|
في الإنسان والمدينة 3 في الحرية
على دفاتري المدرسية على منضدتي وعلى الشجر على الرمل وعلى الثلج أكتب اسمك
على كلِّ الصفحات التي قرأت على كلِّ الصفحات البيضاء من حجر، أو دم، أو ورق، أو رماد أكتب اسمك...
بول إيلوار، من قصيدة "الحرية"
1 هل في وسع المرء يا ترى – إن أخذناه منفردًا و/أو ككائن مدني واجتماعي – العيش وفق إرادته الخاصة دون الخضوع لأيِّ مؤثر خارجي؟ الجواب بالنفي على هذا التساؤل – وهو ما قد يبدو، للوهلة الأولى، الجواب المنطقي الوحيد في حالنا – يحسم الموضوع من بدايته، فيقرِّر، بلا تردد، أن الإنسان في المدينة ليس حرًّا، وأن الحرِّية، في المطلق، محدودة جدًّا على أرض الواقع. لأن ثمة ضمن نطاق "المفهوم السياسي" للمدينة – ولا بدَّ أن نقرَّ بهذا – طيفًا واسعًا من المفاهيم التي يشملها مفهوم الحرِّية؛ وهو طيف يبتدئ بالمجال المباشر، أي المعيشي أو الفيزيائي، ويتضمن في، جملة ما يتضمن، حرية الضمير والتفكير والتعبير والمعتقد والدين إلخ، وما ينجم عن هذا كلِّه من ممارسات لكلِّ ما يفترض أن يشمله ذلك الطيف ضمن إطار قوانين المدينة وأنظمتها، أو لنقل، دون الخضوع لرقابة دولتها (و/أو مؤسَّساتها) – وذلك طبعًا، مادمنا نحترم هذه القوانين ونراعي تلك الأنظمة. من هذا المفهوم، الذي قد يعني "التمتع بـ" و"الاستفادة من" مؤسَّسات المدينة، كان المشرِّعون – ومازالوا – يتناقشون في (ويتعاملون مع) مفهوم الحرِّية. ولكن... 2 إنْ تناولنا الموضوع من منظور آخر – مع أنه قد يبدو، للوهلة الأولى، نظريًّا بعض الشيء – فإن الحرِّية، من منطلق "الإنسان الحكيم" الذي في وسعه تجاوُز الجهالة المحيطة والتحكم في مؤثراتها الانفعالية، قد تتجسد في مقدرته على التفكير والحكم والقرار والتصرف من منطلق ما يؤمن به من حقيقة، ووفق منطقها، محقِّقًا ما يتوافق مع أعماق طبيعته الإنسانية الخاصة. ويتحول مفهوم الحرية، هاهنا، إلى مفهوم إنساني ووجودي عميق – مما يستدعي منَّا التوقف قليلاً للتفكر في أبعاده... فنحن، هاهنا، أمام مفهوم إنساني أولاً. لأننا نجد أنفسنا، من خلاله، أمام حال ذاك الذي في وسعه تجاوُز تلك الجهالة المفترَضة، المتمثلة في مدينته وناسها ومستوى تطورها، كما هي على أرض الواقع. هو إنسان تحرَّر – روحيًّا وفكريًّا على الأقل – مما يعنيه هذا المنظور من اشتراطات: "خليقة" ethos تلك المدينة وناسها ونُظُمها وقوانينها. إنسان في وسعه الارتقاء بفكره وروحه إلى مستويات أعلى. مستويات لا حدود لها، قد تصل به، من خلال فكره وروحه، إلى حدٍّ يقارب المطلق الذي عاد في هذه الحال ممكنًا من جديد... وهذا ما يعطي الحرِّية، ثانيًا، منظورًا وجوديًّا فعلاً، فيجعل منها شرطًا أساسيًّا من شروط الوجود الإنساني وأحد مكوِّناته الرئيسة. وأفكر أن جان بول سارتر لم يكن مخطئًا تمامًا حين قال ذات يوم بأن "الإنسان محكوم بحريته". وأفكر أن الإنسان ليس محكومًا بحريته وحسب، بل أيضًا – وخاصة – مسؤول عنها وبسببها. ويا لها من مسؤولية عظيمة! 3 لقد وعى الفلاسفة والحكماء هذه المسؤولية منذ أقدم العصور. فها نحن، في بداية "العهد القديم" مثلاً، أمام ذلك الإنسان البدئي الذي أسكنتْه الألوهة (كما وَرَدَ في الأسطورة) في جنَّاتها، ثم منعتْه من تناوُل ثمرة شجرتها المحرَّمة التي وضعتْها أمامه "للتأمل"، فتركتْه حرًّا بأن يختار ويتصرف. وكان أن اختار الإنسان وتصرف كما كان مقدَّرًا له أن يفعل. وكانت تلك "الخطيئة الأصلية"، المنطقية جدًّا – وسبب شقائه، – أولى ثمار الحرية ونتيجتها المحتمة؛ إن لم نقل، كانت ذلك الطريق الصعب للإنسانية نحو المعرفة – الطريق الذي مازال مستمرًا إلى اليوم، وسيبقى إلى أبد الآبدين! فالحرية طريق محتَّم، يواجهه كلُّ إنسان منذ بداية تفتُّح وعيه. طريق يواجهه بينه وبين نفسه، أولاً وآخرًا، وفي قلب المدينة كفعل وكممارسة ثانيًا... لأنه لا معنى لهذه الحرية الإنسانية ما لم تتجسد أفعالاً ومواقف على أرض الواقع. لا معنى لها ما لم تنعكس ممارساتٍ في قلب المدينة تحديدًا. أي بين البشر. ولكن... 4 يبقى هناك دائمًا – وسيبقى هناك أبدًا – ما بقي الإنسان وبقيتْ من خلاله تلك التجمعات التي أوْجَدها، ما يبدو وكأنه تناقُض أو تعارُض بين الخاص والعام. تعارُض أو تناقُض بين ما يبدو وكأنه الإمكانات اللامحدودة للحرية ولآفاقها على الصعيد الشخصي – الفكري والروحي، – من جهة، وبين ما يحدُّها حين ينبغي أن تُمارَس كفعل على صعيد المدينة وفي قلبها، من جهة أخرى. فحرية الإنسان تتوقف أمام تلك الحدود التي تحدِّدها حريةُ الآخر أولاً؛ وحريتُه داخل المدينة تتوقف عند ذلك القاسم المشترك الذي تتطلَّبه شروطُ العيش في قلبها. وأستعيد هنا سيمون فايل التي، إذ تطرَّقتْ إلى الموضوع في بحثها حول "التجذُّر"، وضعتْ "الحرية" من حيث الأهمية، وكمفهوم فلسفي، بعد "النظام" الذي يأتي في المرتبة الأولى في قلب المدينة. لكنها وضعتْها قطعًا، من حيث الأهمية، قبل "الطاعة" وقبل "المسؤولية" – حيث قالت: غذاءٌ لا غنى عنه للنفس الإنسانية هي الحرية. فالحرية، بالمعنى العياني للكلمة، عبارة عن إمكانية الاختيار. وهي، بالطبع، عبارة عن إمكانية حقيقة. فحيثما توجد حياةٌ مشتركة، ثمة حتمًا حدود تفرضها المصلحة العامة تحد من الخيار. غير أن كبر الحرية أو صغرها لا يتوقف على ضيق حدودها أو عرضها. فشروط تحقق كمالها أصعب قياسًا. على القواعد [أي قوانين المدينة] أن تكون من المعقولية والبساطة بحيث يكون في وسع أيِّ شخص يرغب في ذلك، ويتمتع بملَكة انتباه عادية، أن يفهم الفائدة من هذه القواعد، من ناحية، والضرورات الفعلية التي فرضتْها، من ناحية ثانية. من هنا ينبغي لهذه القواعد أن تصدر عن سلطة لا يُنظَر إليها على أنها غريبة أو معادية، بل سلطة محبوبة، بوصفها تنتمي إلى هؤلاء القوم الذين تقودهم. كما يجب أن تكون [هذه القواعد] راسخة بما يكفي، وقليلة العدد نوعًا ما، وعامة، بحيث يتمكن الفكر من استيعابها استيعابًا نهائيًّا، لا أن يصطدم بها كلما اضطر إلى اتخاذ قرار. ضمن هذه الشروط، تبقى حرية الإنسان ذي النية الطيبة، وإن كانت محدودة في الوقائع، مطلقةً من حيث الضمير. فهذه القواعد، وقد أصبحت جزءًا لا يتجزأ من وجوده نفسه، تمنع الإمكانات الممنوعة من أن تخطر باله، فلا يحتاج حتى إلى دفعها عن نفسه. وبالمثل، فإن عادة عدم تناوُل الأطعمة المنفرة أو الخطرة التي تطبعها فيه التربيةُ، لا يستشعرها امرؤ سوي كحدٍّ من حدود حريته في مجال الغذاء. وحده الطفل يشعر بمثل هذه المحدودية. أما مَن تنقصهم النية الطيبة أو الباقون على قصورهم فهم ليسوا أحرارًا أبدًا، أيًّا كانت حال المجتمع. عندما تكون إمكانات الخيار من الوسع بحيث تسيء إلى المنفعة العامة فإن البشر يفقدون إمكانية التمتع بالحرية. إذ ذاك يضطرون إما إلى اللجوء إلى ملجأ اللامسؤولية، أو القصور، أو اللامبالاة – حيث لن يجدوا إلاَّ الملل – وإما يشعرون في كلِّ الظروف بوطأة مسؤولية الخوف من الإساءة للآخرين. في حالة كهذه، قد يصل الأمرُ بالبشر، إذ يظنون أنهم يمتلكون الحرِّية ويشعرون بأنهم لا يتمتعون بها، إلى قناعة مفادها أن الحرية ليست خيرًا. وتنبِّه سيمون فايل، حين تتعمق في الموضوع تعمقًا عمليًّا، فتتكلم على "حرية الرأي"، إلى ما يمكن لها أن تمثله من خطر على الإنسان وحريته وعلى المدينة تلك "التجمعاتُ" العقائدية أو "الدينية" المفترضة. وخاصة حين تبدأ هذه "التجمعات" بالحديث عن آرائها ومعتقداتها كـ"تجمعات" لها آراء ولها معتقدات: [...] لأنه حين يصير لتجمُّع ما آراءٌ [وأي تجمع هو في النهاية مجموع أشخاصه، ممثلاً بالنخبة التي تقوده] فإنه يميل حتمًا إلى فرضها على أعضائه. وعاجلاً أم آجلاً يجد الأفراد أنفسهم ممنوعين، إلى هذا الحدِّ أو ذاك من الصرامة، من التعبير، بخصوص عدد من المشكلات الهامة نوعًا ما، عن آراء معارِضة لآراء الجماعة، اللهم إلا أن يغادروها. غير أن قطيعة المرء مع جماعة هو عضو فيها تنجم عنها دومًا آلامٌ، أقلها العذاب العاطفي. [...] وتكون "الذروة المنطقية"، أو لنقل "النتيجة المحتمة"، لمثل هذا الأمر ما رأيناه خلال القرن الماضي، من خلال مُدُن "الحزب الواحد" و/أو "الفكر القائد" و/أو "الشريعة الواحدة" حتى، هو النتيجة الأسوأ مطلقًا على صعيد الإنسان، كفرد وكمدينة. لأن المدينة، باتت تتطلب، من خلال تطورها، أن يكون أبناؤها مواطنين فيها، وليسوا مجرد "رعايا" – مواطنين أحرار في التفكير والتعبير عن آرائهم، ومسؤولين، بالتالي، تجاه مدينتهم التي ينبغي عليهم أن يساهموا مساهمة فعالة في تسيير شؤونها. لأن المدينة، في النهاية، كما عبَّر عن ذلك تعبيرًا رائعًا جان جاك روسو في العقد الاجتماعي، ما هي إلا هذا التجمع الذي يضمن للإنسان الأمان، فيجبره على التخلِّي عن أنانيته ومصالحه الخاصة لصالح المصلحة العامة، لكنْ – وذلك هذا هو الأساس – شريطة أن يبقى حرَّ الضمير بالكامل. أي أن يكون مواطنًا ويبقى كذلك. نعم، مواطن بكلِّ ما في الكلمة من معنى، وليس مجرد فرد من رعية أو جماعة، تابع لهذا التوجُّه أو ذاك أو لهذا الملك أو السلطان أو ذاك. *** *** *** |
|
|