|
نحو منهج موحَّد لفهم الدين
يقترح الكاتبُ منهجًا موحدًا لفهم الأديان، قائمًا لا على اللاهوت أو علم الكلام التقليدي، بل على الدراسات الموضوعية والفلسفة. لكلٍّ من المسيحية والإسلام نموذجٌ تقليدي لفهم الدين على أساسه. في المسيحية، يقوم هذا النموذج على أن يسوع المسيح حقَّق في شخصه ما أعلنه الأنبياءُ اليهود عن انتظار مخلِّص مرسَل من الله. وهو يضيف أن الله، بعدما خاطب شعبَه بواسطة الأنبياء الذين رفضهم هذا الشعب، قرر أن يخاطب شعبَه مباشرة عبر حلوله في جسد يسوع المسيح الذي أكمل رسالتَه على الأرض بتعاليمه، ثم بافتدائه الجنسَ البشري على الصليب وسحقه الموتَ بالقيامة. هكذا أبطلتِ المسيحيةُ كلَّ ما سبقها، خصوصًا اليهودية، وأغنت عن كلِّ دعوى دينية لاحقة: فمَن يخاطبه الله بذاته لا يحتاج بعدُ إلى أنبياء. وبعدما كان مفهوم "شعب الله المختار" في اليهودية محصورًا في شعب ينتمي إلى عرق معين، بات مفهومُ "الاختيار" في المسيحية شاملاً ومفتوحًا أمام الجميع على أساس الإيمان بيسوع المسيح. وترى هذه النظرة أن ما هو جليل في الأديان الأخرى، من إقرار بوجود الله الخالق وإدارته الكون بمنتهى القدرة والحكمة ومن عناصر خُلُقية إيجابية، إنما هو مستمَد من تعقُّل الإنسان وسلامة فطرته. لذلك يمكن اختصار النموذج المسيحي التقليدي لفهم الدين بأن ثمة دينًا واحدًا من الله هو ذاك الذي أعلنه يسوع المسيح، وان الأديان الأخرى، في أحسن حالاتها، أنظمةٌ بشريةٌ تُعنى بالأخلاق وإصلاح الفرد والمجتمع. أما النموذج الإسلامي التقليدي، فيميز بين منظومتين دينيتين: يسمي إحداهما "سماوية" والأخرى "غير سماوية". وما الأديان غير السماوية، كالهندوسية والبوذية والطاوية، سوى أنظمة بشرية هدفها تنظيم حياة الناس الفردية والاجتماعية على مبادئ الضمير والقانون؛ أي أنها رسالات خُلُقية واجتماعية. لكن ثمة منظومة أخرى من الأديان هي التي تعبِّر عن الحقيقة الإلهية؛ وهذه الأديان "السماوية" هي اليهودية والمسيحية والإسلام، التي تتدرج من الأدنى إلى الأعلى أو من الناقص إلى الكامل، فتبدأ باليهودية مع الأنبياء والمعلِّمين، وتتخذ صورةً أتم من الكمال في المسيحية مع عيسى ابن مريم وتعاليمه، إلى أن تحقِّق غايةَ الكمال مع محمد بن عبد الله، النبي العربي وخاتم الأنبياء، عبر القرآن الكريم الذي نزَّله الله عليه "ختامًا" لما سبقه في التراث الإبراهيمي، أي عند اليهود والنصارى. ومفهوم "الختم" في هذه النظرة التقليدية يحمل معنى القبول والاكتمال: فالقرآن ليس مصدقًا فحسب لما سبقه، أي التوراة والإنجيل، لكنه تتويج واكتمال لهما؛ وهو، بهذا، كلام الله غير المنقوص ولا المحرَّف. لذلك كان مجرد القبول بنبوة محمد يعني، مع الاعتراف بـ"الناقص" الذي سبقه، التخلِّي عنه في سبيل "الكامل" الذي شاءه الله رحمةً للعالمين بواسطته. ولئن كانت النظرة المسيحية التقليدية إلى الدين مكتفية ذاتيًّا، بمعنى أن هناك دينًا إلهيًّا واحدًا هو الذي جاء به يسوع المسيح، وكانت النظرة الإسلامية التقليدية نظرة تكاملية، لكنْ محصورة ضمن الأديان السماوية أو الإبراهيمية الثلاثة، المتدرِّجة من الناقص إلى الكامل، ففي الإمكان اعتبار كلٍّ منهما نموذجًا لمنهج موحَّد من أجل فهم الدين. وإذا كنا في حاجة إلى ابتكار التسميات، لأطلقنا على النموذج المسيحي اسم "المنهج الإلغائي" وعلى النموذج الإسلامي اسم "المنهج التكاملي" أو "المنهج الإلغائي–التكاملي". ومبرِّر التسميتين واضح جدًّا، وهو أن المسيحية لا تعترف بما عداها إطلاقًا، فيما يقتصر عدمُ الاعتراف الإسلامي على الأديان غير السماوية، وإن عدَّ الإسلامُ نفسَه أكملَ الأديان السماوية. لعل هذا المنهج يلاقي القبول الأوسع، أو قبولاً واسع النطاق، في كلا الجانبين المسيحي والإسلامي، حتى بين الذين يدعون إلى الحوار الديني ويمارسونه. وقد يكون هدف الحوار تحت منهج كهذا إقناع الآخر بوجهة نظرنا وتحويله أو "هدايته" من دينه "البشري" إلى ديننا "الإلهي"، أو من دينه "الناقص" إلى ديننا "الكامل"؛ وقد يكون محاولةً للتلاقي على الشؤون الخُلُقية، لتعذُّر اللقاء على الشؤون الدينية، بهدف تعزيز الوحدة الاجتماعية ضمن نظام سياسي يكتنفه السلام[1]. إن التسميتين اللتين أطلقتُهما على النموذجين المذكورين – وهما "المنهج الإلغائي" للنموذج المسيحي التقليدي و"المنهج الإلغائي–التكاملي" للنموذج الإسلامي التقليدي – تعبِّران في عدالة تامة عن كلا المنهجين. إلا أن هذه العدالة، مع الأسف، شكلية، تقتصر على المنهج ولا تمتد إلى الأديان الأخرى. إذ مَن ذا الذي يقبل أن تلغيه، أو أن تدَّعي أنه "ناقص" وأنك أتيت لإكماله، مع ما يستتبعه مفهومُ الإكمال من إلغائه والحلول محله؟! وفي رأيي أن كلَّ كلام، مهما بلغتْ بلاغتُه التنميقية لتخفيف وَقْع الإلغاء أو الإكمال، هو أدخَل في باب "التقية"، بمعنى عدم إظهار ما نُضمِره حقًّا، وعلى الأقل، في باب جهل – أو تجاهُل – المآل المنطقي لموقفنا. لكن لا بدَّ من أن يكون المنهج الموحَّد المنشود لفهم الدين منهجًا يمكن تطبيقه على الأديان كلِّها من غير أن يقضي على المفهوم الديني المحوري – وهو مفهوم الألوهة – باسم نظرة أخلاقية أو اجتماعية أو سواهما، ومن غير أن يُخضِع دينًا لدين آخر؛ كما يمكن له أن يجيب عن أسئلة أساسية متعلقة بالدين من النوع الآتي: ما هو الدين؟ لماذا الدين؟ ما الفرق بين لغة الدين ولغة العلم، مثلاً، وهل هناك تعارُض بين العلم والدين؟ وإذا صحَّ أن لغة الدين أحيانًا رمزية أو مجازية، فما هي الأنماط الممكنة لفهم الرمزية الدينية؟ نموذج بديل المأزق الذي يفضي إليه النموذجُ التقليدي هو عدم تلبية الشروط المطلوبة لفهم الدين: - فهو يختزل بعض الأديان إلى نظام آخر، كالأخلاق أو الاجتماع؛ - وهو يُخضِع الأديانَ كلَّها لدين واحد، كالمسيحية أو الإسلام؛ - وهو يخفق في طرح الكثير من الأسئلة المتعلقة بالدين وفي الإجابة عنها. وإذا كان النموذج التقليدي القائم على اللاهوت أو على الكلام أفضى بنا إلى هذا المأزق، فهناك نماذج بديلة. أحد هذه النماذج مستمَد من حقول للمعرفة الدينية تقع خارج اللاهوت أو علم الكلام، أهمُّها تاريخ الأديان وفلسفة الدين. وقد أضيفَتْ إليهما حقولٌ أخرى، مثل علم النفس الديني وعلم الاجتماع الديني، لتشكِّل، هي وما شابَهها، حقلاً معرفيًّا واسعًا بات يُطلَق عليه اسمُ "الدراسات الدينية"[2]. هذه الدراسات تتناول الدين، في أصوله وفروعه وتشعباته، موضوعيًّا، من غير التزام، في حدود الدراسة، بوجهة نظر دين معين. لنسأل، أولاً، ما هي الظواهر التي تشكِّل مواد الدراسة المقصودة؟ إنها الأديان: لا ما تقتصر النظرةُ التقليدية المسيحية أو الإسلامية على تسميته أديانًا، بل ما يسمِّيه أصحابُه أديانًا وما يُسمَّى هكذا على وجه العموم وفي الدوائر الجامعية ومراكز البحث العلمية المتخصصة. من هذا المنظار فإن الهندوسية والبوذية والطاوية والكونفوشية والشينتو والزرادشتية أديان، تمامًا كما أن اليهودية والمسيحية والإسلام أديان. وكما تشترك أعمالٌ كتابية في عناصر معينة لتسمَّى كلها شعرًا، وتشترك سواها من الأعمال في بعض العناصر لتُسمَّى روايةً أو رسمًا أو موسيقى، هكذا تشترك ظواهر أخرى في عناصر تتيح لنا تصنيفَها تحت خانة الأديان. وما عبارة "دين" أو "أديان"، كما تُستعمَل في الخطاب العادي، سوى إشارة إلى وجود هذه العناصر، وإنْ لم يتوقف معظمُ مستعملي العبارة يومًا للتفكير الجدي فيها، أسوةً بسائر العبارات التي تملأ الخطاب اليومي. ثانيًا: هذه العناصر أوسعها اختصاصيو الدراسات الدينية، سواء كانوا مؤرخين أم فلاسفة أم علماء نفس أم علماء اجتماع، تحريًا وتحليلاً. ومن الكتابات الرائدة في هذا المجال كتاب وليم جيمس تنوعات الخبرة الدينية[3] وكتاب رودولف أوتُّو فكرة المقدس[4] – علمًا أن تسمية أحد العناصر قد تختلف بين دارس وآخر، وأن بعض الدارسين قد يلجأ إلى التوسيع، فيحدِّد، مثلاً، عشرين عنصرًا من هذا النوع، فيما يقتصر آخرون على عشرة عناصر أو سبعة أو ثلاثة. في خلاصة كتابي التاريخي–الفلسفي الأديان الحية (1993)، التي تحمل عنوان "ما هو الدين"، توصلت، بناءً على منهج المقارنة الوصفية بين الأديان، إلى تحديد خمسة عناصر أساسية يتكون منها الدين، بمعنى أننا نجدها كلَّها في الأديان الحية حول العالم[5]. وكان لا بدَّ من اعتماد المقارنة الوصفية تمييزًا لها عن طريقة أخرى من المقارنة هي المقارنة القيمية، التي تتبع عادة المناهجَ اللاهوتية أو الكلامية، في حين تجافي مناهجَ الدراسات الدينية العلمية أو الموضوعية. فالمقارنة الوصفية تتجنب المفاضلة والأحكام القيمية، من نوع "أعلى" و"أدنى" و"أتم" و"أصح" و"أقل صحة". والعناصر الخمسة التي يتكون منها الدين، كما جاءت في كتابي المذكور، هي الآتية: 1. النظام المادي الظاهر لا كيان له في ذاته ومن ذاته، وبالتالي، لا معنى ولا هدف ولا قيمة، لكنه يستمد كيانيَّته ومعناه وهدفَه وقيمتَه من حقيقة مطلقة هي الحقيقة الإلهية المقدسة. 2. الاعتراف العقلي أو النظري أو اللفظي بهذه الحقيقة اللامحدودة لا يكفي لوصل الإنسان المحدود بها، وإلا صار الدين ضربًا من الفلسفة؛ بل هناك وسائل أخرى لدنوه منها، هي وسائل تعبيرية رمزية تُسمَّى الشعائر أو الطقوس: منها، مثلاً، الصلاة والصوم والحج. 3. من وسائل تقريب المحدود من اللامحدود أيضًا الأخلاق الفاضلة، كتأدية الواجب والمحبة والعدالة واحترام كرامة الإنسان. 4. في سعيه إلى الفضيلة نهجًا لحياته، يتخذ المؤمنُ من مؤسِّس دينه قدوةً له. فمثال الإنسان الكامل في المسيحية هو يسوع المسيح، وفي الإسلام النبي محمد، وفي الطاوية لاو تسُه، وفي البوذية البوذا غوتاما، إلخ. ولهؤلاء المؤسِّسين علاقة خاصة بالألوهة، إذ نقلوا رسالتَها إلى البشر. 5. كذلك يقتدي المؤمن في سلوكه القويم وتوسُّله القداسة بأناس نجحوا إلى حدٍّ بعيد جدًّا في محاكاة المؤسِّسين؛ وهؤلاء جماعة من ذوي السيرة الصالحة هم الأولياء أو القديسون. ثالثًا: اشتراك الأديان الحية في هذه العناصر يشير إلى وحدة دينية معينة هي ما يُسمَّى جوهر الأديان. والإقرار بهذه الوحدة الجوهرية أو الوظيفية خطوة بالغة الأهمية في فهم الدين ودراسته؛ وهو ثمرة الطريقة الوصفية أو الموضوعية التي اعتمدناها طريقةً موحدةً لفهم الدين. إلا أن كلاً من الأديان يعبِّر بطريقته الخاصة، القائمة على كتاباته المقدسة وشروحها، وعلى صياغاته العقائدية وتاريخه وتقاليده، عن كلِّ عنصر من العناصر المذكورة. فالنظرة إلى الألوهة في المسيحية ليست هي ذاتها في الإسلام وفي الهندوسية وفي البوذية وفي باقي الأديان؛ وكذا النظرة إلى الشعائر والفروض والأنبياء والأولياء. هناك، إذًا، تنوُّع أو تعدُّد ديني تعبِّر عنه الأديان المختلفة؛ لكنه لا يلغي وحدة الجوهر أو يناقضها، لا بل هو تنوع ضمن الوحدة. لذلك يجدر النظر إلى الاختلاف بين الأديان كما لو كان من قبيل التنويع المنطلق من مصدر واحد والمتحرك نحو غاية واحدة. وهذا المصدر والغاية هو الحقيقة الإلهية المطلقة التي يدعو الدينُ إلى اكتشافها وإعادة وَصْل الإنسان، والوجود كلِّه عِبرَه، بها. وإذا كانت ثمة حاجة إلى إطلاق اسم فلسفي على هذا المنهج الموحَّد لفهم الأديان فلعل اسم "الوحدة في التنوع" يعبِّر عنه خير تعبير. رابعًا: هذا المنهج، الذي ينتمي، كما قلنا، إلى الدراسات الدينية الموضوعية (ومنها فلسفة الدين)، قائمٌ على العقل؛ وهو، بهذا المعنى، غير مستمَد من معطيات أيِّ دين بعينه. فلو كان من داخل دين معيَّن لما اختلف كثيرًا عن المنهج الذي وَسَمْناه بـ"الإلغائي" أو بـ"الالغائي–التكاملي". والأحرى أننا اعتمدنا منهجًا من هذا النوع لتحقيق أقصى ما يمكن توخِّيه من موضوعية أو عدالة في فهم الأديان. والدراسة العلمية للدين لا يمكن أن تتحقق إلا بمنهج مستقلٍّ عن أيِّ دين موحى بعينه، تمامًا كما أن دراسة الشعر، مثلاً، لا تتحصل باعتبار مدرسة أو مذهب شعريٍّ بعينه نموذجًا لكلِّ ما يُسمَّى شعرًا. إذا سُئلتُ إنْ كان هذا المنهج من "داخل الدين" أم من "خارج الدين"، لأجبتُ أنه من خارج الدين ومن داخله في آنٍ معًا، نسبة إلى المعنى المقصود: فكونه من "خارج الدين" يعني أنه لا ينطلق من دين معين، أي من معطيات الوحي الخاصة بالمسيحية أو بالإسلام أو بسواهما (وقد رأينا المأزق الذي أوصلنا إليه منهجٌ من هذا النوع)؛ لكنه لا يمكن ولا يجوز إلا أن يكون، بمعنى عميق جدًّا، من "داخل الدين"، لأن هدفه دراسة الدين وإلقاء الضوء على جوانبه المختلفة، تمامًا كما أن مناهج دراسة الشعر هدفها إظهار ماهية الشعر وكشف علاقته بطرائق التعبير الفنية الأخرى، مثل الرسم والموسيقى، وإيضاح الفرق بين لغة العلم، مثلاً، ولغة الشعر، إضافة إلى جملة مسائل أخرى يمكن إدراجها تحت فلسفة الشعر. في أيِّ حال، لا بدَّ من الإشارة إلى أن العقل نفسه يجب أن يكون أساس قبول أية رسالة دينية على أنها وحي إلهي[6]. وهذا يعني وجوب انسجام هذه الرسالة، في جزئيها المتعلقين بالخلق والأخلاق، مع سليقة الإنسان أو فطرته أو منطقه السليم، ومع تطلعاته السامية نحو المُثُل العليا، من محبة وسلام واحترام لكرامة الإنسان. فالرسالة تفصح عن إلهيَّتها بمقدار جمالها وجلالها وكمالها؛ ومقياس إلهية الكلام عظمته ونبله. هفوات الدارسين ضمن هذا المنهج الموحَّد الذي اقترحناه لدراسة الأديان، لا نعثر دائمًا على نتائج ودِّية حيال الدين أو الظاهرة الدينية. ليس ضروريًّا أن يتبنَّى الدارس، أو أن يعلن من خلال دراسته، موقفًا إيمانيًّا يدعم دينًا معينًا أو يعزِّز النظرةَ الإيمانية على العموم، سواء كان هذا الدارس مؤرخًا أو فيلسوفًا أم عالم اجتماع؛ لكنْ ليس مرغوبًا، في الوقت نفسه، أن يعلن، باسم أوهام تنتحل صفةَ الموضوعية أو الطريقة العلمية أو الحداثة، موقفًا معاديًا للدين وللإيمان، كما يفعل بعض علماء النفس والاجتماع عندما يربطون الإيمان بنوازع شاذة، كالعُصاب على الصعيد النفسي والتعصب على الصعيد الاجتماعي، من غير أن يحلِّلوا ظاهرة الإيمان فلسفيًّا ويميزوا بين أنماط الإيمان الممكنة. تصوروا منهجًا موحدًا لفهم الشعر، يضع كلَّ ما يُسمَّى شعرًا تحت ضوء نظرة سلبية إلى الشعر، فيحلِّل أية قصيدة كُتِبَتْ حتى اليوم في أية لغة بأدوات تجعل منها، مثلاً، تعبيرًا عن مشاعر دنيئة لدى الإنسان تتخفَّى تحت لبوس الكلام المنمق الجميل. الراجح أن نظرة من هذا النوع، إن استطاعت إقناع أحد على الإطلاق، سوف يقتصر إغواؤها على نفوس "غير سوية". لا ننسَ إننا في صدد منهج موحَّد لفهم الدين، لا لعدم فهمه أو لإساءة فهمه؛ لفهم الدين، أجل، في إيجابياته وسلبياته، في إلهياته وإنسانياته، في سلامه وحروبه، في نصوصه الجليلة وشروح هذه النصوص التي لم تكن "جليلة" على الدوام. والمنهج الذي اقترحناه، وسمَّيناه وصفيًّا أو موضوعيًّا، مجاورٌ لمناهج، علمية هي الأخرى، بدأت تظهر في الغرب منذ نحو مئة وخمسين عامًا، مع نشوء علوم لدراسة الدين خارج نطاق اللاهوت، اكتسبتْ اسمَ الدراسات الدينية؛ وهذه لم تُبطِل الدراسةَ اللاهوتيةَ التقليدية، بل أثَّرتْ فيها أحيانًا كثيرة وكسرتْ من غلوائها "الإلغائية". لكني أود ربط منهجي شخصيًّا بتراثنا العربي أولاً، وتحديدًا بأحد مؤرِّخي الدين في هذا التراث، وهو أبو الريحان البيروني (ت 1048)، صاحب الكتاب الشهير حول الهند ودينها[7]. وإذ لن أدخل في تفاصيل هذا الكتاب، أكتفي بالإشارة إلى أن بدايات المنهج الوصفي أو الفينومينولوجي ظهرت قبل ألف سنة مع البيروني الذي درس الهندوسية من مصادرها الأساسية، وترجم بنفسه، في هذا السبيل، بعض كتبها المقدسة إلى العربية، داعيًا إلى نقل الحقائق مباشرة عن أولئك الذين نُخبِر عنهم، بعيدًا عن الهوى والجهل واعتماد روايات الآخرين، وأقام مقارنة وصفية في بعض جوانب الدين بين الهنود، من ناحية، وبين المسلمين والمسيحيين، من ناحية أخرى. وبالعودة إلى البيروني، لا أقصد أيَّ تعصب أو تحيُّز للتراث العربي. فللعلم والمعرفة المسؤولين هوية واحدة هي الإنسان وكرامته وسعادته، أولاً وأخيرًا. لكني أردت التأكيد على أن للمنهج الذي توصلت إليه في فلسفتي لدراسة الأديان جذورًا راسخة في تراثنا الفكري العربي. ولكم أتمنى أن تستمد شجرةُ المعرفة الدينية العصرية عندنا بعض فروعها من هذه الجذور. تكلَّمنا في بداية هذا المقال عن نظرة مسيحية تقليدية وَسَمْناها بالنظرة "الإلغائية"، وعن نظرة إسلامية تقليدية وَسَمْناها بالنظرة "التكاملية" أو "الإلغائية–التكاملية". هاتان النظرتان كلتاهما تنبعان من صُلب الدين، وقد اعتنقتْهما أعدادٌ كبيرة من المؤمنين، في الماضي كما في الحاضر؛ ولطالما وُجِدَ بين هؤلاء المؤمنين العديد من الذين مارسوا المحبة والتسامح والكثير من المشاعر النبيلة حيال الآخرين. لكننا رأينا، في سياق مقالنا، أن كلتا النظرتين لا تصلحان منهجًا موحدًا لفهم الدين، أي لفهم الأديان الحية السائدة في العالم المعاصر، في حدود الموضوعية والعدالة وعلى نحو مقبول من أهل هذه الأديان. إلا أن المسيحي المؤمن والمسلم المؤمن، كما المؤمن من أيِّ دين آخر، يستطيع أن يتبنى منهجًا موحدًا لفهم الدين من خارج النماذج التقليدية، كالمنهج الذي اقترحناه، من غير أن يضحِّي بأساسيات إيمانه. وهنا يأتي دور اللاهوت المسيحي وعلم الكلام والدراسات الدينية. ويغدو تحدي الفهم والتفاهم واحترام كرامة الإنسان والمحبة والسلام أكبر التحديات المفتوحة أمام الفكر الديني والمفكرين الدينيين اليوم. *** *** *** [1] راجع: أديب صعب، "الأديان الأخرى والحوار"، الفصل الثالث من كتاب وحدة في التنوع، دار النهار، بيروت، 2003، ص 27-33؛ وأيضًا: أديب صعب، "فلسفة للحوار الديني"، الحياة، السبت 3/7/2004، ص 14. [2] في هذا الموضوع، انظر الآتي: H.D. Lewis & Robert Slater, The Study of Religions, Harmondsworth (England), Penguin Books. وأيضًا: أديب صعب، الدين والمجتمع، دار النهار، بيروت، 1983، طب 2: 1995، ص 141-163. [3] William James, The Varieties of Religious Experience (First Published in 1902). [4] Rudolph Otto, The Idea of the Holy (First Published in Germany in 1917). [5] أديب صعب، الأديان الحية، دار النهار، بيروت، 1993، طب 3: 2005، ص 199-223. [6] انظر: أديب صعب، "اللاهوت الطبيعي وحدوده"، في كتاب الإلهيات للعلامة يوسف شمعون السمعاني (محرر)، منشورات جامعة سيدة اللويزة، 2003، ص 111-119. [7] أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني، تحقيق ما للهند من مقولة، مقبولة في العقل أو مرذولة، عالم الكتب، بيروت، 1983.
|
|
|