غاندي، لا غيفارا

أدونيس

 

1

أُعجَب كثيرًا بشخص غيفارا، بحضوره الجمالي، بحبِّه للحياة والمرأة. غير أنني لا أُعجَب بالطريقة التي اتَّبعَها في العمل التحرري.

إرنستو ("تشي") غيفارا (1928-1967)

تحرريًّا، أفضِّل غاندي: رؤيةً، ومنهجًا، وممارسة.

أرفض العنفَ بأشكاله جميعًا. مهما كانت أهدافُه. مهما كانت مسوِّغاتُه. سواء كان فرديًّا أو جماعيًّا.

ثم إنني أفضل، في كلِّ عمل تحرري، أن يشارك الشعبُ كله في النضال، لا أن يقتصر هذا النضال على مجموعة من الأفراد، أيًّا كانوا.

غيفارا: عصبة، طبقة، فئة، طليعة، إلخ، تمارس العنف.

غاندي: الشعب كله، في تنوع فئاته ووحدتها، مسلَّحًا بالسلام والانفتاح على الآخر.

ومع أننا، ثقافةً وممارسة، أقرب إلى غيفارا منَّا إلى غاندي، فإنني ممَّن يقولون: لسنا في حاجة إلى غيفارا؛ نحن في حاجة إلى غاندي.

لقد أثبتتِ التجربةُ أن مثال غيفارا كان طريقًا ملكية لتهديم طاقاتنا، لتخريب حياتنا، لتبديد ثرواتنا، لفشلنا، ولتشويه وجودنا وحضورنا في العالم.

إن للحرية، هي كذلك، سلاحَها.

لكنْ، منذ أن يلبس هذا السلاحُ رداءَ العنف، ينقلب إلى عدوٍّ للحرية نفسها: يصبح نوعًا من العدوان على الذات والآخر، معًا.

لا سلاح للحرية إلا الحرية – إلا السلام.

موهَنداس ك. غاندي (1869-1948)

أكرِّر: نعم، نحن في حاجة إلى غاندي، لا إلى غيفارا.

2

ما من أحد يطلب منَّا، نحن العرب، أن نكون حكامًا عادلين. أن نكون سياسيين عظماء. أن نكون علماء كبارًا في الذرة أو في غيرها. أن نكون فلاسفة أو شعراء أو فنانين.

ما من أحد!

لكن الجميع يطلبون منَّا أن نكون حكامًا غاشمين. أن نكون فاسدين مُفسِدين. أن نمجِّد العنف. أن نخطِّط لينفي بعضُنا بعضًا، وليقتل بعضُنا بعضًا. أن نفتقر، ونهاجر، ونتمزق.

وهو طلب لا نكتفي، فيما نلبِّيه، بأن ننفِّذه برغبة كاملة، وإنما ننفِّذه كذلك بمتعة كاملة!

قل لي،

مَن أنت، أيها العربي الذي يسكنني؟!

3

لو شئنا أن نحاكم أنفسَنا وأعمالَنا وأفكارَنا، نحن العرب، منذ أواسط القرن العشرين المنصرم حتى اليوم، لقلنا – إن كنَّا صادقين:

لم نكن أسيادًا على حياتنا طوال هذه الفترة. ولم يكن وجودنا إلا كمثل كُرةٍ يُدحرِجُها الآخرون.

4

أحيانًا، يُخيَّل إليَّ أننا لم نعد في حاجة إلى أن نحفر القبور لموتنا. ذلك أن رؤوسنا وأجسامنا تحل محلَّها. فما أكثر القبور في أفكارنا وأعمالنا!

يكاد كل منا أن يكون قبرًا يسعى...

ولننظر إلى أحوال العراق، تمثيلاً لا حصرًا: إنها تؤكد لنا أن تاريخنا السياسي–الديني لا يزال المكانَ الأكثر تحريضًا على اقتتالنا وتفتتنا، والأكثر مدعاة لضياعنا.

إنه تاريخ يحجب عنَّا الحاضرَ وحقائقَه ومقتضياتِه. وليس حَجْبُ الحاضر إلا طريقة لحَجْب المُستقبل.

5

وأين الأمل، إذًا، في مبادرة ترسم للفكر والعمل طُرُقًا جديدة؟ أهو في المعارضة القائمة، كما يقول بعضهم؟

من الحق، أولاً، أن نقول، على افتراض أن ثمة أملاً في المعارضة، إنها ليست واحدة: فهي هنا، في هذا البلد العربي، غيرها هناك، في البلد الآخر؛ ولكلٍّ منها ظروفها وأوضاعها ومشكلاتها الخاصة. لذلك لا يصح التعميم في الكلام عليها.

غير أن المعارضة تنطوي، مبدئيًّا، على فكرة العمل للانتقال بالمجتمع من حالته التي يتعثر فيها إلى حالة أقل تعثرًا، إنْ لم نقل إلى حالة متقدمة في اتجاه الديموقراطية، وحقوق الإنسان، والحريات، إضافة إلى التقدم، في مختلف أشكاله الحضارية. وفي هذا تلتقي المعارضات في المجتمع العربي، باستثناء بعض التيارات غير المدنية – الدينية والعنصرية. مع ذلك، يمكن لنا القول إن لهذه المعارضات، استنادًا إلى الممارسة، مرجعيةً واحدة، خصوصًا في البلدان التي يتكون سكانُها من مزيج بشريٍّ متنوع إسلامي–مسيحي، كما هو الشأن في لبنان، تمثيلاً لا حصرًا؛ وهي مرجعية لم يكن النضال السياسي فيها، منذ منتصف القرن العشرين المنصرم، إلا نوعًا من العمل على «استثمار» واقع البلدان العربية و«توظيفه». وكان عمل هذه المعارضات، تبعًا لذلك، يتمحور على ما هو سياسي مباشر: تفويت التغيير الاجتماعي–الثقافي، الذي لا يكون التغييرُ السياسي ذا شأن يُذكَر من دون تحقيقه. بين هذه المسائل نذكر المسألةَ الدينية: الفصل بين التدين والتسيُّس، بحيث يكون التديُّن شخصيًّا، ذاتيًّا، لا مؤسَّسة اجتماعية–فكرية، اللاتدين بوصفه حقًّا طبيعيًّا كمثل التدين، مدنية الزواج والإرث، إلخ. ونذكر المسألةَ الثقافية التي لا تأخذ السياسةُ معناها الإنساني الحق إلا بها؛ إضافة إلى المسائل المتعلقة بوضع المرأة، حقوقًا، ومكانةً، ومكانًا. فمن دون حلٍّ كامل لهذه المسائل في أفق إنساني–مدني، يتعذر التقدم، متمثلاً على الأخص في الخروج من القبلية والمذهبية إلى الديموقراطية، وإلى إرساء حقوق الإنسان وحرياته كاملة.

وإذ «تتجنب» المعارضة، كمثل الموالاة، نقدَ «الأصول» التي تحدد «الحقوق» – وهي أصول غير مدنية – فإنها تقبل، ضمنًا، بالسلطة الأولية المطلقة لهذه «الأصول»، أي بتبعية الناس لها وخضوعهم لمعاييرها. وهي سلطة معطاةٌ سلفًا، باسم ما ليس اجتماعيًّا ولا مدنيًّا، وليست نتيجةً لخيار إنساني ديموقراطي وحر. إنها سلطة ارتباط لا انعتاق، وسلطة تبعية لا استقلال.

والفرق، إذًا، بين «سياسة» المعارضة و«سياسة» الموالاة هو، عمليًّا، فرق في الأشخاص والقيادات. ومن هنا تعمل المعارضة، هي كذلك، على تثبيت ما يجب أن يتغيَّر، وتعطي شرعيةً لما يحول دون الديموقراطية وحقوق الإنسان وحرياته.

لعلنا نجد هنا سببًا أساسًا من الأسباب التي تُعيق التقدم العربي: فانحصار الصراع في «العمل» السياسي المباشر، في معزل عن «العلم»، ليس إلا انحسارًا. فالإنسان لا يتقدم بالسياسة وحدها، أو بإحلال نظام سياسي محلَّ نظام آخر. لا يقدر أن يتقدم إلا إذا مارس اللغة الثقافية التي تتماهى مع تطلعاته ورغباته، بحيث يفصح عنها، ويُحققها، ويعيشها.

ألا يبدو، في هذا الإطار، أن التاريخ الذي تكتبه السياسةُ العربية، موالاةً ومعارضة، إنما هو تاريخ تكتبه المصادفات؟

ألا يبدو، تبعًا لذلك، أنه تاريخ لا معنى له، خارج المعنى الذي تحدِّده هذه المصادفات؟

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود