عَـولَـمَـة... وإنسَـانـيَّـة واحـدة

علينا قبولُ الواقع العالميِّ وقِيَمِه

على المثقَّف أن يقفَ ضدَّ التزمُّت والتشدُّد بلا خوف أو مُجَامَلَة

 

حوار مع هشام جعيِّط

 

الدكتور هشام جعيط، الأكاديمي المميَّز في جامعة تونس وأحد أعلام الفكر العربي المعاصر، هو أحد الذين كان لمساهمتهم الدور والباع والفاعلية في تجديد النَّظَر في قضايا التاريخ العربي الإسلامي وعلم الاجتماع. تتسم معرفتُه التاريخية بالإحاطة والشمول للأُطُر التي تحدِّد حركةَ تاريخ الفكر العربي والإسلامي والأوروبي. في كتاباته انفتاح على الفلسفة والفكر والاجتماع والدين وقضايا النهضة والحداثة، وبحث عن جواب معاصر للأسئلة والمفاهيم المطروحة منذ عقود.

مناسبة هذا الحوار مع د. هشام جعيط زيارتُه لبنان للمشاركة في مؤتمر اليونسكو تحت عنوان "الفلسفة والديموقراطية". وقد كانت كلمتُه في المؤتمر لافتةً في جرأتها وصراحتها وخروجها على السائد. بادرتُه أولاً بالتهنئة على كلمته النقدية في المؤتمر، متوقفًا عند وضوح الفصل بين النص الديني والديموقراطية، فابتسم قائلاً: "تعمدت أن أقول ذلك في لبنان، لأن لبنان عاصمة الثقافة العربية ويتميز بصحافته الحرة، ولأنه يمتلك تجربةً غنيةً في التنوع الديني والممارسة الديموقراطية."

بقي هشام جعيط مثابرًا على طرح فكرته، منفتحًا في الوقت نفسه على الأسئلة والمناخات المتنوعة، متمسكًا بنقده للواقع بغية كَسْر حلقة الجمود والخروج إلى رحاب الحرية.

س.ب.

***

 

سليمان بختي: لِمَ توقَّف، في رأيك، سؤالُ الإصلاح الديني منذ عصر النهضة، واستطرادًا، لماذا فشل؟ هل يمنع الدينُ تطويرَ الديموقراطية؟ – على الرغم من الطروحات التي تقول بأن في الإسلام شكلاً من أشكال الديموقراطية.

هشام جعيط: توقَّف تيارُ الإصلاح الديني الذي بدأ في أواخر القرن التاسع عشر مع جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، إذ تغيرتْ في ما بعدُ الظروف، وجاءت أفكارٌ جديدة أكثر تشددًا. كذلك طُرِحَتِ المشكلاتُ في جدية أكثر، وفي الوقت عينه، في انفتاح أقل، بدءًا من رشيد رضا، تلميذ عبده الذي انجذب إلى مواقف أشد تصلبًا. التيار الإصلاحي كان قبل ذلك تيارًا منفتحًا إلى درجة كبيرة؛ ثم حصلت تطوراتٌ في هذا الفكر الإسلامي بعد رشيد رضا، فأدَّت الاتجاهاتُ كلها في هذا الفكر إلى التشدد، حتى وصلنا إلى الأصولية، بل والإحيائية، مع "الإخوان المسلمين" أولاً، ثم مع سيد قطب ثانيًا. وفي ما بعد، قويت تلك التيارات والاتجاهات كلها، واتخذت منحى التشدد والتطرف في الدين.

أما لماذا فشلت الإصلاحية، فإنني لا أقول بأنها فشلت، بل أقول بأنها توقفت وأخذت مكانَها تياراتٌ أخرى. ويمكن القول إن الإصلاحية نجحت في التغلب على التيار الصوفي واللاعقلاني الذي كان مسيطرًا على الدين والجماهير، ونجحت، إلى حدٍّ بعيد، في التغلب على التيار التقليدي، أي تيار الفقهاء التقليديين الذين كانوا موظفين في الدولة. وأثَّرت هذه الإصلاحية في أوساط متعددة: فالليبراليون المسلمون، أمثال طه حسين وسواهم، تأثروا بفكر محمد عبده. ومن ناحية ثانية، هناك التيار الذي أضحى أصوليًّا إلى حدٍّ ما مع رشيد رضا؛ وهو أيضًا تأثر بفكر الإصلاح.

كانت فكرة الإصلاح في القرن التاسع عشر غير مطروحة في المجتمع الإسلامي فقط، بل وفي السياسة والاجتماع والثقافة كافة. ونذكر ما طُرِحَ في مجال السياسة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في الدولة العثمانية، أي مشكلة التنظيمات، وهي عبارة عن إصلاح سياسي وإداري. ثم اتجهت نحو الفكر الحضاري عامةً مع خير الدين التونسي، فإلى الفكر الديني في صفة عامة، لكنْ من دون أن تأتي بإصلاح ديني حقيقي، مثل اللوثرية أو الكالفِنية في أوروبا. والواقع أنها أخذت مأخذ التطور والانفتاح وطرحت معضلات، إذ اعتبرت أن تأخُّر المسلمين بالنسبة إلى الأوروبيين هو تأخُّر في فهم الدين أساسًا. ثم انتهجوا المنهج الذي تخلَّف فيه المسلمون لاحقًا؛ أي أن التأخُّر والتخلف مرتبطان دومًا بالدين.

السياسة والدين

س.ب.: سؤال التخلف في الدين، ألم يكن صدى للسؤال المشهور الذي طرحه شكيب أرسلان، وهو: لماذا تخلَّف المسلمون وتقدَّم غيرُهم؟

هـ.ج.: لكن هل كان هذا سؤالاً حقيقيًّا؟! طالب الإصلاحيون بتنقية الدين وبـ"النقاء الديني"؛ ثم زايد الآخرون وقالوا بأن الدين غير موجود وبأن المسلمين الحاليين هم تقريبًا كفار ولا يطبِّقون الشريعة، وبأن الدين يجب أن يكون مُلِمًّا بكلِّ شيء، وهو سياسة ودين. ووصل الأمر بسيد قطب إلى حدِّ طرح الحاكمية والجاهلية، معتبرًا أن المسلمين في حال "جاهلية" الآن. ثم اشتدت هذه التيارات. وأعتقد شخصيًّا أن نموَّ الفكر الديني في اتجاه الصلابة مرتبط بعدة أسباب...

س.ب.: لكن ما هي هذه الأسباب التي جعلت الفكر الديني ينمو في اتجاه الصلابة، لا المرونة والانفتاح والتجدد؟

هـ.ج.: إنها أسباب ذات صلة بالقوانين الوضعية التي ترسَّخت في المجتمعات الإسلامية، سواء في آخر عهد الملوكية أو في ما أسموه "الثورة"؛ وأدى ذلك إلى ابتعاد عالم السياسة عن عالم الدين. مثلاً، الفكرة القومية بعيدة عن الدين، كذلك فكرة الوطنية. وفي مجال التحديث كذلك: فكلما ازداد الفارقُ بين الواقع المتَّجه نحو الحداثة وبين الدين، قَوِيَ التيارُ الإسلامي المتشدد. ثمة ارتباط بين عنصرَي الواقع والخيال الديني. ثم إنهم – الإسلاميين – ظنوا أن الاستعمار تقشَّع وأُخرِجَ؛ لكن في الحقيقة أضحى العالم مترابطًا أكثر فأكثر بين الحضارات والبلدان وفي شبه تماثُل. وكردِّ فعل على ذلك، قَوِيَ هذا التيار، معتبرًا أنه ليس للمسلمين وجودٌ حقيقي وفاعل في هذا العالم. وكان هذا الأمر قاسمًا مشتركًا بين المتطرفين الإسلاميين وبين الدول القومية في تلك الفترة، وأقصد عبد الناصر، وفي ما بعد البعث في العراق – مما يعني ضرورة تأكيد الوجود العربي والإسلامي في العالم: التأكيد أولاً، ثم الانكفاء على الذات.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل كان ممكنًا أن يفرض العالم العربي والإسلامي وجودَه في الخمسينات والستينات في الانتقال من حضارة مازالت متخلفة إلى الحداثة في الصناعة والاقتصاد والفكر؟ انه أمر يتطلب وقتًا طويلاً وجهدًا وبُنًى ولا يتم بين ليلة وضحاها. [...] ويبدو أن في الإسلام بعض العناصر التي لا تقبل بالتسامح والتوافق مع العالم الخارجي.

س.ب.: هل هي أزمة بنيوية ذاتية؟ ولو اعتبرنا أن الديموقراطية هي إنتاج غربي، كيف يمكن أن تنسجم هذه الديموقراطية مع الإسلام المأزوم الذي يحمل ما أسميتَه العناصر "التأكيدية" و"الجهادية"؟

هـ.ج.: الدين، في حدِّ ذاته، لا يمنع تطوير الديموقراطية. ففي الديموقراطية قيم مثل الحرية والعدالة والمساواة واحترام النفس البشرية وغير ذلك، وهذه لا تتنافى مع أصول الدين. وكونها أتت من الغرب أمر غير مهم بذاته: كثير من الأمور جاءت من الغرب ومن رقعة جغرافية غربية؛ كما أن الغرب بذاته، عندما اعتنق المسيحية في القرون الماضية، لم يبدع دينًا معينًا، بل اعتنق ما أتى به الشرق في هذا المجال. (فالمسيحية هي شرقية.) لكن المهم أنهم يعتبرون هنا أن كلَّ ما يأتي من الغرب فاسد وملعون. وبما أن الديموقراطية جاءت من الغرب فهي فاسدة وملعونة! والأغرب أن هذا الشعور تَعاظَم في الشرق لأن النظُم القائمة قمعت الإسلاميين. ومع ذلك لم يشاءوا أن يؤمنوا بمبادئ حقوق الإنسان لأنها "غربية"، فكانوا فريسة تلك النظُم وضحاياها. بالطبع، يمكن استلهام قيم إسلامية، إنما لا يمكن أن يكون ذلك إلا على خلفية تلقائية، وليس إراديًّا.

الهوية شكل ثقافي

س.ب.: دعوتَ في محاضرتك إلى عدم التقيد بالنصِّ الديني. لكن كيف يمكن تجذير ديموقراطية في سياق تراكُم ديني وتراثي وخصوصيات من دون إثارة مسألة الهوية؟

هـ.ج.: الهوية يمكن أن تكون متطورة أو غير ثابتة ثباتًا نهائيًّا. الهوية مفهوم وشكل ثقافي. ننتمي تاريخيًّا إلى الدين الإسلامي والعروبة واللغة والعادات وليس أكثر؛ ولا أرى تقيدًا أو علاقة قوية بين الهوية – وهي متشعبة – وبين فكرة الديموقراطية. ولو أقمنا نُظُمًا ديكتاتورية، فهل الديكتاتورية أقرب إلى الهوية من الديموقراطية؟ ما معنى ذلك؟! والديكتاتورية نفسها مفهوم حديث. ربما ليست مثل سلطة السلطان القديمة والتقليدية، لكن أجهزة المخابرات وكلَّ ما هو قمعي هي أيضًا مسائل حديثة، لا علاقة لها بالماضي الإسلامي، خاصة إذا عدنا إلى الإسلام المرجعي الأصلي. ولِمَ تكون الديموقراطية هي الناسخة للهوية ولا يكون شيءٌ آخر؟! خذْ مثلاً فكرة الاشتراكية: هم أرادوا أن تكون الاشتراكية من الإسلام؛ وكُثُر في تلك الفترة كانوا متجهين نحو الماركسية. هل من علاقة بين الماركسية والهوية؟ كثير من الإسلاميين يعتبرون أن الفكرة القومية ليست إسلامية. هويتنا اليوم ليست إسلامية فقط. هناك، بالطبع، في العالم العربي المرجعية الثقافية واللغوية والعادات والعنصر الإسلامي. والانتماء إلى الإسلام عنصر يدخل في الهوية؛ أما المعتقد فشيء آخر، والقيام بالطقوس والعبادات وغير ذلك شيء ثالث. وأن يكون الإنسان "مسلمًا" من دون أن يقوم بذلك كلِّه شيء مختلف أيضًا. الهوية اقتناع وانتماء إلى مركَّب حضاري، وهذا الانتماء يكون غير واعٍ. لا أرى في الديموقراطية نفسها، ولا في سواها، أمرًا مخالفًا لهذه الهوية؛ أرى أن ثمة عناصر كثيرة يمتزج فيها هذا المطلب الديموقراطي بالمرجعيات الأولى وببعض المبادئ الإسلامية، كما أن للديموقراطية علاقة وطيدة بعناصر في التراث المسيحي. لا أعتقد أن الديموقراطية تمس الهوية.

س.ب.: علامَ، إذن، تؤسَّس الديموقراطية إنْ لم يكن هناك سياق وإذا لم يكن هناك ديموقراطيون في العالم العربي؟!

هـ.ج.: هذه مسألة مختلفة. هناك المسألة النظرية والفكرية، وهناك الواقع. هل يمكن أن يتطور الواقع فعلاً في اتجاه الديموقراطية؟ من الوجهة النظرية والفكرية، الديموقراطية مخالفة للإسلام ولحضارتنا – وهذه مسألة أخرى. أنا تحدثت عن الناحية النظرية. لا يجوز أن نقول ونؤكد أن الديموقراطية شيء مصطنع ومأخوذ من الغرب وأنه يجعلنا أذنابًا وأذيالاً للغرب – وباسم ماذا؟ باسم الإسلام!

س.ب.: ألا ترى معي أننا نقع فريسة استعمار جديد أو انتداب جديد من الغرب تحت شعار الإصلاح والديموقراطية في العالم العربي، وأن للغرب مسؤولية كبيرة في دعم الديكتاتوريات في العالم العربي وفي تخلُّف الديموقراطية؟

هـ.ج.: ألا ترى معي أيضًا أن الوضع في العالم العربي، اليوم وبالأمس، هو وضع قريب من الاستعمار أو الوصاية؟ والدول النفطية، ألا تخضع لنوع من الاستعمار؟! وكذلك غيرها من الدول. الاستعمار القديم انتهى. بقي: ماذا سيكون مصير العالم العربي مادام مشتتًا إلى دويلات؟ هذا ما لا يمكن أن نقرِّره الآن ونتيقن منه.

لا أرى أنه سينشأ استعمار على غرار النمط القديم. بل لعله شكل جديد من أشكال الوصاية – وإن تكن هذه الوصاية في مصلحتنا. بنينا ثقافتَنا السياسية في السنوات الخمسين الأخيرة وطوال القرن العشرين، سواء في المشرق أو المغرب، على أساس النضال ضد الاستعمار. انتهى الاستعمار المباشر، وبقيت أشكالُه. لا يمكن بناء حياة جماعية تقوم كلها على النضالية ونفي الغير وعلى العداء للعالم! المسألة ليست شرقًا وغربًا، بل هي نوع من العداء والپارانويا ضد العالم والانكفاء على الذات – هذا في ما يخص الإسلاميين. أضف أن هناك أيضًا تخلفًا حضاريًّا كبيرًا وتفسيرًا أن الجماهير قبلت بالثورة والمناداة بالثورة القومية ومنيت بالفشل. كانت الجماهير في أوطاننا قبل خمسين سنة حماسية. اليوم يجب أن ننتقل من طور التحرر إزاء الخارج إلى التحرر من الداخل، ومن الحماسة إلى العقلانية. النضالية والجهادية وغيرها لم يعد اليوم أوانها. علينا أن نتجه إلى قبول الواقع العالمي والقيم العالمية؛ وهي ليست سيئة، بل هي لمصلحة الإنسان العربي.

س.ب.: ماذا عن الآخر، أي الغرب، هل هو في حالة "قبول"؟ لا أريد أن أعوِّل على العامل الخارجي كثيرًا. فهناك جروحنا الداخلية، مثل تعطيل العقل، مشكلة الحرية، النظام الأبوي، الظاهرة الدينية...

هـ.ج.: هذا صحيح. مشكلتنا مزيج من ذلك كلِّه. ثم إن العالم لم يساعدنا على التطور. إني أطرح المشكلة الآن. ماذا ينفع البحث في الأسباب؟! الآن يجب الاتجاه نحو هذا الأمر وعدم التقوقع في مفاهيم التبعية. وفي آخر المطاف، أن نكون تابعين، لا بأس – فلنكن هكذا؛ ومع ذلك، نكون متطورين ومنفتحين وممتلكين مفهوم السعادة الإنسانية – كما كان الألمان متألِّمين من تقسيم ألمانيا. الحرية هي المهمة. أقول الشيء نفسه تقريبًا. لماذا نخشى التبعية ونقر بنوع من العُصاب والتشنج. المشكلة في الدول القائمة اليوم – وهذا رأيي – أنها تقمع الإسلاميين ولا تريد أن تُغضِب الرأيَ العام في العالم العربي – وهو رأي صبياني يتجه دومًا نحو المقاومة ورفض العالم، إلى ما هنالك. والدول القائمة تصمت ولا تتخذ موقفًا. الموقف لا تتخذه عمليًّا هذه الدول، بل المثقفون الحقيقيون في هذه المجتمعات.

الآن بتُّ مقتنعًا بضرورة ترسيخ هذه الفكرة. قد يقال إنها فكرة أمريكية. ولكنني لا أترقب الأمريكيين كي أؤمن بفكرة الحريات؛ كنت أؤمن بها منذ صغري وشبابي وكتبت عنها. الفكرة ليست مأخوذة من الأمريكيين ولا من الأوروبيين؛ إنها مأخوذة من المعاناة. ولدينا الكثير في بلداننا ممَّن تألموا من القمع والديكتاتورية وخنق الحريات ومن الإبقاء على عادات بالية وتقاليد عتيقة غير مجدية. ولم يكن ذلك بسبب الدين؛ إذ إن معظم النظُم ليست دينية – وهذا رأيي. لكننا نقرُّ أيضًا بأن هذه الأنظمة الموجودة ليست معلقة في الهواء، بل لديها قواعد في المجتمع. المجتمع يفرز وينتج، إلى حدٍّ كبير، مثل هذه الأنظمة التي تعبِّر عن واقع اجتماعي موجود.

عولمة... وإنسانية واحدة

س.ب.: بين الرفض والعنف والتبعية والوصاية، كيف يمكن أن نستجيب لنمط استقلالي موجَّه يحفظ حضورَنا ووجودَنا في العالم؟

هـ.ج.: الرفض والعنف والعداء تقودنا إلى القوقعة والانعزال – وهذا غير ممكن لأيِّ شخص ولأيِّ مجتمع في العالم! لا أعتقد بوجود تبعية حقيقية مثلما كانت زمن الاستعمار. مثلاً، لا يتصرف أي رئيس دولة عربي مثلما كان يتصرف رئيس الوزراء في مصر زمن الملك فاروق الذي كان يتلقى الأوامر من الإنكليز مباشرة! ذلك غير ممكن اليوم، وغير موجود في العالم أصلاً. ولو قلت إن التبعية هي تكثيف العلاقات الاقتصادية والتقنية والثقافية، فهذا مصير العالم كله. إن ما يسمى العولمة ليس سوى تكثيف لتلك العلاقات. لقد تكوَّنت إنسانية واحدة إلى حدٍّ ما، على الأقل في ما يخص أية دينامية اقتصادية إسلامية.

أما عن كيفية الوصول إلى نوع من الاستقلال، فأعتقد أن الاستقلال لا يكون إلا بمشاركتنا في العالم الحديث وبالعطاء. نحن لا نحب أن نُحتقَر؛ لا بدَّ من أن نشارك في صنع العالم الحديث. لا بدَّ من أن نكون حاضرين في الإنتاج الاقتصادي والعلمي والتقني ومستوى الحياة ونوعيتها وعدم معاداة الآخر. ذلك كله يتطلب وقتًا وجهدًا.

لا أرى ضرورة أن تكون هذه الرقعة من العالم في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا رقعة ملعونة ومكروهة وغير معترَف بها. علينا أن نبحث من جهتنا، أن نساهم في تطور هذا العالم الحديث، وأن نشارك في ميادين حساسة. ولا يكون ذلك إلا بإنهاء التقوقع على الذات، من دون نكران الهوية. لكلِّ حضارة ولكلِّ بلد هويته – ولا تُحذَف الهوية بجرَّة قلم. إنما يجب تجاوُز هذا العُصاب كله الذي ليس من الإسلاميين فحسب، بل من الرأي العام الذي يجد في كلِّ شيء مؤامرة وحربًا وخديعة، والذي لا يقبل بما أقول إلا إذا جاء من أناس لا يُعتبَرون "عملاء" في فكرهم وقولهم وحياتهم وأهل ثقة وخبرة. للمثقف دوره وفاعليته وتأثيره في هذا المجال.

س.ب.: لعلَّ أزمة المثقف العربي والنخب الثقافية عامة أنها لم تجد كتلة تاريخية واعية تدعمها وتتفاعل معها وتجسِّد أفكارَها وتترجمها في الواقع...

هـ.ج.: لاحظت في المدة الأخيرة نشوء نوع من التقارب بين الإعلام والمثقفين، أو لنقل بداية "تشبيك" Networking. لا بأس، فهذا يُبنى عليه. لكن الإعلام والتلفزيون في عالمنا فاسدان: همُّ التلفزيون الأكبر هو "السكوپ" والإعلانات وأكبر عدد من المشاهدين والديماغوجية، وليس رفع مستوى الجمهور – وهذا موجود أيضًا في الغرب. لكن الصحافة الحرة المكتوبة ذات المستوى المرتقي، سواء في العالم الغربي أو في عالمنا العربي، لها دورها الفاعل في هذا المضمار. هناك فارق بين ما يكتب في le Monde وما نراه على الشاشات الفرنسية؛ وثمة فارق كبير بين ما يُكتَب في صحافة العالم العربي الحرة وما نراه على الفضائيات العربية. صحيح، تراني متألمًا لعدم وجود وسط ثقافي غير الوسط الأكاديمي، أي وسط علمي وفكري واجتماعي يربط بين النخب والمجتمع. لعل الأكثر فسادًا في الديكتاتوريات تلك القطيعة بين الحكام والنخب المثقفة. لا جسور. كيف ينهض مجتمع بلا جسور؟!

لا للتأويل والاجتهاد!

س.ب.: كيف يمكن إخراج الفكر الإسلامي من أزمة التأويل والتأويل المضاد؟

هـ.ج.: شخصيًّا، لا أقول بالتأويل والاجتهاد؛ لا أدخل هذه اللعبة. إذ يمكن لك أن تلقى آية وتجد لها آية مضادة – وهذا أمر لا ينتهي. لا أقول بالتأويل والاجتهاد، سواء لأجد في هذه النصوص الدينية ما يبرِّر الديموقراطية أو ما يناقضها. إنني أطرحها جانبًا. أعتقد أنه في الواقع المعيش يطرح معظم الدول القائمة جانبًا الحَرْفية النصِّية التي يعتمد عليها الإسلاميون، وخاصة في إقامة الحدود التي تؤدي إلى ما لا تُحمَد عقباه. حصل تطور في القيم لا بدَّ من أخذه في الحسبان. الديموقراطية تعتمد على ثقافة كبيرة، على تراكُم ثقافي إنساني ينهض بالكرامة الإنسانية ويقول بقيمة الحياة الإنسانية – وهذا هو الأساس الفلسفي لفكرة الديموقراطية.

س.ب.: مفهومنا المتباين أحيانًا للدولة والأمَّة، ألا يعوق عملية التغيير الاجتماعي والديموقراطية؟

هـ.ج.: لا، لا، على الإطلاق! في الحقيقة لا علاقة لمفهومنا عن الدولة بالدولة في معنى الخلافة الراشدة. الدولة اليوم هي دولة حديثة، تأسَّست على ممالك أو على فكرة دينية، كما في الثورة الإيرانية. لكن معظم الدول هي إما ديكتاتورية متشددة أو معتدلة. فكرة الأمَّة – الأمة الإسلامية – لا معنى لها. هناك اليوم "أمة" ملتحمة حول المعتقد الديني، وليست ملتحمة كأمَّة. ما يخلق الأمَّة هو التاريخ المشترك والوجود المشترك والعالم الإسلامي المشترك. ثمة فرق كبير بين ما يجري في إندونيسيا وبين ما يجري في مصر أو العراق أو المغرب. فكيف يمكن لنا أن نتكلم على "أمة إسلامية" قائمة اليوم؟! كانت في الحقيقة رمزًا أو شعارًا ليس أكثر تقاربًا، بل أضعف بكثير مما كان عليه الأمرُ في القرن الثامن عشر أو القرن الخامس عشر، عندما كان ابن بطوطة يسافر في الدولة الإسلامية ضمن عالم بلا حدود، وحيث تتمثل المواطَنة الوحيدة بكونه مسلمًا، يدخل العراق ومصر والجزيرة العربية وفارس لتحصيل معرفة أكبر وأوثق بهذا العالم المترامي الأطراف. انتفى الآن ذلك كله.

س.ب.: يحضرنا في الختام ما قاله غرامشي عن تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة. أين يجد هشام جعيِّط بشائر الأمل لكي نبني عليه في واقعنا؟

هـ.ج.: إنه سؤال يختصر الكثير مما قاربناه. مجتمعاتنا اليوم في أزمة صعبة وعميقة، ولا فسحة ديموقراطية للتنفس. والتربية عامةً مستواها ضعيف؛ وهذا يندرج في التخلف الذي نعيشه. ينبغي أن تقوم مناقشة جدية وعميقة حول الديموقراطية والتعود عليها، من غير أن تتفشى الفوضى؛ أعني فترة انتقالية – لعلها ضرورية – لتكوين الأجيال ورفع مستوى التعليم. كنت أمضي في مساري الفكري والثقافي في اتجاهات متعددة من دون الأخذ بفكرة أساسية. حصل تطور الآن، وأرى بعض التباشير لإمكان حصول تطور حقيقي.

ثمة أمل يبزغ. وأعتقد أنه لا بدَّ للمثقف من أن يقف وقفتَه وأن يقول في وضوح: إننا نكافح التزمت والتشدد والتصلب أينما كان، وليس فقط في عالمنا. ونحن، من ناحية ثانية، نكافح كلَّ ما يخنق الحرية وانبعاث الإنسان وحريته وكرامته. يجب أن يتخذ المثقف موقفَه، بلا خوف أو مجاملة أو نفاق. هذا ما أراه اليوم. وأرى أن الإعلام العربي يفتح الأبواب الكثيرة لمناقشة هذه المشكلات التي تعنينا ويعطي الكلمةَ للمثقفين الذين يملكون رأيًا ودورًا وتصورًا ورؤية.

*** *** ***

حاوَرَه: سليمان بختي

عن النهار، الثلثاء 14 والأربعاء 15 كانون الأول 2004

 

بيبليوغرافيا د. هشام جعيط

-        أزمة الثقافة الإسلامية، دار الطليعة، بيروت، 2001.

-        أوروبا والإسلام: صِدام الثقافة والحداثة، دار الطليعة، بيروت، 1995.

-        تأسيس الغرب الإسلامي (القرن الأول والثاني هـ/السابع والثامن م)، دار الطليعة، بيروت، 2004.

-        الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي، بترجمة المنجي الصيادي، طب 2، دار الطليعة، بيروت، 1990.

-        الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر، طب 3، دار الطليعة، بيروت، 1995.

-        في السيرة النبوية 1: الوحي والقرآن والنبوة، دار الطليعة، بيروت، 1999.

-        الكوفة: نشأة المدينة العربية الإسلامية، طب 3، دار الطليعة، بيروت، 2005.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود