تقديسُ النصِّ إلغاءُ الواقع

 

فراس سعد[*]

 

بعدما يتناول العربي عقيدتَه على أنها حقيقة كلِّية أو مطلقة، يندفع إلى تقديسها لأنها "حقيقة مطلقة". وهذه الحقيقة التي يقدِّسها تكون غالبًا إما نصًّا نقليًّا (كتابًا مقدسًا)، أو فكرة فلسفية، أو نصًّا وضعيًّا في أدبيات حزب ما.

وتقديس النص يعود إلى تقديس "المصدر" الذي وَضَعَ النصَّ واعتباره مطلقًا في القيمة والقدرة. وبذلك يتحول النص، بدوره، إلى مطلق في القيمة والقدرة، ويتلازم تقديسُه مع تقديس المصدر–الإله. لكن تقديس النصِّ تاريخيًّا، من خلال تجربة الإنسان المعروفة، كان متوجهًا نحو "شكل" النص باعتباره وحيًا فقط، ولم يتجاوزه إلى تقديس "مضمونه"؛ أي لم يتم الالتزام بمضمون النص المقدس – وهاهنا مفارقة.

فالنص والعقيدة المقدسان في النظام الديني الشرق–عربي، الذي يعتمد الوحي والرسالة والبنوة الإلهية، يضمنان رفعَ الإنسان فوق المخلوقات، ويجعلان منه مخلوقَ الإله المدلَّل والأحب. بل يجعل بعضُها الإنسانَ شبيهَ الإله، فيدعوه إلى محبة أخيه الإنسان وعدم أذيته، ويضمن له حقوقَه الأساسية في العيش في سلام وحرية وكرامة، ويدعوه إلى المسالمة ونبذ العنف والإجرام والكره. مع ذلك، وعلى الرغم من أن هذه المبادئ تدخل في صُلب النص المقدس وأنها مبادئ إلهية وأوامر موجهة إلى الإنسان الملتزم بهذه النصوص والعقائد – على الرغم من ذلك، جاءت ممارسة هذا الإنسان لتثبت عبر التاريخ أن الإنسان المتدين في أديان الشرق العربي – المسيحية والإسلام وغيرهما – خرج على مبادئ هذين الدينين ومسلَّماتهما، إما لعدم وعي المتدينين بموضوع النص وفحواه أو لجهلهم تفاصيلَه.

فعلى سبيل المثال، يقدِّس المتدينُ المسلم القرآنَ ويقبِّله كلما حصل تماس بصري معه؛ لكنه – بسبب ظروف العصر وانشغالات المعيشة ربما – قد يجهل معظم ما فيه من دعوات إلى إعمال العقل والتفكير ومحبة الآخرين والتعاون معهم وصلة الأرحام. وبهذا فإن تقديس القرآن يتحول إلى تقديس الكتاب المطبوع، كتاب الورق والغلاف المزركش، وتقبيلُه لا يعدو تقبيل أي شيء نحبه ونحترمه (تقبيل قداسة)؛ لكن هذا لا يعني معرفتَه أو وعيَ تعاليمه وتدبُّرها. فالتقديس يكون غالبًا على حساب العمل بتعاليم المقدس – وإن كان من الإنصاف التفريق بين تقديس واعٍ يمارسه قلةٌ من المتدينين المثقفين وبين تقديس آخر – وهو الغالب على جمهور المؤمنين – يمكن لنا أن نسميه "التقديس المُغلَق": تقديس النصِّ تقديسًا أدى – ويؤدي – إلى تحجميه وتجميده وتحويله إلى "تابو"، تقديسًا وَضَعَ النصَّ في قالب حديدي عَزَلَه عن الناس، بل عَزَلَه عن العقل، فأبطل نظرَ العقل إليه وفيه، لأنه جعل النصَّ محلَّ المصدر أي الإله – والإله لدى العابد ليس محلَّ تفكير أو نقاش!

وهكذا حصلت قطيعةٌ عقلية بين النص المقدس وبين جماهير "المقدِّسين"، سواء كانوا متدينين، يقدسون نصًّا إلهيًّا نقليًّا، أو كانوا حزبيين، يقدسون نصًّا وضعيًّا عقليًّا. لقد أمستِ العقائدُ السياسية الكبرى (في البلاد العربية مثلاً) بمثابة أديان، وتحولت أدبياتُها إلى نصوص مقدسة، ورُفِعَ واضعو نصوصها العقائدية إلى مرتبة الآلهة المقدسة! إن نفسية الشرقي العربي تميل إلى تقديس الموضوع الذي تحبه، سواء كان شخصًا أو نصًّا أو جماعة أو حزبًا؛ ويبدو أنها رُكِّبتْ على أساس الميل والانجذاب إلى الموضوعات والأشخاص انجذابًا عاطفيًّا أكثر من ميل صاحبها (الشرقي العربي) إلى التفكير الموضوعي في ماهية الموضوعات والأشخاص. ولهذا بالضبط يتعصب العربي لكلِّ ما يميل إليه من الموضوعات والأشخاص والأفكار تعصبًا يصل إلى درجة التقديس؛ وفي الوقت نفسه، يتعصب ضد كلِّ مَن لا يميل إليه تعصبًا يصل إلى درجة النفي والإلغاء والتكفير.

هنا يقع العربي في مطبِّ إلغاء الواقع: فمادمنا لا نعترف إلا بما نحب، ولا نحب إلا ما نميل إليه، فهذا يعني أننا لا نعترف إلا بجزء من الواقع، وهذا يعني أن جزءًا آخر، قد يكون كبيرًا جدًّا، لا يحظى باعترافنا.

فعلى مستوى الاعتقاد (أيًّا كان موضوعُه: سياسيًّا، مذهبيًّا، فكريًّا، إلخ)، نجد الإنسانَ العربيَّ يتعامل مع موضوع الاعتقاد، أو مع النصِّ الوضعي الذي يتعاطف معه أو يعتنقه، كما يتعامل مع المقدس النقلي (أي الكتب السماوية)، فيحوِّل النصَّ الوضعيَّ من نصٍّ وُضِعَ من أجل خدمة الإنسان فكريًّا و/أو اجتماعيًّا إلى مقدس مغلق، يغلق معه عقلَه ووجدانَه، ويقف عنده وكأنه الثابت الوحيد أو المطلق الوحيد، وكل ما عداه عدم أو لاشيء. يحوِّل العربي النصَّ الوضعيَّ إلى مقدس معبود يقدِّم له فروض الطاعة والولاء، تعصبًا وجمودًا فكريًّا وانغلاقًا عقليًّا.

المفارقة هنا أنه في الوقت الذي نتعصب فيه للنصِّ الوضعي، يستمر الواقعُ في التحول باعتبار الزمن عاملاً متحركًا لا يتوقف في مكان أو زمان، ولا يتوقف عند اعتقاد وضعي، أيًّا كان، أي لا يتوقف عند النسبي (باعتبار أن كلَّ ما هو وضعي هو نسبي). الواقع يتحول باستمرار في الوقت الذي نقف فيه نحن عند نصٍّ ما، محاولين إيقاف الواقع أو الزمن معنا، أو نتوهم أن الواقع يقف مع وقوفنا عند النصِّ ذاته.

تعصُّبنا للنص يجعل النصَّ مطلقًا، وكلَّ ما عداه نسبيًّا – حتى الواقع نفسه الذي أسهم، مع العقل، في إبداع النص. بهذا نغيِّب الواقع – واقعنا "الآن–هنا" – لصالح موقف "الأمس–هنا" أو لصالح موقف "الأمس" عمومًا. وبذلك نكون كَمَن يخون العقلَ نفسَه لأننا نتخلَّى عن مبدع النصِّ (العقل) لصالح تقديس النصِّ نفسه الذي هو ناتج لا بدَّ من استهلاكه حتى حدٍّ معين وخلال زمن معين.

هكذا يلغي العربيُّ العقلَ، يلغي "المصنع"، ويبالغ في تقديس النص "المنتَج". وحينما توقف العربي عند النص، الذي لا بدَّ من استهلاكه حتمًا، أغلق باب العقل وتوقف "الإنتاج"؛ وفي أحسن الأحوال أعاد إنتاج النصِّ ذاته، بالمواصفات ذاتها، شكلاً ومعنى – حتى صرنا إلى وقت يتغلب فيه النص المستورَد الأحدث لأنه يلبي متطلبات الناس المتبدلة وحاجاتهم المتطورة. وبذلك تغلبتْ "منتجات" الغير على منتَجنا، فتوقفنا عن الإنتاج، وتكدَّستْ نسخُ "نصِّنا" المقدس، وأخذنا في استهلاك نصوص الغير لأنها أكثر إقناعًا لنا وأكثر تلبية لحاجاتنا.

هذا ما حدث – ويحدث – عند العرب والشعوب المتخلفة على الصعيد الفكري: إنهم يستهلكون نصوصَ الغير بالذهنية نفسها التي توقفوا فيها عند نصوصهم المقدسة المتحجِّرة؛ أي أنهم أخذوا يمارسون عادتَهم الموروثة في التقديس، فقدسوا النصوصَ المستورَدة تقديسَهم للسلع المستورَدة أيضًا! لكأن الذهنية العربية تنبهر بكلِّ ما هو خارج واقعها، فتقدس القادمَ من الماضي تقديسَها للقادم من خارج الجغرافيا الوطنية: أي كل ما لا يستجيب لواقعها في الزمان والمكان، كل ما هو خارج الـ"هنا–الآن".

إن ذهنية العربي، بإلغائها الواقعَ، تلغي الإنسانَ أيضًا، أي تلغي ارتباطَه بالواقع، وتحيله إما إلى الماضي أو إلى الـ"هناك". وفي كلتا الحالتين، لا تستطيع مثل هذه الذهنية تلمُّس متطلباتِ صاحبها وحاجاتِه وآلامَه وآمالَه، لأنها تحيا خارج الزمان والمكان، خارج الـ"هنا–الآن"، في الأمس والـ"هناك"، مع نصوص تأسر عقلَه، ولا تقدم له الحلَّ الحقيقيَّ لمشكلاته التي تزداد تأزمًا بازدياد غربته وخوفه وتجاهُله للواقع في محوريه: الذات والآخر الوطني.

*** *** ***


 

horizontal rule

[*] كاتب سوري.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود