|
حكمة الموسيقى
لن يتوقف الزمن عند بداية الروزنامة. لن تتشبث الكرةُ الأرضية بهذا النهار. سوف تمضي في دورانها وحركتها دون أن تلتفت إلى أوهامي بالبقاء في هذا العمر، لا بحثًا عن زهرة الخلود، ولا توقفًا لتنميط الوقت وتأطير اللحظة كأنها صورة، بل رغبة في احتساء الزمن بشراهة لا تنضب، وطمعًا في البقاء على قيد الصحة والعمر. لكن جلجامش لم ينلْ مراده، ولم يحقق إنسانٌ معجزة الاحتفاظ بسرِّ الشباب. لذا ستقرع السنة كؤوسها كأسًا إثر كأس، ولن تحتفظ سوى بأشلاء فارغة لبشر مضوا دون أن يدركوا سرًّا واحدًّا من أسرار الكون، أو حكمة الفصول والوديان والأنهار، أو جدوى القشرة الأرضية، أو الغاية من زلزال سومطرة مثلاً، أو الدرس المستفاد من ظلم البشر العنصري للآخرين الضعفاء! لن يتعلم أحد من سوء نية الزمن والمخفي القادم. وبدلاً من أن يتخلصوا من حقدهم وكراهيتهم لأيِّ سبب كان بعضهم لبعض، يتمسكون برغبتهم في فرض لونهم ولغتهم، وأسماء أبطالهم وحكاياتهم وبطولاتهم وفرسانهم وحكمهم وقيمهم على العالم بأسره. يريدون حكم الآخر، السيطرة على أرضه وتاريخه، كما فعلت قبائل الدنيا الهمجية كلها، وكما صنعت جميع الجيوش الغابرة المبنية على مبدأ السلب والقهر – سلب الآخر وقهره واستلاب حريته وحقِّه في التطلع إلى الشمس دون "حكماء" وأوصياء وقيود. لحظات من الزمن يعيشها الفرد، متوهمًا أنه يحكم الكون، وأن إرادته ستكون أكبر من تقلب الأرض ودورانها وتغيراتها، كي لا نقول غدرها وبطشها. حين زمجر البحر، وانقضَّ موجُه على فلاحين فقراء وبسطاء، ومَحَقَ قرى كاملة، لم يتوقف الموج ليسأل أحدًا عن اسمه ودينه أو لغته. وهي حكمة الموسيقى التي لا تتوقف عند أذن معينة لأنها هندية أو عربية أو يدين صاحبها بالبوذية أو المسيحية! شلال الكون هادر بلا أفكار أو خزعبلات أو أوهام كتلك التي راودتني صبيحة أمس. وهي مجرد أوهام لا تقبلها الأيام أو السنوات لأنها أيضًا مطحونة بقسوة في مطحنة الفناء الذي يتغلغل حتى في ثنايا الناجين من براثن الزلازل أو الرصاص أو الظلم. فحتى القاتل والظالم والمحتل والمهيمن والنافذ سينتهي مثل ورق الشجر أصفر ناشفًا، وسيعجز عن ردِّ الزلازل والهزات داخل جسده، وسيذبل التقويم كما تتلاشى فقاعات الصابون تحت صنبور الماء. كل شيء إلى زوال وفناء. حتى السنوات التي ننفر منها، ونبتعد عنها، ونحسب لها ألف حساب، ونقيم لها الطقوس والاحتفالات، دون أن نلتفت إلى حكمة الأرض القاتلة: "كل ما يمر ويعيش فوقي صائر إلى باطني، حتى الغربان والبوم وذرات الهواء العالقة في أجنحة الصقور." سيمر اليوم والغد، وستكشف الروزنامة عن كوارث قادمة ومصائب مقبلة. ومَن ينجو من زلزال أو عاصفة سيقضي بعد جرعة كيماوي، أو صدمة نفسية، أو نوبة قلبية. فمن يعير الزمن أهمية سيسقط في فخِّه وسخطه. أما مَن يلتفت إلى طفل بائس ويمسح دمعة عن خدِّ مريض أو يتيم أو طفلة بريئة أو عجوز متعبة أو جائعة، مهما كان لون بشرتهم ولغتهم، فسيدرك حينئذٍ أنه تفوَّق بإنسانيته على التواريخ والأجندات والأحقاد والضغائن والتفاهات. حبيبتي، سنكبر، وسنعبر سنة بعد سنة. من يعش منَّا سيدرك أن الشمعة التي تحترق يختفي لهيبها إلى الأبد، وأن الشمعة التي لم تشتعل بعد ستبقى نارها كامنة فيها، حتى يجيء مَن يشعل فتيلها، ويسمو بعيدًا عن كلِّ الشعارات والتعاليم التي تفصل بني البشر عن الاحتفال حتى بالموت، لأنه لا يختلف كثيرًا عن أيِّ طقس آخر يظنه بعضهم فأل خير أو مصدر سعادة. لم تفهمي شيئًا مما قلت! ومن قال لك إنني أكثر حكمة منك وفهمًا؟! ولكني أدعوك إلى تناسي الزمن لأنه قد يكون مثلنا ضحية عوالم خفية. فلا تحقدي عليه ودعينا نمر به إلى يوم جديد، مهما كان يحمل في جوفه من نار كامنة. كل عام وأنت بخير على كلِّ حال! *** *** *** |
|
|