|
صراعُ المَفَاهيم وصنَاعةُ الأربَاب في الدِّين الإسلامي 2
10 الله والشكل الديني لسنا في صدد بيان بحث الحقيقة الإلهية في الإسلام. فهو من الديانات التوحيدية بحسب التصنيف العلمي والديني لمفهوم الديانات، على الرغم من إشكالية المصطلح على الصعيد العقلي المعاصر، كما بينَّا في التحولات الدينية السابقة على الديانات الثلاث التي تُسمَّى بـ"الديانات الكتابية" (أي التي لها كتاب مقدس). فعلى الرغم من أن الديانات الأخرى كلَّها تمتلك هذا الكتاب – وهو كذلك مقدس – فإنها مارست مجموعةً من التحولات في استحضار الحقيقة الإلهية في منحوتات أو أشكال مركَّبة أو تجلِّيات على هيئة مخلوقات معينة. ومن هنا فإن هذه الديانات تسمَّى بالديانات الوضعية أو "الإشراكية"، بحسب التعريف المعجمي للديانات الثلاث، وذلك نسبة إلى الإشراك "التجسيدي" للحقيقة الإلهية في كينونة معينة، متحركة أو ساكنة، مخلوقة أو مصنوعة، وبالقياس إلى الديانات التوحيدية التي ارتبطت بالإله الواحد الأحد، الذي لم يتخذ أيَّ شكل مرسوم أو مجسَّد له – ماعدا الديانة المسيحية التي شاهدت الله في فترة زمنية معينة في نزول الله الآب في جسد المسيح، منقذ البشرية ومخلِّصها. أما الديانتان الإسلامية واليهودية فهما مرتبطتان بالإله الواحد غير المرئي أو المجسد، ولكلٍّ منهما نبي ناقل للخطاب الإلهي في كتاب مقدس: اسمه التوراة في اليهودية والقرآن في الإسلام. ومع ذلك، تبقى الديانات الثلاث – اليهودية والمسيحية والإسلام – مشتركةً في التسمية الأولى لمسمَّى التوحيد في جَمْع الإله والأرباب في حقيقة واحدة اسمها الله أو الآب–المسيح أو يهوه. وتتحدث الكتب المقدسة عن صفات الله وأفعاله والحقائق التي ترتبط به. إنما تتفاوت المعاني والإشارات والرموز والحقائق في التعامل مع هذه الحقيقة في السياقات المعرفية والإيمانية للديانات الثلاث التي لا يعترف بعضُها ببعض؛ بل في بعض الأحيان، أو معظمها، يعتبر بعض الديانات بعضَها الآخر أنه ديانة تمثل الشيطان! وعلى الرغم من أن هناك تقاربًا لفظيًّا وتاريخيًّا بين الديانتين اليهودية والمسيحية، إلا أن الإسلام لم يُعترَف به كديانة إلهية في سياق النظام الديني لليهودية والمسيحية. وكما هو معروف تاريخيًّا، خاضت هذه الدياناتُ حروبًا طاحنة بعضها ضد بعض في فترات تاريخية مختلفة، خوضًا مباشرًا أو غير مباشر؛ وحتى زمننا الحاضر، مازال الصراع باقيًا، ويبدو أنه مستمر إلى الأبد أو إلى نهاية العالم، وإنْ بأشكال مختلفة وبطُرُق متنوعة. والمهم أننا في صدد بيان انشطار الأرباب في الديانات في شكل عام، وفي الإسلام، كنموذج تطبيقي يهمنا البحثُ فيه الآن، في شكل خاص. والمعروف أن هذه الديانات انشطرتْ إلى مذاهب وملل ونحل، مختلفةً في النظر إلى الرب المسمَّى نفسه في الديانة الواحدة، فاختلفت التفاسير وطُرُق التعامل مع الرب نفسه. وهذا الانشطار خلَّف وراءه شكوكًا وانهياراتٍ ومعاركَ داميةً في الدين الواحد نفسه. وتجتمع هذه المذاهب والملل والتيارات الدينية تحت مسمَّى ديني واحد، غير أنها في الحقيقة تختلف في المعاني، على الرغم من تشابه التسميات والانتساب إلى مسمَّى الدين الواحد؛ وهذا يعود إلى الادعاء الصارم لكلٍّ من هذه المذاهب بأنه يمثل "حقيقة" هذا الدين، وأنه المخلص لمبادئه الأولى ولحقائقه ومعانيه الإلهية، وأنه لم ينسلخ هذه عن التسمية الأولى للدين ومازال مرتبطًا بالمسمَّيات والمصادر الدينية الأولى نفسها، على الرغم من أنها، بطبيعة الحال، كونت لنفسها أربابًا لهم نَفَس خاص في التعامل مع المعنى الأول للظهور، وارتبطت بتاريخ وشخصيات ونماذج إيمانية تدعِّم تواصلَها وارتباطَها واستمرارَها، بوصفها الحق الأول للدين وتمثِّل للأصالة الأولى لظهور الرب الذي يجب أن يُتبَّع. وكما ذكرنا سابقًا، فإن هذه المذاهب تختلف من حيث جوهر الارتباط بعضها مع بعض، ولها رب يتفق في جوانب مع الأرباب الآخرين في المذاهب الإسلامية، فيما هو يختلف مع بعضها الآخر: فبعض الأرباب يتقاطع مع أرباب ويختلف مع أخرى، وليس بينها أي اتفاق إطلاقًا إلا في المسمَّيات، كالعلوية في الإسلام، مثلاً، والصوفية، وبعض الفرق الشيعية، والسلفية عند السنَّة، وشهود يهوه وبعض الفِرَق المسيحية، والقبالة في اليهودية، وباقي الديانات الأخرى. لهذا نرى الله متنوع الحضور في الديانات، إن لم نقل متعدد الظهورات، كما هي الحال في الأساطير القديمة التي كانت انقساماتُ الإله القديمةُ فيها متعلقة بالوظائف الطبيعية للحياة والكون. وانقسامات الإله في الديانات الكتابية هي انقسامات في المفاهيم والمعنى؛ وهي كذلك انقسامات تكتلية وتمثيلية لمجاميع عقائدية وأصولية وصراعات لغوية وتفسيرية، على الرغم من أن الانقسام في النهاية يكون وظائفيًّا على أساس صراع المفاهيم واللغة في تحديد الهوية التي سيكون لها الدور الفعال في شحن الأرباب بالرموز والتقديس العقائدي، بحيث يصير الرب الشكلَ الإيماني للممارسة السلوكية للمؤمنين، متمثلاً في طقوسهم وشعاراتهم وصراعاتهم المستمرة، فكريةً مجردةً كانت أو حروبًا مسلحة. وبما أننا في صدد استعراض الشكل الظهوري والواقعي للأرباب في الديانات، وأن الإسلام، كما ذكرنا، سيكون النموذج الأول لهذه الأطروحة في معرفة الشكل الربوبي فيه وفقًا لهذه النظرية في تعدد الأرباب داخل الديانة الواحدة نفسها، فسوف ننأى عن ممارسة أيِّ فصل معرفي أو سلوكي بين الأرباب والمعتنقين، باعتبارهم يمثلون لـذاكرة مشتركة في التعبير عن الشكل الإيماني والحياتي والثقافي، في شكل خاص، والمعرفي، في شكل عام. 11 الرب في المذاهب الإسلامية يتحدد مفهوم الربوبية في المذاهب الإسلامية بحسب طبيعة المذهب المعرفية والعقائدية والسلوكية. ولو نظرنا إلى الطبيعة التكوينية للمذاهب الإسلامية واقعيًّا، وإلى تشكيلاتها العقائدية والإيمانية، نجد أن السلوك الواقعي للمعتنقين يختلف كليًّا عن الرواية النظرية في إجماعهم على ربٍّ واحد هو رب التسمية الدينية الأولى، أو بالمعنى الأعم، الله الذي تنادي به الديانات الأخرى جميعًا. فلا يمكن لنا أن نرى لهذا المعنى الإلهي أية ملامح حضورية خارج المفهوم الديني، على الرغم من أن هذا المعنى يحمل الإطلاق التام في التنظير الديني لهذه الحقيقة. فالمسافة المعنوية للاتصال بالحقيقة المطلقة خارج الديانات ليس لها وجود حقيقي، كما ليست لها فعالية منتجة على الصعيد الإيماني والاعتناقي والسلوكي؛ بل إننا نرى الرب الحضوري للدين أو المذهب أكثر فعالية من خلال تحديد ملامح حضوره واقعيًّا في تنظيم سلوك المتدينين وفقًا لخطابات متبادلة مع الحقيقة الإطلاقية. ويكون الرب الديني أكثر فعالية وحضورًا في "إرضاء" معتنقيه من حيث تقسيم الأرزاق والحصص الإيمانية والمراتبية الهرمية لقيادة مفهوم "الأمَّة" المؤمنة أو المتدينة للربِّ الذي يتصف بالواقع التعبيري لهذه "الأمَّة" المعتنقة. لكنْ في حقيقة الاعتناق والسلوك الإيماني والواقعي لهذا المعنى المطلق تختلف التشكيلات الانتمائية للمعنى الواحد، حتى إننا نرى أربابًا متعددين في الدين الواحد نفسه. ويصل الأمر في الاختلاف حول الاعتناق الربوبي، في كثير من الأحيان، إلى الاقتتال والحرب. وفي حقيقة التصريحات التضمينية في الواقع التشريعي، تُعتبَر بعض المذاهب ضالةً أو مُضِلَّة، أو حتى مُشرِكَة، في اعتقادها الربوبي. وهذه الاتهامات المتبادلة بين الأرباب ليست "إعلامية" فقط، بل هي جوهر الموضوع العقائدي للمذاهب الإسلامية. وإن التسمية الجامعة حول كلمة الله ليست غير تسمية شكلية، تتطابق مع التسمية الدينية لهذه المذاهب حينما تكون هناك صورة إعلامية للتعبير عن وجهات النظر الشكلية في رأي المذاهب بعضها ببعض. وإن بعض المذاهب تتجاوز هذا الشكل الإعلامي، الذي كان منضويًا تحت مسمَّى "المصلحة العليا للدين"، إلى تكفير بعض المذاهب، بل الإفتاء في تحليل قتل معتنقيه جماعيًّا، دون أية رحمة من الرب الذي يؤمنون به: "تعرض عليهم التوبة، فإن لم يتوبوا فتكون دماؤهم حلال وأموالهم من الفيء." هذا ما يتبنَّاه المذهب السلفي، أو ما يسمَّى بالوهابي أو "التكفيري" أو غيرها من التسميات، معتبرًا المذهب الشيعي والصوفي وباقي المذاهب الصغيرة مذاهب ضالة ومنحرفة عن الدين الأصل. ويتصرف المذهب الشيعي (أو الرب الشيعي) مع باقي المذاهب بالسلوك نفسه في إزاحة باقي المذاهب عن الانتماء إلى الأصل الديني، ولو أنه أقل حدة واندفاعًا من الربِّ السُّني أو السلفي حول الصراع التكراري والمستمر على مفهوم "الأصالة". ويبقى هذا المفهوم عائمًا وغير محدد، على الرغم من أن المصادر واحدة للرجوع إلى النظام الاستنباطي العقائدي والتشريعي لمنظومة المذاهب نفسها. وفي عملية قراءة التاريخ المذهبي والسلوك الجمعي للمذاهب، نرى أن الاختلاف ليس في عملية المسمَّيات والمصادر الأولى للنظام الداخلي للمذهب، بل في حقيقة التكوينات الربوبية للمذاهب حول تشكيل الربِّ الذي يُعبَد. والاختلاف الجوهري في التكوين، وفقًا لقواعد سلوكية وكيفيات ظهورية، متعلق بالمزاج والتذوق والمعرفة وحتى بالصفات. وإن الصراع القائم ليس على الأصالة والحفاظ على التراث الديني الأصل، بل هو صراع أرباب، تكوَّنوا وفقًا لضرورات تاريخية ومعرفية، وتشكَّلوا ضمن حوادث تاريخية مرت بالدين الواحد، بحيث صار رب كلٍّ من هذه المذاهب لا يقبل أرباب المذاهب الأخرى، بل يرفضها كليًّا. وليس هناك ما يميز أصالة واحد عن الآخر لأن مفهوم "الأصالة"، كما ذكرنا، هو مفهوم عائم وينتمي إلى السياق اللغوي المليء بالتضمينات والتأويلات اللامتناهية تبعًا للمصدر الأول نفسه، وهو القرآن الكريم، بما هو كتاب لغوي ودلالي مطلق التقديس لتمثيله لمدار الوحي ولحقيقة الخطاب والمعنى الإلهيين. وكما ذكرنا، فإن معنى الألوهية معنى لا يمكن حصره أو تجميعه في ما يسمَّى بالديانات التوحيدية إلا على مستوى الخطاب التبادلي بين هذه الحقيقة الإلهية وبين "النبي" الناقل لهذا الخطاب. لهذا يتحول الله، بالمعنى الإطلاقي للكلمة، إلى لغة مقدسة لا يمكن المساس بها، لأنها أول السمات الواضحة لهذه الحقيقة المطلقة التي تحولت إلى كلمات وجُمَل وعبارات لغوية تحمل من الترميز والتجريد ما لا يمكن حصر معانيه في أغلب خطاباته. وتلك العملية المعقدة من إحراز اللغة الربوبية في القرآن إحرازًا واضحًا أدت إلى انفلات المعنى الأول والتماسك الإطلاقي والتوحيدي في الديانة الواحدة نفسها. ومن حقيقة هذا الانفلات والتشتت لوحدة الرب الأول، أو بالأحرى، من مفهوم التوحيد نفسه، تتكون القدرة الهائلة على إنتاج أرباب متعددين، لأن هذا المفهوم نفسه ينطلق من التجريد المطلق القابل لاحتواء أيِّ شي وانقسام أيِّ شي من دون أن يؤثر على مفهوم المطلق نفسه: فهو التجريد اللغوي والمعرفي الذي تتمخض حقيقتُه الذاتية ذاتها عن أرباب متعددين يحملون هموم المعترضين أو المشككين ومشكلاتهم في تأويل الشكل الظهوري للربِّ أو الامتيازات التي يتمتع بها أو الشكل السلطوي في قيادة رحلة الدين الواحد. بذا يمكن القول بأن الربَّ الأول الإسلامي يتصف بالقدرة الذاتية على إنتاج أرباب آخرين نظرًا لقربه من المعنى الإطلاقي الأول والمجرد، على الرغم من وجود الدعوة الشكلية، في المذاهب الإسلامية كلِّها، إلى الانتماء للرب الواحد. وهذه القدرة الذاتية لمعنى الربِّ الواحد المجرد، المتكون من نصوص لغوية ودلالية متعددة المعاني والأغراض، وفَّرتْ إمكانيةً غير مدرَكة للإنسان لصنع أربابه الذين يمثلونه على وجه الدقة، نظرًا لوجود ثغرات معرفية وواقعية في المعنى الشمولي أو في إدراك المتدينين لهذا المعنى الشمولي الذي غالبًا ما يتحول إلى سلطة إطلاقية وحاكمية إلزامية توجب على الآخرين اتِّباع شمولية المعنى وتسليم المحتوى الزمني لديهم برمَّته والاستيلاء على جميع مفردات زمن المتدينين والتحكم فيه، أكان يمثل الزمن الدنيوي أو الأخروي، وذلك على الرغم من جميع التحولات الهائلة في رحلة الإنسان ومن تراكم التراث الديني، بكلِّ ما يحمل من انتصارات وهزائم للإنسان، حتى أصيب هذا التراث الربوبي بالتخمة والانتفاخ المعلوماتي المكرِّر للسلوك والمعرفة. على هذا الأساس، كان من الإلزام الوجودي والواقعي انشطار مفهوم الرب الواحد واستقلال الأرباب وانفرادهم في معتقدات تتماشى مع تكوينات جديدة من المعرفة أو السلوك تتلاءم مع واقع معيَّن. وقد تمت هذه العملية مباشرة بعد موت النبي الذي يُعتبَر الشكل الجامع لحضور الرب بين معتنقيه الذي تحوَّل بعد موت النبي، كما ذكرنا، إلى الشكل اللغوي المقدس في الكتاب والسنَّة اللذين تجسد فيهما الشكل الحضوري للرب. ومن خلال هذا الشكل وإمكانية تجريده إلى ما لا نهاية، تكوَّن الصراعُ بين الأرباب وادعاء كلٍّ منهم أنه يمثل لطريق الحق والأصالة الأولى للشكل الربوبي الموحي للخطابات الإلهية المقدسة التي تحولت، بفعل الزمن، إلى الشكل الربوبي المعبود. ويمكن تحديد هذا التراكم في الصراع القائم كلِّه، ليس على مستوى اختلاف العقائد، في شكل عام، أو تحديد مدار التفاصيل الدينية، في شكل خاص، بل في قيامة التكوين والمعرفة المنجَزة في التشكل الأول للرب بعد وفات النبي محمد. والصراع القائم هو صراع الأرباب المستقلين عن هذه القيامة التكوينية والمعرفية في نحت الربِّ الديني وفقًا لصياغات تتلاءم مع القوة التأويلية، ليس للمعرفة الدينية وحسب، بل وللقوة الإلزامية المتعلقة بالنماذج القيادية المرافقة للفعل النبوي ورحلته، المتمثلة في النخبة الأولى المرافقة للنبي، كالصحابة في تكاتفهم للحفاظ على الشكل الأول للرب وفقًا لإدراكهم وطموحاتهم الإيمانية والتاريخية. لكن هذه المحاولات كلها لم توقف الانشطار الربوبي؛ بل إن الفعالية نفسها في الحفاظ على الشكل الأول للرب هي، في حدِّ ذاتها، عملية انفصالية لتحديد سمات ربوبية جديدة وفقًا لقياسات نخبة متفقة على تفسير رحلة النبي واقعيًّا أو تأويل النص المقدس معرفيًّا. وهذا الرب الجديد يُشحَن بكلِّ الإمكانات المقدسة من النماذج الإيمانية الأولى، وحتى من الشواهد النصِّية المقدسة، من أجل قيامته التكوينية وهيمنته المعرفية وبسط نفوذه على باقي الأرباب من الديانات الأخرى والمذاهب والملل والنحل إلخ. وإن هذا الصراع لا يمكن أن ينتهي إلا بنهاية الآخر ودماره كليًّا. وهذه الحقيقة الصريحة هي مدار الواقع المعاصر والمعيش مع المذاهب الإسلامية التي نحتت أربابَها من خلال المسيرة الإيمانية لشكلانية المذهب القائم على خلفيات تاريخية ووقائع لأفراد لهم حضور مقدس في بداية الظهور الديني، أو لجماعات تكونت لها أمزجة وتذوق ديني خاصة بها. وهذا ما حدث في الرب الأول نفسه الذي تشكَّل وفقًا للسياق نفسه على يد الأنبياء. ويبقى الأمر قطعًا محصورًا في المعنى الإلهي المطلق. ولا يخلو أي ربٍّ في المذاهب من الزيادات والحذوف والإضافات على الشكل الربوبي، حتى لا يشبه ربٌّ الربَّ الآخر في باقي المذاهب إلا في التسمية العامة، كما ذكرنا؛ وتنعكس حقائقه وسلوكياته على سلوك معتنقيه ومن خلال تراثهم ومسيرتهم التاريخية ورؤيتهم لشكل الحياة الدينية. ومن خلال هذا التراكم كلِّه، ينمو "النظام الداخلي" للمذهب نفسه. وإذا ما سألنا عن سبب هذا الاختلاف أو الاستقلال عن الرب الواحد في الديانة نفسها أو حتى في مذهب بعينه، يكون منشأ هذا الاختلاف عادةً في تركيبة الديانات الكتابية الأولى التي تعتمد الكتب المقدسة كمصدر وحيد وإلزامي، ليس على مستوى الفرد وحسب، وبل على تفاصيل التشريع القانوني والسعي إلى تعميمه كسلوك جمعي بالقوة. وهو تراث لغوي هائل يحمل ما يحمل من العلامات والرموز والإشارات القابلة للتأويل والترميز. وأصل المشكلة في عمومية الكتاب واختزال الحياة، في أبعادها الوجودية والتاريخية كلِّها، في كتاب واحد شامل يصلح للإنسانية قاطبة، مما يسبب تخمة معرفية وتشريعية وتأويلية لكثير من نصوصه، تؤدي في النهاية إلى الانفجار الهائل الذي يولِّد المذاهب والملل والنحل. وهذه العملية الانفجارية في الدين نفسه سببها الأول عدم تطور الديانات مع السياق التاريخي والزمني للإنسان، بل توسعها في الدائرة الدينية نفسها؛ مما يسبب هذه التخمة التي لا يمكن حلها إلا في تكوين أرباب آخرين قادرين على حمل معارف وتأويلات وسلوكيات تتماشى مع التغيرات التاريخية والزمنية للإنسان والتحديات التي تواجه الدين نفسه. وتتكرر العملية نفسها في المذهب الواحد نفسه الذي يسير وفقًا للمنهج التوسعي نفسه للدين الأول وفي المدار نفسه، حتى يصل إلى عجزه عن تحمُّل هذه التوسعات إلى ما لا نهاية. فالصراع القائم بين المذاهب الإسلامية ليس صراعًا عقائديًّا أو فكريًّا أو خلافيًّا حول المصادر أو الأصل فحسب، على الرغم من أن الصورة العلمية والأكاديمية توحي بذلك، بل إن الصراع هو صراع ربوبي للمذاهب نفسها. لهذا لا نرى لقاءً حميميًّا وإنسانيًّا للمذاهب نفسها في أية دائرة واقعية وسلوكية، بل نرى بالأحرى الاختلاف في الرؤية الإنسانية بعضها لبعض، على الأصعدة الواقعية كلِّها، حتى التوحش والعداء، لاعتقاد أصحاب المذاهب بأن الربَّ الذي يعبدونه هو الحق والآخر هو الباطل، ولحرصهم على حصر هذا الصراع في هذين المعنيين (الحق/الباطل) من أجل الاحتفاظ بالسلطة المركزية للربِّ المذهبي، كونه هو الحق، بينما باقي الحقائق التي تدَّعي الربوبية هي الباطل. لا بدَّ هنا من القول بأن هاتين الصفتين (الحق/الباطل) عائمتان، ولا يمكن حصر معانيهما في أيِّ شكل واقعي، نظرًا لعدم وجود أيِّ مصداق سلوكي يرتبط بالإنسان عمومًا، بل يرتبط بالإنسان الذي يتبنى هذا المذهب حصرًا أو يؤمن به. وتنتمي هاتان الصفتان إلى العقل الإيماني المتمركز على ثوابت، معظمها في مدار التخيل والحس المتوهَّم والمنطق الاستهلاكي غير المنتج وغير المنتمي إلى الفعل التاريخي انتماءً صارمًا. والأديان والمذاهب كلها تدَّعي الحق لها؛ فهي، في صراعها مع باقي المذاهب أو الديانات، في شكل عام، وفي تكوُّن عقائدها ومعارفها وحقائقها وشخصياتها، تتلبس الحقَّ المطلق: ففي حروبها يكون "قتلانا" شهداء، مثواهم الجنة التي أُعِدَّتْ لهم أصلاً لأنهم الحق (بينما الآخرون، هم وأربابهم، باطل)، و"قتلاهم" في النار التي أُعِدَّتْ للكافرين أو المخالفين أو المرتدين أو الملحدين الذين لهم عقاب واحد، وإن اختلفت معاييره، إلا أنه الموت والخزي والعار في الدنيا والنار في الآخرة! ومن خلال هذه الثقافة الدموية الواضحة في ترتيبها، لا يمكن لهؤلاء الأرباب الركون إلى السِّلم مطلقًا مادامت رحلتهم التاريخية تمتلئ بالأبطال والشهداء الذين مضوا والذين ينتظرون دورهم في البطولة والشهادة، أو الذين ضحوا لنصرة المذهب والدين وقدموا أنفسهم قرابين لربِّ المذهب والدين. فهذا التجييش الهائل كله من الشخصيات التاريخية والمؤمنين المعتنقين في قوة للرب المذهبي – هذا التجييش الذي يستتبع الفناءَ التام لكلِّ إبداع إنساني داخل منظومة هذه الربوبية وتبنِّي ثقافة الإزاحة والتوحش والتدمير كسلوك تبادلي بين الأرباب – لا يدعو هؤلاء الأرباب إلى نشدان الصفاء والسِّلم والأمان، ولا يمكِّنهم أن يعترف بعضهم ببعض، لسبب بسيط جدًّا هو أن أيَّ ربٍّ لا يرضى ولا يقبل أن يزاحمه أي ربٍّ آخر على مملكته التي هي العالم كله، من الديار إلى العباد، التي تمَّ تقسيمها، بحسب الولاء والانتماء إلى الربِّ، إلى "دار كفر" و"دار إيمان"، كما تم تقسيم العباد إلى "مؤمن" و"كافر"، وهكذا إلى ما لا نهاية له من التقسيمات بحسب رؤية الرب والصفات التي يتمتع بها واقعيًّا وسلوكيًّا ومزاجيًّا وذوقيًّا، المتأثرة حتمًا بالعوامل الحضارية والذوقية والأخلاقية وبطبيعة العباد المعرفية والعقائدية والسلوكية. وهكذا يتم، بالتالي، تقسيم الصفات المتعلقة بالتسمية الجامعة للدين الأول – وهو الله – وتبعيضها وفقًا للرؤية المذهبية، أو بالأحرى وفقًا للرب المذهبي، كما يتم توزيع إرث الله على باقي أرباب المذاهب ومعتنقيهم: يتم تطبيق جميع الصفات القهارية أو التي بها سلطة قهرية وتنفيذها عليهم (كالمهمين والقهار والرقيب والقوي والمميت والقيوم والمتعالي والضار والمُذِل) – والصفات كلها تطبَّق واقعيًّا على الآخرين وتمارَس ممارسةً سلوكية مباشرة أو غير مباشرة؛ بالإضافة إلى الصفات الأخرى المهينة في الكتاب (القرآن الكريم) على العباد المنحرفين والفاسقين والفجَّار والكفار والمرتدين والمشركين والضالين عن طريق الحق. والآيات التي تدعو إلى قتل المشركين والكفار والظالمين ستطبَّق بحق على باقي المذاهب فعليًّا إنْ توفرت الفرصة، أو يؤجَّل تطبيقها لحين ظهور الواقع الموضوعي لإخراجها أو توفُّر الضرورة الواقعية لتطبيقها تطبيقًا فعالاً ومؤثرًا ومبرَّرًا ومدعومًا بالنصوص المقدسة. وقطعًا سيكون من حصَّة المذهب الذي يدَّعي الحق باقي الصفات الإيمانية العظيمة التي يتصف بها المؤمنون في طريق الحق (كالصالحين والمجاهدين والصدِّيقين والأولياء والمتوكلين والتائبين والساجدين والراكعين والكرماء والصابرين والوارثين للحق). هذه العملية التأويلية للنصوص الأولى كلها هي في الحقيقة، كما ذكرنا ونكرر، تراث سلوكي لأرباب متعددين لنقل الخطاب الغيبي، بحسب المصطلح الديني، من خلال الترجمة النبوية لهذا الخطاب وفقًا لسياقات لغوية متصلة بلغة النبي وسلوكه الذي سيصبح في ما بعد، بدوره، تراثًا لغويًّا من خلال الأحاديث والفعاليات السلوكية للنبي والمرافقين له في بداية تكوين الديانة والتابعين والمقيمين على حفظ التراث الديني من الانقراض – هذه الفعاليات كلها ستصبح تراثًا هائلاً من اللغة والمفاهيم قابلة للتفسير والتأويل. وبالنتيجة، تتكون الأرباب من خلال العملية التأويلية نفسها للُّغة وصراع المفاهيم. وستمارس هذه العملية التأويلية الدور الداعم لكلِّ عملية انفصالية لتكوين رؤية ربوبية جديدة مرتبطة بفعل تاريخي خارج النمط الربوبي الأصلي. ومن خلال عملية تعدد الرؤى وتكثُّر التأويلات، تتكثَّر الأرباب زمنيًّا وتاريخيًّا. لذلك نرى أن الإسلام، من حيث الشكل الظاهري وكفى، مرتبط في التسمية العامة الجامعة للمسمَّى الديني (الإسلام)، بينما هو في الحقيقة مجموعة من المذاهب والملل والنحل. وكل مذهب وملة وفئة دينية معينة لها "رب" ذو صفات سلوكية ومعرفية مختلفة اختلافًا جذريًّا أو مختلفة في بعض التكوينات. وهذه المجموعة من الأرباب يحتدم بينها صراعٌ فكري وعقائدي، وحتى جسدي، في عملية متواصلة ومستمرة لإثبات مصداقية ربوبيتهم وانتمائهم التمثيلي لحقيقة الرب الأول (الله). وكذلك فإن المذاهب كلها تدَّعي تمثيل حقيقة النبي وسلوكه وفعله وانتمائه للحقيقة الإلهية. والأدلة على أن الصراع المذهبي في الإسلام صراع أرباب هو التراث الهائل من الكتب "الخلافية" التي هي في الحقيقة بيان لحقيقة الربوبية المذهبية. وإن التراث الهائل من الكتب الخلافية والعقائدية هو شكل طبيعي لفعل الزمن وتطور الحياة؛ لكنْ يؤخذ من الأطراف كلِّها على أن هذا الخلاف هو خروج عن الأصل الأول للدين. لهذا يجب على كلِّ مذهب إثبات ادعائه أنه يمثل الحق المطلق للأصل. وهذا التراكم الادعائي، الذي جنَّد عقولاً هائلة من أهل المذاهب المختلفة بذلت جهودًا فكرية ودفاعية لإثبات هذه الحقيقة الانتمائية للأصل الأول – هذا التراكم استهلك في هذه العملية طاقةً كبيرة، غير منتجة واقعيًّا، وليست لها أية ثمرة معرفية رئيسية غير إثبات مصداقية الرب المذهبي أو أصالة تشكيل هويته الحضورية في الواقع الإيماني. ولو تضافرت هذه الجهود العقلية والسلوكية في إنتاج أنماط سلوكية متطورة مع حركة الحياة والعالم ومعارف واقعية قابلة لحلِّ مشكلات الإنسان الروحية وتهذيب السلوك الإيماني لتطوير القدرات الربوبية على المشاركة الفعلية وعلى تطوير مفاهيم الإنسان عن الحياة الوجدانية والغيبية، لكانت أجدى من الضياع في متاهات الصراعات المفهومية غير المنتجة أصلاً إلا لشكل واحد هو التوحش الديني. وهذه الصراعات حول المفاهيم تمثل المحور الأساسي لأصل الصراع الفكري والعقائدي بين المذاهب، الذي غالبًا ما تحول إلى صراع دموي عبر التاريخ وترك ضحايا من الأطراف كلِّها عبر التاريخ، ومازال إلى يومنا هذا، وسيستمر حتى تهدأ نفوس الأرباب – هذا الأمر الذي لن يكون على ما يبدو إلا من خلال رؤية الإنسان لتاريخه المرير في المدار الديني للأديان كلِّها في شكل عام وللإسلام في شكل خاص. ونقول "الإسلام في شكل خاص" نظرًا لتوقف الرب الأول في هذا الدين عن التطور على أيدي معتنقيه، ولتضخُّم هذا الرب وتوقف القيمة الإبداعية عند لحظة ظهور هذه الربوبية فقط، حتى انشطر إلى أرباب لمذاهب شتى تحت مظلة المسمَّى الديني نفسه. وإن التراث الإسلامي الديني كلَّه، في دائرة النصوص الدينية، يعاني تخمة فكرية وعقائدية هائلة لفداحة التقديس المفرط لتلك النصوص وعدم السماح لأيِّ فكر إبداعي باستخدام هذه النصوص لبناء قواعد ونُظُم تتوافق مع الضرورة الوجودية والسلوكية للإنسان ومع جعل الإنسان المحورَ الوجودي للعطاء والإبداع والتقدم، بعدم تسخير حياة الإنسان وموته للمسمَّيات الأولى للظهور الديني. إذ إن على الدين تقديم العطاء والإنتاج الفعلي والتطوري لحاجات الإنسان الروحية والمادية ولتكامله الإنساني. وإن أيَّ تضخم فكري أو عقائدي، ديني أو دنيوي، يؤدي في النتيجة إلى انفجار هائل، يؤدي، بدوره، إلى استهلاك الدين نفسَه بنفسه، وبالتالي، إلى ممارسته سلطةَ السحق والتدمير للإنسان والقيم االمنتِجة للخير، كالأمان والسلام والمحبة، وتبنِّيه اللغة القهارية، كالتوحش والإزاحة والتدمير. 12 الصفات الواقعية والسلوكية للأرباب في المذاهب الإسلامية لا يمكن لأرباب المذاهب إثبات المقولة الرهيبة والمخيفة في تمثيل الرب المذهبي للدين كلِّه بصفته هو "الحق المطلق" وهو "الأصل" و"الهوية" الفعلية للدين نفسه. كما لا يمكن تجنب هذا الصراع لأنه جزء محوري من تكوين ذات الرب وفعاليته الإيمانية والسلوكية في الواقع التي تعطيه الاستمرار والتواصل والهيمنة على سلوك معتنقيه، وذلك لعدة أسباب أهمها: 1. اتخاذ الرب سلطة التقديس المطلق في مواجهة أيِّ فكر ربوبي للمذاهب الأخرى. وهذه السلطة تمنحه القوة والهيمنة على أية فكرة أو عقيدة مخالفة، فتيسِّر له تهيمشَها بسلاح التقديس وتسفيهَ قائليها والاعتماد على برامج الحشد التأويلي للنصوص المقدسة واستخدامها استخدامًا مبرمجًا لتشكيل هوية الرب وفعاليته الرمزية والواقعية. 2. اتخاذ منهجية الفكر التبريري لبناء سياج فكري متين مملوء بمختلف العلوم التي تُستخدَم للدفاع عن المذهب. وهذه الإستراتيجية الفكرية يتَّبعها جميع الأرباب في المذاهب، وتمثِّل مجمل تراثها العقائدي. وهو فكر ليس تطوريًّا ولا مبدعًا، بل هو فكر استهلاكي وامتصاصي لكلِّ طاقة وقدرة. ونعني بالعقل "الامتصاصي" العقل الذي يمتلك القدرة على تحويل أيِّ رأسمال علمي أو معرفي أو اكتشاف وإبداع إنساني يراه من الأهمية لاستخدامه وضمِّه إلى معجمه، من دون أي تعديل أو إضافة أو جهد عملي، مدَّعيًا أن هذا الاكتشاف والإبداع له مقابل في كتبه المقدسة، محولاً إياه، بالتالي، إلى إثبات المقدرة الربوبية لمعتقده. من ذلك محاولة الإسلاميين، على سبيل المثال، إيجاد مقابل في القرآن لكلِّ اكتشاف علمي معاصر، باعتبار أن له أصلاً قرآنيًّا أو رمزًا معينًا في القرآن. وهم يبذلون جهدًا استهلاكيًّا أمام كلِّ جهد إبداعي ومنتج في محاولة دمج هذا الجهد الإبداعي وإضافته إلى المعجم الديني، باعتبار هذا الاكتشاف أو المعلومة، علميةً كانت أو معرفية، من ضمن الجهد الإبداعي لإثبات الحقيقة الربوبية لديهم. فكل ما يقومون به هو امتصاص أية معلومة أو إبداع وحشدهما لإثبات القدرات الهائلة لمدار تقديسهم المفرط: من خلال هذه "التقنية الاحتوائية"، غير المنتجة أصلاً لأيِّ شيء يخدم الإنسانية، بل يخدم إثباتاث من المفروض أنها دخلت إلى مدار اليقين الإيماني لديهم؛ ومن خلال هذه العقلية "الامتصاصية" التي لا تترك أيَّ فراغ علمي أو تقني أو تشكيك قابل لاكتشاف أية ثغرة في سلوك الأرباب؛ ومن خلال هذا الحجم الهائل من الفكر التبريري الهائل، الذي يُعتبَر من السمات الواضحة للثقافة الدينية التي لا يمكن مقابلتها عقليًّا (فهي محمَّلة بذاكرة من الأسطرة والتراث الشعبي والقيم الإعجازية والتأويلات اللامتناهية، ومشحونة بمختلف العلوم المسخَّرة في إنتاج هذا العقل الإيماني للمذهب) – من خلال ذلك كلِّه، تُتبنَّى منهجيةُ التبرير التي لا تخلي مجالاً لأية مقابلة عقلية منتجة في تفكيك آليات عمل الرب أو ظهور أسرار عملة الواقعي. وهذه القيمة الفكرية التبريرية سلاح جبار في إسكات الأرباب الآخرين. 3. حشد كمٍّ هائل من الشخصيات التي تقدَّست تقديسًا معلنًا أو مخفيًّا في تاريخ الرحلة الأولى لظهور الدين والمسمَّى الأول للرب الديني، وتفعيل هذه الشخصيات من خلال مواقفهم وأقوالهم، وتوفير كمٍّ الهائل من المفسرين لإضفاء الدلالات المعرفية على هذه الشخصيات أو إثبات مصداقيتها وقيمتها في اتباع الأصل الأول والحق المطلق وإضفائها على التراث الربوبي للمذهب، كونها تمثل مصداقية الربِّ المذهبي وصلاحيته لقيادة الدين والأمَّة المتدينة. 4. استخدام النصوص المقدسة من القرآن في دعم أية صفة سلوكية للربِّ المذهبي وفي إظهار هذه الصفة من خلال السلوك الفعلي لمعتنقيه وتوفير المناخ التأويلي أو التفسيري، الباطني أو الظاهري، لتلك الآيات القرآنية المؤيدة لظهور هذه الصفات أو الأفعال العقائدية أو السلوكية، من الشعائر أو الطقوس الإيمانية أو حتى المواقف الدينية المرتبطة بالأزمات أو المواجهات مع باقي أرباب المذاهب أو أرباب الديانات الأخرى. وهذه النصوص موجودة عند جميع الأطراف، وهي النصوص نفسها، وباللغة نفسها؛ لكنها تُستخدَم استخدامًا يخدم الطبيعة الربوبية والسلوكية للإيمان، وتختلف في اعتماد المصدر الثاني من النصوص المقدسة (السنة النبوية) من خلال رجال "ثقاة" لهم الرؤية الربوبية نفسها لربِّ المذهب، وذلك لتسفيه أيِّ حديث آخر يمس مصداقية أو سلوك الرب المذهبي واستبعاده أو إضعافه. ويدشَّن هذا "الانتقاء" من التراث الكلِّي للإسلام بعلوم خاصة وقواعد عقلية في اختيار الناقلين للحديث، بحيث يكون "مبرَّرًا"، كما ذكرنا في فقرة الفكر التبريري، الذي أنشِئَ أصلاً ليس لحاجة فكرية أو تساؤلية أو معرفية تخدم الإنسان في تطوير ملَكاته الإبداعية، بل لتجنيد أيِّ علم أو معرفة لخدمة الحقائق الربوبية في المذاهب ودعمها. لذا لا تنتج هذه العلوم أية فعالية علمية أو معرفية لها ثمرة واقعية، ولا تخدم الإنسانية في شيء سوى إثبات القدرة الهائلة للرب المذهبي نفسه. والتطور الذي حدث في العلوم الدينية منشؤه الحاجة الربوبية إلى المذاهب أو الدين لتقوية الأرباب وإثبات مصداقية الانتماء الأول للحقيقة الدينية. 5. تعتمد الأرباب في المذاهب الإسلامية على القيمة الثنائية، وهي الحق/الباطل، وعدم بيان أو تحديد الخرائط المعرفية والفكرية لطبيعة هذه الثنائية، بل محاولة تعويمها وإطلاق معناها، بما يمكن أن يعطي قوة مجازية للمفردة في الاستخدام بما يتلاءم مع الأغراض المتوافقة مع مصالح الأرباب. وهذا لأن الشكل التقديسي للربِّ هو الذي يتحكم في شكل هذه الثنائية واستخداماتها، فلا يبيح التفكير في هذه الثنائية خارج العقل الإيماني للرب نفسه وللمذهب. وهذا العقل المتكون من الذاكرة الإيمانية والتاريخ السلوكي لشخصيات مقدسة ومناضلة ومن تراث هائل من الألفاظ والأقوال والمقولات المقدسة والسلوك الفعلي لحقائق تاريخية مقدسة، كالصحابة و"أمَّهات المؤمنين" (زوجات الرسول) عند السنَّة، والأئمة (بنت الرسول ونسلها) عند الشيعة، يضفي على هذا الفعل السلوكي نفسه الجانب الإيجابي من الثنائية، وهو جانب الحق، ويسم باقي المذاهب أو المذاهب التي ينكر ربوبيَّتها بميسم الباطل. فالمذاهب الإسلامية كلها تدَّعي الحق لنفسها، وتَسِمُ بالباطل غيرَها من المذاهب؛ وكذا في فعاليات المذاهب الإيمانية كافة في صراع مرير لهذه الثنائية (الحق/الباطل)، حيث تُستخدَم أساسًا في حالة الصراع الدموي في حشد المؤمنين لنصرة الربِّ المذهبي، لأن استخدام "الحق" يمثل قوة شعورية هائلة في المواجهة والصراع. وهكذا تتبادل المذاهب الحق والباطل: فنرى الحق والباطل جنبًا إلى جنب في الادعاءات المتبادلة بين المذاهب كافة، ونرى الحق الذي يُدَّعى والباطل الموسوم من الآخر، وهكذا دواليك في عملية تبادلية لهذا المفهوم لا تنتهي أبدًا. فيتوزع الحق والباطل في الصراعات الدموية على شكل حقٍّ تام للمذهب وباطل تام للمذهب الآخر: قتلاهم في "الجنة" التي هي "حق"، وقتلى الآخرين في "النار" التي هي "الباطل"! وكذا بالنسبة للآخرين في أحقية امتلاك هذه الثنائية وتوزيع حديها بحسب المصالح الربوبية وامتلاك الطاقة الشعورية للمؤمنين وتسخيرها لخدمة الرب المذهبي وتواصله واستمراره في المواجهة حتى النصر – وإنْ لم يكن هناك أي نصر واقعي! من خلال هذه العوامل، يتكون المخزون الترميزي للواقع الربوبي الذي يمثل المذاهب الإسلامية كافة والحركات التي تدَّعي انتسابها إلى الربِّ الواحد، والحفاظ على الأصول الحقيقية للدين، والتطبيق الفعلي للشريعة الإسلامية، والتأسِّي بالسلوك النبوي والأقوال النبوية الشارحة للنصوص القرآنية واتخاذها كنموذج واقعي في التطبيق السلوكي والإيماني لمعتنقيها أو، بعبارة أوسع، للأمَّة الإسلامية. إن نكراننا لحقيقة الواقع الإسلامي المعاصر، وكذلك للواقع الماضوي للإسلام حول تعدد الأرباب، ليس من باب تسفيه التراث والمعتقد الإسلامي، بقدر ما هو لوضع الحقيقة الواقعية للسلوك الإيماني للمذاهب وفقًا للتقديرات العقلية والشعورية وبيان حقيقة الصراع المذهبي في الدين الواحد، من جهة، والصراع الديني على مستويات الديانات الثلاث وفقًا للأطروحات المعاصرة للصراع القائم على أنه "صِدام حضارات". وفي الحقيقة العملية والواقعية، وليس على مستوى التحليل الأكاديمي والعلمي لقراءة حقيقة الصراع القائم، يتبين لنا أنه ليس "صِدامًا حضاريًّا"، بل إن حقيقة هذا الصِّدام هو الصراع الربوبي بين المذاهب الإسلامية في الدين نفسه وبين الأديان الأخرى، وكذا في باقي الديانات التي انشطرت حقيقة الربوبية لديها، كما في المسيحية واليهودية. سنوضح هذه الحقيقة التاريخية في الحلقات القادمة. لكن ما يهمنا في هذا البحث التأكيد على التكوين الربوبي للمذاهب الإسلامية وخرائط هذا التكوين. ونؤكد على أن هذا التقسيم الربوبي يمثِّل الواقع الإسلامي على امتداد التاريخ، وبالذات بعد وفاة النبي محمد حتى يومنا هذا. وهو يبدو في أوضح صورة من حيث افتراق المذاهب وبيان هويتها بيانًا واضحًا وصريحًا في زمننا الحاضر، وكذلك إعلان الشكل الربوبي لها إعلانًا مباشرًا أو غير مباشر: على سبيل المثال، المذهب السنِّي، وأحد تجلِّياته في المذاهب السلفية التي أباحت دماء جميع أصحاب المذاهب الأخرى، وخاصة الشيعة، بدعوى أنها هي التي تمثل للأصالة الحقيقة لكتاب الله وسنَّة نبيِّه. ولكن واقع الحال العقائدي والتراكم الزمني لهذه العقائد يُظهِران حقيقة الربوبية المرتبطة بها في أنصع صورها. وقد تُحدِث كلمة "الرب" وتكرارها إرباكًا فكريًّا، وكذلك تحسسيًّا، لدى قراءة فئات كثيرة لهذا البحث. ويمكن لنا أن نوضح في إيجاز ما نعنيه بمفردة "الرب" هذه وبالإصرار على مفهوم الربوبية من غير اقترانه بالمعنى الإلهي المطلق. وإننا لم ننفِ هذا الاقتران أو التبعية الدلالية لمعنى الربوبية للمعنى الإلهي؛ بل يمكن القول إن ما نعنيه بـ"الربوبية" في المنظومة العقائدية للمذاهب هو الشكل الفعلي لصورة الحقيقة الإلهية على صعيد الواقع الإيماني للمذاهب الدينية، أو بمعنى آخر، الفاعلية الظهورية لتحديد هوية الرب وحركته، والخزين المعرفي والتاريخي لتكوينه، والتحولات أو التطورات التي نتجت عن تكوين صوره لدى معتنقيه، بما هو يمثل للشكل التخيلي والتأملي لتحقيق رغبات المؤمنين به وفعالياتهم في ممارسة طقوسهم وشعائرهم للوصول إلى الخلاص أو النتائج المرجوة من خلال فعالية الإيمان في المذهب نفسه؛ وكذلك الخزين الشعوري والوجداني للعلاقة التبادلية بين الرب وعباده. لهذا لا يمكن للشيعي أن يحسَّ بهذه الفعالية الشعورية والوجدانية مع "الرب الوهابي" أو الأرباب في باقي المذاهب إلا من خلال التسمية الجامعة على المستوى اللغوي في التلفظ بكلمة الله. كذلك يحدث الافتراق في المعنى والشعور والوجدان عند الوهابي في ممارسة شعائره وطقوسه التي تثير فعاليةَ الإحساس والوجدان الإيماني لدية عندما يمارس الشكل الربوبي لمذهبه أو لدينه وفقًا للتسمية العامة والشكل الخاص للارتباط بهذه التسمية، لأنه لا يمكن له أن يتفاعل مع الربِّ الشيعي، بل لا يعتقد مطلقًا بالرب أو بالشكل الإيماني للمذاهب الأخرى ولا يصدقها، بما أنه لا يوجد مصداق فعلي لأية حقيقة خارج التراكم التاريخي والرمزي والتقديسي لشكل الرب المرسوم من خلال ثقافة ما وفكر وشواهد تاريخية وتراكمات تقديسية لكينونات أو مسمَّيات مجردة. هذا التراكم الهائل كله من المخزون الديني للمذهب يمثل الشكل الربوبي الذي يفتخر معتنقوه بالارتباط به؛ إذ هو يمثل الحق المطلق، فيما باقي الأرباب في المذاهب تمثل الباطل أو تدور في مدار الوهم المطلق. وعلى الرغم من أن المذاهب الإسلامية لا تقر بهذه التقسيمات الربوبية وتعتبر أيَّ تعدد للأرباب هو من الشِّرك، بكلِّ أنواعه، إلا أن الواقع الموضوعي يظهِر عكس تلك الأقوال التنظيرية الشائعة في الكتب العقائدية الصرفة، التي غالبًا ما تتلبَّس الشكل الفلسفي التقليدي أو الفكر العقائدي التكراري في بيان ماهية الرب وصفاته. وهذا الشكل النظري لا يتضارب مع هذه الأطروحة في تعددية الأرباب، بل يؤكد هذه الأطروحة التي لا تختلف في تأكيد أن الحقيقة النظرية والعقائدية في تجريد الربوبية أو المعنى الإلهي حقيقة أكيدة، وأن هذه الديانات تعتنق المعنى الإلهي، لكنْ في عملية "تجسيد" لهذا المعنى المجرد الذي لا خلاف عليه، حتى في باقي الديانات الكتابية. وإننا نؤكد علَّة حقيقة الظهور الفعلي والواقعي لمسيرة هذه الديانات والمذاهب في فعالية الرب وسلوكه ومواقفه والحقيقة السلوكية في تميز الواقع والحياة والظهور الفكري والعلمي والرمزي الذي يختلف فيه مع باقي الأشكال الربوبية في المذاهب الأخرى. فما هي الحقيقة الواقعية لواقع الاختلاف بين المذاهب؟ قد يكون، كما هو سائد في مواضع الاختلاف والدراسة من قبل علوم العقائد نفسها أو الباحثين المهتمين بالديانات، على أن مواضع الخلاف كانت دينية في عملية تفسير النصوص، من جهة، وكذلك دنيوية في عملية تقسيم الإرث الرمزي والتقديسي على الصحابة الأُوَل، وكذلك سلطوية في توزيع المناصب القيادية لتولِّي المهمة النبوية بعد النبي. لكن هذه كلها، في حقيقة الأمر، عوامل ساعدت في إنشاء اللبنة الأولى لتشكيل الأرباب. وإن الصحابة أنفسهم كانت لهم رؤى وتصورات مختلفة، بل متعارضة في بعض الأحيان، عن الشكل المتصوَّر أو الخزين التخيلي الأول عن الرب الإسلامي في أول ظهوراته. المهم أن ما نريد توضيحه في خصوص المعنى الربوبي وما نقصده بـ"الربوبية" هو أنها الشكل الحضوري للمعنى الإلهي والصورة الفعلية لواقع الرب التاريخي في جميع المذاهب الإسلامية، الذي يميل، في بعض الأحيان، إلى الصِّدام المسلَّح مع باقي الأرباب أو يعلن إعلانًا واضحًا عن إشراكية هذا المذهب أو ذاك أو تكفير معتنقيه والاستخفاف بالشكل الذي يكوِّنون به ربَّهم، وأن الحقيقة الإيمانية وربَّ هذا المذهب أو التصور يمثل الحقيقة الإطلاقية والتوحيدية، وأنه الأصل الأول للدين والحقيقة التي ارتبط بها محمد والسلف الصالح، المحافِظ على التراث النبوي من الأقوال والأفعال. وإن هذا الادعاء في ثقافة التدين يمثل الشعار الأساسي للمذاهب الإسلامية كافة، ماعدا بعض الملل والنحل التي تخلَّت عن الالتزام بالشريعة والقانون الإسلامي والتعبدي، ولم يبقَ من ارتباطها بالدين إلا تسميته العامة. ومن خلال هذه التعددية الربوبية في المذاهب، التي بينَّا شكلها الحضوري في طبيعة المذاهب الإسلامية، سنحاول أن نبين الفعل السلوكي للأرباب في المذاهب الإسلامية. 13 الفعل السلوكي للأرباب في المذاهب الإسلامية في الواقع المعاصر يظهر المعنى الإلهي في مدار الديانات في أشكال مختلفة ومتنوعة بحسب مراتب معرفية أو عقائدية. وسنوضح ثلاث أشكال أو مستويات لها: - الشكل الأول: ظهور حقيقة الاسم الجامع في المسمَّى المجرَّد (الله) = المستوى الإنساني. - الشكل الثاني: الربوبية الدينية في المسمَّى الجامع للدين (الإسلام) = المستوى التاريخي. - الشكل الثالث: الربوبية المذهبية في الظهور التحديدي لحقيقة ما يُسمَّى "الهوية" = المستوى الواقعي. تختلف عملية استحضار الأشكال الثلاثة للمعنى الربوبي في داخل المنظومة المعرفية والسلوكية للمذاهب الإسلامية. ويبدو أن الشكل الثالث، المتمثل في الربوبية المذهبية، هو الأوفر حظًّا في الحضور عمليًّا وفعليًّا؛ إذ هو يُعتنَق كسلوك تطبيقي على المستوى الجمعي، مع تلازُم مع الشكل الثاني (الربوبية الدينية) تلازمًا وجوديًّا لإثبات صحة المذهب وأصالته وارتباطه بالنصوص المقدسة (الكتاب والسنَّة) وتمثيله للمعيار الحق للنبوة المحمدية. وهذا ما تدَّعيه المذاهب الإسلامية كلها، ويمثل الشعار والرمز الحقيقي لوجودها. أما إذا نظرنا من خلال هذه الأشكال إلى السلوك الفعلي للأرباب وهوية حضورهم الذاتية في التاريخ والواقع، نجد أن الرب في المذهب السنِّي ("الرب السنِّي"، إذا جاز القول)، في مذاهبه الفقهية الأربعة، الحنفي والمالكي والحنبلي والشافعي، مع بعض الزيادات أو الحذوف في الشكل الحضوري لهذا الرب في بعض هذه المذاهب السنِّية، يشترك عمومًا في صفات سلوكية واحدة، ويشترك مع الرب السلفي في الجذور العقائدية، على الرغم من انفراد الأخير برؤية متزمتة وعصبية صارمة، كونه نتاج ثقافة الرب السنِّي في مراحله التاريخية كافة وولادة طبيعية لسلوكه وتبنِّيه معتقداتٍ دينيةً تمثل للشكل الظاهري للحياة الأولى للدين، وكذلك للصورة الشكلية للنصوص المقدسة. ويشترك "الرب الشيعي" مع "الرب السنِّي" في عوامل أساسية مشتركة، لكنه يختلف معه في أساسيات سلوكية وتفاصيل إيمانية، وله ملامح خاصة في التعامل مع الحياة؛ وكذلك من حيث انتماؤه للأصل الديني والرب السلفي، نسبة إلى "السلف الصالح" لصحابة الرسول الأوائل، بحسب التعبير الاصطلاحي للمذهب. ويُعتبَر الرب الشيعي والصوفي المنافس العدوَّ الألدَّ للرب السنِّي، في شكل عام، وللرب السلفي، في شكل خاص. ومع أننا أكملنا بحثًا منفردًا عن الصفات السلوكية للأرباب في المنظومة الدينية للإسلام في الزمن المعاصر، فسنستعرض جزءًا من هذه الصفات العامة للأرباب الثلاثة استعراضًا موجزًا. فمن أهم هذه الصفات وأكثرها تأثيرًا على الواقع السلوكي والتاريخي: 1. تُعتبَر السلطة من أهم الصفات المركزية في السلوك الربوبي في المذهب السنِّي: فالسيطرة على هذه السلطة وممارسة التسلط والحاكمية من المتع الهائلة للرب السنِّي. تُعتبَر هذه الصفة الشكل الطبيعي للمذهب السنِّي، من حيث هو يمثل الأكثرية في الإسلام ويعتبرها من حقوقه، كونه هو الحق: "لا تجتمع أمَّتي على باطل"، بحسب الحديث النبوي. لهذا فأهل السنَّة والجماعة هم "الفرقة الناجية"، وهي من صفات المذهب السنِّي بحسب الحديث النبوي: "لتأتينَّ على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل..."، إلى أن يقول الحديث: "وإن بني إسرائيل تفرقت على اثنتين وسبعين ملَّة، وتفرَّقت أمتي على ثلاث وسبعين ملَّة – كلهم في النار، إلا ملة واحدة. قالوا: ومَن هي، يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي." (رواه البخاري) ويعتبر أهل المذهب السنِّي أنهم يمثلون الرسول والصحابة وأن هذا الحديث يخصهم وحدهم. وهذا الحديث يُعتبَر من الأحاديث التي خلَّفت وراءها إشكاليات ومهالك لا تنتهي مادام هذا الحديث معتبَرًا عند كثير من المذاهب، مع بعض الزيادات بحسب رواة الأحاديث الثقاة لدى المذاهب. وتثير هذه الأحاديث جملةً من المشكلات التي لا حلَّ لها، وخاصة الأحاديث التنبؤية بمستقبل الحياة على الأرض، في شكل عام، والحياة في العالم الإسلامي، في شكل خاص. وقد تركت هذه الأحاديث هزائم للوعي الإنساني ومهازل فكرية وعقلية، وراح ضحيتَها كثيرٌ من الناس، أكانوا ضحايا التصفيات الجسدية بين المذاهب الإسلامية أو ضحايا انشغال العقول الإسلامية بمعرفة لا طائل من وراءها غير التوحش والتسافل والاستهلاك. ومن صفات المذهب السنِّي "الطائفة المنصورة" بحسب الحديث: "لا تزال طائفة من أمَّتي تقاتل على الحق ظاهرًا إلى يوم القيامة." إنهم يعتبرون، كما ذكرنا، أنهم المثال الحقيقي للسلف الصالح. وهذه الأحاديث، مع بعض الزيادات واختلاف المصادر، تُعتبَر من الأحاديث المهمة في المذاهب الإسلامية جميعًا، وتملأ ما هو موجود من تفاصيل أو خصوصيات في هذه الأحاديث عن الشكل الربوبي لها، بحيث يعتقد معتنقو المذهب الشيعي، كغيرهم من الفِرَق الإسلامية، أنهم "الفرقة الناجية"، فيما باقي المذاهب الأخرى في النار. بل لقد حدث صراع هائل على هذه الأحاديث لإثبات كلِّ مذهب أن "حديث الفرقة الناجية" يخصه بالذات؛ بل أخذت على أن أمَّة محمد لا يمكن لها أن تكون المذاهب والطوائف الإسلامية كلَّها لأنها باطلة في الأساس، بل إن المذهب نفسه، أكان سنيًّا أو شيعيًّا إلخ، هو الذي يمثل للمسمَّى العام لأمَّة محمد، وهو الذي ينقسم ويتشظَّى إلى فِرَق، واحدة منها "الفرقة الناجية"، ويتشعب ويتفرع حتى يصل إلى الأفراد. وإن مجمل الأحاديث في هذا السياق يتسم بنزعات القتال والاستمرار في العنف بشكل مباح وفقًا لأنساق لغوية مفتوحة؛ ومن الممكن استخدامها وفقًا لأيِّ شكل من أشكال المواجهة مع الآخر. وليس هناك أي بديل آخر للمواجهة، وخاصة في الزمن المعاصر للإسلام واستثمار الأحاديث أو الآيات التي تدعو إلى الاستمرار في القتال في سبيل الله، حيث لا يُعرَف بالدقة أي سبيل يتخذه المسلمون، نظرًا لتعدُّد السبل واختلافها على المسمَّيات المقدسة نفسها التي حُذِفَت تمامًا الضرورةُ التاريخية لإيجادها أو الضرورةُ الواقعية لاستخدامها في زمن النص وإطلاقها إلى مدى غير محدد، أي إخراجها من سياق الواقع والتاريخ وجعلها من المبادئ المحورية في الإسلام لإثبات صحة المذاهب وولائها للأصل الديني والنص المقدس في زمن الرسول. 2. يميل الرب السنِّي ميلاً واضحًا إلى الانتماء الأتم إلى الروح العربية، بأبعادها السلوكية كافة، المتمثلة في الجزيرة العربية بشكل أساسي، كونها مهبط الوحي الإسلامي والمكان الأول للظهور الديني للإسلام؛ ناهيك أن فيها الكعبة، بيت الله وقبلة المسلمين وأكثر الأماكن قدسية عند أتباع الرب السنِّي، وكذلك باقي البلاد العربية التي تتفاوت انتماءاتها للروح العربية نفسها، بحسب العادات والتقاليد المشتركة واللغة الواحدة. ويعتبر الرب السنِّي هذا الانتماء إلى الروح العربية من المقدسات التي تمثل الشكل الأول للظهور الديني في بلاد الجزيرة العربية. لذا نرى الربَّ السنِّي يركز على تمثُّل هذه الروح، ويتعاضد تعاضدًا كاملاً مع هذه الثقافة القومية ويحاول دعمَها بجميع الوسائل المتاحة، من الآيات التي تمثل الروح العربية في الصفات والتعامل مع مفردات الحياة والمزاج العربي في الملبس والمأكل والأفراح والأحزان والتعامل مع الغرباء. أي أن الرب السنِّي، بكلِّ وضوح، يمثل المزاج العربي التام في التعامل مع الحياة، مع بعض التطورات التي حصلت فيها. وبما أن المذهب السنِّي يمثل الأغلبية في الإسلام، فإن البلاد غير العربية التي تنتمي إلى المذهب السنِّي تحاول، قدر المستطاع، التقرب من الشكل العربي في الحياة أو التعامل مع الحياة في العادات والتقاليد الإسلامية السنِّية في السلوك، كونها هي الأصل النبوي للإيمان الديني بحسب اعتقادهم. ويعتبر الرب السلفي هذا الانتماء إلى الروح العربية من أكثر الشعارات قدسية لديه؛ بل يتحتم على المسلم اتِّباع الشكل الأول للحياة العربية في زمن الرسول، كونها تمثل عنده أقدس الفترات وأكثرها حضورًا وتوهجًا لوجود النبي فيها، أولاً، ولأنها من أكثر الفترات ازدهارًا للحضور الإسلامي وأكثر الفترات "عدالة" في نظره، ثانيًا. فالانتماء إليها يمثل الانتماء إلى الشكل النبوي وفعاليته الحياتية آنذاك. وهذا المذهب يقلِّد أشكال الحياة كافة في زمن الرسول تقريبًا تقليدًا سطحيًّا، وخاصة المزاج العربي في اقتناء الأشياء والملابس وطريقة التعامل مع مفردات الحياة والتعامل مع المرأة والأطفال والآخرين من ديانات أخرى. ولا يختلف تعامُله إطلاقًا عن شكل التعامل في زمن الجاهلية قبل النبوة، مع إضافة الشدة والتزمُّت والعصبية إضافة مفرطة: فالرب السلفي يعشق السلطة، بأشكالها كافة، ويضيف إليها التطبيق الفعلي للقتل والإزاحة من خلال هذه السلطة على المخالفين له في الرأي أو الاعتقاد. الرب السلفي يكفِّر جميع المذاهب الأخرى تقريبًا، بل يفتي بقتل أصحاب بعض المذاهب وإزاحتها من الوجود. وأشد أعدائه الشيعة والصوفية، بشكل خاص، وباقي الديانات الأخرى، بشكل عام. أما الرب الشيعي فإنه أقل حدَّة في تمثُّل الشكل الانتمائي للروح العربية المتمثلة في السلوك والتعامل مع مفردات الحياة، وإنْ كان معتنقوه من العرب حتى: فإن معظم هؤلاء المعتنقين لهم تراث وعمق حضاري فكري ومعرفي قبل الإسلام؛ فلم يكترثوا كثيرًا للشكل القومي للدين، على الرغم من تسرُّب الكثير من ثقافاتهم ومعارفهم القديمة إلى معتقداتهم وانصهارها في الشكل الديني خاصتهم. والرب الشيعي له أمزجة متنوعة ومختلفة وقابلة للتعايش مع جميع الأمزجة، وله القدرة على تسخيرها وفقًا لما يعتقد ويرى. 3. يشجع الرب السنِّي من خلال بعض النصوص المقدسة (الكتاب والسنَّة) معتنقيه على مهادنة الحكام إذا كانوا يعتنقون – ولو اسمًا – المذهبَ السنِّي، مع بعض التحفظات الدينية عليهم. ويجب أن تتوفر فيهم شروط، ولو ظاهريًّا، كون هؤلاء الحكام يضطهدون باقي المذاهب والملل والنحل، ولا يعترفون بها صراحة، وخاصة المذاهب المنحرفة عند الرب السنِّي، كالشيعة والصوفية. ويخرج عن هذا الالتزام الرب السلفي الذي له امتداد وجذور واشتراك مع الرب السنِّي، لأنه يمثل الشكل القهاري له؛ إذ يعتبر الرب السلفي الحكام الذين لا يمتثلون لأحكامه وقوانينه أعداء لله والدين، ويجب محاربتهم بأيِّ شكل من الأشكال. ويُعتبَر الرب السلفي من أشد الأرباب في الإسلام وأقساهم؛ إذ يمثل ربَّ الحرب أو، بالمعنى الديني، "رب الجهاد في سبيل الحق"، الذي يتمثل فيه. ويحشد هذا الرب جميع الآيات والنصوص من الكتاب والسنَّة لتعميق ثقافة الحرب والصراع المسلَّح بينه وبين جميع مَن يخالفه الرأي أو النظر بالنسبة للدين الإسلامي الذي يعتبر الحق المطلق لديه في تطبيق كلِّ ما يحتوي الكتاب والسنَّة ومباشرة فعاليتها الظهورية على الإنسان والواقع بشكل سطحي أو بما هو موجود في التعبير اللغوي للنصوص، من دون تأويل أو تفسير يرتبط بأيِّ شكل خارج الشكل التاريخي لفترة النبي وصحابته والتابعين له بإحسان. أما الرب الشيعي فهو يمثل الشكل المعارض للحكام والولاة الذين يحاولون تهميش وجوده، كونه (الرب الشيعي) يمثل الأصل النبوي لبيت النبوة الذين حُرِمُوا من ممارسة دورهم السياسي، وكذلك من تسلُّم السلطة التي كانوا أولى بها من غيرهم. ولقد مورستْ ضد هذا الاعتقاد أنواعٌ من الحرب والتدمير مازالت مستمرة إلى يومنا هذا. 4. يُعتبَر الرب السني من أكثر الأرباب اضطهادًا للمرأة، يتعامل معها كما كانت في الجاهلية، مع بعض الزيادات في الاضطهاد ومصادرة حريتها وتهميش دورها الحياتي والفعلي، وكذلك إبداعها، كونها تمثل النقص الوجودي والتسافلي في نصوص التكوين وخلق البشرية ومصدرًا من مصادر الإغواء والخطيئة، بحسب الثقافة المتدينة في فهم أوليات الخلق الأول وخروج الأب الأول للبشرية من الجنة الإلهية إلى الأرض. تُعتبَر المرأة، بحسب التصور الديني الساذج والسطحي، السبب الرئيس للخطايا البشرية. فكأن التفكير الذكوري الديني يطلب لدى المرأة ثأرًا أبديًّا لخروج الرجل من الجنة! وهذه الثقافة الذكورية تنعكس انعكاسًا مباشرًا أو غير مباشر على السلوك الديني أو البدائي أو الأسطوري، لاعتبارات مختلفة أو لأسباب أخرى. وكذلك هناك كم هائل من الأحاديث أو إشارات في الكتب المقدسة إلى تسافُل المرأة أو التعامل معها بقسوة أو تحديد فعاليتها ونشاطها وحصره داخل حدود ضيقة جدًّا، على الرغم من أن الرب السنِّي يعشق المرأة من جهة الالتذاذ المادي وكذلك المتعة الجسدية، كونها مصدرًا من مصادر الإمتاع الذكوري وكون الرب السنِّي يتصف بالصفات الذكورية التامة. وهذا التصور موجود في معظم الديانات الأخرى والمذاهب. أما الرب السلفي فيمارس أقسى أنواع التطرف في حقِّ المرأة، بعزلها تمامًا عن المحيط الذي تعيش فيه، وتجهيلها بكلِّ شيء، وإلزامها بأقسى العقوبات على أخطاء طفيفة، على الرغم من أن السلوك الفعلي للربِّ السلفي فيه الكثير من الشهوة والشبق تجاه النساء، حتى يبدو أن الرب السلفي يعاني من عُقَد تاريخية وأمراض اجتماعية ونفسية لا حصر لها! أما الرب الشيعي فيشترك في تحديد دور المرأة تحديدًا أقل قسوة من باقي الأرباب، لكنه لا يخرج من دائرة التصور الديني لها، كونها "عورة"! وهو يختلف مع الرب السلفي والسنِّي في القسوة المفرطة الممارسة ضد المرأة وفقًا للنصوص التي يؤمن بها، فيعطي المرأة بعض الأدوار الحياتية، حتى في ممارسة السلطة، لكن وفقًا لضوابط معدَّة سلفًا لها. 5. يمثل الرب السنِّي الشكل الأحادي أو الدكتاتوري لممارسة السلطة، أو يشجع السلطات التي تتبنى هذا الشكل الاستبدادي، مستوحيًا هذا الفهم من النصوص المقدسة أو الشكل المدرَك للحقيقة الإلهية في الوجود أو الفهم الأحادي للرب أو الدين، كون هذا الاعتقاد هو الشكل الأوحد لقيادة الحياة والأصلح في تقديم الشكل الأمثل لها، وكونه يمثل المصدر الأساس للوحي أو المعنى الغيبي للوجود أو ما يطلبه الله من البشر، بحسب الفهم الديني لهذه التسمية. ويتبنَّى هذا الفهمَ الرب السلفي، ويطالب باتخاذه بشكل واقعي وتطبيقي والسعي إلى تحقيقه على أرض الواقع، بالوسائل والسبل كافة، باعتبار أن هذا الرب هو الشكل العملي للرب السنِّي، مع زيادة في التطرف، أو "يده الضاربة في أرض الله". فعلى الرغم من أن الرب السلفي يختلف عن الرب السنِّي من بعض وجهات النظر التطبيقية، إلا أن هناك جذورًا مشتركة تجعله لا يمارس الإلغاء الكلِّي أو الفعلي على الرب السنِّي. بل إن الرب السلفي يشجع الرب السنِّي على اتخاذ سياسة العنف والتدمير، بحسب ما هو موجود في النصوص الأولى للدين، أو بحسب الفهم السلفي لهذه النصوص الكثيرة، التي يمثل شكلها الظاهري العنف والتدمير والتهميش لكثير من جوانب الحياة والواقع. لهذا تُعتبَر الحرب، أو التفنن في صنع الأعداء، من أفضل هوايات الرب السلفي وأكبر متعه، بما يضمن لهذه الربوبية حياةً وظهورًا أكبر وأوسع. لا يستطيع هذا الرب العيش من دون أعداء! ويشترك الرب الشيعي مع هذه الرؤية الأحادية للسلطة، وكذلك مع الشكل الأوحد في تسلُّط النظام الديني على الحياة والتدخل في تفاصيل الإنسان الدنيوية. وعلى الرغم من اختلاف الشكل الظاهري للسلطة الدينية، إلا أن مضمون الحاكمية يبقى واحدًا عند الأرباب في المذاهب الثلاثة كافة. 6. ليس للعقل قيمة فعلية وتميُّز ذاتي للقدرة والقابلية المبدعة عند الرب السنِّي، بل هو يستخدم العقل كقدرة تابعة لضمان التصور المنطقي لسلوك الرب أو خادم يبرِّر الاختلافات والمشكلات الجمَّة في النصوص الدينية. ويمارس الرب السنِّي نوعًا من التعسف والتسفيه للقدرة العقلية والإبداعية للإنسان كلما حاولتْ هذه أن تستقل عن المنظومة الدينية، أو لدى أية محاولة تشكيكية من الممكن أن تخلق نوعًا من الفهم المخالف للتصور الربوبي في المنظومة الدينية أو التماسك الشكلي للرب السنِّي. ويضيف الرب السلفي الإلغاء التام لأية مقدرة تأويلية أو فلسفية، ويشن حربًا تكفيرية على أية عقلية فلسفية من الممكن أن تجد لها منافذ معرفية تبيح التساؤل خارج سياق المنظومة الدينية، وكذلك لأية محاولة ثقافية أو إبداعية أخرى للإنسان في مجالات الفكر عمومًا. ويختلف الرب الشيعي مع الأرباب الآخرين في اتخاذ تشجيع الفلسفة أو اتخاذها ضمن الأدوات المعرفية لإثبات صحة عقائده وأفكاره التي يُعتبَر الكثيرُ منها لا يمثل الشكل الظاهري للدين الإسلامي ويتخذ من التأويل أداةً لإثبات أحقِّية الأشخاص الذين يعتبرهم مقدَّسين ضمن مداره العقائدي، كالأئمة والأولياء. وهذا الاستخدام لمجالات فكرية مختلفة طوَّر أدواتٍ كثيرة في التعامل مع المشكلات الدينية وفقًا لتصوراته الخاصة للدين. ويشترك الرب الشيعي مع السنِّي والوهابي في استثناء الشعر، بوضعه في دائرة المهمل والمفيد من التراث الثقافي والفكري، وخاصة الشعر المنظوم وفقًا للسياقات العلمية القديمة للشعر، الذي يمثل جزءًا مهمًّا من العقلية العربية الفكرية، ويتصف كذلك بالسياقات العلامتية نفسها للنصوص المقدسة، ويُعتبَر الشكل الأوحد للتعبير عن الحكمة العربية في سياقاتها اللغوية الأولى المرافِقة لِلُغة النصوص أو الداعمة لها. ويتغنى الرب السنِّي، وكذلك السلفي (ويشترك معهما الرب الشيعي في هذه الصفة)، بالشعر والشعراء الأوائل للعرب، كونهم الحصيلة الفكرية للتراث العربي، وبالأخص الشعراء في زمن البعثة النبوية الأولى وما بعدهم، ولأن التركيبة الشعرية للمعنى تخدم المعتنقين في إثبات قيمة اللغة العربية وإمكاناتها التخيلية والتعبيرية، التي من خلالها تظهر الصورةُ الإعجازية للنصوص المقدسة في الكتاب والسنَّة. بالإضافة إلى ذلك، يُعتبَر الشعر العربي المكوِّن الأساسيَّ للشعارات المعتبَرة في التراث الديني التي يستشهد بها المعتنقون لإثبات مقدرتهم الفكرية والتخيلية؛ وكذلك يُعتبَر الشعرُ من التراث الذي يساعد على إثارة الفهم الأحادي للوعي والسلطة والحاكمية للدين. أما باقي العلوم فليست لها أية قيمة إلا في تقديم العون الفكري والتأييد العلمي لخدمة النص الديني. وإن الفقه وعلوم القرآن والحديث واللغة من العلوم الشريفة للإنسان المسلم الذي يسعى جاهدًا بتحصيلها إلى كسب رضا الأرباب في المجالات كافة. ويمكن أن نواصل إلى ما لا نهاية تعدادَ الصفات السلوكية والتفصيلية في تاريخ الأرباب في المذاهب جميعًا، نظرًا لكثرة الوقائع التي حدثت في تراث الإسلام. وقد أفردنا بحثًا مفصلاً حول هذه السلوكيات على امتداد التاريخ الإسلامي، وخاصة المعاصر، في تقلُّبات الأرباب والأمزجة المختلفة والتذوقات لأشكال مختلفة من الحياة والواقع والعنف الذي مورس ممارسةً مباشرة أو غير مباشرة ضد الإنسان في أمكنة وأزمنة مختلفة. والأرباب كلهم، في الديانات عمومًا، وفي الإسلام خصوصًا، في حرب مستمرة ضد المعنى الإنساني؛ إذ هي تحوِّل الإنسانَ إلى عدوٍّ لدود للرب في الديانات بعدما كان الجوهر الحقيقي للوجود والشكل الأمثل لصورة الله في العالم. وإن هذا التحول الكبير، وخاصة في زمننا المعاصر، يُعَدُّ أخطر التحولات في الفكر الديني للقضاء على كلِّ إبداع إنساني أو أية حقيقة وجودية قد تختلف مع التفكير الديني في إدراكها للحياة والعالم والوجود والإنسان. وبما أننا أوضحنا أن في إمكان الإنسان أن ينتقي أربابَه وفقًا لسياقات تاريخية معينة، وأن يفرض هذا الشكل الربوبي أو ذاك على الحياة والواقع، فهل في إمكاننا أن نعيد صياغة أربابنا وأن نختارهم وفقًا للتصورات الإنسانية والتقدم الإنساني في مجالات كثيرة، كون الإنسان قادرًا على اتخاذ الشكل المناسب للحياة، وعلى صنع النظام الذي يتوافق وقدراتِه المتحولة والمتغيرة، وعلى تأمل الأرباب في المعنى الوجودي والكوني للحقيقة الإلهية الخالصة التي هي الوجود كله، بعدم إزاحة هذا المخلوق الإنساني، كونه من المخلوقات الإلهية التي أظهرت القدرات الهائلة في صنع الحضارات، وهي تمثل المصداق الفعلي للإبداع الإلهي اللامتناهي؟ هل في مكنتنا أن نختار أربابًا مسالمين ومنتجين للحكمة والمعرفة والقيمة الخالصة في بناء الإنسان، بحيث تسانده في تكامُل إنسانيته؟ إننا في أمسِّ الحاجة إلى أرباب يتمتعون بقيم التسامح والمحبة والأمان ويشجعون عليها. ومَن يعبث بهذا الوجود ويقتل الإنسان ويزيح معاني إنسانيته ليس من أصل المعنى الوجودي لهذه الحقيقة المطلقة. فهل في الإمكان أن تهدأ نفوس الأرباب وتترك عدة الحرب وعتادها، فتستريح من الحروب الدامية التي خلَّفتْها للإنسانية، وتعتذر عن أخطائها الكارثية في عمليات تصفية الإنسان وإزاحته؟ مَن الذي يمنعنا إنْ كانت من الضرورات الإنسانية المتوارثة إعادةُ صياغة الربوبية بما يتلاءم ومعرفتَنا الحاضرة وقدراتِنا في إنتاج الأشكال الحياتية التي تنسجم مع القيم الأولى للنظام الكوني والروحي والتي لا يختلف عليها أي دين لأنها من الأصل الوجودي للإنسان؟ متى تكف الأرباب وتقتنع – وخاصة في الإسلام – بعدم التدخل القسري في حياة الناس وتحديد حرياتهم ورسم وجودهم وفقًا لقراءات تعسفية للمعنى الإلهي في الوجود؟ متى تستريح الأرباب من حشد أبطالها وشهدائها وتجييش معتنقيها وحثِّهم على العنف والدمار وصنع القتلى الذين ماتوا من أجل "مجهول" لا يعلمه حتى أرباب المذاهب – قتلى من أجل شعارات لغوية مقدسة، قتلى ينتمون إلى أشكال من التاريخ قد مضت، لم يعد لها حضور فعلي إلا في ذاكرة الإرث الممزوج بأشكال مختلفة من الوهم التاريخي والإنساني؟ لم تفعل أرباب المذاهب طوال عقود كثيرة إلا ترجمة شرورها وقليل من الخير! ألم يحنِ الوقتُ لنرى ما يمتلكون من خير كثير؟ إننا نتمنى على الأرباب أن ينسوا مفهوم المزاحمة الوجودية. فالوجود يتسع لهم جميعًا إذا حاصروا مفهوم العداوة وأوقفوا تجنيد قدرتهم العظيمة لصناعة الأعداء إلى ما لانهاية. *** *** *** [*] كاتب وباحث من العراق، مدينة الصدر. بريده الإلكتروني: waleedmadar@hotmail.com. |
|
|