|
أبُـــونَـــا
كنت واقفًا على رصيف الشارع القريب من بيتي في انتظار سيارة أجرة تقلُّني إلى مكان عملي. بدا لي جوُّ الصباح مشابهًا لأجواء صباحات كثيرة خيَّمتْ على فضاء بلدتي مع بداية هذا الشتاء. السماء مغلَقة على غيوم رمادية كتيمة، لم تأذن لها حتى الآن بفتح مسامها لانسياباتٍ تحرِّك الأخيلةَ الجامدة تحتها، من بشر، وأرض، وشجر. كان ذهني ما يزال يردِّد عبارة لأينشتاين: "الخيال أهم من المعرفة." تساءلت، وأنا أراقب عمال البلدية يحفرون من جديد إسفلت الشارع الذي كانوا قد عبَّدوه منذ أشهر قليلة وحسب: هل يمكن أن يتحرك خيال أحدهم، يا ترى، في لحظات غير محسوبة، فيحمله فوق هدير الحفَّارات المصمِّ، وتلال الغبار المرتفعة ارتفاع القامات والأبنية، تسدُّ منافذ النور على المادة والروح، إلى عوالم تغمرها السكينة، حيث الشوارع العريضة تضحك عن إسفلتها المتلامع تحت أشجار على جانبيه، ترمقه بعيون مطمئنة، دون أن تقع على نفايات تلطِّخ بقذاراتها فطريةَ جذوعها البكر، وحيث الفضاء يعبق بأنفاس الخضرة المندَّاة من غير أتربة، ولا غبار، ولا روائح مخرِّشة للخلايا الحيَّة؟ ألن يفعل الخيال فعله، يا ترى، في لحظات كهذه؟ ألن يكون أهم بما لا يُقاس من معرفة لا أراها، من موقعي، تجلب إلا التعب لِمَن يستخدمها، والخراب للأرض التي تُستخدَم كشيء جامد لا حياة فيه، والإزعاج لِمَن يعايشون هذه الحالة، التي ما إن تنتهي لفترة حتى تعود فتبدأ مع ورشة جديدة، وعمال جدد، ومعرفة جديدة؟ ولكن، هل نستطيع أن نداوي جراحنا دائمًا بالخيال؟ هكذا تساءلت أيضًا، وأجبت نفسي دون أن أنتظر طويلاً: المعرفة ضرورية حتمًا، ولكن الخيال هو الذي يفتح لها الدروب كي تعبِّر عن نفسها في انطلاقات صحيحة وإبداعية. وإذا كانت معرفتنا بأيِّ شيء لا تستطيع أن ترسم لنا لوحة جميلة، متكاملة، فلأن خيالنا مهيض الجناح من غير شك. الرسام، مثلاً، يتعلَّم كيف يجهِّز اللوحة قبل أن يبدأ بالرسم، فيعرف كيف يثبت خشب القاعدة، ويشد القماشة عليها، ويعرف كيف يخلط الألوان، وكيف يستخدم الفرشاة، وكيف يعاين الأبعاد. لكنه حين يبدأ بالرسم، فخياله هو الذي يمسك يده، وهو الذي يحرِّك فرشاته في اتجاهات مختلفة، لانهائية، وهو الذي يستدرج الألوان إلى الأجزاء، والزوايا، والدوائر... من دونه لا تكون هنالك لوحة ولا إبداع. وهنا تكمن حريته! لقد أضحى حرًّا بخياله، وليس بمعرفته المحدودة. العامل الذي أراه أمامي الآن، بقامته الضئيلة وجسمه النحيل، مقيَّد إلى الحفارة، وهي تنهك ساعديه، وإلى الهدير، وهو يعطِّل سمعه، وإلى عواصف الغبار، وهي تتلف أحشاءه. تعبيرات وجهه، التي ينعكس معناها أمام ناظري، تشي بثقل قيده وفداحة معاناته. فهل أقترب منه، وأهمس في أذنه قائلاً: "حرِّكْ، يا أخي، مخيلتك كي تنجز عملك بطريقة أفضل، فلا تزيد في الحفر هنا أكثر مما ينبغي، أو تنقص هناك أكثر مما يجب، حتى تصل إلى الصورة المثلى لشارع هو موجود أصلاً في ذاكرتك. ما عليك إلا أن تنعشها قليلاً بأريج خيالك الزكي، وعندئذٍ لن يحتاج شارعك إلى عملية حفر جديدة وإنهاك جديد..." لكني أعود إلى نفسي في اللحظة التي طرأ عليَّ فيها مثل هذا الخاطر، لأسألها في مرارة: هل ما يزال، هذا المسكين الذي أمامي، يملك خياله يا ترى؟ ألم يُصادَر منذ زمن بعيد، زمن يعود إلى عهد الطفولة مثلاً؟ ألم يُقمقَم منذ ذاك، ويُسجَن؟ ألم تشترك المؤسسات جميعًا، الأسرية والمجتمعية والدولية، في قصِّ جناحيه وإعاقته؟ فكيف، إذن، سيتخيل يا ترى؟! ألم يتعلَّم، منذ أن كان طفلاً، أن المعرفة التي يعطيه إياها الآخرون ممَّن حوله هي الأفضل والأحسن، وأنها هي الحقيقة المطلقة؟ فكيف، إذن، سيفكر في استخدام خياله وهو مسجون ضمن ثوابت راسخة، علَّمتْه ألا يرفع رأسه لترى عيناه شساعة السماء، وألا يتلفَّت حواليه ليحس برحابة الكون؟! أراهن أن هذا الإنسان المهدور، الذي أراه أمامي، لا يفكر الآن إلا في ضبط انفعالاته، من قلق وتوتر ناجمين عن تعب جسمه النحيل وأعصابه المشدودة. وهو في هذا كله إنما ينصب حول سجنه قضبانًا أخرى أشد صلابة من سابقاتها. فلِمَن سيشكو؟ ولِمَ؟ أليس هو إنسانًا مهدور الكيان؟ أليس هو رقمًا ضمن أعداد هائلة من المسحوقين الذين تتحكم برقابهم مافيات الاستبداد، على أنواعها، فتمنعهم حتى من الحلم برفع رؤوسهم والنظر إلى عليائها، لأن السيف عندئذٍ سيكون أسبق إلى إنجاز مهمته المقدسة؟! وإذن، فليصمت هذا البائس، وليرضخ، وليكتفِ بمعرفته المتواضعة، ولينسَ أمر الخيال تمامًا، وكأنه شيء غير موجود إلا في رؤوس المصطفين من البشر! أما هو فمجرد آلة مستهلَكة تحرِّكها أصابع خشبية! ينزاح نظري قليلاً عن موقع العمل، ليحطَّ على الجهة الثانية، على الجزء الذي لم تصله الحفارات بعد. أثبِّت عينيَّ على المارة للحظات. أراهم يتمهلون قليلاً حين يقتربون من موقع الحفر، ثم يجتازون إلى شارع فرعي، أعرف أنه يفضي إلى الشارع العريض الموازي. أنتبه فجأة إلى خلوِّ الطريق من السيارات، فأعرف أنها غيَّرتْ خطَّ سيرها، ليصبَّ في الشارع الآخر، كما كان يحدث كلَّ مرة. أضغط على حقيبتي الصغيرة القابعة تحت إبطي، وأجتاز الشارع، وأنا أدقق في ساعة يدي، وأحسب الوقت الذي قضيته في تأمل المشهد. أقول لنفسي: لا أريد أن أتأخر عن موعد الدرس حتى لا يفاجئني وجهُ مديرتي بقسماته الممتعضة، فأضطر إلى الهرولة باتجاه القاعة التي ستستقبلني فيها قبل وصولي أصواتُ الطلاب وتعليقاتهم. صديقتي تنعتني دائمًا بـ"الرجل البطيء"، وأنا أجيبها مدافعًا: "أحب أن أتأمل المشاهد، الناس، والأشياء، والأحداث بينها." تقول في مرارة: "ستمضي أيامك، إذن، وأنت تتأمل، وستسبقك حركةُ الحياة." وأردُّ: "وهل الحياة إلا فسحة تأمل؟" تبتسم وعيناها تشعَّان حزنًا. طلبت مني، منذ أيام، أن أصف لها الحالة الغريبة التي عشتها مدة ثلاث ليالٍ متتالية، وأنا جالس في سريري، متأملاً في الفراغ أمامي، وقد فارقني أدنى إحساس بالنعاس أو بالحاجة إلى النوم. لم تكن هي المرة الأولى التي أعيش فيها مثل هذه الحالة، لكنها كانت الأقوى. وقد رأيت نفسي جَوَّاها دون أن أطلب ذلك أو أسعى إليه. أجبتُها بعد صمت استمر دقائق، أخرجتْني منه مداعبةٌ لطيفة من يدها الطرية: "أستطيع أن أجيبك بجملة واحدة فقط: كنت أعيش حالة اتحاد مع كلِّ ما في الكون، من أصغر الأشياء حتى أكبرها... لا أستطيع أن أعبِّر بأكثر من هذا!" ويصلني صوتُها خفيضًا، كأنها تستيقظ للتوِّ من حلم لذيذ: "أرجوك! ابقَ على الأرض... فهناك مَن يحتاج إليك!" ها أنا ذا، يا صديقتي، ما أزال على الأرض! أقف مكاني على الرصيف منذ دقائق، منتظرًا سيارة تقلُّني بسرعة إلى مكان عملي، ولكن من غير ما جدوى! لقد تجاوزتْني سيارات كثيرة، متجاهلةً إشارتي الواضحة – ولا أدري لماذا! ربما لأن مزاج سائقيها لم يسمح لهم بإسعاف محتاج إلى وسيلة نقل. أما الأسباب الأخرى، إنْ وُجِدتْ، فلا أستطيع التكهن بها! وهكذا فنحن، في الإجمال، شعوب تحكمنا أهواؤنا، ومزاجيَّتنا، حتى حين نستطيع أن نتحكم بالمواقف والقرارات. لماذا؟ لأننا مهدورو الكيان، ولأن الإنسان، حين يكون مهدور الكيان، فإنه يلجأ إلى هدر كيان غيره حين تسنح له الفرصة بذلك. وهكذا تدور الحلقة إلى غير ما نهاية. أنتبه فجأة إلى سيارة أجرة توقفت، على حين غرة، بعد أن تجاوزتْني بقليل، وقد اضطر سائقها إلى الضغط على دوَّاسة الفرامل بقوة جعلت السيارة تصدر صوتًا حادًّا أجفل منه المارة في الجوار، ثم، وبحركة سريعة من يده فوق الناقل، عاد بها إلى الوراء حتى أصبحت في محاذاتي. فتح السائق الشباك المقابل لي، وقرَّب رأسه منه. قال: "تفضل، يا أبونا." ضربت الكلمةُ مسمعي. "أبونا!" تذكرت تعليق صديقتي، بعد أن ظلت تتأملني لثوانٍ، وأنا أسير إلى جانبها مرتديًا هذا المعطف للمرة الأولى: "أتعرف؟ ظننت، حين رأيتك قادمًا من بعيد، أنني واعدت، خطأً، كاهنًا ترك قدَّاسه، وجاء مدفوعًا بفضوله لاستطلاع الأمر!" ابتسمتْ، فابتسمتُ معها. قلت مبعدًا عني التهمة: "لا تبالغي في الأمر، يا عزيزتي... فالمعطف جميل، بشهادة الأهل جميعًا، وأنا حتمًا لا أشبه فيه الكهنة!" واستمررت في ارتدائه، متمسكًا بعنادي الذي أعتز به دائمًا، على الرغم من ملاحظتي لنظرات الاستطلاع التي مابرحت تلاحقني أينما حللت. اتخذت مكاني على المعقد المجاور للسائق، وفي هدوء شديد أغلقت باب السيارة، فانطلقت بنا. قلت بصوت خفيض: "الشارع الفلاني، من فضلك." - حاضر. قال، وهو يختلس النظر إليَّ. أما أنا فكنت أنعم النظر في وجهه وهيئته، كعادتي مع كل ما يقع نظري عليه. رأيت عينيه تبرقان، ووجهه يفيض بالحبور. كان كَمَن عثر لتوِّه على صيد ثمين بعد تعب دام ساعات طوال. تنهَّد، بعد أن عاد إلى اختلاس النظر إليَّ مرة أخرى. - إيه، يا يسوع! قال هذا، وهو يضع يده على ناقل السرعة، ثم يعدِّل في سرعة السيارة، فتهتز، مع الحركة، القلادةُ الفضية المدلاَّة من حامل المرآة الأمامية. كانت صورة المسيح مصلوبًا محفورةً بإتقان على القلادة. انتبهت، وأنا أحدِّق في جانب وجهه نصف الحليق، تبعًا للموضة الدارجة، إلى صورة أخرى، ملصَقة بعناية على التابلوه أمامه. كانت صورة مريم العذراء. - إيه، يا عدرا... قال هذا، وهو يراقبني، وأنا أرمق الصورة في اهتمام. مدَّ يده إلى الناقل، وغيَّر في سرعة السيارة، ثم تنهَّد تنهيدة جاءت طويلة هذه المرة، كأنه يحاول أن يُخرِج معها الهمومَ المحتشدة في صدره. أنتبه إلى وجود ميكروباص بجانب السيارة، وكأنه حضر فجأة إلى الطريق من مكان خفي ليؤدي دوره الذي تعوَّد الناس عليه منذ زمن: السرعة الفائقة، الاستخدام المتكرر للزمور، مزاحمة السيارات في طريقه... فجأة، يميل الميكروباص إلى جهتنا، فيكاد أن يصدم جانب السيارة الأيمن. وبحركة سريعة وذكية إلى اليسار، يتفادى السائق الحادث، وهو يصرخ: "يا مخلِّص!" يستقيم في جلسته، وهو ما يزال ينظر من الشباك الأيمن بعينين مذعورتين، غاضبتين، ويروح يقذف السائق الآخر بكيل من الشتائم المقذعة. لبثت صامتًا، هادئًا، حتى راح يتخلص من خوفه وغضبه على مهل. وفي لحظة، وصل صوتُه إلى مسمعي بنبرة مختلفة تمامًا عما كانت عليه قبل لحظات: - "يا مخلِّص!" قالها هذه المرة، وهو ينظر إليَّ مستغربًا عدم انفعالي بكلِّ ما حصل. - "هل تمانع في أن أطرح عليك سؤالاً؟" قلتُ، وقد استفزني دعاؤه أكثر بما لا يُقاس من استفزاز رعونة سائق الميكروباص. - لا... تفضل، يا أبونا. قال، وهو ينظر إليَّ في ارتياب، وتابع: - في الحقيقة، أتمنى لو تسألني عن أيِّ شيء... فأنت ما تزال تلزم الصمت منذ أن دخلت سيارتي! - حين تدعو "يا مخلص" أنت تقصد يسوع طبعًا. - طبعًا، طبعًا! قال، وهو يهز رأسه في قوة، وقد أشرقت أساريرُه، بعد التوتر الذي سيطر عليه قبل قليل. - ولماذا تلقِّبه بـ"المخلص"؟ انتفض جسمه قليلاً، وهو يلتفت إليَّ في دهشة أنستْه، لثوانٍ، أن عليه أن يتابع حركة الطريق أمامه. بدا كأنه يقول في نفسه: "هذا الأب إما مجنون، وإما خَرِف!" أجاب وسط دهشته المتزايدة: - لأنه جاء، حتمًا، كي يخلِّص البشرية... أنت أدرى بهذا، يا أبونا! وابتسم ابتسامة صغيرة جاءت شاحبة ومتوترة. - يخلِّصهم من ماذا، يا أخي؟! انتفض جسمُه مرة أخرى، حتى كادت يداه أن تتركا المقود، لولا ظهور الشرطي الواقف أمام إشارة المرور، منبِّهًا إياه إلى التوقف لتمرير سيارات الشارع المواجه. أجاب، وهو ينظر إليَّ، متأملاً هذه المرة، دون أن تفارق شفتيه الابتسامةُ المختلطة بالاستغراب والقلق. - من خطيئتهم الأصلية، يا أبونا! - "وما هي "خطيئتهم الأصلية"، في رأيك؟" سألت متمهلاً. أُسقِطَ في يده. لقد أقر في نفسه أنني رجل مصاب بالخرف، على الرغم من صغر سني النسبي، أو ربما معتوه تشفق الكنيسة عليه وتتبناه. لذا راح، فجأة، يحدِّثني في روية، وقد فارقت عينيه علائمُ الدهشة والاستغراب، وعلت نبرةُ صوته قليلاً، محمِّلةً جُمَلَه، التي جاءت بطيئة وواضحة، معنى الصبر وتفهُّم الموقف الذي وجد نفسه مجبَرًا عليه. - خطيئتهم الأصلية، يا أبونا، هي خطيئة أمِّهم حواء وأبيهم آدم، اللذين أكلا من الشجرة المحرَّمة... ومن يومها لعنهما الله وأنزلهما من السماء إلى الأرض... وجاء البشر من صُلبهما يحملون هذه الخطيئة... لذلك أرسل الله يسوع ليخلِّص البشر منها... أليس كذلك، يا أبونا؟! قال هذا، وهو ينظر إليَّ في شفقة بالغة. - "وما دخل أبونا آدم وأمنا حواء بخطايا البشر، يا أخي؟ ألم تسأل نفسك هذا السؤال حتى الآن؟!" قلت هذا، وأنا أسترق النظر إلى وجهه في حذر وانتباه. - يا أبونا... يا أبونا... قال بلهجة مَن بدأ صبره، الذي استعان به إلى حين، ينفد الآن. تابع متحفزًا: - ولماذا أسأل نفسي، ها؟ هكذا تعلَّمنا منذ الصغر، في بيتنا، في كتبنا، وفي كنيستنا... هكذا تعلَّمنا، يا أبونا. ولا يتعلم الإنسان من بيئته إلا الأشياء الصحيحة... فلماذا أُتعِب نفسي، بربك، بكثرة الأسئلة؟! وحدجني بنظرة فيها شيء من القسوة والاستنكار. بدأت ألوم نفسي، وأبرِّئ ساحة السائق، مختلقًا له الأعذار: "لا بدَّ أن قشرة هذا الرجل الدماغية قد رقَّتْ لدرجة أصبح معها عاجزًا عن أية عملية تحليل وتركيب، مهما كانت بسيطة! فكيف يمكن له أن يطرح على نفسه أسئلة من هذا النوع؟ أليس مرتهنًا لمجتمع يُقصيه عن أيِّ نشاط معرفي، وعن أية فاعلية ذهنية، ويبقيه خاضعًا لسلطة التجريم والتحريم. وإذن، فمَن يكن على هذه الحال، لن يطرح على نفسه مثل هذه الأسئلة، ولا غيرها، لأن فكره توقف حتمًا عن إنتاج المعرفة، ولأنه لا يهتم في حياته بشيء غير معرفة "تدبير الحال" أو "الشطارة"، كما نسميها. فهي، وحدها، التي تبقيه في عداد الكائنات الحية!" - "ألا تعرف، يا أخي، أن كلَّ ما تعلَّمتَه حول هذا الموضوع، في البيت، والمدرسة، والكنيسة، هو مجرد أسطورة؟" قلت هذا بنبرة استفزازية. - "أسطورة؟! ما معنى أسطورة؟" هتف مذعورًا، وهو يلتفت إليَّ بحركة سريعة. - نعم، أسطورة. قلت مؤكدًا، وتابعت دون أن ألتفت كثيرًا إلى تعبير وجهه الذي بدا مضطربًا: - الكتب التي قرأتَها، يا أخي، تريد أن تقول لنا إن البشر أصبحوا خاطئين حين تركوا الاهتمام بأرواحهم، واهتموا بأجسادهم فقط، أي بغرائزهم. والأرواح هي التي تستطيع أن تتصل بالله، وتتخاطب معه، وليست الغرائز. ولذلك كان الله، شفقةً منه على البشر، يرسل لهم الأنبياء لكي يدلوهم على طريق الخلاص، أي لكي يرشدوهم إلى الاهتمام بأرواحهم، وترك غرائزهم، لأنها تدمِّر إنسانيتهم، وتمنعهم عن الله. ولهذا نسمِّي يسوع "المخلِّص"... وانتبه إلى أن هذه التسمية تنطبق على جميع الأنبياء الذين جاؤوا قبله وبعده. ران صمتٌ بيننا. لم يعد السائق ينطق بحرف واحد. كان ينظر أمامه عبر الزجاج بعينين ساهمتين، وقد ضاق جفناهما قليلاً حول البؤبؤين. بدا جبينه مقطبًا، كأنه يستقبل أفكارًا تأتيه من جهات شتى متضاربة، متناقضة، فتزيد في اضطرابه وسهومه. بماذا يفكر الآن يا ترى؟ سألت نفسي. ربما كان لسان حاله يقول: "لا يمكن لهذا الذي يجلس إلى جانبي أن يكون رجل كنيسة. لا، هو ليس خَرِفًا، ولا معتوهًا. لا بدَّ أنه هرطوقي في لباس كاهن، وقد وُظِّف خصيصًا، من قبل جهات معينة، لتشويه كلِّ تعاليم الدين التي تربَّينا عليها. لكن على الرغم من كل شكوكي حوله، لا أستطيع أن أمنعه عن الكلام، أو أعنِّفه عليه، أو أقول له: أنت تقول أكاذيب لا أصدقها. فقد يكون كاهنًا فعلاً، وأقع إذ ذاك فيما لا تُحمَد عقباه! ولكن كيف يكون كاهنًا وهرطوقيًّا في الوقت نفسه؟! - "هل تهتم بروحك، يا أخي، أكثر مما تهتم بشهواتك؟" سألته قاطعًا حبل الصمت بيننا. ارتجف خلف مقوده، كَمَن أصابته قشعريرة مفاجئة، وداس بقوة على الفرامل، فراحت السيارة تصدر صوت استغاثة أجفل منه المارة الذين كانوا يهمُّون باجتياز الطريق مع ظهور الشارة الخضراء أمامهم. أدار وجهَه صوبي بكامل صفحته. حدَّقتُ في عينيه لثوانٍ، ورأيته! كان أمامي كتابًا مفتوحًا، وقرأته كاملاً في لمحة. عاد فنظر أمامه ساهمًا، وضغط على دوَّاسة البنزين بحركة عصبية، فأقلعت السيارة بقفزة ارتجَّ معها جسمانا فوق المقعدين. قلت بصوت خرج عميقًا كأنه قادم من كهف: - لماذا تخون زوجتك، يا أخي؟! لقد عاهدتَها، أمام الله، يوم تزوجتَها، على الوفاء، لأنك اخترتها بنفسك، ولأنك أحببتها أيضًا... هل تنكر أنك أحببت زوجتك حقًّا؟ لكنك، بعد زمن لم يَطُلْ بك، رحت تخونها مع أخريات، وهن كثر، وما تزال حتى هذه اللحظة تفعل ذلك... ثم تأتي وتكذب أمامها، وتوهمها بأنك زوج مخلص! أنت، يا أخي، خائن، كاذب، وترتكب موبقات أخرى كثيرة... هل أعدِّدها لك الآن؟ أنت تلعب القمار أيضًا، وتغش في الورق في أثناء اللعب، وتصاحب رفاق السوء الذين يسوِّغون لك كل ما تفعل، بل ويشجعونك عليه... ثم تأتي، وتخفي هذا كلَّه عن شريكة حياتك التي عاهدتَها، أمام الله، على الوفاء والصدق! لم يلتفت السائق إليَّ، ولو مرة واحدة، وأنا أحدثه عما قرأت في عينيه. بقي جامدًا في مكانه، بينما راحت يداه ترتعشان فوق المقود، وظهرت حبيبات عرق فوق جبهته. بعد حين، أدار وجهه صوبي. كان الذعر قد اكتسح معالمه، وتمركز في عمق البؤبؤين الداكنين. بدا كمتهم يجلس في قاعة محكمة جنائية منتظرًا حكم القاضي عليه بعد توفُّر الأدلة الكافية للإدانة، مع فارق بسيط: المحكمة، في نظره الآن، محكمة إلهية، والقاضي فيها رجل دين يجلس إلى جانبه. - أبونا! قال بصوت مرتعش، ضعيف، كأنه يخرج من حنجرة متورمة حدَّ الانفجار. - أعترف لك بأنني أفعل كل ما ذكرتَه... نعم، كلَّ ما ذكرتَه تمامًا... يا أبونا، أنا رجل خاطئ، وما أفعله كله حرام في حرام! صمت، وتنفس عميقًا. بدا أنه يبذل جهدًا في هذا. تابع بالصوت المرتعش ذاته: - ها أنا ذا الآن، في هذه اللحظة بالذات، أعترف لك بخطاياي، وأقول لك أيضًا إنني، حقًّا، أحس بالندم. وهذا شعور لم أعرفه في حياتي كلها قبل الآن! لذا فأنا أطلب منك، يا أبونا، – بل أرجوك! – أن تدلني على الطريق الصحيح. وعجبت، وأنا أنعم النظر في وجهه، الذي فارقه اللون حتى الشحوب، وفي عينيه اللتين رقَّتْ نظراتُهما وسكنتْ حتى الوداعة، كيف غيَّر فكرته عني بمثل هذه السهولة والسرعة، حتى راح يسألني النصيحة والمساعدة! - تعني أن أدلَّك على الخلاص! - نعم، الخلاص، يا أبونا، الخلاص... وصمت كمَن أُفلِتَ في يده. - اسمع، يا أخي... قلت، وأنا أنظر إلى وجهه متأملاً التغيير الذي طرأ على تعبير قسماته. أحسست أن قلبي يفيض محبة، وأن الفيض بدأ يغمر الكيان الذي إلى جانبي. - سأحدثك في أمر افتراضي... هَبْ مثلاً أن سيارتك صدمت في إحدى المرات شابًّا، على حين غرة، فيما هو يجتاز الطريق فجأة... ما الذي ستفعله وقتذاك؟ كان ينظر عبر الزجاج الأمامي من غير أن يركز على شيء بعينه. بدا أنه يفكر مليًّا في جوابه. قال بعد حين، وهو ما يزال ساهمًا، وقد كست ملامحَه مسحةٌ من الحزن: - إذا شئت الحقيقة، سأهرب... سأترك كلَّ شيء، وأنطلق بسيارتي لا ألوي على شيء... هذا ما سيخطر ببالي. وأسأله في هدوء: - لماذا؟ هل هذا هو حقًّا ما تود فعله في أعماقك؟! ومن غير أن يفكر طويلاً هذه المرة، يجيبني ومسحة الحزن على وجهه ما تزال تعبِّر عن ألم أعماقه: - لماذا؟! لأن رجال الشرطة سيأتون فورًا، يا أبونا، وسيلحق بهم رجال المخابرات أيضًا، وقد يحضرون قبلهم، لأنهم، كما يعرف كل الناس، مختبئون في كلِّ الزوايا، وجاهزون للحضور في أية لحظة... وهكذا سيجرُّني هؤلاء جميعًا إلى أماكن أعرفها، وأماكن لا أعرفها، وستطول مدة استجوابي، وسيطول غيابي، وقد لا أخرج أبدًا لأرى الشارع مرة أخرى إن كان حظي التعس قد وضع أمام سيارتي ابن مسؤول، مثلاً، أو قريب مسؤول، أو واحدًا من معارفه حتى! - طيب. لكني أسألك الآن عن قلبك... ماذا سيقول لك قلبك في لحظات كهذه؟ ارتخت قسماتُه قليلاً، وبرقت نظرةُ عينيه، وهو يلتفت إليَّ متأملاً وجهي. قال، وقد فارقت وجهَه فجأة مسحةُ الحزن، فعاد يضيء من جديد: - سيقول لي: "أنقذه..." طبعًا، يا أبونا، هذا ما سيقوله لي. وعندئذٍ سأحمله فورًا إلى أول مستشفى أصادفه في طريقي، وسأبقى إلى جانبه حتى أطمئن على حالته، وسأدفع عنه كل التكاليف المطلوبة، حتى وإن كان الحق إلى جانبي. وهمد فوق مقعده. بدا كَمَن أزاح عن كاهله حملاً ثقيلاً، فارتاح. - وإذن! قلت له بشيء من الحماس، وقد أفرحتْني النتيجة، وتابعت: - هل تعرف مَن سيفعل كلَّ ما كنت ستفعله في تلك اللحظة؟ المسيح الذي في داخلك، وليس هذا الذي تعلِّقه في أيقونة خارج ذاتك... ما رأيك؟ - "وما دخل المسيح في هذا كلِّه، يا أبونا؟!" هتف بدهشة. - "اسمعني، يا أخي!" قلت بنبرة واضحة. "الخير الكامن فيك هو الذي سيدفعك إلى إنقاذ الرجل حتمًا. ومادمت تعتقد أن المسيح هو خير، ومحبة، فهو إذن الذي سيقوم بالمهمة، أليس كذلك؟ المسيح الذي في داخلك هو الذي يدلُّك على طريق الخير... وطريق الخير هو طريق الخلاص... وإذن، فالمسيح الذي جَوَّاك هو مَن عليك أن تستعين به دائمًا، وليس أنا أو سواي! - "كيف، يا أبونا، كيف؟!" هتف بالدهشة ذاتها، وقد أيقظ الحديثُ براءةَ مشاعره الفطرية. - اجعل المسيح حيًّا فيك دائمًا... ابعثْه داخلك في كلِّ لحظة... أي دعِ الخير يعشِّش في نفسك... وبعبارة أوضح، فكِّر بما يرضي روحك، يا أخي، وليس شهواتك. وقتئذٍ لن تكون في حاجة لأية عقيدة، مهما اختلف مذهبُها، لأن دينك الداخلي سيكون هو مرشدك الأول والأخير. ران بيننا صمتٌ من جديد. كان السائق يفكر. بدا كأنه يسمع هذا الكلام للمرة الأولى في حياته. واحترمت صمته، لكنني عدت بعد حين فقلت: - فكِّرْ في كلامي، يا أخي، وحاول أن تطرح على نفسك أسئلةً لم تعتدْ على طرحها من قبل... نحن جميعًا نعيش في مجتمع يلقِّننا منذ الصغر معلومات جاهزة، ويحظِّر علينا الشك في المقولات الثابتة كلها... وهكذا نرى أنفسنا ونحن نكبر بعيدين عن الشك في أي موضوع. ومَن لا يتعلم الشك، يا أخي، لا يستطيع أن يطرح أسئلة حول أيِّ شيء. مَن لا يطرح أسئلة، لا ينفتح عقلُه وخيالُه، ولا تتطور معرفتُه. أطلق العنان، إذن، لخيالك بقدر ما تستطيع. فهو الذي يفتح لك الدروب إلى المعرفة. ووقتذاك يمكن لك أن تكون إنسانًا حقيقيًّا. كانت السيارة قد توقفت أمام مركز تعليم اللغات الذي أدرِّس فيه، وكان السائق ما يزال مشدودًا إلى ما يسمعه مني بكامل انتباهه ودهشته. لكن دهشته هذه المرة كانت من نوع جديد، هي أقرب إلى التأثر البالغ والقبول منها إلى الرفض والاستنكار. حين مددت يدي إليه بالأجرة، أبعد يده عني قليلاً، وهو يهز رأسه، ويبرطم بكلمات، فهمت منها جملة واحدة: - أنت مبارك، يا أبونا، فكيف آخذ منك الأجرة؟! أنا مَن يجب أن يدفع لك، والله! لكني أصررت، ونقدته ما يستحق. فتحت باب السيارة، وهممت بالنزول. وقبل أن أضع قدمي على أرض الشارع، التفتُّ إليه وقلت: - يا أخي... سأقول لك كلمة أخيرة: أنا لست "أبونا"، كما تظن... أنا أستاذ في مركز اللغات هذا، لكن معطفي الأسود الطويل هو الذي حرَّك خيالك في الاتجاه الخاطئ... أرجو أن تدع خيالك، منذ الآن، يتحرك في الاتجاهات الصحيحة، لأنك به وحده ستعرف ما لا يعرفه سواك... 2/3/2006 *** *** ***
|
|
|