|
حوار المنفى نهاري للعمل وليلي...
للمنامات والموتى! يعيش
الكاتب والمفكر المصري نصر حامد أبو زيد مع
زوجته ابتهال يونس في هولندا. فبعد صدور الحكم
بتفريقه عن زوجته إثر اتهامه بالردة بحسب
قانون غريب يُعرَف باسم "قانون الحسبة"،
وجد المفكر المصري نفسه في جامعة لايدن، يكتب
ويحاضر ويدرِّس، ويعيش مرارات المنفى. ومنفى
أبو زيد مستمر بلا سبب. فلقد ألغي قانون
الحسبة في مصر، لكن الحكم القضائي في حقِّ
المفكر العقلاني لا يزال ساريًا، والمداولات
القانونية مملة وبطيئة، وسط صمت العجز الذي
تعيشه الثقافةُ العربية في جميع أمصارها. فهل
يبقى أبو زيد في المنفى إلى الأبد؟ متى ينكسر
جليدُ الانحطاط الثقافي العربي، فيتم
الاعتذار من الكاتب الذي فُرِضَ عليه أن يعيش
في المنفى؟ في نيويورك، التقيت به. كان يجلس
في مكتبة الجامعة، وكان بيننا حوار المنفى... * * * قال
نصر حامد أبو زيد: "بخاطرك يا مصر!" اعتقدت
أنه يستخدم كلمة "بخاطرك" بالمعنى
اللبناني، من أجل أن يقول لبلاده وداعًا. لكنه
صحَّح لي وقال: "بخاطرك، تعني كما تريدين.
أقول لمصر كما تريدين: تريدين لي المنفى، فأنا
بخاطرك وتحت أمرك!" حاولتُ
أن أشرح له أن المعنى الذي قصده موجود أيضًا
في اللهجة اللبنانية، فضحك وقال إن ما يجمعنا
نحن العرب هو الكلمات التي تدل على القسوة
والقمع. ثم سألني عن قضية مارسيل خليفة، وقال
في أسى إن قضية خليفة انتهت، أما قضيته هو فلا
تزال عالقة. "عالقة؟"
سألته. "نعم،
يا سيدي... بعد صدور الحكم في الاستئناف، ثم في
محكمة النقض، بدا لي أن لا وجود لحل. فاتصل بي
أحد المسؤولين الكبار من أجل إقناعي باقتراحه:
أن أتزوج ابتهال يونس – زوجتي! – مرة ثانية في
السفارة المصرية، وبذلك تُحَل المشكلة، إذ لم
يعد في استطاعة أحد رفع دعوى ضدي لأن قانون
الحسبة تغير. وبدلاً من أن أجيبه بأن ما يقوله
كلام فارغ، وبأنني لست على استعداد للقبول
به، أجبته – تأدبًا – بأنني سأفكر في الأمر.
فقال: "لا يا دكتور نصر، ما تفكَّرش!"" "ثم
ماذا؟" سألته. "لا
شيء"، قال. "ولكن هذا الحوار بالغ
الدلالة. مسؤول كبير يقول لأستاذ جامعي: لا
تفكر. هل هذا معقول؟! عند ذاك، أدركت عبثية
وضعي. فأنا لا أحسن سوى التفكير والكتابة، ولم
أعلِّم طلابي سوى على التفكير والنقد. لذلك...
بخاطرك يا مصر!" هكذا
بدأ حواري مع نصر حامد أبو زيد، حين التقينا
في شهر أيار 2001 في نيويورك. عندما جاء إلى
مكتبي في الجامعة، بادرني بالسؤال: "وأنت
أيضًا؟!" ضحكتُ من المفارقة: نصر يعيش في
المنفى، ويشعر بالمرارة لأن مصر أجبرته على
الخروج منها مطرودًا، في حين أرى في رحلتي إلى
أمريكا مناسبةً للابتعاد والتجدد والاكتشاف. قلت
إن بيروت لا تزال تتسع لنا، على الرغم من كلِّ
شيء. فقال إنه عندما زار بيروت منذ عامين شعر
بفرح كبير. "لكنها
ليست بيروت"، قلت له. "إزاي
يعني؟" "لو
كانت بيروت هي بيروت لما كنت أنتَ الآن
أستاذًا في هولندا، بل كنتَ..." قاطعني
وقال: "تريد أن تقول في بيروت، أليس كذلك؟
لكنك لا تعلم، يا صاحبي، أنني لم أتلقَّ دعوة
للتعليم من أية جامعة في العالم العربي.
المسألة ليست بيروت وحدها، بل العالم العربي
بأسره الذي صار مجرد عتبة إلى المنافي.
تخيَّل، تقدمت بطلب للتدريس في جامعة بروناي،
فلم أتلقَّ جوابًا!" ضحك
نصر حامد أبو زيد، وهو يروي لي مرارته في
المنفى. "لكن مَن أنت؟" سألته. ولد
نصر حامد أبو زيد في قرية قحافة، طنطا، في
تموز 1943. دخل الكتَّاب في قحافة، ثم التحق
بالمدرسة الابتدائية والإعدادية في طنطا،
وبسبب مرض والده دخل مدرسة الصنائع، حيث نال
دبلوم اللاسلكي في العام 1960. خطة والده كانت
إدخاله إلى الأزهر (فلقد حفظ القرآن وهو في
الثامنة من عمره)، لكن الظروف رسمت له طريقًا
آخر. بين
العامين 1960 و1972، عمل فنيًّا في المحلة
والمنصورة ودمياط وبور سعيد. وفي الوقت نفسه،
نال الثانوية العامة، ثم تخرَّج من كلية
الآداب، قسم اللغة العربية، في العام 1972
بتقدير ممتاز. أُعفِيَ من الجيش لأنه كان كبير
أشقائه ومسؤولاً عن العائلة وصحافيًّا.
عُيِّن في العام 1972 معيدًا في جامعة القاهرة،
ونال شهادة الماجستير عن أطروحته: المجاز في
القرآن عند المعتزلة، ثم الدكتوراه بعدما
درس تأويل القرآن عند ابن عربي. يعمل الآن
على ثلاثة مشاريع كتابية: 1.
المشروع
الأول: كتابة سيرته الذاتية: حياتي من
القرية إلى المنفى. 2.
المشروع
الثاني: دراسة مشكلات تأويل القرآن في العصر
الحديث، منطلقًا من نقد خطاب الإصلاح الديني،
باحثًا عن الأسئلة الغائبة، محاولاً تقديم
قراءة تشبه قراءة ألتوسِّير لماركس. أي أنه
يبحث عن المُضمَر، المسكوت عنه. 3.
المشروع
الثالث: دراسة القرآن كمفهوم تاريخي، ويتضمن
مراجعة نقدية لمفهوم النص. بين
الطالب الجامعي في القاهرة والأستاذ الذي
يعيش في المنفى في لايدن مجموعة كبيرة من
المؤلَّفات، منها: الاتجاه العقلي في
التفسير: دراسة في قضية المجاز في القرآن عند
المعتزلة [طب 4: 1998]، فلسفة التأويل: دراسة
في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي [طب
4: 1998]، إشكاليات القراءة وآليات التأويل [طب
6: 2001]، دوائر الخوف: قراءة في خطاب المرأة [طب
3: 2004][1].
الغربة والمنفى عندما
سألته عن شعوره في غربته الطويلة، قال إنه لا
يشعر بالغربة. "ربما لأن شيئًا انكسر في
داخلي. وهذا يسبب لي قلقًا، فكأنني لم أعد أنا.
هل تعلم كيف غادرت مصر؟ كان الترتيب أن أذهب
مع ابتهال، زوجتي، إلى مدريد مدة شهرين. إذ
كانت قد حصلت على منحة لمدة شهرين، فقلت: أذهب
معها. غادرنا مصر ليلة 23 تموز، وفي الطائرة
قلت لها إنني لن أعود، وسأذهب إلى لايدن.
وهكذا بدأت غربتي الطويلة. وحدث ما يمكن أن
أسميه جفافًا عاطفيًّا. أنا لا أعاني
الشوق إلى الوطن! لقد انقسمت حياتي نصفين:
نهاري أمنحه للعمل والتدريس والطلبة، ثم يأتي
الوطن فيحتل ليلي. يصير ليلي حالاً تقع بين
الحلم والكابوس. ألتقي بموتى، لكنهم يظهرون
لي أحياء. الوطن يطرد النوم من عينيَّ، يجعلني
أعيش ليلاً شبيهًا بليل امرئ القيس. "ألتقي
بالعديد من أصدقائي في هولندا وأوروبا
وأمريكا. أشعر أن الوطن صار موجودًا في كل
مكان. أحد الأصدقاء اكتشف أنني أضيع في شوارع
لايدن. حين أخرج من الجامعة أضل طريقي! فقال لي
زين العابدين فؤاد: "أنت، يا صديقي، لا تعيش
في هولندا، أنت تسكن هنا فقط!"" قال
إنه يشترك مع أستاذ ألماني في جامعة لايدن في
ورشة عمل يسمونها "بيبليودراما" [نسبة
إلى "الكتاب"]. في هذه الورشة، يحاول
الأستاذ الألماني دراسة التأويل، ليس من خلال
النص، بل من خلال التمثيل.
"قرأ
الرجل كتابي نقد الخطاب الديني [سينا
للنشر، طب 2: 1994[2]]،
وقال إنه مهتم بنظريتي في التأويل، ودعاني
إلى المشاركة في البيبليودراما. وهناك اكتشفت
أن العلاقة بالنصوص ليست علاقة فكرية فقط،
ولكنها جسدية أيضًا. قررنا العمل على قصة يونس
من دون الرجوع إلى نصٍّ مكتوب. اخترتُ لنفسي
دور بحار على السفينة، وكنت مهتمًّا أن أسأل
النبي يونس لماذا كان غاضبًا على الله: "وذا
النون إذ ذهب مغاضبًا فظن أنْ لن نقدر عليه..."
[سورة الأنبياء 87]. سؤالي هو: لماذا يغاضب
نبيٌّ ربَّه؟ ألا يُعَد هذا نوعًا من التمرد،
خصوصًا أنك حين تقرأ القصة في التوراة [سفر
يونان 4]، تكتشف أن يونس كان غاضبًا لأن الله
سيدمِّر القرية[3]! "بدأت
السفينة تتحرك، ونبَّهوني إلى أنني يجب أن
أركب السفينة قبل أن تبحر. ويومذاك اكتشفت
أنني صرت بحارًا، أزور الموانئ، ولا مرساة لي
سوى أسئلتي." الليل والنهار قال
نصر حامد أبو زيد إن المنفى قسمه نصفين: "في
النهار، أشعر أنني غريب، لكنني أداري غربتي
بالعمل والتدريس والمناقشات. العمل هو وطني
في النهار. أما الليل فتلك حكاية! الآن فهمت
شعر امرئ القيس عن الليل. أنا لا أنام – بل
أنام، لكنْ في شكل متقطع. أستيقظ كل ساعة،
فأذهب إلى النافذة كي أرى إذا كان الضوءُ قد
طلع. أنام في العادة مبكرًا. أحيانًا يغالبني
النومُ في التاسعة مساء، وحين أدخل الفراش
يبدأ كللُ الليل. أحيانًا أصرخ، أشتم، ولا
أتذكر الأشياء إلا في شكل غائم. أنهض من
السرير بعد ساعة من النوم المرهق، لأكتشف أن
الشمس لم تشرق، فأعود إلى النوم لساعة أخرى،
وهكذا. أرى في نومي المتقطع أهلي الذين ماتوا:
أبي وأمي وأختي، كما أرى عبد المحسن طه بدر.
أستاذنا طه بدر يأتيني كثيرًا في المنام. هذا
الرجل هو أحد أواخر الأكاديميين المحترمين في
مصر. لو كان بدر حيًّا لما حصل الذي حصل. لو سمع
بدر عبد الصبور شاهين يقرأ تقريره في لجنة
التربية لمنعه من إكماله. لكن جميع أعضاء
اللجنة كانوا مرعوبين من تهمة الكفر. أتخيل أن
بدرًا كان سيتخذ موقفًا آخر. وربما لهذا السبب
يزورني أستاذي في ليلي المتقطع. مصر كلها تعرف
مَن هو عبد الصبور شاهين: نصَّاب في هيئة
عالِم (كان مستشارًا لشركة "الريان"
للأموال). والموضوع الأساسي هو موقفي ضد شركات
الأموال، نقضي للفتوى التي قضت بوضع الأموال
فيها. "والآن،
أسأل: كيف حصل هذا كله؟ إنها بنية فاسدة،
والفساد يحمي الفساد. عبد المحسن طه بدر كان
أخلاقيًّا وصادقًا، كما كان قاسيًا معنا. هذا
الرجل، في نظري، هو رمز الوطن الذي كان. "ليلي
مزيج من حنين وغضب وخوف، لكن النهار ملكي
تمامًا. قلت مرة: "النهار ملكي، ولك الليل،
أيها الوطن!" "غضبي
من الوطن لم يعجب الكثير من أصدقائي
المصريين، لأنهم يتصورون أن الغضب مسألة
شخصية، وهذا ليس صحيحًا. عندما أصدر شاهين
كتابه أبي آدم، وحاول أصدقاؤه القدماء
تطليقه من امرأته بتهمة الكفر، مثلما فعل هو
بي، دافعتُ عنه، وقلت إنه الحريق، وكلنا يجب
أن نقف في مواجهته ونطفئ النار. مواجهة الكتاب
السيئ تكون بأن نكتب كتابًا جيدًا. "القضية،
في نظري، ليست قضية شخصية. إنها قضية طفل
تخلَّت عنه أمه. أنظر إلى مصر، التي هي أمي،
وتدمع عيناي، وأقول: "بخاطرك يا مصر! أردتُ
أن أخدمك، لكنك أنت التي لا تريدينني!"" لا بديل من الوطن! عندما
سألته عن تجربته الفكرية في المنفى، قال إنه
لا يرى أفقًا في المنفى. على المنفيِّ أن
يختار بين الاندماج في المجتمع الذي يعيش فيه
الآن، أو أن يبقى في رحلة يومية إلى الوطن. "اختياري
الفردي هو أن أبقى في الوطن، وبذلك لا يكون
المنفى سوى مكان إقامة. أنا لم أكتب
بالإنكليزية أكثر مما كنت أكتب في مصر بهذه
اللغة. فأنا أعي أن رسالتي هي باللغة العربية.
رسالتي موجهة إلى بلادي. المنفى لا يمثل
بديلاً، لأن المكان سوف يبقى عاملاً مهمًّا
جدًّا. الوطن كان أولاً، قبل أن يكون معنًى أو
رمزًا أو مغزى. الوطن هو الأصدقاء والطلاب
والقراء. لا، لا بديل من الوطن! "المنفى
سمح لي بأن أرى احتمالات تغيير على مستوى
الإسلام. إن وجود مسلمين من جنسيات مختلفة في
تجمعات كبيرة تبحث عن أسئلتها غير الموجودة
في الوطن يسمح بتطوير ما يمكن أن نطلق عليه
اسم فقه الأقلية. هذه أسئلة تنبع من هنا،
وتطرح نفسها على العلماء في العالم الإسلامي.
أستطيع القول إن الأقليات العربية
والإسلامية في الغرب حققت إنجازًا على مستوى
الفقه، ولم تنتقل إلى الثيولوجيا. وهذه هي
المشكلة الحقيقية في الفكر الإسلامي. "على
مستوى آخر، تبدو الجاليات العربية كأنها لا
تملك قضية سوى القضية الفلسطينية. ثم نكتشف أن
أيَّ خطاب يأتي من الخارج يُعتبَر خيانة.
الأقباط المصريون في الولايات المتحدة
يشكلون قوة لا يستهان بها. مجموعة منهم كونت
منبرًا للدفاع عن المصريين، ونشرت ميثاقًا
خاصًّا بالدفاع عن الحريات في مصر، مع
التركيز على مشكلة الأقباط (التخفيف من مشكلة
الأقباط والقول إنها ليست موجودة يصيبني
بالخوف!). قلت إن النص ممتاز، ولكن لماذا نجعل
المنبر خاصًّا بالأقباط وحدهم؟ لماذا لا يكون
منبرًا مصريًّا؟ وهكذا بدأنا التفكير في هذا
الاتجاه، حين اقترح بعض الأصدقاء أن يصدر
الميثاق من داخل مصر، لأن هناك شكوكًا حول
كلِّ شيء يصدر في الخارج. ما هذا التمييز بين
الداخل والخارج؟! "ربما
كان أفضل مثال على ما أقول هو قضية سعد الدين
إبراهيم. أنا لا أدافع عن الرجل، بل أقف ضد
الاتهامات الباطلة، وأشعر أن هناك شيئًا
قريبًا من التكفير عند المثقفين غير
الإسلاميين. الوطن ليس مقبرة! "النظرة
إلى الخارج مليئة بالشكوك، وعلى الشخص الذي
وجد نفسه في المنفى أن يثبت كلَّ الوقت أنه
ينتمي إلى وطنه. ما هذا؟! "سألني
أحد الدبلوماسيين، في إحدى محاضراتي هنا، في
واشنطن: "هل صحيح، يا دكتور، أنك قلت في
إحدى المقابلات إنك طلبت من زوجتك أن لا تنقل
جثتك إلى مصر إذا متَّ في الخارج؟" قلت: "نعم،
يا سيدي، هذا صحيح، لأن الأرض كلَّها هي أرض
الله. أنتم استأتم مني لأنكم تعتقدون أن مصر
هي مقبرة. لا، أيها السادة، مصر مقبرة الغزاة،
لكنها ليست مقبرة المصريين. فحين أُمنع من
العيش في مصر، فهل تعتقدون أن الأمور ستسوَّى
حين أُدفَنُ فيها؟" هل تعلم ماذا جرى لنزار
قباني؟ نعم، دفنوه في دمشق، لكنه عاش حياته
كلَّها في المنفى، ثم أتى في لندن مَن حاول
منع إدخال نعشه إلى الجامع من أجل الصلاة عليه!
الوطن مقبرتنا حين يكون لنا، لكنه –
للأسف – ليس كذلك." وعندما
سألته عن شروطه للعودة إلى مصر، قال إنه محتاج
إلى شكل من الاعتذار: "الشعب المصري كله
عايز اعتذار من الحكومة، وليس أنا فقط." قال
إنه مستعد للعودة، شرط أن تضعه جامعة القاهرة
في لجنة لمناقشة شهادة دكتوراه أو ماجستير في
اختصاصه؛ وهذا يعني اعترافًا بأنه أستاذ في
الدراسات الإسلامية، لكن هذا لم يحصل إلى
الآن. إنها فلسطين! في
نهاية حديثنا، روى نصر حامد أبو زيد عن فلسطين.
قال إنه شعر بتأثر شديد حين منحتْه جامعة
لايدن كرسي Cleveraniga.
فهو أول أستاذ غير هولندي يُمنَح هذا الكرسي
تخليدًا لذكرى الأستاذ الذي وقف في وجه
النازيين. "عندما
صدر قرار من النازيين بفصل جميع الأساتذة
اليهود من الجامعات، ألقى الأستاذ Cleveraniga
محاضرة في جامعة لايدن بتاريخ 26 تشرين الثاني
1940، أعلن فيها استهجانه القرار، داعيًا
الطلاب إلى دوسه بأقدامهم. وبعد المحاضرة،
جرت تظاهراتٌ في لايدن، وأُغلِقَتْ الجامعة
لأنها كانت الجامعة الوحيدة التي اعترضت على
القرار، واعتُقِلَ الأستاذ. في العام 1970،
تقرر إنشاء هذا الكرسي الذي يُمنَح كلَّ سنة
لشخصية عامة في مجال الدفاع عن الحريات،
وخصوصًا الحريات الدينية. "فوجئت
في كانون الثاني 2000 بمنحي هذا الكرسي، فقرأت
عن الرجل، وتماهيت مع مواقفه الإنسانية. بدأت
بإعداد محاضرتي، وقررتُ الكتابة عن الرواية
العربية، وكان في نيتي الكتابة عن ملحمة
الحرافيش لنجيب محفوظ، التي أرى أنها كتابة
ثانية لرواية أولاد حارتنا. ومع اقتراب
موعد المحاضرة، اندلعت الانتفاضة في فلسطين.
عند ذاك سألت نفسي: "ماذا سيكون موقف
الأستاذ الذي دافع عن اليهود في العام 1940،
وماذا كان سيقول لو طُلِبَ منه أن يحاضر
اليوم؟" "إذ
ذاك قررتُ ألا تكون محاضرتي عن الأدب، بل عن
"مفهوم العدل في القرآن"، فبدأت محاضرتي
بالقول: "إني فكرت في الكتابة عن مفهوم
العدل في الإسلام، لكني وجدت صعوبة في التحدث
عن موضوع العدل، لأن العدل يُقتَل اليوم في
كلِّ مكان – وأنا أتكلم عن القتل اليومي
للفلسطينيين، وجريمتهم كلها أنهم يريدون
وطنًا ومدرسة. سوف أستعيد أمامكم ما قاله Cleveraniga
عن النازي في هذه الجامعة في العام 1940: "عنف
يستند إلى قوة عمياء." إنها مخالفة واضحة
للقانون الدولي. فلنضع هؤلاء تحت أقدامنا،
ولننظر إلى الأعلى، لأني سآخذكم في رحلة إلى
القرآن."" قال
نصر حامد أبو زيد: "قضيتنا، نحن المثقفين،
هي الحرية والعقل والعدالة. من دون هذه
المفاهيم، نفقد دورنا، ونتحول إلى شهود زور
على زمننا." "ولكن
لماذا رويت لي حكاية هذه المحاضرة؟" سألته. "من
أجل أن أقول عن العدالة. في منطقة تقاوم
هذا الظلم الفادح الذي صنعه إسرائيل، لا
نستطيع سوى أن نتمسك بالعدالة كقيمة أخلاقية
وسياسية وسلوكية. من أجل هذا أخبرتك حكاية
المحاضرة. متى نعي أننا نتعرض لظلم فادح، وأن
علينا مقاومته، ليس من أجلنا فقط، بل من أجل
الدفاع عن حقِّ الإنسان، في كلِّ مكان وزمان،
في العدالة." "ومصر؟"
سألته. سألته
عن مصر كي نستعيد بداية الحوار، وكي أسمع منه
كيف طُلِبَ منه أن ينطق بالشهادتين في
المحكمة. لكن نصر حامد أبو زيد رفض الخضوع
ورفض أن يسمح للمحتسبين، الذين يجسِّدون لحظة
الانحطاط في الثقافة العربية، بابتزازه.
فمناقشة كتاباته العقلانية لا تتم في أروقة
المحاكم، ولا في منابر مجموعة من الجهلة
الذين لا يعلمون أنهم، بدفعهم الثقافة
العربية إلى هاوية الجمود، يصنعون من الثقافة
والدين صنمًا جامدًا، ليس سوى الوجه الآخر
للاستشراق. قال
نصر حامد أبو زيد إن الثقافة العربية حية
لأننا نصنعها. قال
إن المنفى لا يخيفه لأن الكلمة أقوى من الحدود
والشرطة والقمع والانحطاط! *** *** *** عن
ملحق النهار، الاثنين 25/06/2001 حاوَرَه:
إلياس خوري [1]
جميع هذه الكتب صادرة عن "المركز الثقافي
العربي". (المحرِّر) [2]
من كتب نصر حامد أبو زيد الأخرى: الإمام
الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية (سينا
للنشر، طب 3: 1998)، مفهوم النص: دراسة في
علوم القرآن (المركز الثقافي العربي، طب
4: 1998)، الخطاب والتأويل (المركز الثقافي
العربي، طب 1: 2000)، النص، السلطة، الحقيقة:
إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة (المركز
الثقافي العربي، طب 4: 2001). (المحرِّر) [3]
فهم رمزية سفر يونان ليس بهذه السهولة في
الواقع. فالنبي يونان (يونس في القرآن) لم
يغضب لأن الرب سيُهلك القرية (نينوى)، بل
لأن الرب أوعز إليه أن ينذر أهلها بأنه
سيُهلِكُها بعد أربعين يومًا، ثم ندم على
غضبه عليها نتيجة توبة أهلها استجابةً
لإنذار يونان، في حين أن النبي كان واثقًا
منذ البداية من رحمة الرب لأنه "إله رءوف
رحيم طويل الأناة كثير الرحمة ونادم على
الشر" (4: 2)، ولهذا حاول أن يهرب إلى ترشيش
(أقصى العالم في نظر العبرانيين) من وجه
الرب (1: 3)، لكن من غير جدوى. سِفْر يونان
يطرح مسائل الشر والرحمة والتوبة: إذا كانت
رحمة الإله "كثيرة" فلماذا يحتاج إلى
استتابة الإنسان ليُنزِلَ رحمته؟ ما هو دور
رسالة النبي في هذه الاستتابة؟ وهل يستطيع
النبي أن يتملَّص من رسالته هذه بدافع علمه
أن ربَّه راحمٌ لا محالة؟ (المحرِّر)
|
|
|