ذاكرة الباطن

 

أكرم أنطاكي

 

الفصل الرابع عشر

العودة إلى دمشق

(1981-1983)

 

"... يا عربي، يا ابن المجرودة

بيع أمَّك واشري البارودة

والبارودة خير من أمَّك

يوم الكرب بتفرِّج همَّك..."

أهزوجة بدوية (القرن الماضي)

 

طائر الليل: وهل سنبقى طوال العمر "أبناء مجرودة"؟!

1

مع اقتراب تأريخي الشخصي من الحقبة الزمنية التي نعيشها اليوم، ألاحظ أني أصبحت أميل إلى "نسيان" أمور كثيرة، إن لم أقل إني أشعر بدافع قوي إلى الامتناع عن التفكير في أمور بعينها. لذا بتُّ أجد، ربما، صعوبةً أكبر في الاستمرار في كتابة هذه المذكرات؛ أو لأقل صراحةً: أشعر ببعض الخوف يتملكني، وقد بدأت ألامس، في العمق وعن كثب، أوضاعًا مازلنا نعيشها. نعم، أشعر بالخوف حقًّا لأنني أصبحت أتعرَّض مباشرةً وصراحةً لأمور قد يعرفها معظمنا، لكن لم يجرؤ أحد في بلدنا، إلى الآن، على التعرُّض لها أو الكتابة عنها لأنها مازالت تُعتبَر من "المحرمات".

وأحاول استعادة بعضٍ مما عشت في تلك الفترة حين غادرت حلب في أوائل الشهر التاسع من العام 1981 وجئت إلى دمشق لأواجه أمورًا عدة...

كان أولها رفض أهلي – وتحديدًا والدتي – إعارتي منزل المزَّة، الذي كان في الأصل منزلي والذي كان أهلي يستثمرونه. لقد رفضوا إعارتي إياه، ولا حتى للفترة القليلة المتبقية، حتى يتم المنزل الذي اشتريته في مشروع دُمَّر (والذي أسكنه ومنى وولدي طارقًا اليوم). وأتذكر أني – لأني لم أكن أملك آنذاك ما يكفي من سيولة لتسديد ثمن منزلي الجديد (إذ لم أكن قد استلمت بعد ثمن منزلي السابق في حلب بكامله) – فقد اضطررت إلى استدانة بعض المال منهم ومن أهل منى. لكن أهلي، الذين أقرضوني (بعد تردُّد) المبلغَ الذي طلبت، رفضوا إعارتي منزل المزة لأنهم، كما أفهموني بالحرف العريض يومئذٍ، خافوا أن أتشبث به، وهو، كما عبَّروا لي، بات أهم ما تبقَّى لهم. وقد أخبروني أيضًا أنهم سجَّلوا أثاث دارنا الفاخر الذي في دمشق، عن طريق كاتب العدل، لصالح شقيقتي ريما، خوفًا من أن نطالب، زوجتي وأنا، بشيء منه حين يُتوفى والدي الذي كانت صحته في تدهور مستمر ومتسارع. وأتذكر أني تألمت كثيرًا من هذا الموقف الذي لم أكن أتوقعه والذي أخفيت معظم حيثياته عن منى. لكن المشكلة سرعان ما حُلَّتْ لصالح الجميع (ظاهريًّا على الأقل) حين وضع صديقي عاصم منزلَه الذي في مشروع دمَّر تحت تصرفي حتى انتهاء منزلي هناك، كما رفض أن يأخذ مني مقابل ذلك أيَّ إيجار.

وكان الأمر الثاني الذي واجهتُه في تلك الفترة، لدى عودتي إلى دمشق في أوائل الشهر التاسع من العام 1981، ما أخبرتنا إياه إكرام، التي كان وضعها في المكسيك قد تحسَّن تحسنًا ملحوظًا، إذ أصبحت مستشارة لدى رئيس جمهورية المكسيك السابق إيتشيفيريا، الذي كان يدير مركزًا لدراسات العالم الثالث – أخبرتنا أنها قادمة إلى بيروت بعد بضعة أيام لتقضي فيها أسبوعًا تجري خلاله مقابلة مع ياسر عرفات لصالح التلفزيون المكسيكي؛ كما أخبرتنا أيضًا أنها حجزت لنا (أي للأهل ولي)، عن طريق منظمة التحرير الفلسطينية طبعًا، غرفتين في فندق "فينرهاوس"، الواقع بين قريطم وشارع الحمرا، الذي كانت المنظمة تستعمله لاستضافة ضيوفها الأجانب. وقد أعربت إكرام عن رغبتها في لقيانا في بيروت لأنها كانت تخشى من العودة إلى دمشق حيث، كما أخبرت، وُضِعَ اسمُها على الحدود. وهكذا ذهبنا جميعًا إلى لبنان للقائها. وقد أخذتُ معي آنذاك، لتتعرف إليها، ابنتي لنا التي أصبح عمرها ست سنوات.

وأستعيد في ألم بعضًا يسيرًا من هذا اللقاء، فأتذكر مدى حماسها وانفعالها للقاء ياسر عرفات الذي أصبح، بالتحالف مع المسلمين السنَّة والدروز واليسار اللبناني، في معزل عن الشيعة و"حركة أمل"[1]، الذين كانوا بدؤوا يلعبون لعبتهم الخاصة لصالح إيران وسورية، الزعيمَ الفعلي لبيروت الغربية، وذلك في مواجهة بشير الجميِّل الذي كان في تلك الأيام الزعيم الفعلي للمسيحيين ولبيروت الشرقية. وأتذكر أنه على رأس الدولة اللبنانية آنذاك كان السيد الياس سركيس، أحد آخر الوجوه المدنيَّة للمدرسة الشهابية. وأسترجع، كأني أسمعه اليوم، بعضًا مما دار بيني وبين إكرام من حوار...

-       لقد أصبحتُ شخصيةً مهمة هناك، يا أكرم! أنا حاليًّا مستشارة لإيتشيفيريا. لي مركزي في الجامعة، وأكتب في الصحف... وقد ساعدتُ منظمة التحرير على تأمين سفارة لهم في مكسيكو سيتي، وكذلك في ماناغوا، عاصمة نيكاراغوا... على فكرة، يا أكرم، انسَ منزلَ الأهل في المزَّة...

-       إنه ليس "منزل الأهل"، كما تعلمين جيدًا يا إكرام... لكني، على الرغم من هذا، نسيته، فلا تخافي...

-       هذا أفضل... واعتمد على نفسك، يا أكرم، كما أعتمد أنا على نفسي، وكفاك استدانةً منهم!

-       نعم، يا إكرام، سأفعل... ثقي أني سأعيد إليهم دينهم لي كاملاً فور قبْضي ثمنَ منزلي الذي في حلب كاملاً.

لأن ذاك، في نظري، كان أهم ما قيل خلال هذا اللقاء القصير بيننا (24 ساعة)، الذي كان الأول منذ ذهابها إلى المكسيك قبل ما يقارب الخمس سنوات. وأتذكر بأني غادرت إكرام ظهيرة اليوم التالي، عائدًا إلى دمشق مع أبي وابنتي لنا، تاركًا إياها في غرفتها في الفندق مع أمي وريما، اللتين أخبرتاني فيما بعد كيف أجرت لقاءها في الليلة نفسها، في مكان ما من بيروت الغربية، مع ياسر عرفات. وقد تألمت لأني لم أستطع البقاء معها أكثر من ذلك اليوم اليتيم. فدعوتي من قبلها كانت ليوم واحد فقط، ولم أكن أحمل في جيبي يومئذٍ ما يكفي من مال للبقاء ليلة ثانية. ولهذا السبب، ربما، وجدتني آنذاك غريبًا عن بيروت التي أحب والتي كانت مازالت تعاني من ويلات الحرب الأهلية. كما وجدتني – وهذا هو الأهم – غريبًا عن شقيقتي الأقرب إلى قلبي، شقيقتي التي لم أرَها منذ ستة سنوات والتي كان رأسها قد "دار" قليلاً لأنها أصبحت "شخصية هامة"!

وأيضًا وثالثًا – وهذا كان أهم ما في الأمر في نظري آنذاك – كان عليَّ، بالسرعة الكلية، إيجاد عمل في دمشق. إذ اعتذر هاشم مني عن إمكانية العمل معه في مشروع ضاحية دمر السكنية لأنهم، بكلِّ بساطة، "أبعدوه" عن المشروع! فسارعت إلى الاتصال بمعارفي، وعلى رأسهم أبو محمد (عمر السباعي، وزير المواصلات)، وصديقي في وزارة المواصلات المهندس سهيل شباط، وآخرون. أما أبو محمد، فقد عرَّفني يومئذٍ إلى العقيد خليل بهلول، المدير العام لـ"الإسكان العسكري"، تلك الشركة الأخطبوط  – التي بحكم الصلاحيات شبه المطلقة لمديرها العام وما وُضِعَ تحت تصرُّفه من إمكانات – صارت الأقوى والأكثر نفوذًا في البلد. وقد وافق بهلول فورًا على توظيفي في شركته، وحدَّد لي ظهيرة اليوم التالي موعدًا لألتقي به وأوقِّع معه عقدًا. لكني، في آخر لحظة، قررت عدم التوجه إلى ذلك الموعد لأني، كما نصح لي المهندس سهيل شباط، ذهبت إلى مقر "الشركة العامة للدراسات" التي أُسِّستْ حديثًا والتي كان مديرها العام، الدكتور المهندس فؤاد بشور، يبحث عن مهندسين ذوي خبرة للتعاقد معهم. وبسرعة تذكَّرني الدكتور فؤاد من أيام خدمتي العسكرية، – إذ كان المهندس المصمِّم للبناء الذي نفَّذته خلال الخدمة – ووقَّع معي فورًا عقد عمل لدى شركته: عقدًا لم يكن مغريًّا جدًّا، لكنني وقَّعته بناءً على وعد منه بأنه سيعدِّله فور حصوله على مشروع كبير يفكر في تسليمي إياه، ألا وهو الإشراف على "مشفى جامعة دمشق التعليمي". وأستعيد بعضًا مما أتذكر وكان يجري في تلك الأيام.

ففي أواخر شهر أيلول 1981، عشية سفري إلى دمشق، قام بعض الشباب من خرِّيجي دورات القفز المظلِّي[2] الدارجة آنذاك، بإيعاز من "سرايا الدفاع" التابعة لرفعت الأسد والمشرفة على تدريبهم، بالنزول إلى شوارع المدن والتعدِّي على حرمات الناس بنزع أغطية النسوة المحجبات! فعل أرعن واستفزازي، سرعان ما اعتذر عنه شخصيًّا الرئيس حافظ الأسد في خطاب تلفزيوني، كما استنكره أيضًا الحزب الشيوعي.

وفي الخامس من تشرين الأول 1981، أي بعد أيام من التحاقي بعملي الجديد لدى "الشركة العامة للدراسات" التي كان مركزها في ساحة العباسيين، كانت محاولة أصولية لتفجير مجمَّع التجارة السكني الذي كان مستأجرًا من قبل الخبراء الروس، مما أسفر، كما قيل، عن حريق سطحي في المبنى وعن بعض الجرحى من السكان.

وأيضًا – وهذا هو الأهم – في أوائل شهر كانون الأول 1981، وفي ساعة ازدحام قصوى حوالى الظهيرة، كان هجوم انتحاري بسيارة مفخَّخة على مبنى شعبة التجنيد في حي الأزبكية وسط دمشق يسفر عن عدد كبير من الضحايا وعن خسائر مادية فادحة في البناء نفسه وفي الأبنية المحيطة... عمل إجرامي مجنون كانت نتيجته المباشرة الأساسية، من جانب السلطات، مسيرات استنكار، من جهة، والمزيد من الإجراءات الأمنية المشدَّدة التي عمَّتِ البلد، من جهة أخرى.

حينذاك، كان عملي الهندسي في "شركة الدراسات" هو مساعدة مدير التخطيط لدى الشركة والمسؤول عن إعداد دراسات المشاريع السكنية لضاحيتَي قدسيا وجبل قاسيون السكنيتين، صديقي، خريج پولونيا، المهندس زاهي الحارس. وأتذكر كيف كلَّفني الدكتور فؤاد يومئذٍ، بالاتفاق مع زاهي، إعدادَ دراسة جدوى فنية واقتصادية لتحديد الطريق الأمثل لتخديم الضاحية السكنية في قدسيا التي كانت في طور الدراسات التنفيذية. فانكببت على هذه الدراسة، التي سرعان ما أنجزتها وقدَّمتها، مع بعض المخططات والجداول الداعمة، إلى إدارة الشركة، مبيِّنًا أن الطريق الأمثل لتخديم هذه الضاحية إنما هو الواصل بينها وبين نهاية أوتوستراد المزة: ذلك الطريق المعروف في وزارة المواصلات بالاحتمال "ب" لأوتوستراد دمشق– الحدود اللبنانية، الذي بات يُعرَف اليوم بـ"طريق القصر الجمهوري" والذي كان أيضًا قيد الإنشاء. وأتذكر كيف قبل الدكتور فؤاد مبتسمًا نتيجة الدراسة التي قدمتها إليه، معلقًا:

-       أشاطرك الرأي بأن ما تقترحه حلاًّ هو الأمثل، يا أكرم. لكن... لِنَرَ ماذا ستكون ردة فعل السلطات والمسؤولين عن القصر الجمهوري وقرارهم بعدما نتقدَّم إليهم بهذه الدراسة.

وسرعان ما جاء "الرد"، حين استدعاني الدكتور فؤاد صبيحةَ ذات يوم، بعد حوالى عشرة أيام، ليبلغني بأن المهندس المسؤول عن مشروع القصر – وكان على ما أذكر من أسرة الرزاز – يرغب في اللقاء بي لمناقشتي فيما تقدَّمتُ به من دراسة. وأسارع إلى التوجه للقياه، وتوصية الدكتور فؤاد لي وأنا ذاهب كانت:

-       لا تناقشه كثيرًا، يا أكرم... استمع إليه، فقط استمع... إنه، كما أعرف، شخصية غير ودودة.

وفيما يلي ملخص هذا اللقاء، الذي أرى أنه لا مناص من نقل بعض مقتطفاته لأهميته:

-       أنت، إذن، المهندس أنطاكي... وقد ارتأيتَ في دراستك – التي قرأتها جيدًا – اختيارَ "طريق القصر" من أجل تخديم ضاحية قدسيا... خبِّرني، يا بني، لماذا اخترت هذا الطريق؟

-       لأني وجدته أقصر وأفضل طريق لذلك، فنيًّا واقتصاديًّا.

فضحك ضحكة عريضة وأجابني:

-       أفضل طريق! بالله عليك، تقول أفضل طريق! طيب، والقصر الجمهوري أيضًا أفضل مكان للسكن في البلد... لماذا لا تأتي لتسكنه حضرتك؟!

فأجبته في برود – وقد كان واضحًا جدًّا مدى السخرية والاستفزاز في كلامه:

-       هذا ليس من مقامي، يا سيدي.

-       وكذلك هذا الطريق ليس من مقامك ولا من مقام أحد! وحدهما الرئيس ورفعت، يا بني، لهما الحق في استعمال هذا الطريق! لذلك، استمع إلي جيدًا: إن هذه المنطقة الجبلية، الممتدة من قدسيا، إلى مشروع دمر، فالقصر، فالمزة، هي منطقة انتشار دائم. فانسَها... أو، إن لم تشأ أن تنساها، اتصل شخصيًّا بالرئيس و/أو برفعت، اللذين قد يستلطفانك، فيقرران، كرمى لعيونك الحلوين، الموافقة على استخدام طريق القصر من أجل تخديم ضاحية قدسيا... قال ضاحية قدسيا، قال! لذلك – وهذا هو "رأيي"، بلِّغه للدكتور بشور – انسوا هذا الطريق!

وأغادر الاجتماع حزينًا، شاردًا ومتفكرًا، وأنا في طريق عودتي لمقابلة الدكتور فؤاد كي أخبره بما تبلَّغته من "قرار"، كم تدهورت الأحوال في بلدنا، حتى صار متملقون صغار، من أمثال هذا "المسؤول" الذي اجتمعت به، أصحاب أمر ونهي عندنا... وكيف لا يتوقف السير في باريس عندما يمر موكب رئيسها، المؤلَّف فقط من سيارتين ودراجتين ناريتين، وأنه أمام منزل الرئيس الفرنسي (فرانسوا ميتران آنذاك)، الواقع قرب كاتدرائية نوتردام وسط العاصمة الفرنسية، يقف حارسان فقط! وأتذكر، أيضًا، أنه على بوابة القصر الجمهوري القديم في المهاجرين، أيام "الرؤساء البرجوازيين" الأتاسي والقوتلي والقدسي – رحمتهم الألوهة – كان يقف أيضًا رجلا شرطة فقط! أما اليوم، فقد أصبحت المنطقة المحيطة بالقصر "منطقة انتشار" دائم، يحظر استخدامُها أو حتى المرور عبرها.

ضحك الدكتور فؤاد حينما أخبرته بما جرى معي وسألني:

-       الآن، وقد تبلَّغنا "القرار"، أي حل تقترح، يا أكرم؟

-       سأوصي باختيار الطريق الآتي من قدسيا والواصل إلى دمشق عبر مشروع دمَّر.

فضحك الدكتور فؤاد مجددًا، وأجابني مداعبًا:

-       أنت "ابن حرام"، يا أكرم!... لأنك تفكر كما أفكر: حين ستعود الأمور طبيعيةً في بلدنا – وهي ستعود كذلك مع الأيام، لا محالة – فإن "طريق القصر"، الذي يلتقي بطريق قدسيا عند نهاية مشروع دمر، سيعود ليصبح الطريق الطبيعي لتخديم المنطقة، ومن ضمنها ضاحية قدسيا.

وأتذكر أنه حينذاك كانت الأخبار كلها تتركز على ما يجري حولنا من أحداث، كان أهمها قطعًا الحرب الأهلية في لبنان، الذي أصبح جنوبُه متوازَعًا بين منظمة التحرير الفلسطينية، من جهة (ما بات يُعرَف دوليًّا بـ"أراضي فتح" Fatah Lands)، ومن جهة أخرى، بين "جيش لبنان الجنوبي" بقيادة سعد حداد، المنشق عن الجيش اللبناني الرسمي، الذي كان مؤلفًا، كما قيل، من فقراء الشيعة والمسيحيين من أبناء المنطقة والذي كان متعاملاً مع إسرائيل.

وأتذكر أنه حينذاك، تحديدًا في 13 كانون الأول 1981، كإجراء استفزازي من طرف واحد، أعلن إسرائيل ضمَّ هضبة الجولان السورية، التي كان يحتلها منذ العام 1967، وأن ردة الفعل السورية الرسمية على الإعلان الإسرائيلي كانت باردة جدًّا، إن لم نقل "غير مكترثة" ظاهريًّا.

وعلى الجبهة العراقية–الإيرانية، حيث الحرب المحتدمة قد دخلت عامها الرابع، كانت الأوضاع القتالية تتطور لصالح إيران.

أما في الداخل السوري، فكانت أعمال الإرهاب تتصاعد، حتى باتت متمركزة في منطقة أساسية من وسط البلاد، منطقة حماه، التي كانت الأوضاع فيها في توتر متزايد ومستمر... حتى كان تفجُّر تلك "الكارثة الوطنية" التي أضحت تُعرَف، من بعدُ، بـ"أحداث حماه"...

2

تلك الأحداث التي مرَّ عليها حتى اليوم، وأنا أكتب هذه السطور، 24 عامًا ونيف؛ وهي أحداث عشتُها، كما عاشها آنذاك معظم أهل البلد في معظم المدن الأخرى (ماعدا حماه)، من خلال أحاديث الناس والأقاويل والشائعات... وهذه، على الرغم من هول ما جرى وفداحته، كانت، من وجهة نظري اليوم، مبالغًا فيها إلى حدٍّ ما.

فما جرى، على حدِّ ما كنا نسمع، هو أنه في الثالث من شباط 1982 استولى الأصوليون، الذين كانت خَلِيَتْ لهم الساحةُ يومئذٍ، على المدينة ونكَّلوا تنكيلاً وحشيًّا بالقلة التي ظفروا بها من جماعة السلطة. ثم كانت محاصرة السلطات للمدينة بقوات عسكرية ضخمة واجتياحها لتنظيفها من المتمردين. وقد استغرقت عمليات "التنظيف" هذه، التي كانت، على ما يبدو، في منتهى القسوة والوحشية، حوالى الثلاثة أسابيع.

وأتذكر أننا لم نكن نسمع شيئًا تقريبًا عما كان يجري من وسائل إعلامنا الرسمية. ما وصلنا عنه كان فقط عبر وسائل الإعلام الأجنبية، كإذاعتَي لندن ومونتي كارلو، وعبر ما كان يُتداوَل في البلد من شائعات وأخبار تصلنا من أصدقائنا في أحزاب السلطة أو من أولئك الذين هم من أصول حموية – مما كان يزيد في تهويل صورة الأحداث ومدى صداها في البلد ووقْعها عليه. فعلى سبيل المثال، فيما يتعلق بعائلتي وأقربائي، انقطعت عنَّا لمدة تزيد عن الشهر أخبارُ غزوة، ابنة هيلدا شقيقة منى، التي كان زوجها مدحت قنواتي من أصول حموية، والتي كانت، حين وقعت الأحداث، في زيارة لأقاربها هناك، ثم أُخبِرنا فيما بعد أنها عادت إلى حلب بعد أن بقيت تلك المدة كلها مخبأة لدى معارف عائلية في ريف المدينة؛ كذلك كانت حال محمد خير، ابن هاشم، الذي انقطعت أخباره عن أهله لأكثر من شهر والذي خبِّئ أيضًا لدى بعض أقاربه في ريف المدينة. ثم سمعنا فيما بعد عن الكثير من تلك الحالات، التي كان معظمها مؤلمًا وحزينًا: فزميلي من الجندية مسعف س.، مثلاً، فَقَدَ يومئذٍ والدَه العجوز وشقيقَه اللذين قُتِلا خلال الحوادث؛ وأحد معارفي من جماعة أكرم الحوراني، المحامي زهير ق.، فَقَدَ شقيقَه الذي قُتِل أيضًا؛ وجارتنا في دمر أم طلال انقطعت عنها منذ ذلك التاريخ أنباء شقيقها الذي مازال مصيره مجهولاً إلى اليوم؛ ومحافظ دير الزور السابق، الذي عرفتُه من الميادين، كاد أن يُقتَل هو الآخر، ولم ينجِّه ومَن كان معه من أبناء حارته سوى أنه كان ذات يوم بعثيًّا[3]؛ وغيرها الكثير الكثير من القصص التي تؤكد كلها بأن ما جرى كان وحشيًّا ومؤلمًا. وأيضًا...

أتذكر بعده يوم الثامن من آذار الذي تلا، حين ألقى الرئيس حافظ الأسد أمام مجلس الشعب خطابًا تحدث فيه عن تلك الأحداث...

كان الجو باردًا في المدينة يومذاك، وكانت شوارع دمشق الحزينة، التي كانت تمزِّقها الشائعات، شبه فارغة من المارة، كأنها في حالة حصار أو منع تجول. كانت الساعة حوالى الحادية عشرة صباحًا، على ما أذكر، حين خرجتُ من منزل أهلي متوجهًا، عبر شارع الحمرا، نحو موقف الباصات عند الجامعة كي أعود إلى منزلي (منزل عاصم) في مشروع دمَّر، فاستوقفتْني عند تقاطُع شارع الحمرا مع شارع العابد، وسط الصمت المرعب المحيط، أصواتُ هتافات تتعالى متجهة نحو مجلس الشعب. ثم شاهدت مشهدًا غير مألوف على الإطلاق: شاهدت الرئيس حافظ الأسد شخصيًّا، على بُعد عشرة أمتار منِّي فقط، محمولاً على أكتاف بضع مئات من جماعته[4]، متَّجهين به إلى المجلس كي يلقي كلمته، فشعرت بالخوف فعلاً، لأنه في تلك اللحظة لم يكن في الشارع أحد إلاي... وإلاهم.

لذلك سارعت، بعد أن مروا من أمامي، عائدًا إلى منزل أهلي كي أستمع من هناك إلى ما سيقول في خطابه عن تلك الأحداث. وما قاله حولها يومئذٍ كان فقط جملة واحدة، مختصرة مفيدة، تقول: "ما حدث في حماه حدث وانتهى..."

وأتذكر أني لم أستوعب يومئذٍ أبعاد تلك العبارة القاسية، التي بقيت أهجس بها لفترة طويلة، والتي لم أسمع عبارة شبيهة بها – وإنْ من منظور آخر – إلاَّ على لسان أحد أبرز قادة المعارضة السورية، أكرم الحوراني، رحمه الله، وقد التقيت به بعد مضي أكثر من عشر سنوات على "الأحداث" في باريس، حينما سألته عما سيكون سلوكُه تجاه ما حدث في حماه عندما يعود إلى الوطن، فأجابني: "سننساها..."

وأتفكر اليوم أن كلاًّ من حافظ الأسد وأكرم الحوراني إنما كان يتكلم من منطق رجل الدولة الذي، انطلاقًا من مصلحة بلده أو سلطته وفهمه لها، رأى أنه يجب "نسيان" ما جرى من فظائع في تلك الأيام – وهو موقف صحيح جدًّا من منظوري اليوم. أما حينذاك، فقد كان تأثير تلك الأحداث مرعبًا، بحيث إنه أنهى أعمال الإرهاب دفعة واحدة، ولم يتجرأ أحد حتى على ذكرها...

لأن ما جرى كان في الحقيقة انتصار إرهاب على إرهاب، وبقسوة منطق حرب أهلية أو حتى طائفية... لأن ما جرى كان في الحقيقة انتصار إرهاب دولة، يحكمها نظامٌ قمعي شرس، على إرهاب جماعات أصولية منفلتة من عقالها وأشرس قطعًا. والنتيجة كانت هذه الألوف من الضحايا الأبرياء الذين لم تكن لمعظمهم علاقة بما جرى.

لذلك، كما أصبحت أتفكر اليوم، فإنه قد يكون من الأفضل للجميع طيُّ هذه الصفحة؛ أو، إن عدنا إلى التفكر فيها مع الزمن، فالتفكر يجب أن يكون من منطلق إنساني ومدني مسؤول، يضع اليد على الجراح، ويحدِّد تحديدًا واضحًا ما أوصلنا وأوصل بلادَنا إلى هذه الحالة من التأزُّم والتعصب والخيبة والهزائم. وهذا، من منظوري، كان منطق إيديولوجياتنا الخائبة من قومية وشيوعية، من جهة؛ ومن جهة أخرى أيضًا، منطق فهم مدني وديني إسلامي (وحتى مسيحي) متخلِّف، لم يستوعب – ومازال إلى الآن غير مستوعب – معنى الحداثة ومتطلباتها، التي هي حصرًا المجتمع المدني والديموقراطية وفهم متطور وعصري للدين والضرورة الملحَّة لفصله عن الدولة.

3

في تلك الأيام، كما سبق أن أشرت، لم تكن لي علاقة تنظيمية مباشرة بالحزب الشيوعي. زوجتي فقط كانت منتظمة في إحدى فرقه وعضوًا في الفرعية التي تقود منظمة الحزب في مشروع دمَّر ومنطقة الرز. لكني – وهذا أطرف ما في الأمر – ألاحظ، حين أعود فأتفكر في تلك الحقبة، أنني، على الرغم من انقطاع علاقتي التنظيمية بالحزب، إلاَّ أن صلتي الفعلية به أصبحت أكثر وثوقًا مع أوساطه القيادية، وخاصة مع جماعة الأمين العام وعائلته، كعمار (ابن خالد بكداش) وقدري جميل (الذي كان حينذاك متزوجًا من سلام، شقيقة عمار)، اللذين عادا من موسكو؛ هذا بالإضافة إلى أبو محمد (عمر السباعي، وزير المواصلات وعضو المكتب السياسي) وأبو سعيد (عبد الوهاب رشواني، عضو اللجنة المركزية) وخلوف قطان (عضو اللجنة المركزية وسكرتير "الجناح المبدئي" لمنطقية حلب)، وغيرهم، أخص منهم أيضًا، من جماعة يوسف فيصل، أبو راشد (مراد قوتلي، قبل أن يحلَّ محلَّ أبو محمد في وزارة المواصلات)، الذي كنت ألتقي به بين الحين والحين في مكتبه المشترك مع هاشم، أبو راشد الحبيب، – رحمتْه الآلهة، – الذي قدَّم لي ذات يوم كتابًا قيِّمًا يتضمن بعض مقالات وخطب إنريكو برلِنغوير، الأمين العام للحزب الشيوعي الإيطالي، ذلك الحزب الذي كان يتعرض آنذاك لحملة مركَّزة من قبل موسكو وأتباعها بسبب مواقفه الاستقلالية وطروحاته المتقدمة. (والحزب الشيوعي السوري – وأقصد جناح بكداش–فيصل يومذاك، كان يساهم، بكلِّ جدارة، في تلك الحملة الشيوعية العالمية على الحزب الإيطالي "الشقيق" ومواقفه، التي وصفتْها قراراتُ لجنته المركزية وصحيفة نضال الشعب بأنها "مساعدة مباشرة للإمپريالية"!

ويسألني أبو راشد عندما التقيت به ذات مرة في مكتبه:

-       ما رأيك، يا أكرم، بما يطرحه بيرلِنغوير حول "المساومة التاريخية"؟

-       إنه طرح ذكي وعميق، يا أبو راشد، ويستحق التفكر فيه.

فيضحك، ويقول لي بصوت خفيض، وكأنه لا يريد أن يسمعه أحد:

-       أشاطرك رأيك هذا...

وأيضًا، أتذكر أنه، في تلك الأيام، كانت الأخبار الواردة من الاتحاد السوفييتي "العظيم" تتحدث عن وفاة ميخائيل سوسلوف، "المنظِّر الأكبر للحزب الشيوعي السوفييتي"؛ وعن وفاة أندريه كِريلِنكو، "نائب بريجنييف ورفيقه في السلاح"، الذي لوحظ منذ فترة غيابُه عن أضواء الكرملين بعدما هرب ابنُه إلى الغرب؛ وعن "انتحار" سيمون تزفيغون الغريب، صهر بريجنييف ونائب أندروپوف رئيس الـ"ك.ج.ب."[5]؛ وخاصةً عن تزايد تسليط الأضواء في الكرملين على شخص يوري أندروپوف، الذي أصبح سكرتيرًا للَّجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي، أندروپوف الذي كان الرفاق المسؤولون من جماعة أبو عمار يصوِّرونه لنا، في أحاديث جانبية توحي بمعرفتهم العميقة ببواطن الأمور، بأنه... "رائع"!

في تلك الأيام، على ما أذكر، انسحب إسرائيل فعلاً من سيناء، التي عادت بكاملها إلى مصر. لكن هذا الانسحاب كان "وهميًّا" في نظر حزبنا الشيوعي السوري، لأن سيناء "... تحولت إلى قاعدة ثابتة لقوات الولايات المتحدة، عدوة العرب الأولى..." – وهو تقييم أثبتت الأحداثُ أنه غير صحيح على الإطلاق! وتتسارع الأحداث في منطقتنا...

ففي 3 حزيران 1982، أطلق "مسلحون فلسطينيون"[6] النار على شلومو آرغوف، سفير إسرائيل في لندن، فأصابوه بجراح خطيرة؛ الأمر الذي استخدمتْه الحكومة الإسرائيلية برئاسة ميناحيم بيغن، التي كان وزير دفاعها آنذاك آريئيل شارون، ذريعةً لاجتياح لبنان.

ففي يوم الأحد 6 حزيران 1982، اجتاحت القوات الإسرائيلية الحدود اللبنانية. وخلال أقل من 48 ساعة، استولت هذه القوات على معظم الجنوب اللبناني، بعدما دحرتْ قوات منظمة التحرير، ثم راحت تتقدم في اتجاه بيروت والشمال على ثلاثة مَحاور (الساحل والبقاع والجبال الوسطى)[7]، حيث سرعان ما اصطدمت بطلائع الجيش السوري في البقاع، الذي، كما قالت الأنباء، تكبَّد خسائر فادحة، كانت أهمها كتيبة من الدبابات دُمِّرَتْ برمَّتها... حتى كان وقف إطلاق نار بين إسرائيل، الذي قطعتْ قواتُه طريق دمشق–بيروت عند ضهر البيدر، وبين سورية، برعاية المندوب الأمريكي، السيد فيليپ حبيب.

وفي 13 حزيران 1982، كانت القوات الإسرائيلية تحاصر العاصمة اللبنانية بيروت، أرضًا وبحرًا، من الجنوب والشرق والغرب، وفي داخلها، كما قيل، 14000 جندي سوري ومقاتل فلسطيني. وقد انتهى هذا الحصار المدمِّر، الذي كانت بيروت خلاله تُقصَف أمام أنظار العالم، في 21 آب 1982، بناءً على اتفاق رعاه (أيضًا) المندوب الأمريكي فيليپ حبيب وفرنسا – الأمر الذي أدى إلى انسحاب قوات منظمة التحرير من بيروت عن طريق البحر، في حماية فرنسية، متَّجهين إلى تونس التي وافقت على استقبالهم. كما انسحبت القوات السورية إلى بلدها عن طريق ضهر البيدر والبقاع بعد أن أفسحتْ لها القوات الإسرائيلية المجالَ لذلك.

وأسترجع كم كان المشهد حزينًا، لا بل يُرثى له، خاصةً وأن الجميع – وأقصد هنا جميع منسحبينا المهزومين، من فلسطينيين وسوريين – كانوا يبتسمون لوسائل الإعلام ويرسمون بأصابعهم شارة النصر – ويا له من "نصر" هذا الذي أدى إلى اجتياح القوات الإسرائيلية لأول وأجمل عاصمة عربية على الإطلاق!

وأستعيد في حزن، من موقعي في تلك الأيام التعسة، كيف كانت بيروت المحاصرة تُقصَف، وتلفزيوننا "المناضل" ينقل بكلِّ حماس، وكأن الأمر لا يعنينا، أنباءَ مباريات كأس العالم في كرة القدم!

وأتذكر كيف اتصلت بي زوجتي في أحد تلك الأيام من منزلنا في دمَّر إلى حيث مقرِّ عملي في "شركة الدراسات"، لتخبرني أن صاروخًا إسرائيليًّا وقع على المشروع وأن بعض الأضرار لحقت بمنزلنا الذي تكسَّر زجاجُ نوافذه، كما انخلع بابُه، لكن – وللألوهة الحمد – من غير أن يصاب أحد بأذى، لا منى ولا الأولاد. فأسارع إلى العودة، لأخبَر بأن ما وقع لم يكن صاروخًا، بل خزان وقود فارغ تخلَّصت منه على ما يبدو طائرةٌ إسرائيلية مرَّتْ من فوقنا، فوقع قرب منزلنا في المشروع، مما أحدث بعض الأضرار. وتوالت الأحداث في سرعة مذهلة...

ففي 23 آب 1982، في بيروت المحتلة، كان انتخاب البرلمان اللبناني للسيد بشير الجميل، قائد "القوات اللبنانية"، رئيسًا للجمهورية... وفي 14 أيلول 1982، كان اغتيال بشير الجميل بتفجير البناء الذي كان موجودًا فيه؛ وقد تبين فيما بعد أن منفِّذ عملية اغتياله كان من الحزب السوري القومي الاجتماعي...

ثم كانت مجزرة صبرا وشاتيلا، التي قادها ونفَّذها جهاز أمن "القوات اللبنانية" برئاسة إيلي حبيقة، بالتواطؤ مع القوات الإسرائيلية المحتلة، التي غضَّت الطرف، على ما يبدو، وسمحت لعناصره باجتياح المخيم...

وأتذكر كيف عمَّت مظاهرُ الاستنكار والاحتجاج على هذه المجزرة حينذاك أنحاء العالم قاطبة. لكن ما كان في نظري من أكثر الأمور إيلامًا هو أن أوهى مظاهر الاحتجاج كانت عندنا في البلد، حيث لا يحدث شيء عفوي ولا يتحرك أحد إلاَّ بإذن من السلطة، بينما كانت أكثر مظاهر الاحتجاج تعبيرًا وقوة في إسرائيل، عدوِّنا المفترَض، حيث النظام السياسي – شئنا أم أبينا – ديموقراطي.

لكن ممَّا لم يكن الأهم في نظري، وبقي عالقًا في ذهني عن تلك الفترة، إنما كان تلك القصة الطريفة التي رواها لي فيما بعد صديقي زهير و.، زوج زينب، التي تقول: "... كان المجلس الإسلامي الأعلى مجتمعًا في بيروت في تلك الليلة برئاسة رئيس وزراء لبنان الأسبق صائب سلام، حين اندفع إلى قاعة الاجتماع شخصٌ مضطرب وسأل الحضور:

-       "هل سمعتم بما حصل، يا إخوان؟!" فسألوه:

-       "وما الذي حصل؟" فأجابهم:

-       "القوات اللبنانية ارتكبت مجزرة في صبرا وشاتيلا!" فسألوه:

-       "وكيف عرفت أنهم القوات اللبنانية؟" فقال:

-       "لقد كنت قرب المكان، وقرأت شاراتهم على أكتافهم." فأجابه أحدهم:

-       ومنذ متى تعلَّمت القراءة؟!"

... ما يدل على مدى حكمة أولئك الذين كانوا، على الرغم من كلِّ ما يحدث، يحاولون "ضبضبة" الأمور حفاظًا على تعايُش أبناء البلد الواحد.

أما في 10 كانون الأول 1982، فكانت أنباء بلاد "الصديق الصدوق" تحمل إلى العالم أجمع خبر وفاة الرفيق ليونيد بريجنييف، الأمين العام للحزب الشيوعي السوفييتي، وتنصيب الرفيق يوري فلاديمروفيتش أندروپوف، الرئيس الأسبق للـBGK، مكانه على رأس الهرم القيادي السوفييتي. فأستعيد ما كان يُنقَل لنا حوله في ذلك الحين: كيف كان أندروپوف قد باشر، – ساعيًا، على ما يبدو، إلى السلطة منذ أواخر أيام بريجنييف، – "حملةً ضد الفساد"[8] شملت حينذاك العديدَ من مؤيدي هذا الأخير الذين تم استبدال عناصر أمنية بارزة بهم؛ ثم كيف صُعِّدَتْ تلك الحملة فور تولِّي أندروپوف قيادةَ الحزب، فكان أول ما فعله إزاحة وزير الداخلية وصديق بريجنييف الشخصي، الجنرال نيقولاي شولوخوف، الذي، كما أذكر، بحسب ما كان يتناقله الرفاق في حماس، أوقِفَ... وحوكِمَ... وجُرِّدَ من رتبته... وطُرِدَ من الحزب... كما أُرسِلَ ابنُه بتهمة التشرد إلى معسكر اعتقال في سيبيريا... "لأنه هكذا يكون الحزم الثوري، أيها الرفاق، لأنه هكذا كانت الأمور أيام لينين..."! وأيضًا – والأهم من هذا كلِّه – "... هم هناك يقدِّرون جدًّا الرفيق أبو عمار [خالد بكداش]، الذي قُلِّدَ وسامَ غيورغي ديميتروف البلغاري بمناسبة بلوغه سنَّ السبعين..."!

4

لكن... بعيدًا عن هذه الأحداث "العظام" كلِّها، كانت حياة الناس مستمرة، وكنَّا نحن من هؤلاء.

فعملي لدى "الشركة العامة للدراسات" كان يتطور. ففي الأشهر الأولى من العام 1983، بدعم كامل من الدكتور فؤاد بشور، باشرت مشروعي الأهم: الإشراف على "مشفى جامعة دمشق التعليمي"...

وأتذكر كيف وضع الدكتور فؤاد تحت تصرفي سيارةً وسائقًا لمتابعة أمور العمل، كانت بادئ الأمر سيارة مرسيدس مفرَزة إلى الشركة من رئاسة مجلس الوزراء، سرعان ما أعدتُها لأننا، لا أنا ولا منى، تحملنا نظرة الناس إلينا من خلالها، واستبدلتُ بها أخرى قديمة قليلاً، لكن ممتازة، من نوع بيجو 504، بقيت معي حتى نهاية المشروع. وقد ساعدني وجود السيارة معي كثيرًا في تأمين بعض شؤوني الخاصة، كإعادة الأولاد من المدرسة (دار السلام أو الفرانسيسكان سابقًا) وإحضار منى من مدرستها التي كانت عند فوج الإطفاء. وأسترجع، للمناسبة، كيف استعدتُ مهارتي في قيادة السيارة التي انقطعت عن قيادتها منذ أيام الجامعة...

وأسترجع كذلك من تلك الأيام بعض الأمور الطريفة: كيف بكت ابنتي نورا (وكان عمرها حينذاك أربع سنوات ونيفًا)، وقد تملَّكها الخوف حين رأت صورتَها على شاشة التلفزيون الذي كان ينقل احتفالات المدارس بأعياد رأس السنة، فسارعنا ضاحكين إلى احتضانها والتهدئة من روعها. و...

كيف لم تكن هناك شبكة مياه شرب في مشروع دمَّر يومذاك، فكنَّا نجلب ما يلزمنا من ماء الشرب من البلد بالبيدونات، وكيف كان الجميع من سكان المشروع يعرف الجميع القلائل آنذاك، بِمَنْ فيهم سائق باص النقل العام الأنيق الذي كنَّا نلقبه بـ"البارون"!

وأتذكر، خاصةً، كيف بدأتُ عملي الجديد بعد أن عيَّنني الدكتور فؤاد مهندسًا مقيمًا مسؤولاً عن طاقم الإشراف على مشروع "المشفى التعليمي"، وكيف باشرنا باستلام عقده مع المتعهد الذي كان يومئذٍ شركة باپكوك باو الألمانية، وكيف تعرَّفنا إلى طاقم المتعهد الألماني الذي كان يومئذٍ مؤلفًا من مدير ومحاسب وسكرتيرة، يقيمون في شقة مستأجَرة في المزة، ثم كيف بدأنا ندرس العقد والوثائق ونتلمَّس الثغرات – وما أكثرها! فقيمة العقد كانت كبيرة (حوالى 97 مليون دولار). أما المواصفات فكانت أقل من عادية؛ لكن الشيء الإيجابي الوحيد فيها، الذي لمسناه منذ البداية، كان أن "المشفى ووظائفه يجب أن يطابق الكود الألماني" – وهذا الكود، كما نعلم، دقيق جدًّا وجيد جدًّا. ثم بدأنا نلمس مشاكل العمل التي...

كانت أولاها من الإدارة الفنية في الجامعة، التي حاولت يومئذٍ جاهدةً إبعادَنا للاحتفاظ لنفسها بالإشراف على المشروع؛ وهو واقع سرعان ما تجاوزناه بفضل الدكتور فؤاد وما كان يلقاه من دعم بهذا الخصوص من رئيس مجلس الوزراء، الدكتور المهندس عبد الرؤوف الكسم.

وكانت ثانيتها ثغرات واقع العقد والمتعهد نفسه: حيث لمسنا، منذ البداية، أن هذا المتعهد، الذي قبض سلفًا سلفة المشروع برمَّتها، كان يتلكأ في البدء بالتنفيذ؛ مما أعطانا الانطباع بأن الشركة الألمانية تعاني من بعض المشاكل وأنهم، إذ قبضوا السلفة ودفعوا ما عليهم من عمولات لِمَنْ سهَّلوا لهم العمل، إنما يحاولون التهرب من التنفيذ، لا بل ينتظرون حجَّة لذلك.

وأتذكر، للمناسبة، كيف باشروا يومئذٍ بحفريات المبنى الرئيسي الذي لم تكن مخطَّطاته التنفيذية جاهزة بعد، وكيف، في بطء شديد، باشروا تجهيز الأبنية مسبقة الصنع لهم ولطاقم الإشراف، ثم كيف تقدَّموا لنا، مباشرة عند البدء بتهيئة الموقع وبالحفرية، بأول كشف لهم. وهنا – ويا للمصادفة العجيبة! – برز رأيان فيما يتعلق بتسديد قيمة هذا الكشف: الرأي الأول كان رأي الإدارة الفنية في الجامعة، التي ما تزال تحاول التدخُّل، القائل بعدم دفع قيمة الكشف لأن المتعهد لم يباشر بعدُ في شكل جدي؛ والرأي الثاني كان رأينا، أي رأي "الإشراف"، الذي توصلنا إليه بعد استشارة اثنين من أفضل محامي البلد، أستاذَي الجامعة الدكتورين كمال غالي وفؤاد دهمان، اللذين رافقانا من بعدُ طوال مدة المشروع، ويقضي بأن نسدد قيمة الكشف حتى لا نعطي المتعهد أية ذريعة للتهرب من التزاماته العقدية. وكان هذا ما حصل. وأتذكر، بهذا الخصوص، ذلك الوفد الألماني الكبير الذي حضر للمناسبة يومئذٍ لمناقشتنا في مشاكل العمل وبدايات التنفيذ، وكيف كانوا يطرحون أسئلة عامة جدًّا لا تترك انطباعًا بأنهم جادون فعلاً بالمباشرة، إلى درجة أني، في آخر هذه الاجتماعات – وكنت يومئذٍ مجتمعًا إليهم وحدي – لم أتمالك نفسي، فسألتهم سؤالاً مباشرًا جدًّا:

-       هل تريدون فعلاً تنفيذ المشروع؟

والطريف يومئذٍ أن الجواب على هذا السؤال، الذي بدا وكأنه فاجأهم، كان صمتًا مطبقًا... مما دفعني إلى الاستمرار في الحديث، قائلاً وأنا أضحك:

-       لا أريد أن أعتبر صمتكم هذا جوابًا، وإنْ كنت سأخبر به الدكتور بشور. على كلِّ حال، أخبركم أننا، فيما يتعلق بنا كجانب سوري، جادون جدًّا في تنفيذ هذا المشروع. وقد صادقت الجامعةُ على كشفكم الأول الذي ستقبضونه خلال أيام. ونصيحتي القلبية لكم هي أن تسرِّعوا العمل وأن تباشروا.

والطريف أنه بعد أسبوعين من هذه الاجتماعات أُخبِرنا بأن شركة باپكوك باو، المتعهد الرئيسي لمشروع مشفى الجامعة، قرَّرت مشاركة تعهُّدها ذاك مع شركة فيليپ هولتسمان، الألمانية هي الأخرى؛ الأمر الذي نصحنا للجامعة بالموافقة عليه فورًا، نظرًا لما نعرفه من حسن سمعة هذه الشركة وجدِّيتها.

وأيضًا، أتذكر كيف بدأنا بتشكيل طاقم الإشراف: حيث أحضر الدكتور فؤاد له عددًا من خيرة مهندسي البلد، الذين أخص منهم خبير المعدات الطبية المهندس بشار العظمة، الذي كان رافق الدكتور فؤاد سابقًا في الإشراف على المشفى العسكري في القابون (الذي تعهَّدتْه شركة فوجرول الفرنسية)، ومهندسًا من أسرة الحكيم للميكانيك، ومَن أصبح من بعدُ أحد خيرة أصدقائي، المهندس زياد الجابري. كما فَرَزَ الدكتور فؤاد للعمل معي في المشروع عددًا من خيرة مهندسي الشركة من مختلف الاختصاصات.

ثم كانت اتصالات مع شركة استشارية سويدية مختصة في المشافي، لم أعد أذكر اسمها اليوم، كانت ساعدت الدكتور بشور في الإشراف على المشفى العسكري حين كان ما زال في الجيش، وكان الاتفاق معهم على إرسال الدراسات الأولية إليهم كي يقدموا لنا رأيهم حولها، ثم أن نوافيهم هناك – وفدًا مسؤولاً من الشركة – لمناقشتهم في هذا الرأي. وكان هذا ما حصل: ذهبنا، بشار وأنا، إلى ستوكهولم، حيث قضينا أسبوعًا اطَّلعنا خلاله على ملاحظات الشركة على مشروعنا وناقشناهم فيها. وقد أفادتنا هذه الملاحظات جدًّا فيما بعد خلال الإشراف على مشروعنا.

زيارة إلى السويد طريفة وغنية، مازلت أتذكرها إلى الآن، وخاصة جمال هذا البلد ونظامه ورقيَّه، ما يجعله واحدًا من أرقى بلدان العالم إطلاقًا. وأيضًا...

أتذكر من تلك الأيام أمورًا كثيرة، وإن كانت تبدو لي اليوم متداخلة وغير واضحة تمامًا...

كيف توقفت الطائرة التي كانت تقلُّني عائدًا إلى الوطن مع بشار – وكانت، على ما أذكر، تابعة للخطوط الجوية الفرنسية – في مطار بيروت، حيث حذَّرونا من التصوير لأن المطار كان حينذاك تحت سيطرة القوات الأمريكية التي جاءت مع القوات الفرنسية إلى بيروت لتحلَّ محلَّ القوات الإسرائيلية التي انسحبت منها ومن باقي المدن اللبنانية، محتفظةً هناك، مع قوات سعد حداد، بما أضحى يعرف بـ"الشريط الحدودي"...

وكيف أحاط بي حين عدت عددٌ من مهندسي الشركة يسألونني عن انطباعاتي عن السويد وهل هو فعلاً بلد "إباحي"، فأجبتهم بأن انطباعي كان لا على الإطلاق، وأن شعبه خجول جدًّا ولطيف جدًّا، وأن بلدنا فاسق أكثر من بلدهم بما لا يقاس! حدَّثتهم كيف أن ملكهم يتنقَّل داخل المدينة على دراجته، ثم، لست أدري لماذا، أخبرتهم عن موضوع اللاجئين الآشوريين في ذلك البلد، الذي كان يومذاك قد لفت انتباهنا، فأجابنا الشخص الذي سألته حول الموضوع بأن "... اللجوء الإنساني سهل جدًّا عندنا: يكفي أن تمزِّق جواز سفرك في المطار وتلقي به في المرحاض، ثم تتقدم إلى السلطات المسؤولة على أساس أنك لاجئ إنساني لا تحمل جوازًا، فتجدهم، وفقًا لقوانين البلد، مضطرين إلى قبولك..." ولاحظت عندئذٍ أن عينَي أحد المهندسين العراقيين من الشركة، الذي كان يستمع إلينا، قد لمعتا – ما جعلني أتفكر: "يا إلهي! ها أنا ذا قد بلوت السويد بلاجئ إنساني جديد!" وكان هذا ما حصل فعلاً بعد بضعة أشهر! وأسترجع، محاولاً تذكُّر بعض أحداث هذا العام الذي كان حافلاً بالأحداث فعلاً...

فأتذكر أنه في شباط 1983 كان انسحاب القوات الإسرائيلية من الشوف، حيث حلَّتْ محلَّها ميليشيات جنبلاط الدرزية التي كانت تدعمها سوريا والتي سرعان ما اصطدمت هناك مع ميليشيات "القوات اللبنانية"... وكيف حلَّتْ القوات الأمريكية والفرنسية في العاصمة اللبنانية مكان القوات الإسرائيلية المنسحبة... وأنه في 13 نيسان 1983، كان تفجير سيارة مفخَّخة أمام مبنى السفارة الأمريكية في بيروت يسفر عن دمار هائل وعن العديد من القتلى والجرحى... وأنه في 17 أيار 1983، كان توقيع اتفاقية السلام اللبنانية–الإسرائيلية برعاية أمريكية – هذه الاتفاقية التي لم يقرَّها فيما بعد، وقد تغيَّرتْ الأوضاع على الأرض، مجلسُ الوزراء اللبناني في 5 شباط 1984.

وأيضًا من تلك المرحلة، مازالت عالقةً بذهني تلك القصة الطريفة التي رواها لي صديقي زهير و.، من صيدا، عن حوارية دارت بينه وبين أمِّه حول القوات الإسرائيلية التي كانت تحتل المدينة:

       "خبريني، يا ماما، ما رأيك بالجيش الإسرائيلي الذي كانت إحدى دباباته واقفة تحت بلكون منزلنا خلال تلك الفترة.

       ما بخوِّفوا، يا ابني، هَوْلي متلنا...

       ولك كيف متلنا، يا ماما؟! كانوا محتلين بلدنا!

       هَوْلي مثلنا، يا ابني، بياكلوا بزورات متلنا..."

وأيضًا، من بلاد "الصديق الصدوق"، كانت الأنباء في تلك الأيام تتحدث عن اختفاء أندروپوف المفاجئ عن أضواء الإعلام السوفييتي...

وعن انشقاق الموالين لسورية من قوات منظمة التحرير في البقاع، واصطدامهم مع قوات ياسر عرفات هناك، عرفات الذي حاصر الجيش السوري قواتِه في حزيران 1983 في طرابلس.

أما عندنا في البلد، فكانت الأوضاع الاقتصادية في تلك الأيام في منتهى الصعوبة، مما انعكس فقدانًا للعديد من السلع الأساسية من الأسواق، كالكلينكس والزيت والسمن، وانقطاعاتٍ شبه يومية للتيار الكهربائي في مختلف أحياء المدينة...

هذه المدينة التي كانت الشائعات تملؤها أواخر العام 1983، متحدثةً عن مرض الرئيس حافظ الأسد الذي غاب عن الأضواء في تلك الأيام، تاركًا الساحة، على ما كان يبدو، لصراع شبه علني بين مختلف أجنحة سلطته، وعلى رأسهم يومذاك رفعت لأسد و"سرايا الدفاع"، الذين بات حضورهم الثقيل ملحوظًا أكثر مما ينبغي!

أما فيما يتعلق بي، فقد تركت في تلك الأيام منزل صديقي الحبيب عاصم، لأني استلمت منزلي في مشروع دمَّر، الذي كانت "إكمالاته" قد انتهت.

*** *** ***


 

horizontal rule

[1] حينذاك لم يكن هناك بعدُ "حزب لله"!

[2] كان اتباع أحد الشباب من مرحلة الدراسة الثانوية لإحدى تلك الدورات يؤهله/يؤهلها للحصول على ما يكفي من "علامات إضافية" في البكالوريا تيسِّر له دراسة الطب والهندسة وسائر الفروع العلمية التي تتطلب مجاميع عالية!

[3] راجع ما أوردتُه حول هذه القصة في الفصل الثامن من مذكراتي بعنوان "ذكريات جزراوية".

[4] من عناصر الحرس الجمهوري، على الأغلب، باللباس المدني.

[5] المخابرات السوفييتية.

[6] أثبتت التحقيقات فيما بعد أنهم كانوا عملاء للمخابرات العراقية.

[7] راجع كتاب پاتريك سيل الأسد أو الصراع على الشرق الأوسط.

[8] أليس غريبًا أنه مع كلِّ صراع على السلطة في بلدان من هذه الشاكلة هناك دائمًا "حملة ضد الفساد" تطاوِل "الآخرين"!

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود