|
الإنسان
وأبعاده الاجتماعية كنت
أفضل أن يكون موضوع حديثي هو اجتماعية
الإنسان بدلاً من "الإنسان وأبعاده
الاجتماعية". وتفضيلي هذا يعتمد سببًا
أصيلاً هو أن اجتماعية الإنسان جوهر كامن
فيه. لذا لا يوجد "بعد اجتماعي"
للإنسان لأن الإنسان هو "مجتمع" موجود
بذاته. فالاجتماعية ليست بعدًا يُضاف إلى
الإنسان أو حدًّا يضاف إلى حدٍّ آخر. الإنسان
ليس حدًّا يضاف إلى حدٍّ آخر ليتصف
بالاجتماعية: إنه الاجتماعية ذاتها. ومن هذه
المقولة، يمكن لنا أن نتساءل: كيف تكون
اجتماعية الإنسان؟ إن
سؤلاً من هذا النوع يبحث في "كيف"
الموضوع يعرِّضنا لبحث الموضوع في "كمِّه".
ولو أننا تجردنا من واقعنا، وحاولنا أن نتصور
الإنسان في حالته المجردة أو المطلقة، لوجدنا
أننا لا نستطيع أن نتصور الفرد المجرد بأي شكل
من الأشكال. فكما يقول ألكسيس كاريل في كتابه الإنسان،
ذلك المجهول[1]،
وهو يبحث في موضوع الجسم، في كلِّيته ووحدته،
إن القلب لا يوجد على حدة، أي في معزل عن
كلِّية الجسم، وإن الرئتين لا توجدان على
حدة، وإن الدماغ لا يوجد في شكل مستقل عن وحدة
الجسم؛ فنحن لا نستطيع أن نتصور قلبًا
مجردًا، أو دماغًا مجردًا، أو عضوًا مجردًا
أو معزولاً، لكننا نستطيع تصور عضو مشخَّص
وقد تعيَّن في وحدة متماسكة تنم عن تفاعُل
الكثرة في الوحدة. وبالطريقة
ذاتها، نعجز عن تصور فرد على حدة، يحيا في
عزلة عن الآخرين أو يوجد في حالة فردية مطلقة.
لذا لا نستطيع أن نتصور فردًا واحدًا يحيا
وحيدًا في هذا العالم. إن مثل هذا الفرد غير
موجود، لأن قانون الوجود يقتضي، بالضرورة، الكثرة
في الوحدة. وإذا عجزنا عن تصور هذا الفرد،
فلأن الإنسان لا يتمثل بالفردية؛ فهو عضو في
كيان الإنسانية. وفي النتيجة أقول: إن بحثًا
من هذا النوع لا يسمح لنا بأن نطرح قضية
اجتماعية الإنسان كبعد، بل كجوهر. فاجتماعية
الإنسان لا تنتج عن فرديته، بل تعني إنسانية
الإنسان. ولو
أننا حاولنا أن ننظر إلى الموضوع من زاوية
أخلاقية بحتة، لوجدنا أن فردية الإنسان تنعدم.
فلو وُجِدَ فردٌ واحد على كوكبنا الأرضي هذا
لما كان لهذا الفرد من ماهية أو جوهر. ولو
تساءلنا كيف يكون هذا الفرد – كاذبًا أم
صادقًا، متكبرًا أم متواضعًا، محبًّا أم
كارهًا – لعلمنا أن صدقه أو كذبه نتاجُ علاقة
بين الإنسان وذاته، بينه وبين الآخر، أي
الإنسان في وجوده الاجتماعي. فأنا أكذب مع
الآخر أو أصْدق معه. وهكذا نستنتج أن الأخلاق
ذاتها لا توجد، ولا تتحقق، إلا على الصعيد
الاجتماعي، وليست بعدًا من أبعاد الفردية، بل
تحقيق لجوهر. إذن فالأخلاق مفهوم اجتماعي؛
ولا قيمة للإنسان إلا بوجوده مع الآخر. وليس
هذا الوجود إلا تحقيقًا لجوهره الإنساني،
لقيمته الإنسانية. إذن فحقيقة الإنسان تتمثل
في اجتماعيته التي هي امتداد إنسانيته في
الآخر وتعمُّقه في ذاته وكيانه. ولو
سألنا: ماذا تعني كلمة "آخر"؟، هل يمكن
لنا أن نجيب بأن الآخر هو امتداد الإنسان في
جوهره الاجتماعي، وشرط تحقيق اجتماعيته؟ وهل
الآخر هو هذا البعد الذي نتحدث عنه؟ – البعد الاجتماعي
للإنسان. أعتقد
أن مثل هذا البعد لا يتعارض مع اجتماعية
الإنسان في هذا المجال فقط. وأفضِّل عدم
تعميمه لكي لا أقع في حقل التناقض أو التعارض.
فإذا كان الآخر هو البعد الاجتماعي، فلأنه
الوجه الآخر الذي يعبِّر عن الصفة الاجتماعية
الكامنة في الإنسان. أليس كلُّ واحد منا "آخر"
لآخر؟ وإذا كنت قد جعلت من الآخر بعدًا
اجتماعيًّا فلأن الإنسان يمكن له تحقيق هذا
البعد أو نفيه. أما إذا كانت اجتماعية الإنسان
تنبع من إنسانيته الحقيقية، فإن الآخر لا
يكون بعدًا بقدر ما يكون تحقيقًا لوجوده هو؛
ذلك أن الوجود لا يتحقق إلا في الوحدة
المتنوعة والمتكثِّرة، وفي إعادة تأليفها
بعد تنوعها وكثرتها. إذن
فاجتماعية الإنسان تتعيَّن في نطاق واقعي هو
الآخر، أي في البعد الإنساني وهو في حالته
الاجتماعية الراهنة التي تعني القدرة على
الامتداد في هذا الآخر. وهذا هو قانون المجتمع
الذي يُعنى بظاهرة الاجتماع وتحقيقه. وتتعين
هذه الاجتماعية أيضًا بماهية الإنسان ذاته،
أي بمعرفة معنى وجوده وتحقيق هذا الوجود. وهذا
هو التعيُّن الذي أهدف إلى إظهاره وإلى الكشف
عن مضمونه. من
هذه القضية أستنتج ما يلي: يوجد الإنسان في
حالته الفردية والاجتماعية. وتكون هذه
الفردية انعكاسًا لواقع معيَّن، يتعيَّن في
الدائرة الضيقة التي ندعوها الذات، وهي الذات
الصغرى التي تعبِّر تعبيرًا مباشرًا عن الفردية.
إذن، هنالك الفرد، وهنالك الإنسان–المجتمع.
وفي هذا المنظور، يعيش الإنسان الفرد مع
الآخرين، إنما لا يحيا معهم؛ إنه يشاركهم
أمورًا كثيرة دون أن "يحياها". فالفردية
التجمعية، أو الإنسان الفرد، ظاهرة مقلقة
وخطيرة في الوقت ذاته: فهي تعبِّر عن وجود
الذات الصغرى التي تتغلغل في الإنسان وتتعمق
فيه، فتجعل منه أنانيًّا، ذاتي النزعة.
فالأنا الصغرى – وهي تعبير عن الذات الصغرى –
تؤدي إلى التقوقع على فردية متصلبة. وتكون هذه
الفردية التجمعية بعدًا للإنسان في
اجتماعيته؛ لكنها تكون، في الوقت ذاته،
اجتماعية زائفة، هي تجمعية. هكذا،
نشاهد في الإنسان ذاتًا صغرى وذاتًا كبرى:
الصغرى منهما تشير إلى ارتكاس إلى ظلمات
الأنا، المغلقة على ذاتها، والكثيفة، التي لا
تخرج من قوقعتها إلا لتكسب شيئًا لذاتها؛
وإنْ هي خرجت، فلكي تعيش، ويكون هذا الخروج
مظهرًا كاذبًا للاجتماعية. وعلى هذا الأساس،
نسأل: كيف نستطيع تصور هذه الذات الصغرى، أي
الأنا؟ إننا نتمثلها بالأنانية. والأنانية
هذه تتعيَّن في ظاهرات الفردية التجمعية
كلها؛ ونذكر منها: الكبرياء، الطمع،
الاستغلال، الطموح الكاذب، الطبقية،
الطائفية، الصراع، إلخ. وإذا تساءلنا عن
المعنى الذي يقع إلى ما بعد هذه الظاهرات
الناتجة عن الفردية التجمعية، لأجبنا بأنها
تعبير عن امتداد الإنسان في الآخر، أو
انعكاسه فيه، انعكاسًا سلبيًّا، زائفًا، أو
معكوسًا: فالمتكبر يعتمد بعدًا تجمعيًّا هو
الآخر، ليتكبر عليه؛ والطامع يعتمد بعدًا
تجمعيًّا هو الآخر، ليطمع فيه؛ والمستغل
يعتمد بعدًا تجمعيًّا هو الآخر، ليهدف إلى
إذلاله واستعباده. وهكذا تكون الفردية
الاجتماعية مظهرًا اجتماعيًّا للإنسان،
وليست بعدًا له – مظهر يشير إلى أنه بُعد
تجمعي. وعلى
غير ذلك، تُعارِضُ الذات الكبرى الذاتَ
الصغرى لأنها تعبِّر عن الحقيقة الكامنة في
أعماق الإنسان؛ وهذا لأن ذات الإنسان الكبرى
تمثل صورة الإنسان الحقيقية التي هي الأنا
الجوهرية. ومن هذه الأنا الحقيقية تشتق صفة الأنانة[2]
التي تقابل صفة "الأنانية" التي تُشتَق
من الأنا بمعنى الذات الصغرى. والأنانة تعني فهم
الإنسان لذاته، وتحقيق هذه الذات. ولما
كانت هذه الذات، أو هذه الأنا، لا تتحقق إلا
في المجتمع، فإنها تمتد في الآخرين امتدادًا
صحيحًا. وهكذا تكون تعبيرًا صريحًا عن حقيقة
الوجود الإنساني وعن الاجتماعية الإنسانية.
وعلى نقيض الأنانية، أي الذات الصغرى، تكون
ظاهرة الأنانة تشخيصًا لحقيقة الإنسان. وإذا
كانت الكبرياء، مثلاً، هي ظاهرة الأنانية،
كان التواضع ظاهرة الأنانة؛ وبالتالي، كانت
المحبة والخدمة وعدمُ استغلال الآخر وعدمُ
إذلاله ظاهرات حقيقية لمفهوم الاجتماعية
الصحيحة. فالمتواضع يعتمد بعدًا اجتماعيًّا
هو الآخر، ليحيا معه في سلام ومحبة؛ والمحب
يعتمد بعدًا اجتماعيًّا هو الآخر، ليخدمه
ولينفي كل استغلال واستعباد؛ والمنفتح يعتمد
بعدًا اجتماعيًّا هو الآخر، ليحد من كل صراع
وضيق أفق فكري وتعصب مذهبي. وهكذا تتحول
المفاهيم والقيم، وتتألق محبة الإنسان في
اجتماعيته الحقيقية. في
هذا التباين بين الأنا والأنانة، وفي هذا
العمق الصميمي في اجتماعية الإنسان، نتطرق
إلى حقيقة جديرة بالبحث والتقدير، هي حقيقة الحقيقة
السامية. وفي هذا النطاق، أتساءل: ما هي
علاقتي بالحقيقة السامية، أي بالكل الشامل؟
وكيف أعبِّر عن هذه العلاقة في وجودي
الإنساني على هذا الكوكب؟ لو
أننا استعرضنا منظومةً للمبادئ الأولية المنحوتة
في كيان الإنسان على نحو أوامر خلقية،
لوجدناها تتجه في كلِّيتها إلى الآخر.
فالمبادئ الأولية التي جعل منها الإنسانُ
مقياسًا أو معيارًا لسلوكه ولعمق إنسانيته هي
تلك المبادئ التي تشير إلى علاقة وثيقة
بالآخر. فإذا كانت هذه الأوامر قد نهت عن
الكذب والسرقة والقتل والكبرياء والنميمة
وشهادة الزور إلخ، وأمرت بالصدق والأمانة
وصون الحياة والتواضع والمحبة والشهادة للحق
إلخ، فلأن هذه الأوامر – وهي مبادئ بدئية
وُضِعَتْ للعاديين من بني البشر ليشقوا
لأنفسهم طريقًا في خضم هذا الوجود الرائع
والمروِّع – تتجه إلى الآخر. وإذا كانت هذه
الأوامر قد صدرت عن إرادة الإنسان في الحياة،
واقتضت أن يحقق الإنسانُ كيانه من خلالها،
فلأن تحقيق الحقيقة السامية، بدرجات السلوك
المبدئية، يتم من خلالها. لذا تتجه هذه
المبادئ الآمرة إلى الشمول والكل في حال
تحقيق الإنسان لها. وإذا كانت هذه الأوامر
والنواهي تجعل منِّي كائنًا آدميًّا في حال
تحقيقها، فلأني إنسان أحقق ذاتي وكياني من
خلالها، ولأنها مكتوبة في داخلي[3]. هكذا
يكون تحقيق الكلِّ الشامل. إنه تحقيق يتم من
خلال أبعاد ثلاثة: الحقيقة السامية الكلِّية،
والإنسان الآخر، أي الإنسانية، وأنا والآخر.
فكل فعل أقوم به، وكل سلوك أتصف به، وكل فكرة
تراودني، تتخذ لها أبعادًا ثلاثة هي: أنا
والكل والآخر. فأنا لا أسيء إلى الكلِّية
الشاملة وإلى نفسي وإلى الإنسانية كلها إلاَّ
بإساءتي إلى الآخر. فالفعل الواحد يتجه إلى
ذاتي، كذات صغرى، إن كان هذا الفعل شرًّا،
ويتجه إلى الحقيقة في كلِّيتها وشمولها، كذات
كبرى، وإلى الآخر. وبهذا أكون قد أسأت إلى
نفسي، وإلى الحقيقة الشاملة، وإلى الآخر،
وإلى الإنسانية قاطبة. والفعل الواحد يتوجَّه
إلى ذاتي، بمعنى الأنا والأنانة، إن كان هذا
الفعل خيرًا، ويتجه إلى الحقيقة في شمولها،
كذات كبرى تتحقق في ذاتي، وإلى الآخر. ومع هذا
كلِّه، نشاهد مركزية الأنا. فالامتدادان
الآخران – الحقيقة الكلِّية الشاملة والآخر
– لا يتحققان إلاَّ بتحقيق مركزيتي هذه، ذلك
أن الآخر والشمول الإنساني موجودان فيَّ.
ولذا فإنني أسيء إلى نفسي وحدها إن أنا أسأت
إلى الآخر وإلى الوجود الكلِّي، وأُحسِنُ إلى
نفسي وحدها إن أنا أحسنت إلى الآخر وطبقت
المبادئ الكونية السامية – وهذا لأنني أمثل
الكون والوجود والحقيقة الكلِّية والآخر
فيَّ. وهكذا تجتمع القوى الكونية كلها
الكامنة والفاعلة في كياني. وهكذا تتمثل
اجتماعيتي في مركزية وجودي. يتطلب
تحقيق هذه الاجتماعية مجالاً أو وسطًا تنشط
فيه وتفعل. وهذا الوسط هو ما ندعوه الآخر
والحقيقة السامية والمجتمع. فالمجتمع ليس
بُعدًا بقدر ما هو حقل للتطبيق. فلو كان
بعدًا لكان شيئًا يتميَّز قليلاً أو كثيرًا.
إنه واقع الاجتماعية. فالإنسان لا يكون
صالحًا إلاَّ في المجتمع – وهو حقل التطبيق –
ولا يكون سيئًا إلا في المجتمع. وللسبب ذاته
أقول: لا نستطيع أن نتصور الفرد لأن الفرد غير
موجود. أما المجتمع فإنه موجود على نحو مثال.
والإنسان مجتمع بكامله. وإذا شئنا أن نذكر ما
يفيدنا عن اجتماعية الإنسان، ذكرنا المفاهيم
الاقتصادية والسياسية والأخلاقية. وتُعَد
هذه المفاهيم كلها تسميات لحقيقة الإنسان
الاجتماعية والجوهرية. فمتى ذُكِرَتْ كلمة
"إنسان"، ذُكِرَ معها المجتمع؛ ومتى
ذُكِرَتْ كلمة "فرد"، ذُكِرَتْ معها
كلمة الأنانية الفردية. أستطيع
الآن أن أطرح على نفسي السؤال التالي: أين
أطبق مبادئي؟ وكيف يكون لمبادئي معنى؟ لا
تستقيم مبادئي إلا في المجتمع؛ ولا يكون
لحياتي معنى إلا في المجتمع. فالمجتمع أو
الآخر يعني تحقيق الإنسان لذاته وللإنسانية
قاطبة. فإن أحببت الآخر فلأني أحب إنسانيتي.
لذا لا تكتمل محبتي دون وجود الآخر. إذن، ليس
ثمة تحقيق إلا بهذا الآخر. ولما كان الآخر هو
أنا نفسي في صورة أخرى، أو انعكاسًا لها، فإن
اجتماعيتي تتحقق في أن أرى نفسي في الآخر، وأن
أحقق هذا الآخر في نفسي. ولمَّا كانت مركزيتي
قائمة فإن تحقيق الوجود كله والإنسانية كلها
والحقيقة السامية كلها يتم في نفسي، في
مركزية كياني. ويؤسفني أن أقول: إن هذه
المركزية تقبل الانحراف إلى الذات الصغرى،
إلى الأنانية؛ لكنها، في الآن نفسه، تقبل
التحول إلى الأنانة، إلى الذات الكبرى. لذا
كان الانحراف تحقيقًا للفردية، وكان التحول
تحقيقًا للأنانة والإنسانية. ولمَّا كانت هذه
الأنانة أو الإنسانية لا تتحقق إلا في بيئة أو
وسط، هو الآخر–المجتمع، فإن إنسانيتي هي
اجتماعيتي ذاتها. إن
نظرةً نلقيها على كتب علم الاجتماع، فنفحص
عما جاء فيها، تجعلنا ندرك تفاهة ما جاءت به
بعض النظريات التي طرحت مقولة اجتماعية
الإنسان على بساط البحث. فقد علَّمتنا هذه
النظريات أن الإنسان "حيوان اجتماعي" أو
أنه اجتماعي بطبعه. أما أن يكون الحيوان
اجتماعيًّا فأمر مردود ومرفوض. فكيف يستطيع
الإنسان أن يحاكي تجمعية الحيوان أو يتبناها؟
وهل يكتسب الإنسان اجتماعيته من تجمعية
الحيوان؟ وهل يبني مجتمعه على غرار التجمع
الحيواني؟ إنها مسألة تستحق الدراسة والبحث. نبدأ
بحث هذه الفكرة بطرح السؤال التالي: هل يعرف
الحيوان الاجتماعية؟ لنجيب
عن سؤال من هذا النوع، يجدر بنا أن نميز بين
كلمتين هما: التجمع والاجتماع. ففي رأيي أن
التجمع هو زيادة كمٍّ إلى كم، وإضافة واحد إلى
واحد، أي فرد إلى فرد، وأن الاجتماع هو زيادة
كيف إلى كيف. فالحيوانية تجمُّع لأن الكم يضاف
إلى الكم، الفرد الواحد يضاف إلى الفرد
الواحد؛ والإنسانية اجتماع لأن الكم واحد هو
الإنسان، والآخر هو الكيف الذي يُضاف إلى
الكم. ففي الإنسانية نجد الكم والكيف، وفي
الحيوانية نجد الكم فقط. وفي هذا المجال نسأل:
ماذا تعني إضافة الكم إلى الكم؟ وماذا تعني
إضافة الكيف إلى الكم–الكيف؟ عندما
يتجمع الحيوان مع الحيوان، يعمل على تحقيق
ذاتيته، فرديته، إلى نوعه الذي لا يقبل
الامتداد إلى النوع الآخر، لا أكثر ولا أقل.
فالحيوان لا "يجتمع" إلا بنوعه، ولا
يتزاوج إلا ضمن نوعه، وبطبيعته يرفض الاجتماع
بالنوع الآخر. فتجمُّع الحيوان يعني، بالدرجة
الأولى، إضافة حيوان إلى حيوان من نوع واحد،
وزيادة كم هذا النوع. أما عندما يجتمع الإنسان
مع الإنسان فيعمل على تحقيق أنانته. لذا كانت
اجتماعية الإنسان تحقيقًا لغاية: هي تحقيق
أنانته في الجنس البشري، في النوع البشري ككل.
وها نحن نعود، مرة أخرى، لنطرح المسألة على
النحو التالي: إن تجمع الحيوان – وهو إضافة كم
إلى كم – لا يشير إلى تحقيق غاية. فالحيوانات
لا تجتمع لأنها تريد أن تنشئ حضارة أو تحقق
غاية كونية، لذا كان "اجتماعها" تجمعًا.
فإضافة حيوان إلى حيوان لا تنشئ زيادة في
الكيف؛ وأعني أن هذه الإضافة لا تؤدي إلى
زيادة امتداد في فاعلية العقل أو إلى زيادة في
تطوير الحضارة أو تنشيط الطاقة الكامنة. أما
اجتماع الإنسان – وهو إضافة كم–كيف، فيتحول
إلى إضافة كيف إلى كيف، إلى ما لا نهاية، كما
يشير إلى تحقيق غاية. فالناس يجتمعون لأنهم
يريدون أن ينشئوا حضارة ويحققوا غاية. لذا كان
اجتماعهم اجتماعيًّا. فإضافة إنسان إلى إنسان
تنشئ زيادة في الكيف، تؤدي بدورها إلى تنشيط
فاعلية العقل وإلى امتدادها، وإلى زيادة في
التطور الحضاري الإنساني، إلى تقدم المعرفة
والوعي والإبداع. لذا نرى أن عقول الناس
يكمِّل بعضُها بعضًا، وزيادة البشرية تؤدي
إلى زيادة كيف، إلى زيادة التحريض العقلي
دومًا وأبدًا. أما زيادة عدد الفهود والنمور
والأسود إلى ما لا نهاية فلا تنشئ إلا زيادة
في الكم! في
هذه الدراسة، ذكرت كلمة "تحقيق" مرات
عدة؛ ولقد ركزت على هذه الكلمة اعتقادًا مني
بأن "التحقيق" هو الغاية التي تنشدها كل
مقولة أو منظومة في هذا الكون. فالكمون –
الوجود بالقوة – والعطالة لا تظل على
حالها، بل تتحول إلى وجود بالفعل، إلى
فاعلية وحركة دينامية. هكذا
تكون اجتماعية الإنسان قدرة فاعلة باتجاه "تحقيق"
الإنسانية والكل الشامل الكامنين في أعماق
الكائن الإنساني. ومع ذلك، نتساءل إن كان
الإنسان يحقق اجتماعيته؟ الإنسان
المعاصر لا يحقق هذه الاجتماعية إلا في
ظاهرها، الأمر الذي يجعل منه ضحيةً للتجمع.
فمؤسساتنا كلها، أو معظمها، أماكن للتجمع، لا
للاجتماع. لذا نرى الإنسان محتجَزًا ضمن نطاق
التجمع. فالمقهى مكان للتجمع، والنادي مكان
للتجمع، والمدرسة مكان للتجمع، والطبقة
تجمع، والطائفية تجمع، إلخ. في هذه الأماكن،
وفي أماكن أخرى، نرى الفرد يُضاف إلى فرد آخر،
بحيث إن التحقيق والامتداد في الآخر لا
يكتملان. وهكذا يحل التجمعُ محل الاجتماع.
وهكذا يُعَد التجمع مشكلة خطيرة تهدد إنسانية
الإنسان. وتظهر هذه الخطورة في صورتين:
ولقد
دعوت هذه الفردية التجمعية بـ"غريزة تجمع
القطيع" لأنها شبيهة بتجمع الحيوان. فالنمر
يُضاف إلى النمر، والزرافة تُضاف إلى
الزرافة، والثعلب يُضاف إلى الثعلب، والبقرة
تُضاف إلى البقرة. والحق أنه يدهشني ألا أجد
فرقًا يُذكَرُ بين التجمع الحيواني المذكور
وبين التجمع الطائفي أو الطبقي أو الفئوي أو
العائلي. ففي الحالة الحيوانية الأولى يُضاف
كم إلى كم، وفي الحالة البشرية الثانية يُضاف
كم إلى كم. هكذا
نلمس خطورة التجمع البشري الذي يسعى إليه
الإنسان الفرد ليُلغي الإنسان الاجتماعي. الإنسان
المعاصر يعاني من نقص في اجتماعيته ومن نقص
آخر في تحقيقها وتطبيقها. وقد ساعدته بعض
النظريات الاجتماعية والعقائدية المتطرفة
على زيادة هذه المعاناة. والحق يقال: إن هذه
النظريات أوجدتْ فيه نزعةَ التجمع الحيواني.
فما هو واقع هذه النظريات؟ أخطأت
هذه النظريات والعقائد، إذ شبَّهتْ اجتماعية
الإنسان بتجمع الحيوان، وأخطأت إذ ساقته إلى
الانغلاق في هذا التجمع. ولهذا السبب، كانت
هذه النظريات والعقائد شبيهة بـ"التبلور
الكاذب": ثمة حجارة شبيهة بظاهرة الحجارة
الكريمة، إنما لا تمت إلى حقيقتها بصلة؛ وهذا
الشبه الظاهري الذي يُكسِبُ الحجارة مظهرًا
خارجيًّا يشبه مظهر الحجارة الكريمة هو ما
ندعوه بالتبلور الزائف. لما
كانت هذه النظريات والعقائد قد أساءت فهم
الجوهر الإنساني، وصبغتْه بالصبغة التجمعية
الحيوانية من حيث التجمع المعيشي فقط، فإنها
أدَّت إلى إقامة مؤسسات اجتماعية زائفة. ولما
كانت هذه النظريات والعقائد تلعب دورًا في
الوسط العالمي المعاصر، وينادي بعضُها
بعالمية متبلورة كاذبة، فإن التجمع الإنساني
يؤدي بالإنسان إلى حافة الهاوية. وإذا كنا
قادرين على التمييز الدقيق بين التجمع
والاجتماع، فلسوف نكون قادرين أيضًا على
التمييز بين النظريات والعقائد الاجتماعية
الزائفة – وهي تجمعية في ظاهرها وباطنها –
التي تتصف بالتبلور الكاذب وبين النظريات
والمبادئ الاجتماعية الصادقة التي تتصف
بالتبلور الصحيح. وتكون النظريات والعقائد
التي تجعل من الإنسانية تجمعًا نظريات
مضلِّلة، مهما تنوَّعتْ هذه النظريات
والعقائد في أبعادها الاقتصادية والسياسية
والدينية والأخلاقية والاجتماعية. يكتمل
موضوعنا هذا ونحن نبحث في واقع تجمعية الوجود
المادي. وتكتمل الصورة عندما نجد في الوجود
المادي الغاية التي ينشدها هذا الوجود. وكما
تحدِّثنا العلوم الفيزيقية، نعلم أن المادة
قد عبرت، وهي تتشكل، مراحل نعدِّدها كما يلي:
مرحلة اللاتمايز، مرحلة التمايز، مرحلة
التكاثر، مرحلة التعدد والتنوع.
ولو
أننا سألنا: ما الذي دفع بحالة اللاتمايز إلى
تشكيل الحالات الأخرى؟، لأجبنا: إن القوة
الخفية الكامنة في تلك الحالة الأولى هي التي
أدت إلى مثل هذا التشكل. فهل كان هذا التشكل
تجمعيًّا أم اجتماعيًا؟ لقد كان تجمعيًّا.
كانت قدرة كلِّ ذرة أو جزيء أو خلية، بعد
تشكله، تعمل فاعلةً لتمدَّ نصف قطرها إلى
الذرة الأخرى، أو الجزيء الآخر، أو الخلية
الأخرى. وعلى هذا النحو، بدأ التكون بفعل
القدرة الكامنة التجمعية للمادة الأولى
اللامتمايزة. يشير
التنوع إلى تجمع. وهذا ما نجده في الأنواع
العديدة التي انبثقت عن حالة اللاتمايز
الأولى. فقد انبثقت من تلك الحالة الأولى،
المنسجمة والمتناسقة، الحيوانات بأنواعها،
والطيور بأنواعها، والنباتات بأنواعها. ومَن
يتعمق في البحث والتقصِّي، يجد أن الحياة هي
جوهرُ الكل وأساس التشكلات؛ وليست الحياة إلا
تلك الحالة الأولى التي أطلقنا عليها مصطلح
اللاتمايز. كانت وحدة متماسكة، تحولت إلى
كثرة متنوعة بفعل التجمع. في
هذا المنظور تتحقق الكائنات الدنيا، أي التي
تقع "دون" مستوى الإنسان المفكر، في
التجمع. فالحياة لم تكتمل فيها كما اكتملت في
الإنسان. لذا نقول بأن الوعي فيها يتناسب مع
تلقائية المادة. وللسبب ذاته نقول: إن
الحيوانات والنباتات لا تبلغ مرحلة الاجتماع
لأنها كانت واحدة في أساسها وجوهرها، ومن
بعدُ تمايزت إلى أنواع عديدة. فالنوع أو الجنس
منها يحيا في الكثرة ضمن النوع. وهذا هو الكم
المُضاف. وعلى
غير ذلك، يشير وجود الإنسان إلى معارضة واقع
المادة. وبعكس حالة اللاتمايز الأولى في
المادة، عرف الجنس البشري حالة التمايز. إذن،
فحالة التمايز كانت حالة الإنسان الأولية.
وهكذا وُجِدَتْ الأنواعُ البشرية. تُلزِمُنا
هذه القضية على طرح السؤال التالي: ماذا يترتب
على الإنسان؟ يترتب على الإنسان أن يعود إلى
حالة اللاتمايز الأولى، إلى الانسجام
والتوافق والتناسق والوحدة. وتتمثل وسيلته
الوحيدة للعودة إلى وحدته الإنسانية، أي
لتحقيق هذه الوحدة الجوهرية، في الوعي
الفوقي الذي يتجاوز الوعي الحيواني
ويتسامى عليه. لذا كان الإنسان اجتماعيًّا
بفضل وعيه، حريته، محبته وحياته، وكان
الحيوان تجمعيًّا لضآلة هذا الوعي والحرية
والحياة. وإذا شئنا أن
نذهب مذهب الماديين، فأقمنا علاقةً بين
حالتَي المادة والإنسان، وجعلنا التطور
حلقةً واحدة لا حلقتين – وأعني تطور الإنسان
في الطبيعة – قلنا ما يلي: حالة اللاتمايز
البدئية بلغت، في تطورها ونموها، حالة
التمايز والتنوع والكثرة، الأمر الذي لا يقبل
العكس؛ وحالة الإنسان انطلقت من حالة التمايز
والتنوع. لذا وُجِدَ الجنسُ البشري متنوعًا.
وعلى هذا الأساس، نخلص إلى النتيجة التالية:
يقضي الواجب الأخلاقي أن يعود الإنسان إلى
انسجامه الأول. ولا تتم هذه العودة إلا بالوعي
والحرية والمحبة. وفي هذا الصدد أقول: إن
المادة الأولى تنوعت، ولن تلتقي في تنوُّعها،
لأنها تجمعية وليست اجتماعية. وإذا التقتْ
فإنما ليكون التقاؤها في الإنسان فقط. وأضيف
قائلاً: تنوع الجنس البشري. ومع ذلك، يلتقي
الإنسان في تنوعه لأنه يتميز بالاجتماعية.
لذا كان التطور بعد الإنسان عقليًّا
وأخلاقيًّا وروحيًّا، بمعنى أنه تطور نمائي
يهدف إلى تحقيق البداية في النهاية،
الألف في الياء. وكما يقول تلار دُه شاردان: "كمال الأشياء
قائم في بداياتها." هكذا،
تكون الاجتماعية تحقيقًا للقيم الإنسانية
العقلية والأخلاقية والروحية، المتمثلة في
الغاية المضمونة في الطبيعة، لتبلغ كمالها.
وننتهي إلى القول: إن الكل الواحد، أي الشمول
الكوني الكلِّي، يتخلل الوجود الأرضي
ويستغرقه، ليتنوع ويتكثر، ومن ثم ليتجمع في
مظاهر الوجود الحيوانية والنباتية والمادية
الأخرى. ولا يعود هذا الشمول الكلِّي إلى
وحدته إلا في الإنسان، وهذا لأن الحياة واحدة
في الكل. ومع ذلك، فهي تجمعية في الممالك
التحتية، واجتماعية في الإنسان. هكذا
تؤدي اجتماعية الإنسان، عبر وعيه وحريته
ومعرفته ومحبته، إلى تحقيق إنسانيته والكل
الشامل معًا. هكذا
تتحقق اجتماعية الإنسان في الغاية الأرضية
والكونية، المتمثلة في المعرفة والوعي
والحرية والمحبة. ***
*** *** |
|
|