكان نور (سفر التكوين، الإصحاح 1: 4). الكلمة، إذن، خالقة.

هل لنا أن نستنتج مما سَبَقَ أنه "في البدء كان الكلمة" (إنجيل يوحنا، الإصحاح 1: 1)؟ ليس تمامًا. فالبدء (رِشِت) كان خاويًا وصامتًا. ولكن، كيف انبثق الكون، إذن، من هذا الفضاء الخاوي والصامت؟ تلك هي المسألة الكبرى التي تشغل بال القبَّالي...[16]

فـ...

... اللغة العبرية، عند القبَّالي، هي، إذن، مادة العالم بعينها. كلُّ عنصر من نص، كلُّ حرف من حروفه، كلُّ عنصر من صورة الحرف الواحد، المسافات بين الكلمات وبين الحروف، يجب أن تُفهَم وتُفَكَّ رموزُها: ما من عنصر واحد ناجم عن المصادفة؛ لكلِّ عنصر معناه ومكانه في تناسُق المجموع.

بذلك فإن القبَّالة وضعتْ، من بين أشياء أُخَر، منهجَ تأويل يربط ما بين الكلمات بعضها إلى بعض بحسب قيمتها العددية، المحسوبة كما في علم العدد الحديث. وهذا المنهج، الجِمَطْرِية (من الكلمة اليونانية gematria، "فن قياس كلِّ ما في السماء وعلى الأرض"، التي جاءت منها كلمة geometry، "الهندسة")، يوجِد روابط بين كلمات ذات مدلولات فلسفية عميقة، تلبِّي أعزَّ أشواق القبَّالي إلى قلبه، ألا وهو تفسير اللغة باللغة، وليس بواسطة المفاهيم التي تنقلها.

وهذا المنهج قد يسَّر لفقهاء التلمود في القرون الأولى بعد الميلاد (التلمود مصنَّف ضخم من أحاديث الربَّانيين في تفسير شريعة موسى) الإجابة عن بعض الأسئلة التي طرحوها منذ القِدَم: هل المعنى الحرفي لنصِّ التوراة هو المعنى حصرًا، أم أنه ليس إلا القشر من معنًى لا بدَّ من فكِّ رموزه؟ وفي حال صحة الفرضية الثانية، لماذا يكون المعنى "الحقيقي" مستورًا؟ هل الحقيقة رهيبة؟ وهل ينبغي الاستعداد من أجل الإحاطة بها؟ وفي هذه الحال، أين تكون مفاتيح الأبواب التي يجب فتحُها؟ وكيف تُفتَح هذه الأبواب؟ ولماذا؟[17]

حيث...

... تتطلَّب قراءةُ التوراة (الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم، حيث نجد مرويةً قصةَ العالم، قصة البشر، الوصايا الإلهية، والعلاقات بين الإنسان والإله) تأهيلاً يطول بمقدار إشباع النصِّ بالمعاني والمرموزات، وذلك بسبب أصله الإلهي وتدوينه بالعبرية، "اللغة المقدسة".

وهذا التأهيل، يصفه أبراهام بن صموئيل أبو العافية، المولود في سرقسطة في العام 1240، في أحد مصنَّفاته: رسالة الطرق السبعة. وطُرُق (الحكمة) السبعة هذه هي طُرُق سبعة لقراءة التوراة. فلنقرأ هذا المقطع من الكتاب:

"الطريق الأول عبارة عن قراءة التوراة وفهمها على محمل الحرف... فهكذا يجب أن تُطرَح التوراة على عامة الشعب، رجالاً ونساءً وأطفالاً. فكلُّ أحد يعلم أن كلَّ بشر، في سني حداثته، إبان طفولته وشبابه الباكر، ينتمي إلى هؤلاء العامة."

الطريق الثاني عبارة عن فكِّ رموز المجاز في التوراة. ويقدِّم أبو العافية المثال التالي: في سِفْر تثنية الاشتراع (الإصحاح 10: 16) كُتِبَ: "... فاختنوا قُلَفَ قلوبكم." قارئ الطريق الثاني سوف يكشف عن هذه الصورة البلاغية، غير المفهومة على المستوى الحرفي حصرًا.

في الطريق الثالث يطرح المرء على نفسه أسئلةً تتعلق بنصٍّ ما، ويجتهد في الإجابة عنها في السياق...[18]

وهكذا تعمقًا حتى الطريق السابع...

ونسجل هنا أن الجمطرية، أو حساب الجمَّل، هي نفسها في القبالة وفي الطرق الصوفية الإسلامية على حدٍّ سواء: طريقة تتيح للعارفين الاطلاع على أسرار ومعانٍ دينية أعمق والتداول فيها؛ طريقة تلقَّن للمريدين وتُحجَب عن العوام؛ طريقة تعيدنا، ربما، إلى اليونان القديمة، وتحديدًا إلى الفيثاغورية، وربما، من حيث عمقُها الباطني والسرَّاني، إلى الديانات الشرقية التي سنقدم لمحةً موجزةً عنها قبل اختتام محاضرتنا من خلال التحدث قليلاً عن...

6

السرَّانية البوذية

فـ...

البوذية، ككلِّ عقيدة باطنية، لا تندرج في إطار أيٍّ من التصنيفات الغربية للفكر الفلسفي المدرسي. فهي ليست دينًا وليست فلسفة بالمعنى الغربي لهذين المصطلحين، إنما هي بالأحرى مسلك باطني ("طريقة" بالمصطلح الصوفي) يستهدف تحقيق "الهوية المطلقة" فيما يُعرَف بالـنِرفانا. وهي تقوم على عقيدة رحبة ومُحكَمة التماسُك في بسطها ومنطقيَّتها.

وكلمة "بوذية" مشتقة من لقب بوذا – الذي هو مصطلح لا يشير إلى شخص معيَّن بقدر ما يشير إلى التحقق بدرجة عليا من الوعي: فالبوذا هو المتنوِّر، هو الكائن المتحقِّق بأسمى درجات الإشراق الروحي. أما الإنسان الذي كان تجسيدًا رفيعًا لهذه الدرجة فهو الأمير الهندي سدهرتا غوتاما...

و...

... البوذية في نقائها الأصلي، بما هي طريقة باطنية تأملية، عقيدة مُحْكَمة، تقوم على منطق عمليٍّ لا يفسح للعاطفة إلا مجالاً ضيقًا للغاية. وبما أن الشعب الهندي يتميَّز بشفافية الشعور وبعاطفة ثرَّة، وكان ذا ميل فطري إلى الإلهيَّات والمُدارَسة النفسية، فقد شقَّ تيارٌ جديدٌ طريقَه وسط العالم البوذي في القرن الأول الميلادي، حتى توطَّد أخيرًا منهجان اثنان: منهج الجنوب (ويدعى كذلك هِنيانا Hinayāna، "المركبة الصغرى"، أو تهِرَفادا Theravada)، الذي اعتبر نفسه – وما يزال – حاميَ العقيدة في صورتها الخام؛ ومنهج الشمال (مهايانا Mahāyāna، "المركبة الكبرى")، الذي تلوَّنتْ البوذية بتأثيره بلون جديد، أدرج فيها بُعدًا "بهكتيًّا"، تعبُّديًّا، وأبْرَزَ أهمية التأملات الميتافيزيائية. ومع الانتشار الجغرافي للبوذية، تفرَّعتْ عن هذين المنهجين أغصانٌ عديدة متنوعة...

... يتركز مجهود البوذية برمَّته في قدرة الإنسان على الانعتاق من عجلة الولادات والميتات التي تلقي به في هوة الألم. ولأنه ما من إله شدَّه إلى هذه العجلة (سمسارا) فليس خلاصُه منوطًا بأحد سواه. لا مكان في البوذية للصلوات وللقرابين التي يعتقد أهلُ الظاهر أن في الإمكان، من خلالها، استنزال رأفة إله غاضب أو شفقته. وبذلك تعود إلى الإنسان كرامتُه ومنزلتُه اللائقتان به ككائن فاعل في هذا الوجود. و"كهنة" البوذية مدرِّسون للـدهرما، وليسوا أبدًا "وسطاء" بين الإنسان والحق. ولأن البوذية لا تقدِّم نفسها بوصفها "وحيًا مُنزَلاً" فإنها لا تفرض أية عقيدة بعينها، إنما، بالأحرى، تقترح "تعليلاً" منطقيًّا وموضوعيًّا للآلية المسؤولة عن ألم الإنسان وعبوديته.

وكل علَّة تحتِّم معلولاً، يصير بدوره علَّة لمعلولات متلاحقة (ناموس كرما karma)، وما من تدخُّل، أيًّا كان مصدرُه، يمكن أن يجعل الواقع على غير ما هو عليه. لا شيء في البوذية يدعى "خطيئة" أو "إثمًا"، بمعنى إساءة تثير سخط "رب" أو "إله"؛ لكن كلَّ فعل خاطئ، أي في غير محلِّه، يقود إلى الألم. لقد أصاب كرستمس همفريز، إذ قال: "المرء يعاقَب بـخطاياه، وليس عليها.

فلئن كانت البوذية تمنح الإنسان قدرةً مذهلة، وتلقي على عاتقه المسؤوليةَ التامة عن مصيره وخلاصه، إلا أنها، في الوقت نفسه، تنفيه كشخص أو "أنا" بالمفهوم العطالي للمصطلح. فالأنيَّة ego، من وجهة النظر البوذية، ما هي إلا ملتقى طُرُق لمؤثِّرات خاضعة للتحول الدائم. وربما رأى بعضُهم في هذه الفكرة، للوهلة الأولى، تناقضًا أساسيًّا في الديالكتيكا البوذية. غير أن الأنيَّة بنظر البوذي (كما بنظر أيِّ صوفي مشرقي) ليس لها وجود في ذاتها، شأنها في ذلك شأن العالم. فمع أنهما موجودان في الواقع على صعيدهما الخاص فإنهما، في المطلق، وَهْم، لأن وحدَه المطلق موجود بذاته. لذا على المرء، كي يكون "حقيقيًّا"، أي يحيا في الحق وبالحق، ألا يكون محدودًا بشيء، مقيَّدًا به، وألا يتكل على أيِّ كائن آخر أو ظرف خارجي – وبعبارة أخرى، عليه أن يكون كلِّيًّا. وهذا قطعًا ينفي عنه الشكلانية والاسمية. إن كلَّ ما نصادفه أو نكتشفه في أنفسنا، وفي كلِّ ما تقع عليه حواسُنا من العالم، مقيَّد وزائل، وبالتالي "غير حقيقي" بالمعنى البوذي للكلمة.

و...

... ما تزال البوذية، حتى الساعة، تبدو لنا مجرَّد منهج ماديٍّ، خلو من أيِّ مضمون روحي؛ لكنها ليست كذلك في الواقع، من حيث إن المرء، متى أخمد في نفسه لهيبَ الرغبة الذي يستمد وقوده من تماس الحواس مع الأشياء، وأطلق أنيَّته من تقوقُعها على نفسها، وتملَّص بذلك من الدوران مع عجلة الولادات، عاش "حالة" النرفانا. إن وعي فراغ الأنيَّة الزائفة وفراغ الأشكال من أية ماهية دائمة هو السبيل إلى تحقيق الانعتاق. والسلوك في هذا السبيل ليس بالأمر السهل على الإطلاق؛ إذ إنه يتطلب مجهودًا جبارًا، ويقظةً للوعي متواصلة، وسبرًا عميقًا للنفس، يخترق الفكر الذي يُتخطَّى إلى الوعي الكلِّي.

ولئن صحَّ أيضًا أن البوذية تعلِّم أخلاقيةً ما فهي في مآل الأمر ليست بالمنهج الأخلاقي. فالأخلاق فيها ليست غاية في حدِّ ذاتها، إنما هي موطئ قدم مبدئي على "درب" النرفانا وأول خطوة؛ لكنها خطوة لا معنى لها إلا بمقدار ما تمهِّد للغاية القصوى.

إن النظرة البوذية الثاقبة إلى الوجود لتثير الإعجاب حقًّا، وعمقها في "التحليل النفسي" للدوافع التي يلقي انحرافُها بالإنسان في هوة الجهل، وإقصاؤها، ككلِّ طريقة باطنية مستقلة عن الظاهر، كلَّ الفروق الاجتماعية والعرقية والعقائدية – كلُّ ذلك يحملنا على الوقوف طويلاً عند صرحها الشامخ متأمِّلين، خاشعين...[19]

ونكتفي بهذا القدر الذي به نكون قد وصلنا فيه إلى...

7

نهاية محاضرتنا...

... التي أختتمها – لِمَن في وسعه أن يتفهم، من خلال ما طُرِح، عمق الموضوع وتشعباته – بهذا الاستنتاج المرعب للأستاذ نهاد خياطة، حيث قال، في محاضرة له بعنوان "عناصر الفلسفة الدائمة"، ما هي حقيقة العلاقة بين الصوفية وجوهر الدين:

... إذا كان الموطن المقصود هو الألوهة، فنحن أمام تجربة ميتافيزيقية يسميها بعضهم حجًّا أو عروجًا، ويسميها بعضُهم الآخر كشفًا أو تصوفًا، كما يسميها آخرون حكمة. ومحصلة هذه التجربة هو دائمًا إما تأسيس لدين جديد أو تعميق لنظام دينيٍّ طغت عليه سطحيةٌ أو حرفيةٌ قاتلة، أو تصحيح لخلل أصاب هذا الجانب أو ذاك من النظام. فعندئذٍ نكون أمام زندقة أو هرطقة تنتهي بصاحبها إما إلى القتل أو إلى النصر: القتل إن طَرَحَ محصِّل التجربة أمام الخنازير التي ما تلبث أن تدوس الورد بأقدامها، ثم ترتد لتمزق الذي تجرأ وأعلن خروجه عن المألوف وتفتك به – هذا إذا كان محصِّل التجربة غير مؤيَّد بالظروف التاريخية؛ والنصر إذا صيغ هذا المحصِّل صياغةً تعبِّر عما لم يستطع أن يعبِّر عنه متلقون كانوا يتطلَّعون إلى نفس ما ترمي إليه التجربة الدينية من معطيات.

وشكرًا لإصغائكم.

دمشق، في 12 آذار 2007

*** *** ***


[1] مفكر وكاتب ومترجم من حلب، صديق شخصي للأب إلياس ناكوز من بطريركية الروم الكاثوليك في دمشق.

[2] راجع معابر على الرابط:

http://www.maaber.org/issue_january05/spiritual_traditions1.htm

[3] راجع معابر على الرابط:

http://www.maaber.org/third_issue/spiritual_traditions_3.htm

[4] المرجع نفسه.

[5] ابن عربي، نقله الشعراني إلى اليواقيت والجواهر، مصر 1959، ج 1، ص 65.

[6] للمزيد من التعرف على محيي الدين بن عربي، راجع معابر على الرابط التالي:

http://www.maaber.org/ibn_arabi/ibnarabi_1.htm

[7] محمود محمد طه، الرسالة الثانية في الإسلام.

[8] راجع: ديمتري أڤييرينوس، مادة "إيكْهَرْت"، قاموس معابر الفلسفي.

[9] المرجع نفسه.

[10] المرجع نفسه.

[11] المرجع نفسه.

[12] المرجع نفسه.

[13] پيير تِلار ده شاردان، "القوة الروحية للمادة"، بترجمة نهاد خياطة، معابر، الإصدار الخاص بالتطورية.

[14] راجع: دانييل بيريزنياك، "القبالة"، معابر، باب منقولات روحية، آذار 2005.

[15] راجع: "قبالة"، قاموس معابر الفلسفي.

[16] الهامش 14.

[17] الهامش 14.

[18] الهامش 14.

[19] راجع: ديمتري أڤييرينوس، مادة "بوذية"، قاموس معابر الفلسفي.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود