آلات التفكير

عن الحواسب والبشر

سمير كوسا

"إن كان هناك ذكاءٌ اصطناعي فهذا يعني أن الإنسان آلة"؛ "المعلوماتية تتعامل مع المبنى، وليس مع المعنى" – هذا ما يقوله جاك أرساك، أحد رواد المعلوماتية في فرنسا والعالِم الشهير دوليًّا بأبحاثه في حقل البرمجة.

يتميز كتاب أرساك آلات التفكير: عن الحواسب والبشر[1] عن كتب عديدة غيره في أن المؤلِّف، على الرغم من تبنِّيه أطروحةً خاصةً به، يجيد فصلَ الجانب العلمي المبرهَن عليه منطقيًّا وعمليًّا عما هو حُكْم مسبَّق أو تعميم، وبذلك يترك القارئ حرًّا في اختيار الأطروحة التي تناسبه.

يتمحور الكتاب، إذن، حول موضوعين رئيسين، هما: العلم (وخاصة المعلوماتية) والمعنى. ويدافع المؤلِّف عن المعلوماتية، مبينًا أن المزاعم الواسعة الانتشار والقائلة بأن فنون البرمجة لا تحتاج إلى نهج تعليميٍّ طويل وأن المعلوماتية تفضي إلى ثقافة "سطحية منحطة" مزاعم غير صحيحة، حيث يبين أرساك، من خلال أمثلة عديدة وطويلة، أن المعلوماتية علم رصين، ذو نهج يستلزم سنواتٍ من التحضير.

أما الموضوع الثاني فهو يخص المعنى. ويعتقد أرساك أن مصطلح "الذكاء الاصطناعي" Intelligence Artificielle مصطلح ملغوم؛ إذ إنه يغطي حقيقتين مختلفتين: إنه يرمز إلى التقنيات الخاصة ببعض الأبحاث المعلوماتية والخاصة بالتطبيقات التي ليس لها حل منهجي، كالتعرف بواسطة الآلة على اللغة الطبيعية أو الخط المكتوب إلخ. ويتفق أرساك تمامًا مع هذا الاتجاه، لكنه يرفض التأكيدات القائلة بأن الآلة ستتمكن من التفوق على الفكر الإنساني في وظائفه بالاستناد إلى نتائج جزئية.

يَبْسط المؤلِّف آراءه من خلال عرض شائق يتعرف من خلاله القارئ في دقة إلى بنية الكمپيوتر الوظيفية، وأسُس البرمجة ولغاتها، وقضية إدخال الكمپيوتر إلى المدرسة وتشعباتها العديدة...

ويقول أرساك إن "الإعلام نص يقبل تقديم معرفة"؛ أي أنه يفصل الإعلام عن المعرفة التي قد يحتويها. وهو كذلك يفصل النص عن المعنى: النص موجود بنظر الجميع؛ أما المعنى فهو لبعضهم فقط. ليس المبنى، بالتالي، هو عينه المعنى، على الرغم من ارتباطهما الوثيق. وفي نظر أرساك، ليس المعنى في الكلمات أو في البُنى: "حامل المعنى هو الكلمة، أما المعنى فهو في رأسي، تثيره الكلمة"؛ "المعنى يتسامى إذن على اللغة".

يشرح أرساك في هذا الصدد طرائق الذكاء الاصطناعي والمشكلات التوافقية (أي حدود الزمن اللازم لكي تعطي الآلةُ ردًّا، وحدود المكان أيضًا) التي واجهها والتي أدت إلى استخدام استراتيجيات للتوصل إلى الحل، وإلى ابتداع الأنظمة الخبيرة واستخدامها. يقول:

إنْ كان ثمة ذكاء اصطناعي موجود فإن الذكاء البشري، بالتالي، هو من طبيعة ميكانيكية. الإنسان الذكي آلة. وقد لا يكون الإنسان الكامل (أو في كلِّيته) آلة إذا قبلنا فكرة أن الروح لا تُختزَل إلى الذكاء.

ويضيف أرساك أنه إنْ نجح الذكاء الاصطناعي في مشروعه (نسخ الفكر البشري كلِّه) فإننا سنجد جوابًا لهذه المسألة. لكني هنا لا أتفق تمامًا مع المؤلِّف. إذ إنه يتبنَّى تعريفًا ساذجًا للمادية. فالمادية الحديثة لا تفترض أن الفكر من طبيعة ميكانيكية فقط!

أما المسألة الثانية التي يثيرها الذكاء الاصطناعي، فهي مشكلة اتخاذ القرار مكان الإنسان في مسائل حيوية (أي تستلزم المعنى). وطبعًا يربط المؤلِّف هذه المسألة بسابقتها، ليصل إلى أنه إن كان ثمة ذكاء اصطناعي هنا فليس هناك معنًى لنصٍّ ما. يقول المؤلِّف إن هناك "أزمة معنى" اليوم:

ليس الشر في العلم. إنه في المكانة التي منحناها للعلم، معتقدين أنه يملأ الكون...

لا، ليس كل استدلال حساب. لا، ليست المعارف العلمية هي وحدها المعارف. يجب أن نذكر في الوقت ذاته عجائب العلم [...]، لكنْ يجب ألا نعطيه من الأهمية أكثر مما يستحق: إنه ليس ثقافتنا كلها. فهناك الفن، الشعر، الموسيقى، الميتاعلم. العدو ليس العلم، بل العلموية scientisme.

تلك هي الكلمات التي يختتم بها أرساك كتابه الرائع الذي يستحق القراءة لسببين كما بينا: فهو مرجع علمي دقيق وبسيط عن الموضوع، وتفكُّر عميق في القضايا التي تثيرها المعلوماتية.

*** *** ***