|
المحاكم الروحية في سورية[1]
في وقت تنحو سياسةُ الدولة في سورية إلى إصدار قوانين أحوال شخصية مستقلة خاصة بالطوائف غير المسلمة[2]، تود معابر أن تلفت الأنظار إلى مقال نُشِرَ قبل نيف وأربعين سنة في مجلة المحامون الصادرة عن نقابة المحامين بدمشق، يبدي فيه كاتبُه، الأستاذ الدكتور رزق الله الأنطاكي، "رأيًا صريحًا جريئًا" في المحاكم الروحية (على حدِّ قول الأستاذ نجاة قصاب حسن، رئيس تحرير المجلة آنذاك)، يعد بقاءَ هذه المحاكم "ماسًّا بسيادة الدولة" ويرفض، "بعد منتصف القرن العشرين، أن يوجد في بلد مستقلٍّ قضاءٌ خارجٌ عن القضاء النظامي وأن يكون قضاتُه مستقلين تمام الاستقلال عن السلطة القضائية". إن من شأن أخذ مضمون هذا المقال على محمل الجد أن يمهِّد لتشريع قانون مدني موحَّد للأحوال الشخصية، يطبَّق على المواطنين السوريين كافة، بصرف النظر عن أديانهم وطوائفهم ومذاهبهم ومعتقداتهم الشخصية. المحرِّر * * *
توجد لدى كل طائفة غير مسلمة في الجمهورية السورية محاكم خاصة بها تنظر في دعاوى الأحوال الشخصية العائدة لأبناء طائفتها. وقد وُجِدَتْ هذه المحاكم، أول ما وجدت، في الدولة العثمانية، وورثتْها الدولُ العربية التي كانت تشكل جزءًا من الإمبراطورية العثمانية بعد انسلاخها عنها. وإذا كانت هذه المحاكم قد أُلغِيَتْ في الجمهورية المتحدة ولم يبقَ لها أثرٌ منذ العام 1955، فهي مازالت قائمةً في الجمهورية العربية السورية. فمتى وُجِدَتْ هذه المحاكم؟ وما هو مدى اختصاصها؟ وكيف تؤلَّف؟ وما هي الأصول المتبعة أمامها؟ وما هي طُرُق الطعن بالأحكام التي تصدرها؟ وهل من ضرورة لوجودها أو لبقائها؟ هذه هي المواضيع التي سنسعى إلى بحثها في هذا المقال. 1 ظهرت الامتيازاتُ الممنوحة للطوائف المسيحية في الدولة العثمانية في عهد السلطان محمد الثاني. وقد مُنحت، أول ما مُنحت، لطائفة الروم الأرثوذكس؛ وكان السبب في منحها إزالة الخوف الذي كان يسود أبناء هذه الطائفة من إساءة الفاتحين معاملتهم. وشملت هذه الامتيازات، بعد ذلك، أبناءَ الطائفة الأرمنية الأرثوذكسية. ومن الصعب جدًّا تحديد مدى شمول هذه الامتيازات عند نشأتها، لأن البراءة التي منحها محمد الفاتح للبطريرك جناديوس، بطريرك طائفة الروم الأرثوذكس، والتي تشكل المستنَد الأساسي لهذه الامتيازات قد فُقدت؛ لكن المؤرخين مجمِعون على أن هذه الامتيازات كانت شاملةً جميعَ المسائل الإدارية والمالية والقضائية. فقد مُنِحَ رؤساءُ الطوائف المسيحية حقَّ فرض الضرائب على أبناء طوائفهم، وصلاحيةَ الحكم في الخلافات الناشبة بينهم وسنِّ التشريعات اللازمة لذلك[3]. على أن الأسباب التي حدت بالسلطان محمد الفاتح إلى منح هذه الامتيازات لرعايا الطوائف المسيحية في السنين الأولى التي تلت استيلاء الأتراك على الدولة البيزنطية لم يعد لها ما يبرِّرها بعد أن توطَّد الحكم، فسعى السلاطين إلى الرجوع عن هذه الامتيازات، أو إلى الحد منها، لمخالفتها مبدأ سيادة الدولة، وذلك منذ العام 1520 في عهد السلطان سليم. ولكن سعيهم باء بالفشل بسبب تدخل الدول الأجنبية، وخاصة فرنسا وإنكلترا وروسيا، حتى إن روسيا فرضت حمايتها رسميًّا على الرعايا الأتراك من أبناء الكنيسة الأرثوذكسية بمعاهدة كوتشوك كينارجي المعقودة في العام 1774. وقد أثار تدخل الدول الأجنبية في شؤون الدولة العثمانية، تحت ستار حماية حقوق أبناء الطوائف المسيحية – هذه الحقوق التي اكتسبوها عند الفتح بإرادة السلطان –، سخطَ المفكرين، فتعالت الاحتجاجاتُ من كلِّ حدب وصوب على هذا الوضع الشاذ الذي يُعتبَر، من دون شك، ماسًّا بالسيادة الوطنية؛ زِدْ على ذلك أن المحاكم الشرعية كانت تقبل مراجعات الخصوم من غير المسلمين وتفصل في بعض الدعاوى القائمة بينهم، حتى عندما تكون هذه الدعاوى من اختصاص المحاكم الطائفية حصرًا، كالطلاق مثلاً. وقد أصبحت الامتيازات الممنوحة للرؤساء الروحيين، مع مرِّ الزمن، تشكل عبئًا ثقيلاً على أبناء الطوائف نفسها، للظلم الذي كانوا يلاقونه أحيانًا من تصرفات بعض الرؤساء، كما يُستفاد ذلك من التحقيق الذي قامت به وزارة الخارجية في العام 1860 حول وضع المسيحيين في الدولة العثمانية. وعلى الرغم من جميع ما ذُكِر، لم يتمكن سلاطين بني عثمان من إلغاء الامتيازات التي سبق منحُها، بل على العكس تأيدت هذه الامتيازات بإرادة سَنِيَّة، مؤرخة في 18 شباط سنة 1856، نصَّتْ على أن [...] جميع الامتيازات الممنوحة منذ القديم من قبل أسلافنا لرعايا الطوائف المسيحية وغيرها من الطوائف غير المسلمة المقيمين في البلاد تثبُتُ وتبقى قائمةً ونافذة. وقد اضطر السلطان إلى إصدار هذه الإرادة السنية عقب حرب القرم، وأشير إليها في معاهدة باريس في المادة التاسعة منها. ويقول المؤرخون إن هذه الإرادة السنية التي أعطت الامتيازات الممنوحة سابقًا صفتَها الشرعية قد فرضتْها على الدولة العثمانية الدولُ الأجنبية الكبرى، وعلى وجه الخصوص بريطانيا وفرنسا والنمسا[4]. على أنه إذا كان من شأن الإرادة السنية الصادرة في العام 1856 تأكيدُ الامتيازات الممنوحة للرعايا الأتراك من غير المسلمين، فقد قَصَرَتْ هذه الإرادةُ اختصاصَ المحاكم الطائفية على بعض [...] أنواع الدعاوى المدنية الخاصة، كدعاوى الإرث وغيرها المشابهة لها التي تقوم بين أطراف من غير المسلمين والتي تجوز إحالتها، بناءً على طلبهم، إلى المحاكم الطائفية.[5] وبتاريخ 4 نيسان سنة 1883، أصدرت وزارةُ العدل التركية بلاغًا تفسيريًّا للإرادة السنية، الصادرة في العام 1856، أجازت بمقتضاه [...] لمحاكم الدولة النظامية النظر في جميع الخلافات الناشئة بين الرعايا المسيحيين والمتعلقة بالوصية والتركة عندما يرفض أحدُ الخصوم في الدعاوى قضاءَ المحاكم الطائفية. وفي العام 1888، أصدر وزير العدل جودت باشا أمرًا منع بمقتضاه تنفيذ الأحكام الصادرة عن المحاكم الطائفية في دعاوى الزواج. وبقرارين صادرين عن وزير العدل التركي في شهر أيار سنة 1898، منع المحاكم الطائفية من النظر في الدعاوى المتعلقة بمسائل التعويض الناشئ عن فسخ الخطبة وبمسائل النفقة العائدة للأصول والأولاد. وأخيرًا، أُلغِيَت جميعُ اختصاصات المحاكم بالقانون الصادر في 25 تشرين الأول 1333 هجري (1914) المسمَّى بـ"قانون حقوق العائلة"؛ إذ نصت المادة 156 منه على ما يلي: حقوق قضاء الرؤساء الروحانيين التي هي بخصوص النكاح وفسخه، وما يتبع ذلك من نفقات الزوجات والدراخومية [الدوطة] والجهاز، ملغاة. وهكذا، خرجت البلاد العربية من السيطرة التركية عقب الحرب العالمية الأولى، دون أن تكون مثقلة بأيِّ امتياز قضائي لصالح رعاياها من غير المسلمين. ولكن سرعان ما أعيدت هذه الامتيازات، فكان ذلك، بخصوص سورية، بالقانون الصادر عن الملك فيصل في 19 كانون الثاني سنة 1919 المتعلق بالنظام القضائي؛ إذ نصت المادة 18 من هذا القانون على أن [...] المحاكم الطائفية للطوائف غير المسلمة تحتفظ باختصاصاتها القضائية وبحقوقها كما في السابق. وكان ذلك بخصوص لبنان بالقرار رقم 1003 الصادر عن حاكم لبنان الكبير بتاريخ 17 كانون الأول سنة 1921 الذي نصَّ على ما يلي:
مادة
1: ألغيتْ المادة 156 من القانون الصادر بتاريخ 25 تشرين الأول 1333 بخصوص حقوق
العائلة. وفُرِضَ الانتدابُ الفرنسي على سورية وبقي قائمًا طوال ربع قرن. وكان من الطبيعي أن تبقى الامتيازات القضائية للطوائف غير المسلمة قائمة في ظل الانتداب. ولكن إذا كان القانون الفيصلي قد أعاد للمحاكم الطائفية اختصاصاتِها القضائية "كما في السابق"، إلا أن الإرادة السنية الصادرة في العام 1856 والقرارات الوزارية التي جاءت مفسِّرة لها جعلت مدى اختصاص المحاكم الطائفية غامضًا غموضًا كليًّا. وكان من الطبيعي، بسبب هذا الغموض، أن يحصل نزاعٌ مستمر بين المحاكم الشرعية والمحاكم الطائفية حول اختصاص كلٍّ من المحكمتين، مما حدا بالمشِّرع – وكان آنذاك ممثلاً بالمفوض السامي الفرنسي – أن يُصدِرَ القرار رقم 2978، بتاريخ 5 كانون الأول سنة 1924، الذي أنشأ بمقتضاه محكمة خاصة، سُميت بـ"محكمة الخلافات"، للنظر في التنازع الذي يمكن حصوله فيما يتعلق باختصاص هذه المحاكم. ولم يكتفِ المشرِّع بذلك، بل وجد من الضروري أن يحدد اختصاص المحاكم الطائفية تحديدًا واضحًا صريحًا، فأصدر المفوض السامي دوجوفنيل القرار رقم 261، بتاريخ 28 نيسان سنة 1926، حدد بمقتضاه اختصاص المحاكم الطائفية للنظر في الدعاوى الناشئة عن مسائل "انعقاد الزواج وفسخه والتفريق والطلاق والنفقة بين الزوجين". ولكن خطأ المشِّرع، عند إصداره هذا القرار، كان بأن ساوى فيه بين المحاكم الشرعية والمحاكم الطائفية، وحدد به اختصاص المحاكم الشرعية. لذا، على الرغم من نشر هذا القرار أصولاً، فهو لم ينفَّذ في سورية، وألغي في لبنان بالقرار رقم 102، بتاريخ 30 حزيران سنة 1926. وبتاريخ 20 حزيران 1928، صدر عن رئيس الدولة السورية القرار رقم 238 المتعلق بالنظام القضائي في سورية، فنصَّتْ المادة 69 منه على أن [...] اختصاص المحاكم الطائفية لغير المسلمين تبقى تابعةً بصورة مؤقتة للتشريع النافذ حاليًّا. وهذا التشريع الذي كان نافذًا في سورية عند صدور هذا القرار لم يكن إلا الإرادة السنية الصادرة في العام 1856 والقرارات اللاحقة المفسِّرة لها التي لم تحدِّد، كما سبق وذكرنا، مدى اختصاص المحاكم الطائفية تحديدًا واضحًا جليًّا. ولما كان القرار رقم 238 قد نصَّ على أن اختصاص المحاكم الطائفية تبقى تابعة – "بصورة مؤقتة" – للتشريع النافذ، كان من المنتظَر أن يأتي تشريع آخر يزيل هذه الصفة المؤقتة، وذلك بالقضاء على هذه المحاكم الاستثنائية التي لم يعد هناك، في الواقع، أي مبرر لوجودها، أو بتنظيمها بشكل يزيل الشكايات الكثيرة التي كانت تتعرض لها من قبل المواطنين، وخاصة من أبناء الطوائف غير المسلمة. ونالت سورية استقلالها، فكان من المنتظَر أن تُلغى جميع المحاكم التي هي وليدة الامتيازات الأجنبية أو الطائفية. فألغيت المحاكم الأجنبية، لكن المحاكم الطائفية بقيت قائمة، حتى إن المشِّرع السوري أضاف إليها محاكم أخرى تتعلق بالطائفة الدرزية. ففي 30 كانون الثاني 1945، صدر القانون رقم 134 الذي أوجد في سورية محكمةً بدائيةً ومحكمةً استثنائية، مركزهما مدينة السويداء، ومنحهما حقَّ النظر في دعاوى الأحوال الشخصية التابعة لأبناء الطائفة الدرزية، ونصَّ على أن لهذه المحاكم [...] مطلق الحرية في ممارسة وظائفها وصلاحياتها طبقًا لروح القواعد والسنن المذهبية وأصول المحاكمات المتبعة لديها. وبتاريخ 8 تشرين أول سنة 1953، صدر قانون جديد للسلطة القضائية في سورية، وذلك بالمرسوم التشريعي رقم 133. وقد نصَّتْ المادة 31 من هذا القانون على ما يلي: تبقى المحاكم الروحية للطوائف غير الإسلامية واختصاصاتها خاضعة للأحكام النافذة. وقامت الوحدة بين مصر وسورية في العام 1958، وتشكلت لجانٌ لإعادة النظر في التشريعات النافذة في الإقليمين وتوحيدها. وبينما كانت هذه اللجان تعمل، صدر القرار بالقانون رقم 56 لسنة 1959 المتعلق بالسلطة القضائية الموحَّدة للإقليمين، فنصت المادة 10 من قانون الإصدار على ما يلي: 1. تستمر محاكم الأحوال الشخصية في الإقليم السوري على ممارسة اختصاصاتها وفقًا للأحكام القانونية النافذة بشأنها. وتخضع الأحكام التي يصدرها القضاة الشرعيون للطعن أمام محكمة النقض مؤلَّفةً من ثلاثة مستشارين وفقًا للقواعد والإجراءات المتبعة لديها. 2. يتولَّى نظر قضايا الأحوال الشخصية للطائفة الدرزية قاضٍ شرعي من أبناء الطائفة يعيَّن بقرار جمهوري بعد أخذ رأي وزير العدل في الإقليم السوري، على أن تتوافر في تعيينه الشروطُ الواجب توافرُها في تعيين القضاة، وتخضع الأحكام التي يصدرها للطعن أمام محكمة النقض ضمن المدة والأصول المتبعة في الطعن بالأحكام الصادرة عن القضاة الشرعيين. 3. تلغى محكمة الاستئناف المذهبية، وتشكَّل من قضاتها الحاليين دائرة باسم "دائرة الإفتاء للمذهب الدرزي"، على أن يعطى كل واحد منهم التعويض المحدد بالقانون رقم 289 [...]. وفي أواخر شهر أيلول سنة 1961، وقع الانفصال بين مصر وسورية. وكان من أولى الأعمال التشريعية التي قامت بها الحكومة التي تألفت عقب الانفصال والتي تولت سلطة التشريع إصدارُ قانون جديد للسلطة القضائية. فصدر المرسوم التشريعي رقم 98، بتاريخ 15 تشرين الثاني سنة 1961، فأبقى هذا القانون على المحكمة المذهبية الدرزية، كما أبقى على المحاكم الروحية للطوائف غير المسلمة. وقد نصت المادة 36 منه في صدد هذه المحاكم على ما يلي: تبقى المحاكم الروحية للطوائف غير الإسلامية واختصاصاتها خاضعة للأحكام النافذة قبل القرار رقم 60/ل ر تاريخ 13 آذار سنة 1936. 2 فالمحاكم الطائفية لغير المسلمين، التي أصبحت تسمَّى بـ"المحاكم الروحية"، مازالت قائمة. وبمقتضى هذه النصوص التشريعية، توجد محاكم روحية لدى جميع الطوائف المسيحية المعترَف بها، وأعني: الطائفة المارونية، طائفة الروم الأرثوذكس، طائفة الروم الكاثوليك، طائفة الأرمن الكاثوليك، طائفة الأرمن الأرثوذكس، طائفة السريان الأرثوذكس، طائفة السريان الكاثوليك، الطائفة الآشورية الكلدانية، طائفة الكلدان الكاثوليك، والطائفة اللاتينية؛ كما توجد محاكم روحية للطائفة الإسرائيلية (كنيس دمشق وحلب). وهذه المحاكم على درجتين: بدائية واستئنافية. فالمحاكم البدائية مؤلَّفة من قاضٍ فرد؛ أما المحاكم الاستئنافية فهي مؤلَّفة من رئيس وقاضيين. وإذا كان التشريع النافذ حاليًّا قد اشترط، بخصوص المحاكم المذهبية الدرزية، أن يعيَّن رئيسُ هذه المحكمة بمرسوم بعد أخذ رأي وزير العدل وموافقة مجلس القضاء الأعلى، وأن تتوافر في تعيينه الشروط الواجب توافرها في تعيين القضاة[6]، فإن قضاة المحاكم الروحية – سواء منهم البدائيون أو الاستئنافيون – يجري تعيينهم من قبل السلطات الروحية العليا، ولا يُشترَط من أجل انتقائهم أي شرط من الشروط الواجب توافرها في تعيين القضاة. وتوجد في دائرة كلِّ مطرانية محكمة بدائية. وتخضع الأحكام التي تصدرها هذه المحاكم البدائية للطعن بالاستئناف أمام محكمة الاستئناف الموجودة في المدينة التي فيها المقر البطريركي. فبخصوص طائفة الروم الأرثوذكس، مثلاً، توجد محاكم بدائية في دائرة كلِّ مطرانية تابعة للكرسي البطريركي الأرثوذكسي، سواء في سورية أو في لبنان؛ والأحكام التي تصدرها هذه المحاكم البدائية تُستأنَف إلى محكمة الاستئناف التي مركزها مدينة دمشق. وتطبِّق هذه المحاكم، فيما يتعلق بالإجراءات الواجب اتباعها وبمواعيد الحضور أمامها ومواعيد الطعن، القواعدَ المنصوص عليها في قانون أصول المحاكمات النافذ لديها. فالمحاكم البدائية الروحية التي يكون مركزها في إحدى المدن اللبنانية تطبِّق قانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني؛ وأما المحاكم البدائية الروحية التي يكون مركزها في إحدى المدن السورية فتطبِّق قانون أصول المحاكمات السوري. وعند الطعن بهذه الأحكام أمام محكمة الاستئناف الروحية التي مركزها دمشق، فإن هذه المحكمة تطبِّق بخصوص الأحكام الصادرة في سورية قانون أصول المحاكمات السوري، وتطبِّق بخصوص الأحكام الصادرة في لبنان قانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني. وتقبل الأحكامُ التي تصدرها محكمةُ الاستئناف في الطعن بالأحكام البدائية الصادرة عن محاكم مركزها إحدى المدن السورية الطعنَ بالنقض أمام محكمة النقض السورية، نظرًا لمخالفتها قواعد الأصول والقانون. أما الأحكام التي تصدرها هذه المحكمة في الطعن بالأحكام الصادرة عن محاكم بدائية مركزها إحدى المدن اللبنانية فلا تقبل الطعن أمام محكمة النقض على اعتبارها صادرة عن محكمة لبنانية. وهذا فيما يتعلق بالاختصاص المحلِّي للمحاكم الروحية وبطرق الطعن بأحكامها. ولكن إذا كانت المحاكم تطبِّق قواعد الأصول المنصوص عليها في قانون أصول المحاكمات، فهي، بخصوص القواعد الموضوعية، تطبق (إلى جانب قانون الأحوال الشخصية) قوانينها الخاصة بها؛ وغالبًا ما تكون هذه القوانين غير مكتوبة: فهي من صنع الطوائف نفسها، وليس للسلطة التشريعية في البلاد أي دخل في وضعها وإقرارها. 3 سبق لنا أن بحثنا في الاختصاص المحلِّي للمحاكم الروحية. أما فيما يتعلق باختصاصها الموضوعي أو الولائي، فقد حُدِّد بالمادة 308 من قانون الأحوال الشخصية، الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 59، المؤرخ في 17 أيلول سنة 1953، بالدعاوى التالية: 1 جميع المنازعات الناشئة عن الخطبة؛ 2 الدعاوى المتعلقة بشؤون الزواج وعقده؛ 3 دعاوى المتابعة؛ 4 دعاوى بطلان الزوجية ونفقة الصغير؛ 5 دعاوى بطلان الزواج وحله وانفكاك رباطه؛ 6 الدعاوى المتعلقة بالبائنة (الدوطة)؛ و 7 الدعاوى المتعلقة بالحضانة. ولكن المحاكم الروحية لا تتمتع بهذا الاختصاص بخصوص الأجانب من أبناء طائفتها إذا كانوا يخضعون في أحوالهم الشخصية لقانون مدني، بل تكون الدعاوى القائمة بينهم من اختصاص المحاكم المدنية[7]. وإذا حصل نزاع على الاختصاص بين المحاكم الروحية، أو بينها وبين المحاكم المدنية أو الشرعية – سلبيًّا كان أو إيجابيًّا –، فإن الفصل في هذا النزاع يعود إلى محكمة النقض (الغرفة المدنية)، عملاً بأحكام المادة 46 من قانون السلطة القضائية (المرسوم التشريعي رقم 98 للعام 1961)، المعدلة بالمادة 5 من المرسوم التشريعي رقم 66، بتاريخ 12/7/1962. 4 ولا بدَّ لي – بل أرى لزامًا عليَّ –، في نهاية هذا المقال، أن أبدي رأيي في صراحة كلِّية حول ضرورة بقاء المحاكم الروحية أو زوالها. وأقول، بكلِّ صراحة، بأنه لم تعد ثمة حاجة لبقاء المحاكم الروحية؛ بل إن بقاءها يُعتبَر ماسًّا بسيادة الدولة. ولا يمكن للعقل أن يقبل، بعد منتصف القرن العشرين، أن يوجد في بلد مستقلٍّ قضاءٌ خارج عن القضاء النظامي، وأن يكون قضاته مستقلين تمام الاستقلال عن السلطة القضائية، وأن لا تراعى في تعيينهم القواعدُ التي تراعى في تعيين سائر القضاة، وأن لا يكونوا متمتعين بالشروط اللازمة – العلمية منها على الأقل – لتعيين القضاة. فالقاضي أمام المحاكم الروحية – بدائية كانت أم استئنافية – يُكتفى من أجل تعيينه بأن يكون من رجال الإكليروس، بغضِّ النظر تمامًا عن الشروط التي يجب توافرها في كلِّ قاض من حيث السن والمعرفة: فهنالك بعض القضاة الذين تجاوز عمرُهم الثمانين، وهناك بعض القضاة الذين لا يحملون أية شهادة علمية! زِدْ على ذلك أن القضاء الروحي لا يخضع لأية سلطة تفتيشية: فليس لدائرة التفتيش في وزارة العدل، ولا لأية هيئة تفتيشية أخرى، الحق في التدخل في شؤونه. وإذا وردتْ إلى هذه الدوائر شكاياتٌ على بعض التصرفات الجارية أمام المحاكم الروحية، يكون نصيبُ هذه الشكايات الحفظ، على الرغم من أهميتها. ويكفي للتأكد مما أقول الرجوعُ إلى الملفات الموجودة لدى المسؤولين، وخاصة في دائرة التفتيش في وزارة العدل. وأما فيما يتعلق بالقوانين المطبَّقة أمام هذه المحاكم، فهي قوانين لم تصدر عن سلطة قائمة في البلاد تتمتع بحق التشريع. وهي قوانين لم يسبق نشرُها بالإجراءات التي نصَّ عليها القانون؛ وبالتالي، لا يجوز – عملاً بأبسط المبادئ الحقوقية – اعتبارُها نافذةً في حقِّ المواطنين، لأن القاعدة القائلة بأنه لا يجوز للمواطن أن يحتجَّ بجهله القانون إنما تستند على نشر القانون وافتراض اطلاع المواطن عليه. هذا وإن الدعاوى الداخلة في اختصاص المحاكم الروحية، بحسب التشريع النافذ حاليًّا، ليست من الدعاوى التي يحتاج الفصلُ فيها إلى تطبيق مبادئ تُعتبَر من "الأسرار" الدينية التي يصعب على غير رجال الإكليروس فهمُها وتطبيقُها. وإذا كان لا بدَّ من بقاء المحاكم الروحية فمن الضروري، على الأقل، إدخال بعض التعديلات على تأليفها وإيجاد النصوص الكفيلة بتأمين حسن سيرها، بغية إزالة الضجة القائمة حول وجودها، ووضع حدٍّ للتظلمات والشكايات التي تقدم بحقِّها. وإني أقترح من أجل ذلك: أ. أن تتوافر في رئيس المحكمة، على الأقل، الشروطُ اللازم توافرها في القاضي. وإذا كان من الصعب تطبيق هذا النص بخصوص تشكيل المحاكم الروحية الحالي، فليس ثمة مانع، على ما أعتقد، من اختيار الرئيس من العَلمانيين من أبناء الطائفة الذين تتوافر فيهم هذه الشروط. ب. أن تضع كل طائفة، أو تضع جميع الطوائف مجتمعة، مشروع قانون تعرضه على السلطة التشريعية من أجل إقراره. ت. أن يُسَنَّ تشريعٌ يكون من شأنه إخضاع هذه المحاكم للتفتيش الذي تخضع له المحاكمُ العامة في سورية. ث. أن يُترَك الخيارُ لأطراف النزاع في مراجعة المحاكم المدنية أو المحاكم الشرعية، إذا شاءوا، للفصل في الدعاوى الداخلة في اختصاص المحاكم الروحية. ج. أن تلتزم المحاكمُ الروحية بتطبيق قانون الرسوم والتأمينات القضائية على الدعاوى التي تقدَّم إليها وعلى الأحكام التي تصدرها وعلى طُرُق الطعن بهذه الأحكام، على اعتبار أن هذه المحاكم تثقل عاتق المتخاصمين بما تستوفيه حاليًّا من رسوم وتأمينات لا تعود إلى خزينة الدولة. *** *** *** [1] عن مجلة المحامون، السنة الحادية والثلاثون، العددان الثاني والثالث، شباط وآذار 1966، عدد مزدوج خاص بقوانين الأحوال الشخصية للطوائف غير المسلمة، ص 35-40. [2] صدر عن رئاسة الجمهورية حتى الآن القانون رقم 31 المصدِّق لـ"قانون الأحوال الشخصية للطوائف الكاثوليكية" بتاريخ 18/06/2006 (راجع: الجريدة الرسمية للجمهورية العربية السورية، الجزء الأول، العدد 26، 2006). [3] راجع: أرمنجون، مقال في مجلة الحقوق الدولية الخاصة، 1910، ص 438؛ الڤيكونت دولاجونكيير، تاريخ تركيا، جزء 1، ص 99. [4] دولاجونكيير، تاريخ تركيا، جزء 1، ص 458. [5] المادة 12 من الإرادة السنية. [6] المادة 35 من قانون السلطة القضائية رقم 98، بتاريخ 15/11/1961. [7] نقض سورية 18/4/1963، مجموعة المبادئ القانونية، بحث اختصاص، ص 81. |
|
|