|
جناح
فراشة... رباط حذاء من
المعلوم أن البشر محكومون
بإشراطات وجودية وبنيوية وطبيعية تجعل
الحديث عن «حرية مطلقة» أدخَل في باب الجهالة
أو الجنون – ناهيكم عن البنى والنظم التي
أقامها البشر منذ وجودهم حتى الآن والتي تزيد
من مدى تعقيد القيود التي تحدُّ من حرية
الإنسان، بحيث يبدو الفكاك منها متعذرًا. السؤال الذي
تناقشه افتتاحيةُ معابر هذه هو: هل يبحث
الإنسان عن الحرية حقًّا؟ هل يسعى إليها، وهل
يعرف كيف يقوم بذلك؟ وإنْ كان صادقًا في مسعاه
ورغبته، لماذا يزداد تخبُّط البشر في هذا
المنحى كلما سارت البشريةُ أبعد في دروب
التقدم؟ «النضال في
سبيل الحرية» هو من الشعارات التي طالما
رفعها البشرُ منذ أن ظهرت هذه الكلمة إلى
الوجود. وقد بلغت درجة «الصدق» في رفعهم هذا
الشعار حدَّ أنهم يضحون بأغلى ما لديهم –
حياتهم وحياة أولادهم – من أجل بلوغ هذه
الغاية. ولكن عند التمعُّن في الأمر أكثر، نجد
أن البشر غالبًا ما ينحرفون عما يناضلون من
أجله، وأن هذا الشعار يتخذ معنًى مغايرًا من
الناحية العملية. فـ«النضال في سبيل الحرية»
كثيرًا ما يصير نضالاً في سبيل شيء آخر،
كالزعيم أو العشيرة أو العقيدة إلخ – مما
يعني أن البشر إنما يقاتلون سلطةً ما لإحلال
سلطة أخرى محلَّها، لينتقلوا بالتالي من
عبودية إلى أخرى، وليتم تغيير المتسلِّط أو
السلطة ليس إلا، وأنهم لا ينتقلون من
العبودية إلى الحرية، وإنْ توهموا ذلك. يعرِّف كارل يونغ الإنسان
بأنه "كائن متديِّن" Homo
religiosus.
وهذا يعني أن الإنسان يحتاج دائمًا إلى شيء ما
ينتمي إليه، يتعلق به، يقدِّسه ويعبده، في
محاولته جعلَ حياته ذات قيمة ومعنى. وبطبيعة
الحال، ليس من الضرورة أن تكون عقيدةُ
الإنسان دينًا سماويًّا. فإله الإنسان هو ما
يقدِّسه الإنسانُ ويكون مستعدًّا للتضحية
بأغلى ما في الوجود في سبيله، كالعقيدة
والحزب والانتماء، أو حتى المال – مما يدفع
بعضهم إلى القول بأن الإنسان «عبد» بطبيعته:
فهو يبدو عاجزًا عن العيش دون آلهة ومقدسات! في بحثه حول
ماهية الميتافيزيقا والحقيقة والحرية، يربط
الفيلسوف مارتن هيدغِّر بين الحرية والحقيقة
والكينونة، فيعرِّف الحرية بأنها «ترك
الكائن يكون»، ويفسِّر هذه العبارة بأنها لا
تعني اللامبالاة أو عدم الاكتراث، بل تعني
الإقبال على الكائن، والانفتاح عليه، حتى
ينكشف، لإدراك حقيقته على ما هي عليه، مما
يسمِّيه «الحقيقة الأصلية»، بما يذكِّر
بالحكمة الشرقية القديمة التي تقول: «دَعْه
يجري... دَعْه يمر!» لكن زميله الألماني الآخر
نيتشه يعترض على هذا التجريد اعتراضًا
شديدًا، فينكر كلَّ قول يدِّعي أن هناك شيئًا
قائمًا بذاته، ويعترض، بالتالي، على الحقيقة
بذاتها وعلى الكائن المعزول القائم بذاته.
وقد أثبتت الكشوفُ العلمية، فيما بعد، أن
نبوءة نيتشه كانت صحيحة إلى أبعد حد: فالكائن
المعزول عدمٌ لا وجود له، والأشياء تنوجد
وتتحدد من خلال علاقاتها وتفاعلاتها، أو كما
تقول الحكمة الجديدة–القديمة: «الشيء هو ما
هو عليه لأن الأشياء الأخرى هي ما هي عليه»،
بحيث يبدو عالمنا عبارة عن شبكة في منتهى
التعقيد من العلاقات والتفاعلات دائمة
الحركة والتغيُّر. فالحرية، إذن،
ليست شيئًا يمكن لنا الحصول عليه، كما أنها
ليست هدفًا يمكن لنا بلوغه، لأننا إن نظرنا
إلى العالم كنسيج معقد من العلاقات
والتفاعلات، سوف نضفي معنًى مختلفًا على هذا
المفهوم، وسندرك أن الحرية تتجلَّى من خلال
تحقيق التناغم في علاقات البشر والشعوب. لذا
كان كارل ماركس محقًّا إلى أبعد حدٍّ عندما
قال: «إن شعبًا يضطهد شعبًا آخر ليس حرًّا». بطبيعة الحال، هناك ما يمكن
تسميته وهم الحرية. فالشعب الذي يتحرر من
احتلال الأجنبي لوطنه يعتبر أنه قد تحرر. ولكن
الواقع يقول إنه قد استبدل بسيد أجنبيٍّ
سيدًا محليًّا، ليكتشف فيما بعد أن عليه
النضال من أجل الحرية من جديد، وليرى أيضًا
بأنه لم يحصل على غايته المنشودة. ويعتقد بعض
الناس أن بلوغ الحرية يتم من خلال التخلص من
أشكال الأنظمة والسلطات كافة، كما ذهبت بعض
التيارات الأنارخية (اللاسُلطوية)، في حين
يلجأ آخرون إلى التنصل من أشكال المسؤولية
كافة، على طريقة الهِپِّيز Hippies،
بينما يجد غيرهم حريته في اعتزال العالم أو
التوحد في الصحارى والغابات والجبال. لكن...
كما يقول الهندوس: «ليس هذا، ليس ذاك».
فالخيبة هي الحصاد النهائي لهؤلاء جميعًا،
لأن المعادلة في منتهى البساطة: إنْ كان
الإنسان يعرف ما يبحث عنه، سيتوقف عن البحث؛
ومن جهة أخرى، يعجز الإنسان عن البحث عما يجهل! ثمة صلة وثيقة
بين الحرية والإدراك. لكن الإدراك الذي نقصده
هنا يختلف عما ذهب إليه أتباع المذهب
الإنساني عندما عرَّفوا الحرية بأنها «الاختيار
النيِّر»، في محاولة لتمييزها عن
الديموقراطية. ولكن إن كان المرء «مضطرًّا»
إلى الاختيار، فأية حرية هذه؟! الحرية ليست
خيارًا أو عملية اختيارية. فهذا النمط من
التفكير يستمر على معاملة الحرية كشيء، أو
كموضوع خارجي، يمكن الحصول عليه أو سلبه من
الآخرين. ولكننا نعلم أن هذا غير صحيح. في المسائل
الوجودية، نجد أن هذه التساؤلات دائمًا ما
تكون مترابطة فيما بينها؛ وبالتالي فإن البحث
في أية مسألة وجودية لا يكون معزولاً عن
كينونة الإنسان ولا عن نمط حياته وشخصيته
وطبيعته والبيئة التي يعيش فيها إلخ. يقول كارل
ماركس: «لكلِّ نمطٍ من الحياة نمط من التفكير»
– وهذا صحيح. لكن العكس صحيح أيضًا. يقودنا
هذا الحديث إلى التساؤل التالي: ما الذي يحدد
مدى قبول الإنسان، أو رفضه، للإجابات
المقدَّمة له مسبقًا عن التساؤلات التي تشغل
باله؟ فهذا هو تحديدًا سؤال الحرية: هل يعيش
الإنسان ضمن الأطُر المحددة مسبقًا، أم
يرفضها ويبدأ بالبحث عن البدائل الجديدة؟
بعبارة أخرى: هل الآلة هي التي تقرِّر، أم
الكائن الحي «الواعي»؟ هناك حاجة إلى
تسليط الضوء على تناقض جوهري يتنازع الإنسان
– فردًا أو جماعة – بين رغبته في الحرية –
أفكاره عنها، ومشاعره تجاهها، وسعيه إليها –
وبين ممارسته العملية والنتيجة الفعلية لهذا
السعي. ومن أجل توضيح هذا التناقض، لا بدَّ من
الإشارة إلى حقيقة أن الكون – وبالتالي
الإنسان – تتناهبه قوتان أساسيتان: الأولى
تنحو به نحو الاستقرار والهمود والانغلاق
والموت، وهي من سمات الحركة الميكانيكية
للمادة في أضيق دلالاتها (وهذا ينطبق كذلك على
الأفكار والمشاعر والعواطف، بل وعلى السعي
اليومي للإنسان في أغلب مناحيه، وعلى
التفاعلات الاجتماعية والاقتصادية للدول
والمجتمعات في معظم جوانبها وأحوالها). ومن
هذا المنظور يغدو «السعي نحو الحرية»، في
حقيقته، سعيًا نحو الاستقرار، مما يعني سعيًا
نحو الانغلاق والركون إلى أحضان الأصول
والتراث والعادات والتقاليد، أو «الرائج»
بتعبير هيدغِّر. أما القوة
الثانية التي تجذب الإنسان وتسير به في دروب
التقدم، بالمعنى الحقيقي للتقدم، فتتجلَّى
فيما يمكن تسميته «توقًا» إلى الاكتشاف، أو
المجهول، في سيرورة إبداعية بحثًا عن الجديد،
بل عيش الجديد في كلِّ لحظة، والكينونة في
الحاضر في كلِّ آنة – وهو ما أسميه هنا الحرية.
فالحرية، بالتالي، لا تعبِّر عن معطى مسبَّق،
ولا تستدعي غايةً نهائية، بقدر ما هي مغامرة
في الانفتاح على المجهول والاحتمالي
والقَلِق وغير المستقر – الأمر الذي طالما
أثار لدى الإنسان الخوف وعدم الاطمئنان.
فالإنسان يطيب له الركونُ إلى المعلوم
والمعتاد، في حين أن المجهول وغير المعتاد
عادةً ما يثير حفيظته ووجله، وبالتالي، رفضه
وتمنُّعه. هاهنا يتجلَّى
التناقض الجوهري الذي سبق ذكره: فإنسان
اليوم، محجوبًا بحجاب الثقافة والتكنولوجيا،
يقيِّد نفسه بمزيد من القيود في سعيه نحو ما
يتوهَّمه حرية، في حين أنه، في حقيقة أمره،
إنما يسعى إلى الأمان الذي لا يكون إلا في
الرائج والمعروف والأصيل والقديم، بينما
الحرية، باعتبارها سيرورة كشفٍ وتفطُّن
وتحفُّز، وبوصفها إدراكًا لسيرورة التغير
ودوامه، تكمن حكمًا في «حيوية عدم الأمان» –
بحسب عبارة جِدُّو كريشنامورتي. من هذا المنطلق
نربط بين الحرية والإدراك، حيث إن فهمًا
مختلفًا للكون والوجود والعالم والحياة لا
بدَّ أن يعطي معنًى مختلفًا لمفهوم الحرية. بل
حريٌّ بإدراك كهذا أن يغير شكل المسائل
المُقلِقَة، وطبيعتها وطرق التعامل معها. فمن
الجلي أن «الساعي إلى الحرية» ليس أكثر من
تائه في مجال الرائج، أي الإيديولوجيا
والعقيدة والتقليد والنقل. فالأسئلة الواثقة
والإجابات المنتهية مجالها هو المغلق. نتعلم من تاريخ
الثورات العلمية والفكرية، بل حتى من تاريخ
اللاهوت، أن الجديد، لكي ينبثق، لا بدَّ له من
إزاحة القديم. ومن ذلك التاريخ نستلهم، على
سبيل المثال، رمزية تحطيم الأصنام
الإبراهيمية والمحمدية، أو رمزية نقض الهيكل
المسيحية، وغير ذلك من أمثلة ساطعة على أن
القديم يبلغ حدًّا لا يعود في الإمكان إصلاحه
أو ترميمه، ولا يعود قابلاً للاستمرار. لذا
فإن أية ثورة فكرية لا بدَّ أن تبدأ من نقد
القديم، وصولاً إلى رفضه و«الكفر» به، من أجل
تجاوُزه. وهذا الرفض ينبغي ألا يقوم على نوازع
الغضب واليأس والانتقام، بل على الإقرار
بحتمية التطور. لذا فإن هذا الرفض ينبثق من
إدراك الجديد. لكن لا بدَّ من التنبيه إلى أن
هذا الجديد لا يولد معزولاً، ولا يمكن له
القطع مع الماضي، إنما يمكن البناء عليه من
خلال عمل نقديٍّ لا يتوقف لكي يستمر الجديدُ
بالولادة. إلا إن هذه الولادة لا تحدث عندما
يتم تحنيط القديم وتقديسه. لذا فالبداية (وفي
الحقيقة لا وجود لهذه «البداية» عندما يجري
الحديث عن سيرورة دائمة) تكون بإزالة هالة
القداسة عما يُعتبَر مقدسًا. و«المقدس»،
بتعريف العالم الفرنسي بَسَراب نيكولسكو، هو
كل ما يشكِّل «نطاق مقاومة مطلق للإدراك». فما
هو الشيء الذي يمكن أن يقاوم إدراك البشر
مقاومةً مطلقة؟ تجنُّبًا لأي
التباس، لا بدَّ من التمييز بين «الكائن» أو «الشيء
المقدس» وبين مفاهيمنا حول هذا الكائن أو هذا
الشيء. ومن هذا المنظور، يمكن اعتبار كل ما في
الوجود مجرَّد أشياء وموضوعات، ولا يمكن
عدُّها مقدسًا عند أخذ انفتاح المعرفة بعين
الاعتبار. وفي الحقيقة، إن ما آلَ إليه مصيرُ
البشرية يجبرنا على وضع مجمل النماذج
الإرادية والمعرفية والعقائدية تحت مجهر
النقد، وذلك عندما نرى «إخفاق» البشرية في
تحقيق الطموح المثالي للإنسانية، بل عندما
نرى البشرية تقود الحياة برمتها إلى الهلاك. من كلِّ ما سبق،
يبدو واضحًا أن سؤال الحرية ليس مستقلاً
بذاته، بل يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمجمل
الأسئلة الوجودية التي تشغل البشر. ويغدو
جليًّا أكثر أن الأهمية القصوى ينبغي أن
تُعطى لدوافع البشر، والأدوات التي
يستخدمونها، في معالجة هذه الأسئلة، لا
للإجابات التي يقدمونها والتي سرعان ما تتحول
إلى عقائد وأديان ثابتة تنفي، وتلغي، القانون
الأساسي للوجود، ألا وهو التطور والتغير
واللاثبات. لذا فإن مقاربة
سؤال الحرية تحتاج إلى «عقل مختلف» عما هو
متعارف عليه – وإلا فسيبقى البشر سائرين في
التيه، الذي هو مجال الغلط وأساسه، كما
يعبِّر هيدغِّر، محتمين بالرائج ليضمنوا
لأنفسهم وهمًا من الطمأنينة المريحة والكسل
اللذيذ. لكن «عقلاً مختلفًا» لا يتشكل من
تلقاء ذاته، خصوصًا بعد هذا التشويه الثقافي
والتربوي والإيديولوجي كلِّه، ولا يكتسبه
المرءُ عِبْرَ قرار، أو من خلال الرجاء
والتمني. فلكي تدخل الشمس إلى الغرفة لا بدَّ
من إزاحة الستائر وفتح النوافذ أولاً. أبدعت المدارس الباطنية
مفهوم «التناغم» harmony
للإشارة إلى الصلاح؛ أي أن ما هو «صالح» هو ما
يكون متناغمًا مع الوجود. بل إن بعض العلماء
ذهبوا إلى الحديث عن «الطبيعة الحق»، و«الكينونة
الحق»، كما فعل إريش فروم على سبيل المثال لا
الحصر، من أجل شرح معنى التناغم. وفي حديثنا عن
الحرية، لا بدَّ للتناغم من الحضور – وبقوة.
فعندما يكون الفاسد هو السائد لا بدَّ أن
يُنتج ما هو فاسد. ولعلنا نلحظ أن أفكارنا
ومفاهيمنا عن الحرية إنما هي نتاج بؤسنا
وفسادنا. فأي خيرٍ يُرتجى من هذا كلِّه؟! الإنسان، كما
الحياة والوجود، كلٌّ متفاعل. ولكي يتمكن من
طرح الأسئلة الصحيحة يحتاج إلى الصفاء
والبراءة، متحررًا من رُكام الجهالات التي
ظلت تتراكم آلاف السنين. ومن أجل ذلك يحتاج
إلى صقل مرآة عقله وقلبه جيدًا قبل أن يكون
قادرًا على الرؤية. ولهذا السبب كانت المدارس
الفلسفية الشرقية، وخصوصًا مدرسة زِنْ
البوذية اليابانية، أقدر من العقلانية
الغربية بكثير على معالجة هذه المسائل، من
خلال مفهومها الأساسي المتعلق باتحاد
الإنسان بالطبيعة والوجود، وعبر تركيزها على
العمل اليومي باعتباره أصل الاستنارة. يقول
الحكيم جوشو: «الاستنارة هي فِكرك اليومي».
حيث إن سلامة كلٍّ من الجسم والنفس والعقل
متعالقة فيما بينها؛ وبالتالي، فقبل أن
يتنطَّع الإنسان للأسئلة «الكبيرة» عليه أن
ينظر في أموره «الصغيرة» أولاً. وعند ذاك سوف
يتجلَّى العالمُ للإنسان دون غَبَشٍ أو ضباب،
ليغدو قادرًا على الإبصار والسمع و... الفهم. ***
*** *** |
|
|