|
في الـتَّـنْـويـر وفي الـحَـدَاثَـة كَـقَـدَرٍ وكَـمَـصِـيـر
"وكنت تعلِّم الآخرين في أمور تجهلها..." أنسي الحاج
1 مقدمة لست أخفي أن الموضوع كان يؤرقني منذ مدة – ولم يزل – وأني، وإن كنت اليوم قد حسمت قناعاتي وخياراتي في شأنه، إلا أنه مازالت لدي حول بعض جوانبه بعضُ التساؤلات. وأتفكر أني إنْ لم أجرؤ إلى الآن على التعبير، تمامًا وصراحةً، عما أعتقد وأتفكر فيه حول الموضوع فلأني – وأقولها اليوم بلا خجل أو مواربة! – كنت خائفًا – ولم أزل حتى الساعة، كمثقف وكإنسان يعيش "مستورًا" في كنف بلاد قمعية العقول والقيم والأنظمة؛ الأمر الذي كان يمنعني دائمًا من التوغل أكثر مما ينبغي في هذا المجال الحساس، الذي قد يبدو بريئًا من حيث الظاهر لكنه في الحقيقة ليس كذلك. والموضوع الذي أقصد، كما هو واضح من عنوان هذه الافتتاحية، هو موضوع "الحداثة" التي انتصرت مفاهيمُها في الغرب منذ حوالى القرنين إبان تلك الحقبة التي سُمِّيَتْ هناك بـ"عصر التنوير" les Lumières، غير أنها مازالت إلى اليوم متعثرةً على عتبات بواباتنا المشرقية – وإنْ باتت هذه المفاهيم اليوم تهز مفاصلَها هزًّا عنيفًا من خلال العولمة. لكن... لا بدَّ لكلِّ شيء من بداية. وهذه كانت، فيما يخصني في الآونة الأخيرة، مجرد مقالة، "بريئة" جدًّا وعميقة جدًّا، للدكتور هاشم صالح بعنوان "التنوير إرثٌ للمستقبل... فلماذا فشل عند العرب؟"، نشرتْها كافتتاحية لها "النهار الثقافي". فقمت، بكلِّ "براءة" أيضًا، بنقْلها إلى منتدى "معابرنا" بهدف تلمُّس بعض التعليقات وردود فعل الأصدقاء والقراء عليها وحولها. وهذه التعليقات هي التي حسمتْ أمري في نهاية المطاف، حيث قررتُ – كابن لهذا المشرق الذي كان طوال تاريخه معاديًا للعقل وللروحانية معًا – تجاوُزَ خوفي وحذري التقليديين، وبعون الآلهة، التوغلَ في هذا المضمار الشائك الذي مازالت تحفُّ به على أرضنا، حيث "... التين والزيتون..."، وفي "بلدنا"، الذي لم يكن يومًا "أمينًا" (سورة التين 1، 3)، الكثيرُ من المحرَّمات والمحظورات. وأبدأ من منظوري المتواضع، محاولاً توضيح ماهية هذا "التنوير" الذي غزا العالم، مبتدئًا بـ... 2 أوروبا القرن الثامن عشر... فأسترجع، في اختصار شديد، كيف كانت الأمور عندهم "هناك" في ذلك القرن الثامن عشر من تقويمنا المسيحي والإنساني المعمول به عمومًا. كان النظام الحاكم، في فرنسا خاصةً وفي أوروبا عامةً، نظامًا ملكيًّا مطلقًا – وهو نظام سياسي الحكمُ شبه المطلق فيه للملك الذي كانت تدعمه السلطاتُ الدينية (الكنيسة)، من جهة، ومجالس استشارية مميَّزة تعبِّر عن مصالح الطبقات الاجتماعية التي كانت تسانده، من جهة أخرى. وهذه الطبقات كانت مؤلَّفة، في شكل عام، من تلك الفئات الوسطى أو الغنية النامية، المستفيدة من حماية سلطة مركزية قوية وقادرة على حفظ الأمن وعلى تشجيع الحركة التجارية. وهذه السلطة السياسة، المتحكمة آنذاك في كلِّ شيء هناك، كانت، كما أوردنا أعلاه، شبه مطلقة: فالملك كان يتحكم تحكمًا شبه تام في السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، لأنه، كما كان يقال، ممثل الله على الأرض، سلطتُه مستمَدةٌ من حقِّه الإلهي. ولكن، أيضًا وفي نفس الوقت... كانت العلوم حينذاك تتسع وتنتشر، حاملةً معها أفكارها وفلسفاتها. أي أن رياح التغيير بدأت تشكك في السلطة الدينية ومفاهيمها وتسلُّطها، فتسفِّه مفاهيمَها البالية وتنسفها، أولاً، وكتحصيل حاصل، تشكك في السلطة السياسية وما يتفرع عنها، ثانيًا. لذلك كان أهم ما طرحه فلاسفةُ "الأنوار" ومثقفوه هو هذا الإيمان القوي بالقدرة الهائلة للعقل البشري، لأنهم كانوا يعتقدون أنه إذا كان في وسع الإنسانية اكتشاف قوانين الكون – وأهمها على الإطلاق كان يومذاك قانون الجاذبية الكونية الذي صاغه إسحق نيوتن (1642-1727) – فإن في مقدورها حتمًا أن تكتشف قوانين الطبيعة والمجتمع والإنسان؛ ثم، عن طريق العقل والمنطق والاستعمال الصحيح للعلوم، أن تفتح آفاق تقدُّم دائم في مجالات المعرفة الإنسانية كافة، فتطوِّر التقنيات التي ترفع من مستوى الحياة وتطوِّر القيم الأخلاقية في المدن ومجتمعاتها. فعلى خطى الفيلسوف الإنكليزي جون لوك (1632-1704)، وعلى خلاف مع ديكارت (1596-1650) حول هذه النقطة تحديدًا، كان فلاسفة "التنوير" يعتقدون، في غالبيتهم، أن المعرفة ليست "فطرية"، بل هي نتيجة تجربة وتفكر يقودهما العقل، حيث إن من شأن التعليم أن يحسِّن من طبيعة البشر وأخلاقياتهم، وحيث يستمر البحث عن الحقيقة عبر دراسة الطبيعة والمجتمع وقوانينهما، وليس فقط عن طريق تلك "المرجعيات" التي حدَّدتْها السلطاتُ الدينية، كالتوراة والأناجيل وبعض ما يتوافق معها من فلسفة أرسطو. ولأن "كل نقد يبدأ بنقد الدين"، كما استنتج لاحقًا – محقًّا جدًّا – السيد كارل ماركس، وعلى الرغم من أن معظم فلاسفة "التنوير" لم يكونوا ملحدين، فقد انصبَّ جلُّ نقدهم على الكنيسة الكاثوليكية ومفاهيمها الدينية السائدة آنذاك لأنها باتت المعيق الأساسي لأيِّ تقدم؛ لا بل أضحى الدين على يدها "أفيونًا لشعوبها". ونسجل هنا بأن فلاسفة "التنوير" لم يعبِّروا عن أفكار محددة ناجزة، ولا عن أية إيديولوجيا بالمعنى المعاصر، بل طرحوا جميعًا، كلٌّ من منظوره، طرائق جديدة في التفكير وفي السلوك. فبحسب عمانوئيل كانط (1724-1804)، الفيلسوف الألماني الذي يمكن اعتباره بحق أكبر فلاسفتهم على الإطلاق، كان شعار التنوير وعصره هو الجرأة الدائمة على المزيد من العلم وعلى المزيد فالمزيد من المعرفة، إذ قال: العلَّة ليست في غياب الفكر، بل في انعدام القدرة على اتخاذ القرار وفقدان الشجاعة على ممارسته دون قيادة الآخرين. لذلك فلتكن لديك الشجاعة على استخدام فكرك بنفسك: ذلك هو شعار عصر الاستنارة... ونستعيد، للذكرى، أهم فلاسفة هذا القرن العظيم الذين لم يكونوا فقط من فرنسا، وإنما كانوا من جميع أنحاء أوروبا والعالم المرتبط بها، مما يشير إلى الطبيعة العالمية لهذا الفكر الإنساني المستنير والعظيم. فنتذكر أول ما نتذكر من فرنسا شارل دُه مونتِسكيو (1689-1755)، صاحب في روح القوانين (1748)؛ ودوني ديدرو (1713-1784)، الذي كان، إلى جانب جان دالمبير (1717-1783)، صاحب أول "موسوعة" في التاريخ الإنساني (1751-1772) – ذلك العمل الجبار الذي ساهم فيه العديدُ من العلماء والفلاسفة والذي كان يسعى إلى جمع المعارف الإنسانية كافة في عمل واحد يمكن استعماله كسلاح معرفي في وجه الجهالة؛ وبالطبع فولتير (1694-1778)، صاحب القاموس الفلسفي (1764) وأشهر فلاسفة "التنوير" وأكثرهم نفوذًا؛ وجان جاك روسُّو (1712-1778)، صاحب العقد الاجتماعي (1762) والاعترافات (1782، 1798). ومن ألمانيا نسترجع عمانوئيل كانط؛ ومن اسكتلندا نسترجع ديفيد هيوم (1711-1776)؛ ومن إيطاليا الحقوقي تشيزاري بِكَّاريا (1738-1794)؛ ومن الولايات المتحدة، الوليدة آنذاك، العالمَين والفيلسوفين ورئيسَي الجمهورية الأولين العظيمين بنيامين فرانكلين (1706-1790) وتوماس جِفرسون (1743-1826). ونتفكر بأن هؤلاء جميعًا – ولم تكن هناك عولمة بعدُ – كانوا في تلك الأيام على صلة بعضهم ببعض؛ وقد ساهموا، كلٌّ بحسب باعه وعلى طريقته، في نشر ذلك "التنوير"، الذي سرى من بعدُ سريان النار في الهشيم في أوروبا وفي العالم – ولم يزل. والأفكار التي طرحوها والتي يمكن تلخيصها بـ: - رفض الحكم المطلق وضرورة مشاركة جميع المواطنين في حكم بلادهم؛ و... - رفض التمايزات الاجتماعية؛ و... - رفض التعصب الديني – أي التسامح وحرية التفكير – والتأكيد على حق كلِّ إنسان في اختيار الدين الذي يشاء، وليس الاكتفاء بقبول دين الدولة والخضوع له؛ و... - نشر العلم والمعرفة وما يتبع ذلك من رفض لجميع القيم والتقاليد البالية وإخضاع المفاهيم والأفكار كلِّها لروح النقد – هذه الأفكار جميعًا كانت أفكارًا وقيمًا إنسانية وعالمية. لذا فإن ثمار "التنوير" انتشرت، منذ ذلك الحين أيضًا، في مختلف أصقاع المعمورة، ووصلت حتى إلى بلداننا التي كانت خاضعة يومذاك لنير الحكم العثماني الظلامي المتخلف. (ونتذكر بأن أول مطبعة دخلت إلى مصر مع "الاستعمار"، أو لنقل مع قوات ناپليون بوناپرت الغازية!) 3 في الحداثة والتنوير والعروبة والإسلام وأسترجع ما ورد في مقال السيد هاشم صالح حول التنوير في بلاد المسلمين، فأجد أنه لم يكن مخطئًا البتة في عرضه لما قدَّمه روادُ النهضة العرب والمسلمون الأوائل؛ لا بل كان مصيبًا تمامًا في عرضه للنتائج التي وصلنا إليها اليوم والتي تعبِّر جزمًا عن أن التنوير لم ينجح بعد، في شكل عام، في بلداننا العربية والإسلامية. كما أنه أصاب إلى حدٍّ كبير في محاولته تحليل أسباب هذا الفشل (أو لنقل هذا التعثر)، التي يمكن تلخيصها من منظوره في أربعة أسباب هي: 1. "... إن سياسة التحديث التي اتُّبِعَتْ منذ أيام محمد علي قبل مائتي عام ركزت على نقل التكنولوجيا، لا الفلسفة العميقة التي تقف خلف هذه التكنولوجيا بالذات..."؛ و... 2. "... الخوف من الفكر الراديكالي، أي الجذري العميق. لماذا الخوف؟ لأن هذا الفكر يدعو إلى القطيعة مع الماضي، إلى الانفصال عن التراث المقدس..."؛ و... 3. "... رد الفعل العنيف لحركة "الإخوان المسلمين" ضد الحضارة الغربية، بدءًا من أواخر عشرينيات القرن الماضي..."؛ و... 4. "... التناقض الفاضح بين المبادئ المثالية المعلَنة والسياسة الأوروبية الغربية على أرض الواقع..." – أي في اختصار: الإسلام بفهمه السائد، من خلال الأسباب الثلاثة الأولى، من جهة، واللامبدئية الغربية في ممارسة السياسة على أرض الواقع، من جهة أخرى. ونتوقف هنا قليلاً، لنتفكر في الأمر مجددًا من خلال الواقع الذي نعيش، فنجد أننا، في بدايات القرن الحادي والعشرين، أي بعد أكثر من قرنين ونيف على انتصار "التنوير" في العالم الغربي، مازلنا في بلادنا نعيش في كنف حكومات وأنظمة ملكية أو جمهورية (أو جملكية) مطلقة، تحتكر، سواء بإذن من الألوهة أو بقوة التخلف والقمع المباشرين أو بكليهما معًا، كامل السلطات في بلدانها. أي أننا اليوم في وضع أسوأ حالاً من أوضاع البلدان الأوروبية حين بدأ فيها "التنوير"! فهناك برز مَن كان في وسعه أن ينتقد في العمق مسببات الظلم والقهر في بلاده؛ وقد تحمَّل القمع والاضطهاد، واستفاد من مجالات الحرية المتاحة، على ضيقها، واستفاد حتى من التناقضات بين الدول (ظاهرة "الطغاة المستنيرين")، فأوجد أرضية "التنوير". أما عندنا... فمازال هامش الحرية الفكرية والسياسية، في مجمل البلدان العربية والإسلامية، إلى اليوم، أضيق بكثير مما كانت عليه الحال في أوروبا قبل "التنوير": مازالت هناك خطوط حُمْر لا يتجرأ أحد على تجاوُزها، ومقدسات "قومية" ودينية عمومًا، وإسلامية خاصةً وتحديدًا، لا يتجرأ أحد على المساس بها. وهذه "المفاهيم" و"المقدسات" و"الحكومات" هي، من وجهة نظري، المعيق الأساسي لأيِّ "تنوير" وتقدُّم حقيقيين. فكم منَّا – بربكم! – يجرؤ، كفولتير، أن يقول لِمَن يدَّعي بأن كتابه هو "كتاب الله" وأن ما جاء فيه من كلام هو "كلام الله" غير القابل للنقاش، من دون أن يحلَّل دمُه، – كم منَّا يجرؤ أن يقول له: "كلاَّ، يا سيدي! أنا أعتقد بأن إلهك وكتابك ونبيِّك، على قداستهم في نظرك، هم، كإلهي وكتابي ونبيي، مجرد مفاهيم نسبية وموضع نقاش"؟! وكم منَّا يا ترى يجسر، إن كان ملحدًا، أن يدافع عن إلحاده علنًا؟! أو، إن كان مفهومه للإيمان مختلفًا عن السائد، أن يدافع علنًا عن مفهومه المختلف؟! ها هو ذا أمامنا فرج فودة، مازال يُقتَل كلَّ يوم – ونصمت! ونصر حامد أبو زيد، المؤمن وتلميذ المعتزلة وابن عربي، يُكفَّر بتهمة الردة، ويطلَّق من زوجته، ويهرب من بلاده – ونصمت أيضًا! ومحمود محمد طه يُعدَم بتهمة الردة – ونصمت أيضًا وأيضًا! وها هو ذا، في السودان، يُكفَّر اليوم ويحلَّل دمُه الزعيمُ الأسبق للإخوان المسلمين، الشيخ الترابي، لأنه راجع نفسه وحلَّل، في بلد 40% من سكانه من أهل الذمَّة، زواجَ المسلمة من الذمِّي من دون أن يغيِّر دينَه! بل حتى الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي مازال، إلى يوم الناس هذا، مكفَّرًا وفقًا للمفاهيم الدينية السائدة، وقلة القلة مَن يجرؤون على الدفاع عنه – لا بل وأقل من هذا بكثير... كم منَّا يتجرأ ويشكك في شرعية "الفرعون" الذي يحكم بلده من دون أن يغامر بالاعتقال ويخاطر بحياته حتى؟! إنهم قلة القلة هؤلاء – ومازالوا. والسبب في ذلك أننا لم نعرف، إلى اليوم، ماهية حرية التفكير والنقد، وخاصةً – نعم، خاصةً – نقد الدين! لهذا ترانا اليوم من حيث العمق مازلنا متخلفين، ومازال أمامنا كل شيء لتحقيقه. ولكن... 4 لا بد لكلِّ شيء من بداية... ومناط تلك البداية الأهم، والأعمق من حيث تحوُّلُنا الداخلي، أن تكون قلوبنا، كما كان قلب ابن عربي، " قابلةً كلَّ صورة..."
أو إن شئنا، "على الطريقة الغربية"، أن نتجرأ ونقول للـ"ثمرة الذهبية الطويلة"، صراحةً وبكلِّ مسؤولية (كما فعل ذات يوم فكتور هوغو): "أنتِ مجرد أجاصة!" ذلكم، أيها السادة، هو قدرنا ومصيرنا... *** *** *** |
|
|