قوة الضَّعف الواعي

 

عدنان الصباح

 

منذ أن بدأت الهجرة اليهودية إلى فلسطين على يد الحركة الصهيونية، وبتشجيع مباشر وعلني من سلطات الاحتلال البريطاني آنذاك، وحركةُ المقاومة الفلسطينية متواصلة على النسق التراجعي نفسه، البعيد كلَّ البعد عن إدراك الذات، أو عن الإبداع في المقاومة والكفاح وفي قراءة مَواطن الضعف والقوة لدى الذات ولدى الآخر.

ويمكن القول إن الحركة الوطنية الفلسطينية لم تمارس النقد الذاتي الموضوعي مرة واحدة في حقِّ ذاتها وحقِّ برامجها، ولم تستمع إلى النقد؛ بل إن كلَّ محاولة نقدية جوبهت بهجوم عنيف وباتهامات بلا حدود، حتى ليكاد يبدو للمراقب أن قيادات الحركة الوطنية الفلسطينية استكانت أمام حالة المراوحة في المكان أو التراجع، وهي لم تعد تُتعِب نفسها بقراءة الآليات المؤدية إلى تحقيق الإنجازات أو مجرد التفكير بالوصول إلى النصر.

ومن يقرأ برامج الحركة الوطنية الفلسطينية ودراساتها لا يرى تصورًا حقيقيًّا متكاملاً لما بعد تحقيق الانتصار. وهذا مؤشِّر غريب لقناعات هذه القوى وقياداتها! فكل ما يسمعه المراقب هو رؤى عن تنازُل لإيجاد حلٍّ سريع يقبل به العدو، دون الالتفات إلى المصالح الحقيقية للجماهير وقضاياها.

ومنذ هبَّة البُراق في العام 1929، لم تتوقف الأحداث الدورية في تاريخنا: فقد انتقلنا بعدها إلى الإضراب الشهير في العام 1936، فثورة 1936-1939، لتبدأ الحرب الاستعمارية الثانية، ولنخرج منها إلى حرب العام 1948 (النكبة) وضياع الجزء الأكبر من فلسطين وإعلان دولة إسرائيل. وبعد ذلك، تجيء حرب العام 1956، ثم إعلان منظمة التحرير الفلسطينية الرسمي، وتشكيل جيش جديد يضاف إلى الجيوش العربية الرسمية. وبعد ذلك، إعلان انطلاق حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، لتأتي بعد ذلك هزيمة العام 1967 (النكسة) وضياع ما تبقى من فلسطين وأجزاء من الدول العربية المحيطة. ثم تتصاعد المقاومة الوطنية الفلسطينية، على الجبهات كلِّها، لتأخذ المقاومة الفلسطينية زمام المبادرة من الأنظمة العربية المهزومة والمحرَجة أمام جماهيرها، التي وجدت في المقاومة الفلسطينية الردَّ العملي على الإحباط الذي أصابها. وقد يكون ذلك واحدًا من أهم الأسباب التي ساعدت المقاومة الفلسطينية على الظهور بمظهر المنتصر والبديل الحيِّ لتاريخ الهزائم. لكن ذلك لم يدمْ طويلاً بسبب من سعي هذه المقاومة، أو بعض من أطرافها، إلى التدخل في شؤون الأنظمة العربية، أو السعي إلى الحلول مكانها في الحكم في بعض الأحيان، والانتقال بجسم الثورة من خطوط المواجهة إلى المدن المكتظة بالسكان، والخلط بين مهمات المقاومة الوطنية من خارج أرضها ومهمات الأحزاب والحركات السياسية داخل أرضها، مما ساهم في تأليب الرأي العام المحلِّي في الأردن، وخشية النظام، إنْ هو استمر في موقف المتفرج، أن يفقد وجوده. ولذا كانت سلوكيات وتدخلات فصائل المقاومة هي المسوِّغ المعلَن لسعي بعضهم، إقليميًّا ودوليًّا، إلى دفع الأردن إلى القيام بالمهمة التي يرغبون. وهكذا وقعت أحداث أيلول العام 1970.

ثم جاءت حرب أكتوبر في العام 1973 نصف انتصار ونصف هزيمة. وقد حوَّلها نظام السادات آنذاك إلى هزيمة كاملة. ولم يطل الأمر كثيرًا، إلى أن جاءت الحرب اللبنانية في العام 1976 التي أنهكت المقاومة الفلسطينية واستنزفت قواها، وصولاً إلى حرب لبنان في العام 1982، وما آلت إليه من خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان وإغلاق الجبهة اللبنانية أمام المقاومة الفلسطينية.

تَرافَق خروج المقاومة من لبنان بشعور الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة بأن البُعد الجغرافي لوجود الثورة سيتحول إلى بُعد زماني مع التحرير. لذا انطلقت، في نهاية العام 1987، الانتفاضةُ الفلسطينية الشعبية، التي ابتدأت كهبَّة جماهيرية عارمة، سرعان ما تمَّ تجييشها، وتحييد الجماهير عنها، واقتصارها على الشبان المسلَّحين دون قيادة سياسية على الأرض. وبدلاً من أن تحقق هذه الانتفاضة الغايات المرجوة منها، حسبما عبَّرتْ عنها عبر بياناتُها الأولى، انتهت هذه الانتفاضة أيضًا بعيدًا عن الشعب باتفاقيات أوسلو الفضفاضة وغير الواضحة التي، بضبابيَّتها وانعدام الحسم في التفاصيل وغياب الرؤيا الواضحة للمستقبل، دفعت بالشعب إلى معاودة انتفاضته في العام 2000، على نفس الطريقة أيضًا: انتفاضة شعبية عارمة، تمَّ فيما بعد القفز من فوقها واختزالها إلى مجموعات صغيرة من المسلَّحين، وتمَّ إظهار الأمر وكأن هناك حربًا بين جيشين متكافئين في العدد والعتاد والتأهيل والدعم من النواحي كافة!

وهكذا تطورت الأمور، إلى أن أصبح مطلبُنا هو العودة إلى حدود 28 أيلول. وهذا المطلب يذكِّرنا بسلسلة مطالب عجيبة في تاريخنا: فمن مطلب وقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين وإقامة دولة عربية في فلسطين، إلى شعار استعادة الأرض المحتلة وطرد اليهود أو الإلقاء بهم في البحر! – حتى ضاعت فلسطين كلها، فرفعنا شعارًا جديدًا يتحدث عن دولة علمانية أو ديموقراطية موحدة. ثم جاءت فكرة دولتين لشعبين أخيرًا لدى بعضهم، ليظهر بعد ذلك مَن يدعو إلى دولة إسلامية خالصة، ولتتنامى في الأوساط الإسرائيلية فكرةُ الدولة اليهودية الخالصة.

ولاشكَّ أننا نذكر جيدًا الشعار الذي رفعه السادات في نهايات حرب أكتوبر بتضخيم حادث ثغرة الدفرسوار، ودعوته للعودة إلى حدود 23 أكتوبر. والمقصود من ذلك أننا قد نكون الشعب الوحيد على الأرض الذي يمارس التفاوضَ مع ذاته، وتغييرَ مشاريعه وبرامجه السياسية، والتنازلَ عن مطالبه وحده، حتى دون أن يطلب منه أحدٌ ذلك! وقد فعل ذلك دومًا – ولا زال – دون أن يتقاضى ثمنًا عن تنازُله المجاني الذي جاء دومًا بمبادرة منه وحده، وقدَّم لأعدائه ما يبتغون على طبق من ذهب!

إن السبب الحقيقي لنموذج التنازلات المجانية هو عدم الإدراك الحقيقي لقدرات الذات والأعداء قبيل أية مرحلة تاريخية وفي أثنائها. فنحن شعب أعزل ومعزول أمام جيش يعرف أنه واحد من أعتى جيوش العالم وأحدثها تجهيزًا وأكثرها تدريبًا وتطورًا، من جانب؛ ومن جانب آخر، فنحن لا نقاتل جيش احتلال معزول، يضم جنودًا يعيشون بعيدًا عن أُسَرِهم وعوائلهم ونمط حياتهم آلاف الأميال، مما يضطرهم إلى القتال في ظروف قاسية وصعبة، ويساهم في تأليب الرأي العام على حكوماتهم لدفعها إلى استعادة جيشها إلى أرض الوطن. نحن، على العكس من ذلك، نقاتل ضد جيش لا تبعد بيوتُ جنوده عنهم غير مسافة كيلومترات قليلة؛ وهو يجد الوقت ليمارس حياته العادية في إجازاته وبين أهله. وهو أيضًا يجد قناعته بقول رؤسائه له بأنه يدافع عن حياته وبيته؛ فبيته هنا على مرمى حجر من بيوتنا. نحن، إذن، أمام جندي مدرَّب تدريبًا جيدًا، ومسلَّح تسليحًا جيدًا، ومغطى بأحدث أجهزة الاستطلاع والمخابرات، ويملك قوة إسناد هائلة؛ وهو مرتاح، يأخذ إجازة في بيته ومع أسرته، وينام جيدًا ويأكل جيدًا، ويحصل على راتب عالٍ في نهاية كلِّ شهر، ويترك خلفه ما يوفِّر لأسرته حياة كريمة؛ وليس أمامه سوى مهمة واحدة: منع العدو الفلسطيني من تنغيص حياته الهانئة وحياة أسرته! وهو أيًّا كان توجُّهه السياسي، فلا يجد في الأوساط السياسية الإسرائيلية تناقضًا مع ما يقوم به: فلدى الإسرائيليين حكومة واحدة وبرنامج واحد، هو برنامج الحكومة التي تلقى كلَّ الدعم من المعارضة حين يتعلق الأمر بالمعركة مع الفلسطينيين.

وفي المقابل، نحن أمام عدد من الشبان عادة ما يكونون في مقتبل العمر، ولا يملكون سوى إيمانهم وإرادتهم، ولا يملكون التدريب ولا التسليح، وهم غير مطمئنين إلى حال أُسَرِهم، ولا يملكون أية معلومات استخبارية حقيقية عن عدوِّهم، وهم يكادون ألا يروا أفراد أُسَرِهم إلا لمامًا وخُلسة عن عيون المحتلين وأعوانهم أو أجهزتهم أو طائراتهم التي تراقب كلَّ حركة على الأرض. إن الفرق هنا أننا في نظرهم كتاب مفتوح، وهم في نظرنا ليل دامس، لا نرى منه شيء أبدًا؛ وعلينا أن نتحرك في ظلامهم، في حين أنهم يمرحون في نهارنا كما يريدون!

والمقاتل الفلسطيني، إلى جانب الظروف القاسية التي يعيشها، فهو مطلوب منه أن يكون المقاتل والقائد والمصلح الاجتماعي، وأن يبحث أيضًا عن قوت أسرته. والأصعب من ذلك أنه يعيش نهبًا لتضارُبٍ لا يتوقف بين الآراء ووجهات النظر: فمن مؤيِّد مطلق له، إلى ناقد، إلى رافض – وهذا يشتِّت الجهد والأفكار. وهو قد يعيش فترات مديدة غير قادر على الاتصال بقيادته، بعكس الجندي الإسرائيلي الذي يأتمر بأوامر قيادة منظمة ومتطورة ويتلقى دعمًا غير محدود. جندي الاحتلال يعيش في ظلِّ ظروف مريحة، وهو يملك وسائل الحماية الممكنة كلَّها؛ ولذا فإن شعوره بالخطر محدود جدًّا في مقابل شعور رجل المقاومة الفلسطيني. وأيًّا كان الحديث عن الفرق في عدالة القضية، ومهما تفلسف المترفون بعيدًا عن الخطر، فإن الواقع شيء آخر.

نحن، إذن، أمام نموذج خاص من الاحتلال: فالجنود الذين يقاتلوننا يحملون اعتقادًا بأن هذه الأرض هي أرضهم؛ وهم، وإن كانوا ينتمون إلى أُسَر جاءت من بعيد، إلا أنهم ولدوا هنا، وقد لا يكونون يعرفون مكانًا آخر غير هذه الأرض. ومن جانب آخر، فإن السياسات العقيمة التي عاش الفلسطينيون في ظلِّها دفعتْ بهم إلى الهجرة من أرضهم مرتين: في شكل جماعي في العامين 1948 و1967، عدا عن الهجرة القسرية المتواصلة طلبًا للرزق ولحياة أفضل. وبذا فإن المشكلة الديموغرافية لا تشكل عقبة حقيقية في وجه الاحتلال آنيًّا. ومن جانب آخر، فإن تواصُل العمل اللابرامجي والغوغائي يقود إلى وضع الفلسطينيين في استمرار تحت رحمة قوة الاحتلال وجبروته؛ وهو لذلك يؤدي إلى حلٍّ للمشكلة الديموغرافية التي قد يؤثر فيها نمطُ الحياة العربي الذي يشجع الإنجاب. فالركون، إذن، إلى أن هذه الميزة قد تفيدنا في المستقبل غير منطقية، وذلك لسببين: الأول استمرار سعي إسرائيل إلى إعادة الأمور إلى طبيعتها، أقلَّه بين فترة وأخرى، معتمدًا على الفوضى القائمة في صفوفنا وقدرته على جرِّنا إلى الخندق الذي يريد. ولذا رأينا في المقدمة أن لا فترة استراحة حقيقية لنا: فبين معركة خاسرة وأخرى أخسَر لا تتعدى الفترات من خمسة إلى عشر سنوات، نفقد فيها الآلاف من البشر، بين شهيد وجريح ومعتقل ومنفي أو مهاجر أو مهجَّر؛ وعادة ما تكون الخسائر البشرية وغير البشرية في صفوفنا أكبر بكثير من خسائرهم. ناهيك أن الأسرة الفلسطينية العصرية لم تعد تلك الأسرة القديمة: فالشباب الفلسطيني بات يعزف عن الإنجاب كثيرًا، وهو يقترب تدريجيًّا من النموذج الغربي بسبب تكاليف المعيشة الباهظة والظروف الاستثنائية القاسية التي يعيشها الفلسطيني أينما ذهب.

وبقراءة متأنية لميزان الربح والخسارة في الانتفاضة الحالية، بكلِّ المكاشفة الممكنة، بعيدًا عن النموذج العربي في صياغة الانتصارات الوهمية واللعب بالكلمات، سنجد ما يلي:

أ‌.        إن عدد القتلى في صفوفنا يفوق كثيرًا عددهم في صفوف المحتلين، على الرغم من أن المسألة لا تقاس بهذه الطريقة أبدًا.

ب‌.   إن عدد الجرحى والمعاقين يفوق عددهم في الصف المقابل أضعافًا مضاعفة.

ت‌.   لا توازُن في عدد الأسرى أبدًا: فلا يوجد لدينا أسير واحد، ولديهم الآلاف منَّا في معتقلاتهم.

ث‌.   إن حال أُسَر الشهداء الفلسطينيين والمعاناة التي يعيشونها بعد استشهاد أبنائهم تبيِّن حجم المأساة الأخلاقية التي نعيشها نحن، لا هم. وهذا ينسحب على حال الجرحى والمعاقين والأسرى وأُسَرِهم.

ج‌.    إن دمارنا الاقتصادي كان تدميريًّا. وأية كانت محاولة تصوير الدمار الذي لَحِقَ بهم من جراء الأوضاع الأمنية فهو لا يقاس بحالنا أبدًا؛ فلقد دمرتْ آلةُ الاحتلال الإسرائيلي البنيةَ التحتية في معظم مدننا تدميرًا شاملاً، وشُلَّ الاقتصاد الوطني.

ح‌.    على النمط نفسه، نحن نقرأ أرقام رؤوس الأموال التي هاجرت من إسرائيل إلى الخارج؛ ولكن لم يكلِّف أحدٌ منَّا نفسه عناء قراءة الحال نفسها في صفوفنا.

خ‌.    نحن أيضا لا نقيم وزنًا لعدد الشباب المهاجر بين صفوفنا، في حين نتفنَّن في الحديث عن الهجرة المضادة في أوساطهم.

د‌.       هناك مَن يتحدث عن تنغيص حياة الإسرائيليين، ولكنه لم يحاول المقارنة بين حالنا وحالهم – حال أطفالنا وأطفالهم، شبابنا وشبابهم – وإلا لرأى أن حياتنا أصبحت لا تطاق بالقياس إلى حياتهم. وإلا كيف يمكن لنا تفسير الهجرة في أوساطنا، أو حجم الطلبات الهائل المقدَّم للهجرة إلى أمريكا وكندا وأستراليا وغيرها؟

ذ‌.       إن من المفيد أن ندرك بأننا نتلقَّى الطاقة الكهربائية من مزوِّد إسرائيلي، ولم نفكر حتى مجرد تفكير بالاستقلال عنهم أو البحث عن مصادر أخرى، كالانضمام إلى المشاريع الأردنية–المصرية والأردنية–السورية؛ وكذا نفس المشكلة في المياه: فإسرائيل لا زال يملك السيطرة الرسمية والعملية على مصادر مياهنا، ويتحكَّم حتى في مياه شربنا.

ر‌.     على النسق نفسه مشكلة البترول والمواد الخام؛ بمعنى أدق، نحن نعيش حالة تبعية اقتصادية قاتلة يجب السعي إلى التخلص منها أولاً، وبناء اقتصاد وطني فلسطيني قادر على الصمود في ظروف المقاومة.

ليس معقولاً أن نرفع شعار التحرير والاستقلال، ثم نطالب إسرائيل أولاً بفتح الأبواب أمام عمالنا. وحين يطرد إسرائيل هؤلاء العمال فإنه يسبِّب لنا كارثة وطنية. ويذكر الشعب الفلسطيني جيدًا أن فصائل المقاومة الفلسطينية اعتبرت في بدايات الاحتلال في العام 1967 كلَّ مَن يعمل في المعامل الإسرائيلية خارجًا عن الصف الوطني؛ وكذا مَن يتاجر ببضاعة إسرائيلية. والآن تأتي هذه الفصائل وتعتبر إعادة العمال إلى عملهم في المنشآت الإسرائيلية إنجازًا وطنيًّا! ولست أقصد من قولي هذا إنني "مع" أو "ضد"؛ كلُّ ما في الأمر أنني أشير إلى حالة التخبط في الشعارين السياسي والمطلبي لدى القوى الفلسطينية.

إن مسألة الهجرة واحدة من أخطر المسائل التي نعاني منها، على الرغم من أننا نحاول غضَّ أبصارنا عن رؤيتها. لذا فإن الحقائق التالية قد تساعد على إزالة الغطاء الذي نضعه عمدًا:

1.     إن معظم رؤوس الأموال الفلسطينية قد هاجرت إلى خارج البلاد، والدمار قد لَحِقَ باقتصادنا الوطني المدمَّر والتابع أصلاً؛ وإن رؤوس الأموال هذه لم تعد مستعدة لمعاودة المغامرة بإعادة استثمار أموالها في داخل الوطن. وإن الكثيرين منهم – إن لم يكن جميعهم – قد استفاد من إمكاناته المادية في الحصول على جنسية أخرى أو على حقِّ الإقامة في بلدان أخرى.

2.     إن واحدًا من أهم مطالبنا هو إعادة فتح الأبواب أمام عمالنا للعمل في المؤسَّسات الإسرائيلية؛ ولا يمكن لِمَن يرفع مثل هذا الشعار أن يدَّعي امتلاكه لبرنامج حقيقي يوصل للاستقلال أو يدَّعي أنه يتجه في هذا الاتجاه.

3.     كثيرة هي المكاتب والأفراد والجهات التي تعلن عن عملها في تسهيل إجراءات الهجرة، في حين أننا لا نجد مؤسَّسة فلسطينية واحدة أو إجراءً فلسطينيًّا واحدًا يسهِّل استعادة المهاجرين ممَّن يحملون بطاقة الهوية ويمكن لهم الإقامة في الوطن، كما لا نجد مَن يدعو إلى العودة للوطن؛ على العكس من ذلك كليًّا، فإننا حتى لا نقدم مجرَّد النقد للمشتغلين في مثل هذه المهنة المعادية كليًّا، في مظهرها وجوهرها، لمصالحنا وقضيتنا الوطنية.

4.     لم نحاول قط الردَّ على بعض الدول والجهات التي تسهِّل عملية الهجرة من فلسطين، وتسهِّل إجراءات الإقامة بطرق وأشكال مختلفة، من العمل، إلى اللجوء السياسي، إلى طلب الحماية، إلى السعي للزواج من الأجنبيات للحصول على جنسية بلد الزوجة! وهناك حقائق مذهلة بهذا الخصوص؛ وهي في حالة تنامي متواصل، وليس العكس.

5.     العديد من الفلسطينيين المتنفِّذين والقيادات الرسمية والأهلية تحرص على وجود بيوت لها خارج البلاد، بل تحرص على تعليم أبنائها وإقامة أُسَرها في الخارج. وقد أصبح تحقيق الخروج من الوطن وإيجاد بدائل الشغلَ الشاغل للجيل الشاب، دون أن نجد جهة فلسطينية ما تسعى لمقاومة هذه الظاهرة، ولا حتى بالكلمة.

6.     إذا استثنينا الفلسطينيين المقيمين في لبنان، فإن سائر الفلسطينيين الذين يعيشون في شتى بقاع الأرض يعيشون ظروفًا أفضل بكثير من الظروف التي يعيشها فلسطينيو الوطن.

7.     في المقابل، فإن إسرائيل والحركة الصهيونية يسخِّران كلَّ الجهود لتسهيل هجرة اليهود والمتهوِّدين إلى فلسطين، بكلِّ السبل المتاحة وغير المتاحة، الشرعية وغير الشرعية؛ وكلُّ مَن يحاول تشجيع الهجرة المضادة من إسرائيل إلى الخارج يُعتبَر في نظرهم في عداد أشد أعدائهم.

وددت مما تقدَّم كلِّه قراءةَ حالتنا وإمكاناتنا دون رتوش، وبعيدًا عن النفخ الكاذب للذات؛ ذلك أن مَن يعرف نفسه، أولاً، ويعرف عدوَّه، ثانيًا، على حقيقتهما، ويقرأ قبل أن يبدأ، ويقدِّر النتائج، ويبرمج سلوكه على هذا الأساس، لا بدَّ له من تحقيق أهدافه. أما مَن يغمض عينيه، مكتفيًا بالعيش داخل وهم الرضا الكاذب عن الذات، فإن مصيره الهاوية: فالأعمى في إمكانه أن يكذب على الآخرين وهو جالس، لكن أمره سيُفتَضَح عند أول حفرة في الطريق، إنْ هو قرَّر تجريب كذبته على الأرض.

باختصار، نحن ضعفاء – وتلك ليست نقيصة: فكل الشعوب التي استُعمِرَت واحتُلَّتْ بلادُها كانت ضعيفة، وتمكَّنتْ من استخدام ضعفها لتحقيق الانتصار. فمن الشعوب التي استخدمت المقاومة المسلَّحة، كفييتنام وغيره، إلى الشعوب التي استخدمت المقاومة اللاعنفية، كالهند، إلى الشعوب التي استخدمت كليهما، كجنوب أفريقيا – جميعهم كانوا ضعفاء، وإلا لما تمكَّن الأجنبي من السيطرة عليهم. إلا أن ما ميزهم هو أنهم استفادوا بالدقة كلِّها من واقعهم المدروس في شكل صحيح: ففييتنام استفاد من وجود فييتنام الشمالية على حدود جزئها المحتل، ومن الدعم العالمي لها، ومن فارق التعداد بين شعبها المشارك بمجموعه في المقاومة داخل أرضه وبين جنود الاحتلال الذين يبعدون عن وطنهم وبيوتهم آلاف الكيلومترات.

وفي المقابل، نحن حرقنا، عن عمد منَّا أو رغمًا عنَّا، قواعدنا الخلفية في الأردن ولبنان، وخرجنا منهما مطرودين علنًا. والأمرُّ من ذلك أننا كنَّا نعلن النصر عند كلِّ خروج! وبذا فإن ميزة الدعم من الحدود فقدناها بأيدينا أو رغمًا عنَّا؛ كما أن التطورات الدولية واختفاء الاتحاد السوفييتي من الخارطة السياسية أفقدنا حليفًا مهمًّا في معركتنا الوطنية.

وفي حالة الهند وتجربة المهاتما غاندي فيها، فنحن لم نترك أدنى فرصة لمثل هذا النهج بالحضور أبدًا في أوساطنا، وتركنا الأبواب موصدة دون أية اجتهادات، واعتبرنا كلَّ نقد للعمل المسلَّح جريمة! وقد يكون لذلك سببٌ وجيه: ذلك أن مَن انتقدوا الكفاح المسلَّح في التاريخ الفلسطيني لم يقدموا أية بدائل كفاحية على الإطلاق، واكتفوا بالعمل السياسي الباهت، البعيد عن أية حركة جماهيرية حقيقية، أو عن أي فعل مقاوم حقيقي. وهذا هو الفرق بين تجربة المهاتما غاندي، الذي قاوم الرصاص بجسمه وأجسام أنصاره وبدعوته إلى المقاومة السلمية، وبين مَن اكتفوا بنقد المقاومين الأبطال الذين يضحون بحياتهم في سبيل حرية وطنهم، وبقوا مختبئين تحت ياقاتهم المنشَّاة خلف مكاتبهم المظلمة، بعيدًا عن الجماهير وحركتها. فغاندي اعتبر المقاومة العنيفة حقًّا مشروعًا إن امتنعت الطرقُ الأخرى، فلم يهاجمها، بينما فعل منتقدو المقاومة المسلَّحة في أوساطنا ذلك، دون أن يقدموا بدائل حية وحقيقية على الأرض.

وكذا المقارنة الأقرب مع الحركة الوطنية لجنوب أفريقيا لتشابُه الحال إلى حدٍّ ما: فالسود لم يطالبوا بالاستقلال عن البيض، بل طالبوا بحقِّهم في وطنهم، وكافحوا في سبيل ذلك بكلِّ السبل، وأتقنوا فنَّ اكتساب الرأي العام العالمي إلى جانبهم، ولم يعطوا المستعمرين في بلادهم سوى الإعلان عن قبولهم مواطنين معهم على قدم المساواة. وعلى العكس من ذلك، فنحن لم نتقن حتى الآن، على الرغم من إدراكنا لأهميته، فنَّ اكتساب الرأي العام، بل "فن" تنفيره منَّا، تاركين الساحة خاوية من وجودنا للإسرائيليين، مسهِّلين عليهم، في لغتنا وخطابنا، فنَّ استخدامنا لإدانتنا وكسب العالم إلى جانبهم والتعاطف معهم.

نحن ضعفاء منفوخين، وهم أقوياء متوارين، يعلنون الضعف والعجز ويستجدون المساندة من العالم. نحن نموت ونُقتَل ونُذبَح، ثم نتحدث عن أنفسنا كجبابرة أبطال وعظماء لا يُشَقُّ للطفل منَّا غبار! هم يقتلوننا ويدمرون حياتنا وبلادنا، ويغتصبون أرضنا ويحوِّلونها إلى سجن كبير، ويتفنَّنون في تعذيبنا، ثم، إنْ أصابتهم أية إصابة من جراء دفاعنا عن أنفسنا، ملأوا العالم ضجيجًا وصراخًا عن سعينا لذبحهم، وعن اللاسامية والإرهاب، وما إلى ذلك من هذه الأسطوانة التي لا يجد العالم ردًّا مساويًا لها لكشف زيفها. بل إن الكثيرين منَّا لا يرون أية أهمية تُذكَر للرأي العام العالمي، وهم ينسون أن وجودنا مرتهن، إلى حدٍّ بعيد، بوجود هذا الثقل والتأثير للرأي العام، الذي لولاه لما كان هناك أيُّ رادع أمام جيش إسرائيل لترحيلنا بالقوة خارج أراضينا (والعديد منهم، على أية حال، نادم كليًّا لأنهم لم يفعلوا ذلك نهائيًّا في العام 1948).

نحن ضعفاء، أصحاب حقٍّ لا نتقن استخدامه على الشكل الصحيح، بل ولا نتقن تقديم حقِّنا على صورته الحقيقية إلى العالم؛ بل إننا – بغباء – نغلِّفه بخطاب سياسي أحمق فوضوي، يقدِّمنا في صورة تقترب من صورة الإرهابيين، بدلاً من أن يقدِّمنا كمناضلين من أجل الحرية والسلام، بوصفنا أندادًا للإرهاب والعنصرية والفاشية التي تتصف بهما حكومة الاحتلال الإسرائيلي وجيشه ومؤسَّساته. وللأسف فإن في أوساطنا مَن يعتقد أنه لا أهمية على الإطلاق للرأي العام في مسيرة كفاحنا الوطني؛ وهو يرى أن مجرد قناعتنا بعدالة قضيتنا أو قناعة حلفائنا يكفي لمواجهة أعدائنا، بكلِّ ما يملكون من قوة في مواجهتنا.

نحن ضعفاء فعلاً في العتاد والتجهيزات والحلفاء، ولكننا لا ندرك ما نملك من إمكانات وطاقات هائلة. فنحن نملك مَواطن قوة لا يملكها أعداؤنا على الإطلاق: نحن نملك الاستعداد للموت في سبيل الخلاص من القهر والاحتلال والمعاناة اليومية. وكم من شبابنا قدموا حياتهم رخيصة في سبيل خلاصنا؛ وكم من شبابنا قدموا سنوات عمرهم في معتقلات العدو؛ وكم منهم قدموا أجزاء من أجسامهم في تلك المعركة؛ كم من البطولات الفردية والجماعية سجَّلها أبطالُ الشعب الفلسطيني دون أن ترتقي قياداتُهم إلى مستوى عطائهم العظيم. فشعبٌ من الأحرار لا يمكن له أن يحتمل ظلم المحتلين، ولا يجوز له أن يفعل ذلك؛ فقبول الظلم والخنوع هو من أخطر النواقص في حياة الشعوب والأفراد وأسوئها. وتاريخ الشعب الفلسطيني هو تاريخ العظماء الذين صمدوا في وجه الظلم؛ وهو يتميز عن شعوب الأرض كافة بأنه تاريخ الأنبياء الذين قاوموا الظلم بأجسامهم وانتصروا عليه دائمًا.

إن في تاريخ شعبنا ما يعلِّم ابتكار أشكال المقاومة وأنماطها؛ لكن المفيد هو أن ندرك مكامن القوة في ضعفنا ونعيها. فالضعف قوة لِمَن يدركه جيدًا ويستطيع استخدامه سلاحًا حيًّا في وجه الأعداء. وبدلاً من التفريط بطاقات شبابنا وتضحياتهم لحسابات سياسية وحزبية ضيقة، نحن في حاجة إلى برنامج عمليٍّ حيٍّ لتصبَّ هذه التضحيات في نهر الحرية العظيم لشعبنا وأرضنا. ولذا فإن على سائر القوى الفلسطينية أن تعيد حساباتها، بدلاً من المغامرة التي تبدأ لنعود بعدها منهكين، نتمنى نقطة الصفر شكلاً. والحقيقة أننا تراجعنا عنها كثيرًا: فلا يمكن إلا للأغبياء الاقتناع بأننا كافحنا كلَّ هذه السنوات وقدَّمنا كلَّ هذه التضحيات لنعود في كلِّ مرة نرجو أعداءنا أن يعودوا بنا إلى حيث كنَّا! والمصيبة أنه لا زال في أوساطنا من يملك الجرأة على أن يسمِّي ذلك انتصارًا!

إن المخزون العظيم الذي يملكه شعبنا من الاستعداد للمقاومة والصمود في حاجة، أكثر من أيِّ شيء، إلى برنامج واقعي يدرك جيدًا مَواطن القوة في ضعفنا، ولا يستخدم هذه الطاقات في أعمال مغامِرة، إعلامية أكثر منها كفاحية هادفة، لا يمكن لها أن تشكِّل مخزونا تراكميًّا يساهم في مواصلة الصمود، بل هي تشكِّل دافعًا إلى إنهاك القوى بأقصى السرعة، ودفعها للقبول بما هو ممكن، وكما يرغب في تقديمه الأعداء.

إن مكمن القوة الرئيسي لدى الشعوب المقهورة هو في وعي الضعف واستخدام سلاحه استخدامًا إبداعيًّا ناجحًا في وجه آلة الحرب وأصحابها وأعوانهم، والاستفادة، إلى أقصى حدٍّ ممكن، من استمالة الرأي العام العالمي، وحتى الرأي العام في داخل المعسكر الإسرائيلي. ولا يوجد ما هو مستحيل مقابل إرادة الشعوب التي تجد قيادة واعية تستفيد من المخزون الكفاحي الكامن لدى شعبها وتتقن زيادته وتطويره، لا إنهاكه وهَدْره لصالح أهدافها الذاتية الضيقة الأفق.

*** *** ***

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود