|
دور العرب في علم المنطق
يعرِّف نيقولاس رِشر[1]، أستاذ المنطق بجامعة بتسبرغ، المنطق العربي بأنه اسم نطلقه على تلك الجهود التي بذلها الباحثون في العالم الإسلامي في مجال الدراسات المنطقية وما تمخضت عنه تلك الجهود من أعمال في هذا المجال، سواء كانت هذه الأعمال في صورة مؤلَّفات أو مترجَمات أو شروح أو حواشٍ تدور حول مسائل منطقية. و"الباحثون في العالم الإسلامي"، بحسب مفهوم رِشر، هم كل مَن ساهم في حقل المنطق، أيًّا كانت صورة هذه المساهمة، وكان يعيش في كنف الحضارة الإسلامية من مشرقها إلى مغربها – بغضِّ النظر عن دينه أو أصله الجغرافي – وكَتَبَ باللغة العربية. ومن هنا فسوف نتقابل مع باحثين مسلمين ومسيحيين وصابئة، كما سنقابل باحثين من بلاد الفرس والروم والعراق والشام ومصر والمغرب العربي والأندلس، مادام هؤلاء الباحثون استظلوا بظلِّ الحضارة الإسلامية، يعكسون متغيِّراتها ويعبِّرون عن مقوِّماتها ويتأثرون بجميع أحداثها، بل كثيرًا ما ينطلقون في دراساتهم بتشجيع من الخلفاء والولاة وبمناصرة من الوزراء المسؤولين. ينقسم المنطق الحديث إلى فرعين: الفرع الأول – وهو الموضوع الذي سنعالجه في هذا المقال بشيء من التفصيل – هو المنطق الرياضي؛ أما الفرع الثاني – وهو المنطق الفلسفي، الذي كثيرًا ما يختلط مع منطق اللغة – فقد كان أحد الظواهر الأولى في المنطق العربي، حتى إن بعضهم زعم أنه يشمل المنطق كلَّه. ومثال ذلك الحوار الذي دار بين أحد النحويين (ويمثلهم هنا أبو سعيد السيرافي) والمناطقة (ويمثلهم أبو بشر متى بن يونس). ساوى السيرافي بين المنطق والنحو، فقال: إذا كان المنطق وضعه رجلٌ من اليونان على لغة أهلها واصطلاحهم عليها وما يتعارفون به من رسومها وصفاتها، فمَن إذًا يُلزِم الترك والهند والفرس والعرب أن ينظروا فيه، ويتخذوا فيه حكمًا لهم وعليهم وقاضيًا بينهم، ما شهد له قبلوه، وما أنكره رفضوه؟ وهكذا فعند الفريق الأول يختلف المنطق باختلاف النحو، وإذن باختلاف اللغات؛ بل هناك مَن زعم أن النحو أعم من المنطق. أما رد أبو بشر فجاء قريبًا من النظرة الحديثة للمنطق بتشبيهه إياه بالرياضيات، إذ قال: لأن المنطق بحث عن الأغراض المعقولة والمعاني المدرَكة، وتصفح الخواطر السانحة والسوانح الهاجسة، والناس في المعقولات سواء، ألا ترى أن أربعة وأربعة تساوي ثمانية عند جميع الأمم؟ – وكذلك ما أشبهه. مع العلم أن علاقة المنطق بالرياضيات مازالت مصدر جدل واختلاف آراء ونقد حتى العصور الحديثة، وحتى في الكتب الكلاسيكية للمنطق، كما في أعمال برتراند راسل وغيره؛ وستظل كذلك حسب تطور المنطق الرياضي في المستقبل. ونكتفي بذكر بعض وجوه الشبه الحديثة بين العلمين. هناك تشابُه شكلي ورمزي، كما هنالك تشابُه مضموني، كما لاحظ أبو بشر متى. ولن ندخل في هذا التشابُه لأن المنطق الرياضي[2] لم يكن معروفًا بمعناه الحديث، بل نكتفي بأن نشير إلى التحول التاريخي من جدلٍ حول تعادُل المنطق والنحو زمن العرب القدامى إلى جدلٍ حول تعادُل المنطق والرياضيات في العصور الحديثة. والمحرك الأول لهذا الاعتقاد إنما كان سببه ما قام به علماء المنطق الرياضي في القرن العشرين من مشروعات لصياغة الرياضيات كلِّها في لغة رمزية من منطق المحاميل، وهي لغة المنطق الرياضي الحديث. وقد سُمِّيَ هذا المشروع بـ"مشروع هلبرت" لأن الرياضي الألماني الكبير ديفيد هلبرت هو أول مَن قام به في صورة جِدية في مجلدين كبيرين، وتابع أعمالَه رياضيون آخرون، كما تفرقوا واختلفوا بعضهم مع بعض في منهجيات ومدارس مختلفة. لن يكون حديثي عن المنطق العربي كلاسيكيًّا عاديًّا. فهناك كتب كثيرة – بل كثيرة جدًّا – تتحدث عن مباحث المنطق العربي ومدارسه وترابُطه بالمنطق القديم. وأغلبهم يجعل من المنطق العربي منطقًا أرسطوطاليًّا؛ ولا يتحدث عن إبداعهم وتجديدهم إلا العدد القليل من الباحثين. كما لا يتطرَّق الباحثون إلا إلى كتب المنطق الذائعة الصيت ولا يدرسون غيرها (كمنطق ابن سينا في الشفاء ومعيار العلم للغزالي وغيرهما كثير) ولكنهم لا يدرسونها من وجهة نظر العلوم المنطقية الحديثة الرياضية واللغوية. فقد كان العرب مناطقة عظامًا باعتراف مؤرِّخي المنطق. وقد بدأت تظهر حديثًا بالفعل دراسات لغوية ألسنية هي من صلب علم المنطق الحديث، أي من ألسنيات القرن العشرين – وكذلك منها ما يمكن تطويره وإدخاله في علوم القرن الحادي والعشرين. أما العلوم المنطقية الرياضية فلها علاقات شديدة القرابة بالعلوم اللغوية، ولم يدرسها أحد. وما سبب ذلك إلا قلة المناطقة الرياضيين المحدثين الذي اطَّلعوا على التراث العربي. وقد كنت أحد هؤلاء، وكان اطلاعي على التراث عفويًّا. فعندما عدت من دراستي في الغرب، شاكيًا نضوب المكتبات العربية من المراجع في العلوم الحديثة، لم يروِ عطشي للعلم إلا مطالعاتي لكتب التراث التي تناقلتْها الأيدي وقرأتْها العيون قراءة سطحية أو توثيقية. وكانت قراءاتي لها غير ذلك. وعلى الرغم من أن مطالعاتي كانت محدودة بضيق الوقت إلا أن اكتشافي لعظم شأن العرب كان مدهشًا. وهو يتلخص بما يلي: أولاً: إسهامات تذهب إلى أبعد من الأرسطوطالية والإقليدية وروح العلوم القديمة التقليدية، فتطال آفاقًا لم يَطَلْها العلم الغربي إلا في المئتي سنة الماضية من تاريخ العلم الحديث. وقد نشرتُ هذه الاكتشافات في مجلات عربية وغربية. ثانيًا: لآلئ معفَّرة بتراب الزمن، أزلتُ عنها ترابها وصَقَلْتُها وطورتُها وأضفتُها إلى تاج العلوم الحديثة. وقد حظي عملي هذا بتقدير بعض العلماء الألمان. ونحن، كالعادة، نلجأ إلى الغربيين لنحصل على رضاهم وموافقتهم لتقدير علومنا ومعارفنا؛ وقد آن لنا أن نخطَّ بأقلامنا طريقنا، ونرسم شخصيتنا العربية المستقلة المتميزة. وقد كانت لنا شخصيتنا المتميزة، وكان لنا مركز الصدارة في العلوم، وخاصة في علمي الرياضيات والمنطق. فلماذا لا نبعث هذا التراث من الموت – بل قُلْ من النوم – ونقف على أرجلنا، ونطاول بأعناقنا كبار علماء العصر؟! ولذلك فأنا أهيب بكلِّ عالم عربي وصل إلى درجة من الكمال في تحصيل المعارف الحديثة أن يعود إلى كتب التراث ليجد فيها أفكارًا دفينة، بل كنوز. وما أغنى بلادنا بالآثار وما أغنى كتبنا بالأفكار العُذْر التي تنتظر العلماء ليكملوا رسالتها العلمية ويبعثوها عربية أصيلة! وهذا يقودنا إلى السؤال: هل هناك منطق عربي؟ يقول رِشر: وهنا يتساءل مَن يتساءل: هل يعني الحديث عن المنطق العربي أن المنطق قد يُنسَب إلى قوم من الأقوام ويوصف بصفتهم؟ هل يمكن الحديث هنا عن منطق هندي ومنطق فارسي ومنطق إنكليزي؟ ثم يتابع: المنطق لا ينتسب إلى شعب من الشعوب ولا إلى جنس من الأجناس. فالمنطق إنساني عام، يتناول بالدراسة أمورًا عقلية لا تختلف باختلاف الأمم والأجناس. أنا لا أوافق رِشر على ذلك. فهو ينظر إلى المنطق ككائن جامد، ويعاينه بنظرة محلِّية صُغْرية؛ بينما المنطق كائن يتداخل مع العلوم الإنسانية الأخرى ويتفاعل معها. ولأوضح رأيي: أنا لا أشك، مثلاً، في أن مسلَّمتي عدم التناقض والثالث المرفوع لأرسطو هما مسلَّمتان عامتان، يكاد الجميع أن يقبل بهما – هذا من وجهة نظر متفردة – بينما لا يقبل بهما الفيلسوف الشرقي[3]، كالبوذي مثلاً، وذلك لأنه ينظر إلى روح القانون نظرة شمولية كونية. فمثلاً، وضع أرسطو هذه المسلَّمات واستخلصها من إرهاصات فكرية بدائية، كأن يقول: إما أن يكون الحائط أبيض أو لا، ولا ثالث بينهما؛ بينما رجل الشرق ينظر فيرى حياتنا البشرية مليئة بالأضداد والتناقضات. وحتى الفيزياء الكوانتية نقضت هذه المسلَّمة. أي أن العالم الشرقي رأى بقوة البصيرة ما استغرق الغربي آلاف السنين ليراه في المختبر. وسآتي على مثال آخر لذلك من رؤى عربية قديمة لفراغات لاإقليدية. ولقد نشأ بالفعل منطق لاأرسطوطالي، ولكنه للأسف مصوغ في نظام معرفة أرسطوطالي – وهنا أيضًا تبرز روحانية الشرق الذي هو، إن صح القول، بقبوله المتناقضات الظاهرية واحتوائها، أعم وأحلى من المتناقضات والفصامات المنطقية الغربية. وفي إمكاننا القول إن الغرب لم يتفوق بالعلم، بل بالتكنولوجيا؛ فتكاد ألا توجد حقيقة علمية مطلقة أكيدة[4]، كما أشرت في مقالي: "المتناقضات في العلوم، قديمًا وحديثًا"[5]. حتى مبدأ الذرية Atomism الذي درسناه في المدارس الثانوية، فالهنود هم أول من وضعه، وتبعهم الإغريق؛ وهو مبدأ لم يؤيَّد قطعيًّا إلى اليوم، كما رأينا. وكذلك السؤال: هل فراغ الكون إقليدي أو ريماني أو غيره؟ – لا يمكن لنا الإجابة عنه، إذ تُظهِر التجارب دائمًا تناقُضَ ما سَبَقَها. ولكن هذا لا يعني أن الحضارة الغربية لم تستفد من ديالكتيكية التناقض التي وقعت فيها؛ فاستطاع الغربيون إنتاج القنبلة الذرية، على الرغم من عدم استطاعتهم الإجابة على صحة مبدأ الذرية؛ كما استطاعوا استخدام الرياضيات – ذلك العلم السامي – في شتى ميادين الخدمات البشرية، على الرغم من عدم استطاعتهم أن يبرهنوا أنه لا يوجد برهان أن 1 + 1 ≠ 2، بل لقد برهنوا على عدم وجود برهان يدحض ذلك التناقض! مختصر القول إن هناك منطقًا جامدًا محليًّا وحيد البعد، وهناك روح المنطق أو "منطق المنطق"، أو بكلمة علمية "ميتامنطق" Meta-logic – وهذا ما اختلف فيه العرب عن غيرهم من الأمم. وهذا الاختلاف هو الاختلاف بين منطق "العقل المحض" (بتعبير كانط) ومنطق الروح؛ هو الفرق بين عقلانية الغرب وروحانية الشرق. والعرب، بطبيعة وضعهم الجغرافي، جمعوا بين المنطقين – العقلي والروحي، – وإن كان الأخير لم يأخذ صبغة علمية بعد؛ وما ذلك إلا لأسباب زمنية، وهو في الواقع منطق المستقبل. وقد اكتشف العلماء أن الدماغ البشري نصفه استنباطي استنتاجي ونصفه الآخر حدسي استقرائي. والحدس هو ما يربط الواقع بالروح، بحسب تعبيرنا غير الدقيق لعلم غير دقيق بعد. ولن أدخل في ذلك أكثر من هذا، بل أكتفي بأن أضيف أن الاختلاف بين المنطقين هو الاختلاف بين النظرة الاختزالية التحليلية بين العلوم، كلٍّ منها على حدة، وبين النظرة الشمولية إلى العلوم الإنسانية التي تتصف بالتركيبية. وأحدد الاختلاف أكثر من ذلك، فأقول: هو، من أحد وجوهه، تنوع في المنهجية العلمية التي هي، بدورها، فرع من فروع المنطق؛ بل لقد خلطها أرسطو بالمنطق ذاته.[6] فلأبيِّن لكم بعض الاختلاف بين المنهج الغربي الأرسطوطالي والمنهج العربي الذي تحرَّر من المنهج الأرسطوطالي: امتاز سكان البلاد العربية القديمة، كالبابليين والمصريين، بعلوم عظيمة، لكنها كانت تجريبية، خدمية، واقعية. ثم جاء الإغريق فأخذوها وجرَّدوها، وجعلوها علومًا بحتة؛ وقد غلبهم حبُّهم للعقل المجرد، حتى طغى على المنطق الواقعي. وخير مثال على ذلك ظهور السفسطائيين الذين اهتموا بالكلام من أجل الكلام، وليس من أجل الحقيقة التي يحملها. وحتى أرسطو له أخطاء منهجية: فهو عندما وضع مبدأه أن الجسم الأثقل يسقط بسرعة أكبر من الأخف إنما دَفَعَه إلى ذلك حبُّه للمنطق المجرد وعشقه للفكرة المحض، وليس لتجسيدها الدنيوي، فلم يأخذ بنفسه عناء التجربة. وهذه منهجية لاعلمية ابتعد عنها العلماء العرب.[7] وهناك أمثلة أخرى، كاعتقادات أرسطو الكونية عن تركيب العالم من كرات ذات مركز واحد لا يوجد شيء خارجها؛ وهي فكرة تمتُّ إلى الخرافات ولا تمتُّ إلى المنهج العلمي بصلة – وقد نبذها العرب. وأول من حاول أن ينظر نظرة شمولية إلى المنطق ويطبِّقه كان الكندي، الذي لم تسحره مبادئ الهندسة التي وضعها إقليدس، ولم تُغْرِه النظريات الأرسطوطالية، فطبَّق النظري على العملي، وحاول في رسائله الفلسفية[8] إثبات كروية الأرض، مستعينًا بالعلوم الهندسية، وحاول أن يبرهن على نشوء العالم مستعينًا بالمبدأ البديهي axiomatic الإقليدي، ويطبِّقه على علم الأعداد أو الأعظام والكونيات. ولكنه – للأسف – دمج بين العلم وإساءة فهم الدين، فوصل إلى تناقُض في مفهوم اللامتناهي، الذي أُثبِتَتْ صحتُه في الرياضيات الحديثة، لا بل هو في أساس معظم الرياضيات الحديثة. وهكذا، فبينما أسقطتْ عقلانيةُ الغرب المحضة علماءَ الغرب في نظام غير متكامل، كذلك أُسقِطَتْ روحانية الشرق المحضة في نظام غير متكامل. والعرب، باستيعابهم لكلا المبدأين، في إمكانهم أن يتابعوا طريق الكمال ولا يسقطوا في أخطاء كالتي سقط فيها الكندي، وكذلك رجال الدين المسيحي في العصور الوسطى في معاملتهم للعالِم الفذِّ غاليليو لمجرد سوء فهمهم للدين. فيجب ألا نفرض مفهوماتِنا الأرضية وعلومنا المحدودة المتناقضة على فكر الله السرمدي. فأنَّى لنا أن نفهم فكر الله وأن ندرك غور حكمته؟! الشمس أشرقت من الشرق، وهي إلى غروب، وستعود إلى الشروق أسطع وأبهى! العلوم ابتدعها الشرقيون القدماء بإلهام وتبصر ثاقب، وأكملها الغربيون بحذق وتحليل لامتناهيين. ولكن بعد الغروب شروقات – والعلم لانهاية له. وخير برهان على كلامي أن كلَّ الديانات ظهرت في الشرقين الأوسط والأقصى، بينما امتاز الغرب بالعقلانية المحضة. لا تغرَّنكم علاقة التعقيد وإحكام الصياغة بصحة المعتَقَد. فنحن، مثلاً، لا نستطيع أن نقارن كتابين مُحكَمَي الصياغة، ككتابي الوجود والزمن لهيدغِّر والوجود والعدم لسارتر وغيرهما، مع بعض الحِكَم الشرقية من شرقينا الأدنى والأقصى. لا يسعنا قطعًا إلا أن نُفتتن بالعقلية التحليلية التي صاغت هذه الكتب؛ ولكن الأمر كبناء القصور على الرمال: فبساطة الثانية قد تفوق بحقيقتها المطلقة أعظم الأعمال المنطقية والفلسفية الغربية. إذ لا تحتاج الحقيقة إلى جيش من الحجج يحميها وهيكل من التحليل يحملها؛ وقد تتفوق البساطة والحدس الثاقب بالقدرة للوصول إلى حقيقة الوجود البشري على كلِّ ما ذهب إليه هيدغِّر وسارتر! لم يكن العرب، على الرغم من تبصرهم وحدسهم الثاقبين – كما سأبرهن بعد قليل بتنبئهم بالهندسة اللاإقليدية[9]، – لم يكونوا ضعفاء في المواهب الاستنباطية العقلانية والتحليل العلمي. وأحد براهيني على ذلك مثال ابن الهيثم في كتابه في حلِّ شكوك إقليدس، حيث نقض تعريف إقليدس الساذج للخطين المتوازيين، بل أكمله. إذ عرَّف إقليدس الخطين المتوازيين بأنهما الخطان اللذان لا يلتقيان في الامتداد. لم يُعجِب هذا التعريف اللاعلمي عالِمَنا ابن الهيثم، فدخل في دراسات دقيقة، وصحَّح التعريف وروَّضه (أي جعله رياضيًّا)، إذ أدخل مفهوم الحركة والزمن ومفاهيم أخرى، كالاستمرارية والبساطة، التي، كما أشرت إليها في مقال آخر[10]، سَبَقَ فيها مفاهيم الهندسة التفاضلية التي هي أساس الفيزياء الحديثة، وأخضع اللانهاية لمبدأ فلسفي رياضي هو مبدأ التركيبية Constructivism، وتحدث عن حقيقة الوجود الرياضي بمعناه الحديث، واستعمل بذلك مبدأ الخوارزميات في إنشاء اللانهاية. فاللانهاية عند ابن الهيثم هي نظام صيرورة دينامي، بعكس نظام الخطوط المتناهية الساكن. وهذه هي من أهم أساليب المنطق الرياضي الحديث. وهذا يقودنا إلى الحديث عن الخوارزمي الذي أسَّس الخوارزميات؛ وهي في الحقيقة إخضاع للخيال الرياضي البحت لإجراءات هامة جدًّا في عملية الحَوْسَبَة. وقد أسَّس الخوارزمي علم الجبر، ولم يبتدئ بذلك من أسُس تجريبية، كالرياضيات الإغريقية، بل من مبدأ عملي جدًّا: فقد اكتشف الجبر وهو يحل مسائل في التجارة وتقسيم الميراث! ولكن العرب، عندما اكتشفوا هذا العلم البالغ الأهمية، لم يتوقفوا عند حدود التطبيقات، بل تطلَّعوا إلى آفاقه النظرية، فحلوا المعادلات الجبرية؛ وأهم من ذلك كلِّه أنهم مزجوا الجبر بالهندسة، وكان ذلك من أهم الثورات المنهجية في الرياضيات. وكانوا أول مَن استعمل الاستقراء الرياضي، كما برهن رشدي راشد في كتابه تاريخ الرياضيات العربية[11]، باستعمال السموءل والكرجي لمبادئ الاستقراء الرياضي. وقد برهنتُ، من جانبي، أن الكندي كان قد سبقهما إلى إدراك هذا المبدأ. والاستقراء هو من دعائم المنطق وعلم الحوسبة. وهكذا، فتعدد تطبيقات العرب للمنطق وتنوعها، كما تبيَّن لنا حتى الآن، أفادا المنطق وأغنياه. ونحن نعرف اليوم أن تطبيق علم، كالمنطق مثلاً أو الرياضيات، في مجالات حياتية أخرى لا يفيد الأخيرة فقط، بل إن لذلك تغذية رجعية feedback على العلم الأصلي المطبَّق؛ والأمثلة على ذلك لا تُعد ولا تحصى. ويسرني أن أورد هنا مثالاً من علمي التفاضل والتكامل اللذين أوجدهما الغربيون في عصور النهضة في أثناء دراساتهم الرياضية الفيزيائية. لكن العرب سبقوهم إليه، كما بيَّن يوشكيفتش[12] (في دراسته لثابت بن قرة) ورشدي راشد[13] وغيرهما، وهي أساليب لانهايتية infinitistic. نستنتج من ذلك أن اهتمامات العرب التطبيقية وولعهم بالنظرة الشمولية للعلوم أفاد المنطق والرياضيات كثيرًا. وسأذكر لكم مثالاً آخر من المنطق ليحيى بن عدي: لا شكَّ أن يحيى استفاد من منطق أرسطو، لكنه حاول أن يطبِّقه على قضايا لاهوتية ودنيوية، فأنشأ دراسة للعلاقات ووضع متناقضة العلاقة الفارغة، فسبق بذلك الرياضي الإنكليزي برتراند راسل. وأنا في صدد محاولة إكمال نظريته في العلاقات؛ وقد حققتُ اكتشافات هامة في ذلك.[14] فتاريخ المنطق العربي حي، وليس هو مومياء نشرِّحها كما يشرِّحها الغربيون، بل كائنات نائمة نبعثها حية ونطوِّرها، بأن نتقمَّص عقلية العالِم العربي الذي وضعها؛ وهذه هي الطريقة الوحيدة لفهمها. ولذلك لم يفهم الغربيون العلوم العربية فهمًا تامًّا. ولقد قال أحد فلاسفة الصين: "لكي تفهم معنى الزهرة يجب أن تصير زهرة"! والآن سأتحدث عن الأمثلة المنطقية الرياضية التي استقيتها من قراءاتي للتراث، ودرستها من وجهة نظر حديثة، مبرهنًا بذلك على أسبقية العرب في تفكيرهم في مسائل رياضية أو منطقية هي من أسُس المنطق الرياضي الحديث: المثال الأول: هو متناقضة يحيى بن عدي التي مرَّ ذكرها. وقد بيَّنت في مقالي عن المتناقضات[15] عن علاقتها بمتناقضة الكاذب للفيلسوف اليوناني إبمنيدس وبمتناقضة الفيلسوف الإنكليزي برتراند راسل. أما متناقضة الكاذب فهي الرجل الذي يقول: "أنا أكذب دائمًا." فهو صادق إذا كذب وكاذب إذا صدق! وأما متناقضة برتراند راسل فهي متناقضة مجموعة المجموعات التي ليست عنصرًا من نفسها: فإن كانت عنصرًا من نفسها كمجموعة، فهي من المجموعات التي ليست عنصرًا من نفسها، فهي إذًا ليست عنصرًا من نفسها؛ وإن لم تكن عنصرًا من نفسها، فهي من المجموعات التي ليست عنصرًا من نفسها، فيجب أن تكون عنصرًا من نفسها لأنها تحوي تلك المجموعات حصرًا! أما متناقضة يحيى فتنشأ عن تعريفه علاقة بين شيئين (هي "العلاقة الفارغة" بلغة المنطق الحديث) إذا لم تكن بينهما علاقة من أيِّ نوع آخر؛ أي هي نفي لكلِّ العلاقات بين هذين الشيئين. فإن كانت هذه العلاقة قائمة بين الشيئين، فلا علاقة بينهما؛ وإن لم تكن بين هذين الشيئين أية علاقة فهذه العلاقة قائمة بين الشيئين، فلا علاقة بينهما؛ وإن لم تكن بين هذين الشيئين أية علاقة فهذه العلاقة الفارغة قائمة بينهما. أي أن هذه العلاقة الفارغة هي عنصر في مجموعة العلاقات بين الشيئين إذا لم تكن عنصرًا منها؛ والعكس صحيح. وهذه مشابهة لمتناقضة برتراند راسل التي صححتْ أسُسَها نظريةُ المجموعات والعلاقات في المنطق الرياضي. ولا يقف يحيى بن عدي عند ذكر هذه العلاقة؛ بل هو يعرِّف الأشياء بالصفات التي تتصف بها، ويعرِّف الصفات بالأشياء التي تنتمي إليها. ولقد استعملتُ هذا المبدأ الثنوي ومزجته بالهندسة الجبرية في صياغة رياضية لها تطبيقات في نظرية العلاقات الرياضية، كما لها تطبيقات في علمَي تمثيل المعرفة والتعرف على الأشكال؛ وهي من علوم الأنظمة المعلوماتية الحديثة والذكاء الصنعي. كما قادني البحث عينه إلى صياغة نظرية النماذج العامة وإلى تمثيل مفارقة أو متناقضة البرهان القياسي – كما سمَّيتُها. أما المثال الثاني: فهو "متناقضة اللانهاية" عند الكندي[16]. وضع الكندي نظام بديهيات، سمَّاها مقدمات أولية، لحساب الأعظام المتناهية، وطبَّقه على اللامتناهي. وإليكم بعض هذه البديهيات: 1. الأعظام التي ليس منها شيء أعظم من شيء متساوية؛ والمتساوية أبعاد ما بين نهايتها متساوية بالفعل والقوة. 2. ذو النهاية ليس ما لانهاية له. 3. كل الأجرام إذا زيد على واحد منها جرم كان أعظمها، وكان أعظم مما كان من قبل أن يُزاد عليه ذلك الجرم. وأهم هذه البديهيات هي البديهية التالية: كلُّ جرمين متناهيَي العظم، إذا جُمِعا كان الكائن عنهما متناهي العظم. وهذا واجب في كلِّ عظم وكلِّ ذي عظم. وأهمية البديهية الأخيرة تكمن في علاقتها بالاستقراء الرياضي، إلى جانب تصريحات أخرى في رسالته في نهائية ما لا يمكن أن يكون لا نهاية له وما الذي يقال لا نهاية له. وهناك أربع رسائل حول المتناقضة نفسها. والإبداع في عمل الكندي يكمن في أنه طبَّق منطق البديهيات لدراسة إمكانية وجود عظم لامتناهٍ. وهذا هو نفس الأسلوب الذي يضعه علماء المنطق الرياضي لدراسة عدم وجود تناقُض في كيان رياضي معين. أما برهان التناقض فقد حلَّلتُه في مقالي "متناقضة اللانهاية عند الكندي". وأخيرًا نأتي إلى الهندسة اللاإقليدية عند العرب: في مخطوط حيدرآباد المتضمن رسائل البيروني ورقة يورِد فيها البيروني ثلاثة أمثلة هندسية له وللكندي؛ ولقد درستها في مقالي "المتناقضات في الهندسة العربية"، وأشرت إلى أهميتها كمنشأ للفكر اللاإقليدي، وأعدت دراستها في مقالي "حدود الخطوط المقاربة واللانهايات قديمًا وحديثًا"[17] من منطلقات رياضية جديدة، موضحًا أهميتها كمنطلق لدراسة القُطوع الزائدة hyperbolas من جهة، وكمنشأ لفكرة النسبية التي ظهرت أيضًا عند الكندي في رسائله الفلسفية والتي تشير إلى اعتماد مفهوم الفراغ على مفهومي الحركة والزمن. كما أظهرت علاقة رسالة البيروني بأعمال أخرى للسجزي وابن الهيثم في مجال اللانهاية والاستمرارية والخطوط المقاربة. ملاحظتان: 1. عن نقض الغزالي للمبدأ الأول – مبدأ عدم التناقض – اقرأ كتاب في تراثنا العربي الإسلامي، د. توفيق الطويل، "عالم المعرفة" 87، ص 13. يمهِّد الغزالي لهذا النقض في كتابه تهافت الفلاسفة. أما عن نقض ابن خلدون للمبدأ الثاني – مبدأ الثالث المرفوع – فاقرأ منطق ابن خلدون، د. علي الوردي، ص 80-81. 2. نعني بذلك أن الحقائق المطلقة التي شغلت بال العلماء منذ القديم (كتركيب المادة وخصائص الزمان والمكان الأولية وغيرها من الأمور الطبيعية) مازالت مستعصية على المعرفة الإنسانية، على الرغم من الازدياد العظيم في معارفنا الجزئية أو النسبية التي كانت المسؤول الأول عن التطور الهائل في التكنولوجيا الغربية. ولا مجال هنا للتعريف بما نقصده بالتمييز بين المعرفتين الكلِّية المطلقة والجزئية النسبية؛ إذ إن هذا يخرج بنا عن موضوع البحث. *** *** *** تنضيد: نبيل سلامة * د. إبراهيم كرُّو: باحث من سورية، يهتم بالدراسات العلمية وتاريخ العلوم عند العرب. [1] رِشر، نيقولاس، تطور المنطق العربي، القاهرة، 1985. [2] راجع: كرُّو، إبراهيم، "المنطق الرياضي عند العرب"، مجلة الفيصل، العدد 40، ص 28-30. [3] Garro, Ibrahim, “Al-Kindi and Mathematical Logic,” in Proceedings of the First International Symposium for the History of Arabic Science, Aleppo, 1976. [4] Garro, Ibrahim, “Paradoxes in Arabic Geometry—An Archeology of Scientific Discovery,” in Logique et Analyse, 1981, vol. 24, pp. 351-379. [5] كرُّو، إبراهيم، "دور المتناقضات في تاريخ العلوم قديمًا وحديثًا" (ستنشَر في معابر في إصدار مقبل). [6] نرى هذا التقارب في المؤتمرات العالمية المستمرة الانعقاد إلى يومنا هذا، والتي تجمع بين المنطق والمنهجية. [7] كرُّو، إبراهيم، "علم المنهج ومنهج العلم عند العرب"، مجلة الفيصل، العدد 85، 1984، ص 67-69. [8] الكندي، يعقوب بن إسحق، رسائل الكندي الفلسفية، القاهرة، 1950. [9] كرُّو، إبراهيم، "الهندسة اللاإقليدية عند العرب"، مجلة الفيصل. [10] Garro, I., “Limits Asymptotes and Infinites, Old and New.” [11] راشد، رشدي، تاريخ الرياضيات العربية بين الجبر والحساب، بيروت، 1989. [12] Youschkevitch, A.P., “Notes sur les démonstrations infinitésimales chez Thabit ibn Qurra,” in Archives int. de l’histoire des sciences, 171, pp. 37-45, 1964. [13] تاريخ الرياضيات العربية، مرجع سابق. [14] نشر الفيلسوف الألماني شتاخوفياك بعض نتائج بحوثي في كتابه المرجع في البراغماتية، الجزء الخامس. [15] مرجع سابق. [16] Garro, Ibrahim, “The Paradox of the Infinite by al-Kindi,” in JHAS, 1994, vol. 10, pp. 111-118. [17] Garro, I., “Limits Asymptotes and Infinites, Old and New.” |
|
|