|
المَطْهَر
ملأ المشهدُ صفحاتِ الكتاب الذي أمامي. عصرٌ مضطرب، تتقاذفه تياراتٌ شتى. ألوان أرجوانية تغطي الأفق، وأخرى صفراء باهتة تتمازج مع أدمغة العامة. عيون مفتوحة، لكنها لا ترى اللهيب أمامها، وآذان مرهفة، لكنها لا تسمع إلا الصمت، وحناجر حُبلى، عاجزة عن ولادة الكلمة، وصدور ناهدة بالمواجع والآلام، وأيدٍ ترفع البيارق، ترفعها عاليًا إلى السماء. وتلوح قسماتُك منقوشةً عليها بخطوط صخرية لا تزول، بينما تختبئ النفوسُ المنقسمة هلعًا وراء ولائها المزيَّف للصورة الأبدية. هزَّني المشهدُ من الأعماق، وسرح بي الخيالُ بعيدًا، خلف الماضي السحيق، وجرفني الحماس للبحث عنك، لرؤيتك، للجلوس إليك، للحديث معك. أنت الغابر، وأنا الحاضر – وكلانا وحيد في بقعة نشرف منها على العالم، ولا يرانا أحد، ولا نرى إلا الفراغ أمامنا. تركنا الماضي، وتوقَّف بنا الحاضر، لنبقى معلَّقَيْن في عمق اللحظة! هاأنذا أجلس قبالتك، في مكان ما، لا أستطيع وصفه بالكلمات المتعارف عليها. لا نملك شيئًا إلا أحاسيسنا المتناقضة، وذاكراتنا المحشوة بأحداث الماضي والحاضر. كل ما نعرفه أننا التقينا الآن وجهًا لوجه، وقلوبنا محاصرة بالأحاجي والألغاز! ألتفت إليك. أنظر في وجهك. أحدِّق في عينيك. تهرب بنظراتك عني، وتُنعِم النظرَ في جهة أخرى، كأنك لا تراني. أحس بنظراتك الفارغة، فأوقظك بصوتي. - أنا كيان قذفتْه الطبيعة ليكون معك في هذه اللحظة. لا تَحِدْ بنظرك عن الفراغ البعيد. أقترب منك أكثر، وأمسك بكتفيك، وأهزك قليلاً. - أيها الصورة! كن حاضرًا معي – وإنْ للحظة، – انظر في عينيَّ، كما أنظر أنا في عينيك. تعتريك رجفةٌ مباغتة، وتحدِّق فيَّ بقسوة بالغة. - ماذا تريد؟ - لا شيء. أريد أن أكسر الفراغ. أن أبادلك الحديث بعض الوقت. نحن وحيدان، ولا بدَّ أن نتحادث. - ليس بيننا حديثٌ مشترك! - فلنختلق الحديث إذن. سأكفيك عناء البداية، وأرجو أن ترهف السمع قليلاً. لن أحدثك عن المستقبل؛ فبيننا وبينه زمنٌ غير محسوب حتى هذه اللحظة. سأقصر حديثي على الماضي والحاضر. فما رأيك؟ وتبتسم في استهزاء. - أنت! الغريب، الذي لم أعرفه في حياتي قط! ستحدثني عن الماضي والحاضر! شيء عجيب هذا الزمان المقلوب! - فعلاً، هو عجيب ما يحدث معك الآن. لأول مرة تقول جملة صحيحة في حياتك كلِّها! تصمت، ويعود إليك شرودُك، ثم تهمس بصوت خفي: - إنها اللعنة... حتمًا هي اللعنة! أقترب منك أكثر، وأهمس في أذنك: - لقد سمعتك، فلا تخفض صوتك بعد الآن. وإن فعلت، فسوف أتركك وأغادر، وستكون من بعدي وحيدًا في هذا العالم. نحن اثنان فقط في هذه اللحظة. وإن ابتعدتُ عنك، ستحتاج إليَّ بشدة. وعندئذٍ ستقتلك حاجتُك إليَّ. فلا تكابر، ودعنا نكمل الحديث. نحن نتسلَّى عن الفراغ، وعن الوحدة، وعن المستقبل – وهذا شيء إيجابي، وفي صالحك. ألا تريد أن تعمل الآن شيئًا واحدًا إيجابيًّا، وفي صالحك؟ تلتفت إليَّ بغتة، كأنني لسعتُك بسوط قوي. - أعمالي كلها... في حياتي... كانت إيجابية... وفي صالحي... أيها الكائن الغر! - حقًّا؟! هل ترى أنت هذا؟ - بالطبع. لقد قدَّمتُ الكثير... وما أدراك أنت؟! - بل أدري، أيها المُطاع، وأعرف عنك كل شيء – وعلى ما يبدو، أكثر مما تعرف عن نفسك! تجيب باللهجة الساخرة ذاتها: - ومتى تسنَّى لك أن تعرف عني، وأنت القزم الصغير؟ - أنا لست قزمًا، ولا صغيرًا. أنا كبير كبر الكون كلِّه! ولكني لا أدخل في دائرة معارفك المتواضعة. أزلي، سرمدي أنا. وإن كنت لا تراني هكذا، فهذه مشكلتك أنت! ثم إنني أعرف كلَّ شيء عنك، لأن كلَّ ما سأقوله لك الآن أقرأه أمامي مكشوفًا كاللوح السافر، وحروف الكتابة كبيرة، وواضحة. وتفتح عينيك على سعتهما استغرابًا. - هل تريد أن أبدأ؟ لا تجيب. - لقد تواطأتَ، أيها الصورة، منذ الأزل – ضد شعبك وضد الإنسان. تنتفض، كأني وصلتك بتيار كهربائي. - أنا؟! - ولا أحد غيرك! - لقد سعيتُ إلى سلامته. - لا تخطئ في الأحرف كمن يتعلَّم اللغة حديثًا، بل قُلْ: "إلى سلامتي". - سلامته من سلامتي... ألا ترى هذا؟ - بل أرى عكس هذا تمامًا! والصحيح ما أراه، أيها الصورة. - ولماذا تفترض الصحيح فيما تقوله، أيها الصغير، وأنت لم تَخُضِ التجربةَ بعدُ؟ - لأنني العارف، والعارف لا يحتاج إلى تجربة حسِّية حتى يعرف. معرفته تنبع من فطرته ومن صفائه. لذا، فأنا أعرف أكثر مما تعرف بما لا يقاس. وهذا ما دفعني إلى خوض الحديث معك. - هه... وماذا تعرف؟ - أعرف أنك تلاعبت باللوحة. - أية لوحة؟! - اللوحة البشرية. - وكيف؟! - جعلت نفسك إلهًا، ونسيت أن للكون إلهًا واحدًا فقط. تصمت. - أتذكر، عندما عُيِّنتَ سلطانًا على الناس، ماذا كانت أول جملة نطقت بها؟ "اجمعوا لي صانعي الزجاج المسحور!" وصنعوا لك كرة زجاجية كبيرة، وضعتَها أمامك منذ اليوم الأول لاعتلائك العرش، بل وضعتها في حجرك تمامًا، وتربَّعت على مقعدك الوثير، ثم بدأت تنظر من خلال الكرة المسحورة، وتعاين البشر أمامك، كالإله تمامًا. لكن الإله يرمق الخلق، كما أعرف، عطوفًا، ودودًا، ومُحبًّا. أما أنت فقد كان لك معهم شأنٌ آخر! كنت تحدِّق، وتحدِّق، من خلال كرتك الزجاجية، ونظراتك مليئة بالحقد الأبله. "لماذا يزيد طول فلان عن الحدِّ المطلوب؟!" وتمدُّ إصبعك الطويلة لتضغط قامته قليلاً. "الآن أصبحتْ مناسبة!" لكنك لم تكن تعرف أن عظام رقبته قد سُحِنَتْ سحنًا! "وهذا قصير أكثر مما ينبغي." وبالإبهام والسبابة تمط الرقبة قليلاً، فيعتدل الطول، ولكن تتخلخل الفقرات، ولا تعود قادرة على حمل أيِّ رأس، مهما كان فارغًا وصغيرًا! "فلان، بدنُه مثقل بأطنان زائدة من اللحم." تمتد أطول أصابعك لتمسِّجه، فيهزل، ويذوي، ثم يموت. و"آخر هزيل لا يقوى على الحركة." تعاجله أصابعُك بالحُقَن النافخة، فيستدير جسمُه كالطبل، لتقرع عليه أنغامك التي تفضلها! "هابيل يشكو من ثقل في الدماغ." أعصاب دماغه متورِّمة، محشوة بالمعارف، والمعارف تخيفك. ويمتد أظفرك، المبضع. عملية صغيرة في الدماغ، وتضيع المعارف في هوَّة العماء! لعبتَ دور الإله على أشكال البشر، وأفكارهم، ولكن من غير رحمة، ومن غير تصريح بممارسة دوره. الإلهُ خلق البشر على صورته، وأنت تلاعبت بالصورة الإلهية الحق، فحوَّلتها، وشوَّهتها، بحسب رغبتك الشيطانية. وتنشدُّ إلى حديثي، متجاهلاً فحواه بغباء مقصود. تستوقفك منه أمورٌ غير جوهرية. - من أين لكيان صغير مثلك أن يعرف ما عرفتَ عن كرتي السحرية؟ - لا تبتعد عن جوهر الحقيقة، ودعنا نكمل الحديث؛ فهناك الكثير لنقوله. هل تنكر أنك لعبت هذا الدور المستعار؟ وتستدرك سهوك، فتحاول أن تستنجد بشطارتك، لتلتف حول الموضوع. - ماذا تقصد، لم أفهم... عن أيِّ دور تتحدث، وأية كرة سحرية تختلقها؟! - أتنكر أنك جعلت الناس في حالة ينطبق عليها قولُ شاعر من الماضي (أو الحاضر، لست أذكر بالضبط): خليليَّ فيما عشتما هل رأيتما * قتيلاً بكى من حبِّ قاتله مثلي؟ لقد ضاعف عقارُك المسحور أعداد شعبك، فجعل من كلِّ فرد اثنين: أحدهما يكرهك في صدق ووعي، لكنه لا يستطيع شيئًا سوى الصمت، والإخفاء، والكبت في الداخل العميق، لأنه يعرف أنه محتجَز ضمن كرتك الزجاجية السحرية، وأنك تراه، وتحصي عليه حركاتِه وسكناتِه، وتعرف حتى خفايا نفسه – وهو المسكين، الخائف، الأعزل، المسؤول عن الأفواه الجائعة؛ والآخر – وهو أيضًا المسكين، الأعزل، الخائف، المسؤول عن الأفواه الجائعة – يحبك حتى البكاء! - أنت لا ترى الأمور على حقيقتها... لأنك كيان غر. - بل هذه هي الحقيقة، أيها السلطان الأوحد. وما قلتُه هو جزء منها. وفي كلِّ الأحوال، وبغضِّ النظر عن اتهاماتك الحمقاء، فسوف أتابع حديثي، وعليك أن تسمع؛ فليس لك خيار آخر. فعلى الأقل، هناك مَن يحدثك الآن؛ وهذا أفضل من بقائك وحيدًا، منتظرًا ما يأتيك به المستقبل. وتلتفت إليَّ بنظرات حاقدة. - بل بقائي وحيدًا أفضل بكثير. لا أسمعك. وأتابع: - سأعرض عليك منظرًا آخر. وأبتعد قليلاً، لأعود، وفي يدي كرة زجاجية كبيرة، عندما تراها تنقض عليَّ بلهفة من أضاع شيئًا عزيزًا، ثم وجده بعد زمن حسبه قرنًا. - كرتي الحبيبة! - لقد أنكرتَ وجودَها لتوِّك! تتغاضى عن كلماتي، كأنك لم تسمعها. أُبعِدك عني بقوة الشباب، وأدفعك لتعود إلى مكانك كما كنت. أجلس إلى جانبك، وأضع الكرة في حجري، وأنظر من خلال زجاجها. - انظر، ما تزال اللوحة مشوَّهة. هذه الكرة شاهدٌ أبديٌّ على دورك الرخيص الذي لعبته. لا تجيب! - لِمَ لا تجيب، يا رجل؟ هل زَرَقْتَ نفسك أيضًا بعقاقير عطَّلتْ فيك التفكير والتبصر؟ هل مارست على نفسك الآن الدور نفسه الذي مارستَه على ضحاياك في الماضي؟ أظن أنك فعلت. ليس الآن فقط، وإنما منذ اليوم الأول لاستلامك العرش. أمسك بيدك، وأقرِّبك مني قسرًا: - انظر في كرتك السحرية مرة أخرى. فاللوحة ما تزال كما تلاعبت بها تمامًا. عقاقيرك ما تزال تقوم بمفعولها على الأدمغة. عملية الغسل ما تزال سارية المفعول. انظر، الإعلام المسخَّر، الأبواق الفارغة، الأفواه الهلامية، المفتوحة عن آخرها، الحناجر المتضخمة، الأصوات المبحوحة – كلها يقول إنك وطني، وتعمل لصالح شعبك، وإنك بطل شجاع! - ألم أقل لك إنني هكذا؟ - ألم أقل لك أيضًا إنني لا أصدقك؟! – لأنني العارف، والعارف لا يصدِّق إلا الحقيقة. وتنظر إليَّ بسخرية، وكَيْد. - قل، إذن، ما هي الحقيقة؟ - أنت مغرور، وتعمل لمصلحتك فقط. وأنت أجبن من أرنب، ويملؤك التحدي. - وما همِّي، مادام الناس يؤمنون بعكس ما تعرف؟ - بل يهمك، لأن مفعول عقاقيرك زائل لا محالة، ولأن الثلوج ستذوب يومًا، وسيعود إلى الأرض عشبُها الأخضر، النَّضِر، ولأنك يومئذٍ ستكون وحيدًا، ضعيفًا، وخائفًا. سيوضع خوفُ الناس كلِّهم في قلبك أنت، وستحصد ما زرعت. ولقد بدأتْ رحلتُك منذ اللحظة. اللوحة المشوَّهة التي أراها الآن ستتغيَّر، ربما بعد لحظة – من يدري؟ هل تدري أنت؟ - لن يتغيَّر شيء. اطمئن. الكرة تقول لك. ألم تحدثني عن المشهد أمامك؟ ألم تقل إن اللوحة ما تزال مشوهة؟ وتبدأ بالضحك، بالقهقهة. - لا تضحك كثيرًا، أيها السلطان. فالضحك لمن يفوز في النهاية! ولقد بدأت نهايتك الآن، معي أنا! وتستمر في الضحك. أحاول أن أقذف بالكرة بعيدًا. لكنك تهجم عليَّ، وتأخذها مني، وتلفُّها في حضنك، ثم تضعها أمامك، وتحدِّق فيها مليًّا. وفجأة، تبدأ ألوانُ وجهك بالتبدل، وتنكمش تقاطيعك. أستغرب، وأسألك: - ما الذي حدث؟ ما الذي تراه الآن يا ترى؟ لا تجيب، وينفتح فمك دهشة. أقترب منك، وأنظر... أنظر ولا أصدق. اللوحة تتبدَّل! ألوان الناس، أشكالهم، أصواتهم، حركاتهم، أفعالهم... هل مرَّ قرنٌ في لحظة؟! ما الذي يحدث؟ ويعلو صوتك فحيحًا: - لقد ذهبتْ جهودي هباء! وتقذف بالكرة السحرية في فراغ الكون، فتتناثر شظايا. - ألم أقل لك إنني العارف، أيها السلطان؟ يعود إليك صحوُك فجأة – صحو مركَّز كصحو نَزْع ما قبل الموت، لكنه صحوٌ مملوء بالتحدي، وليس بالاعتراف: - أنا السلطان، ولا سلطان غيري، والناس معي حتى النهاية. - طوال عمرك وأنت تكذب على نفسك، حتى بتَّ تصدق أكاذيبك من كثرة تردادها! أنت الآن وحيد. تخلَّى عنك الدهر، وقذفك في هذه البقعة النائية، وليس معك غيري. ومادمت لا تقر بالواقع، وبعجزك، وفشلك، ومادمت لا تعترف بخطاياك، فسأتركك، إذن... سأتركك للوحدة، والضياع، والعجز. *** وأغيب عنك زمنًا – دهرًا، قرنًا، لحظة – لا أدري! أعود بعده لأراك، فلا أعرفك، وحيدًا، جائعًا، مصفرًّا، هزيلاً، لا تقوى على الحركة، لكنك ما تزال في المكان ذاته، وما تزال تجلس الجلسة ذاتها! تراني، فتكاد ألا تعرفني، وتنظر إليَّ نظراتٍ بلهاء. أحاول أن أكلِّمك، فتعتصم بالصمت. - كيف أنت الآن؟ وترد بمكابرة عجيبة، بينما يرتجف صوتك. - كما تراني... قوي للغاية! وأقهقه. - ألم تفتقدني؟ - لا، فأنا لا أحس بوجودك أصلاً! أقترب منك أكثر. أنظر في عينيك الغائمتين. - أبدًا؟ وتشيح بوجهك عني. - أبدًا! - أنت صادق الآن... لأول مرة في حياتك. فأنت لا تحس بوجود أحد إلا نفسك... لا تجيب. - ... أليس كذلك؟ - بل أحس. - تحس بماذا؟ - بأنني أرتاح أكثر حين تغيب! - لكني عدت لأسألك سؤالاً واحدًا فقط: ألم تفكر يومًا واحدًا في ضحاياك، وكيف يمكن أن تنقلب الضحية في لحظة مباغتة، فتلعب دور السفَّاح؟ - اطمئن، مازلت أمسك بخيوط اللعبة. - حتى وأنت وحيد، وفي هذه البقعة الفارغة؟ - إنها نزهة. أيام قليلة للراحة، للاستجمام. - إذن، ما رأيك أن نتسلَّى قليلاً؟ الناس يتسلون في النزهات! - إنني أتسلَّى بالذكريات. - ذكريات الأمجاد التي صنعتها؟ - ما أزال بطلاً! - وهراس الرابع ظنَّ نفسه بطلاً أيضًا، لكنه ارتكب مجازر، فأثبت وحشيته وغباءه. ولذا تعاونت الدول جميعًا على حمايته، وصيانة عرشه. لكن النخر جاءه من الداخل، من ضحاياه أنفسهم – حتى أفُلَ زمانه، وجاء مَن يطيح به. - أنا ليست لديَّ ضحايا... فشعبي يرقص دائمًا، ويهتف لي. - الذاهبون إلى الموت في روما كانوا يهتفون للقيصر! فما رأيك؟ - أنا أمنح الحياة، لا الموت. وأضحك في سخرية مريرة. - مازلت تظن أن لك صفات الإله، ولذا فإن الناس يحبونك أكثر كلما ازددت في تعذيبهم، كما يبالغون في محبة الربِّ كلما بلاهم بالرزايا – وهم في هذا كلِّه إنما يخلطون بين المحبة والخوف! ولم تعلِّق! - سأعرض عليك قبل رحيلي أن تلعب دورًا صغيرًا، لكنه مهم في نظري – وفي نظر الحقيقة. تلتفت إليَّ شزرًا، كأنك تقول: "ومن أنت حتى أقبل عروضك؟" أتجاهل نظرتك، وأتابع: - ما رأيك أن تعلب دور الضحية؟ - أية ضحية، أيها الساذج؟ قلت لك: لا ضحايا لدي. أتجاهل ردَّك، وأتابع: - أية ضحية تشاء. الضحايا لديك كُثُر، فاخترْ أنت إحداها. وأتابع بزخم أشد، وبصوت أقوى: - ما رأيك أن أبني لك، في غمضة عين، قضبانًا حديدية، تلتف حولك بإحكام والتصاق شديدين، ثم أشعل إلى جانبك نارًا تتأجج على مهل، وتقترب من مكانك رويدًا، رويدًا؟ وتحملق فيَّ بنظرة مفعمة بالحقد، بينما تتسع عيناك، وتجحظان. لا أنتظر ردود فعلك الأخرى، وأشير بيديَّ في الفضاء بحركات بهلوانية، وأنا أصيح: - ها هي ذي القضبان أيها الضحية، وها هي ذي النار تشتعل. جرِّب الدور مرة واحدة فقط، وحدِّثني عن شعورك بعد ذلك. وأقهقه صاخبًا، وصوتي يملأ جنبات المجرة الفسيحة. - ألا تسمع الأصوات؟ ألا تسمع الضحكات، وأناشيد الفرح؟ إنها تراتيل جنازتك... تتحرك ملسوعًا. تحاول أن تهبَّ واقفًا. لا تستطيع. يصطدم رأسُك بالقضبان الأفقية. تصرخ، تصرخ. تتلفَّت حواليك. لا تسمع إلا صدى عويلك. تسقط في الفسحة الضيقة، وتنهار. النار تقترب رويدًا، رويدًا. وأنت مشلول، بلا حراك. تفتح فاك، وتحاول أن تناديني مسترحمًا... لأول مرة. - لا تتركني... لا أسمعك. حلقك جاف، والكلمة لا تستطيع أن تخرج. تراني من خلال غمامة اللهب المتصاعد وأنا أبتعد بخطواتي عنك. أقرأ في عينيك الغائمتين رجاءً، وصلواتٍ لا تنفع. لكني لا أرى في العمق ندمًا، ولا توبة خالصة. لا أرى إلا خوف الجبان، وضعف المستكين الرابض. أصرخ، وأنا أبتعد عنك: - هذا قرار المستقبل. حملته إليك، ولا يد لي في ذلك. هل اعترفت الآن بأن المشهد قد تغيَّر، أيها السلطان؟ ولا تستطيع الإجابة. أهمس في داخلي، بينما تغيب صورتُك عن مخيلتي: - ما أغباك، أيها السلطان! 2001 *** *** *** |
|
|