|
سلامٌ عليك أيُّها الشِّعر الجميل! ماء الياقوت وينام في الأيقونة
1. العالم الشعري عبد القادر الحصني رأى أن يتعمَّد بـ"ماء الياقوت" – والياقوت في بياض الطهارة والبراءة. ومن بعد هذا التعميد الطاهر المطهِّر، هل مِن عَجَبٍ أن يتحول إلى القداسة – ولو دون تطويب – كي "ينام في الأيقونة"! هذه بالضبط طريق الجلجلة الشعرية التي مشاها الحصني من ديوانه ماء الياقوت[1] إلى ديوانه ينام في الأيقونة[2].
الديوانان في حجم متساوٍ: ما يقرب من 110 صفحات من القطع المتوسط. وإذا كان الحصني قد أجرى تخطيطات أولية – كروكيات – لعالمه الشعري في ماء الياقوت، فهو قد أرسى هذا العالم–الرؤيا على أساس متين ونهائي في ينام في الأيقونة. ولا يمكن لنا في هذا المجال إلا أن نبارك راهبة الدير التي لم تقف له بباب المسجد – علمًا أنه لم يكن قد شمَّر للصلاة ثيابه! – لكنها مَلَكَتْ عليه عواطفَه وجوارحَه، ووضعتْه منذ الحساسيات الأولى – وفق شواهده النصِّية كلِّها – على طريق أقرب ما يكون إلى التصوف، وأعادتْه بذلك إلى نضارة الطفولة المبكرة وما فيها من حضور حسِّي كثيف ملون، ومن براءة القلب السليم المطلِّ في حماسة وصفاء على رهبة الكون الفاغر، بكلِّ ما فيه من رحابة مهولة. ونستعرض بدايةً بعض المقاطع من الديوانين: مذهلٌ هذا الرحيل: الصحارى سفرٌ أبدي إلى البحر والبحر موغل في الغابات. الغيوم هائمة على وجهها في الجبال الجبال تذوب حفنةً حفنةً وتنداح في السهول اليابسة تتفطَّر وتمضي قارةً إثر قارةٍ في الأقيانوس والأقيانوس يتناهى في أرخبيلات من ملح ورمل على كوكب صغير. مذهلٌ هذا الرحيل: فإلى أين أذهب أنا؟[3] ومن "قصيدة حب" في ينام في الأيقونة: للطالعة الآن كشمسٍ من فلك الأفلاك... صلاةْ لخطاها، تخلع خفَّيها الذهبيين وتمشي بالقدمين العاريتين على هدبيَّ... صلاةْ لمعارجها ومدارجها ومباهج ما تسحب من أذيال النورِ على شرفات الروح... صلاةْ ... ما أجمل عينيها! يا أزرق... يا أخضر أين نهايات البحر؟ وأين بدايات الغاباتْ؟ ما أحلى ضحك أساورها في معصمها! والأجراس القدوسة في أعلى أبراج كنيستها تهبط في قطراتٍ من حلمات الشَّمع على صمغ الأيقوناتْ ... أنت حبيبي أنت فصولي الأربعةْ، وأنت الطبقات الأعمق من معبد روحي، وكلامي اللامنطوقْ أصغي الآن إلى أشعاركَ فيَّ، وأدنو منك، وأدنو... أدنو... حتى يلتبس الخالقُ بالمخلوقْ ونقبس من ماء الياقوت هذه السطور الأخيرة: تراني استندتُ... انكسرتُ وحركت بُقيا قليل من الجمرِ ضائعةً في كثير من الرماد أم أني أمزج تاريخ أرضي بروحي وأخلط في نقطة بين معنى البقاء وبين النقاءْ وأنحاز طوعًا إلى ما تريد القصيدة من رعشة وغناءْ لهذي البلاد التي ينهد الله من قلبها يانعًا في الصباح، وينهدُّ في قلبها متعبًا في المساءْ[4] وفي الديوان نفسه، من قصيدة "ماء الياقوت" التي أعطت عنوانها للديوان بأكمله: ذات صباحٍ في صحن الدَّير بينا كانت راهبةٌ تعقد زنار الفجر – على عطفيها والناسُ نيامْ فرَّتْ من بين يديها أعمالُ الأيدي والأيامْ وانحلَّ قليلٌ من دفء الشمس الناعم في ماء الحوض الساكن... وعلى ورق التوتْ هوَّم زغبٌ ملكيٌّ فوق محارتها، واستيقظ ماء خليج دهري، فاض على أبهاء الملكوتْ نماذج قليلة، لكنها، على ندرتها، تضعنا في تماسٍ مباشر مع عالم الشاعر الذي تتجاوب فيه بعض المفردات دون انقطاع: "الملكوت"، "الله"، "الخالق"، "الروح"، "معبد"، "أجراس"، "قدوسة"، "أيقونات"، "صلاة"، "النور"، إلخ، تعبيرًا عن الصبوة إلى التسامي والارتقاء في معارج الصفاء الروحي. ومن بعدها: "الصحارى"، "البحر"، "كوكب"، أقيانوس"، "الغابات"، "شمس"، "فصول"، إلخ، كناية عن الرهبة في مواجهة الكون عبر صيرورة الزمان والمكان، تداخلاً أو تطورًا وتكاملاً.
عبد القادر الحصني وإذا نزلنا قليلاً في سلَّم الوجود والقلق الوجودي الممزِّق – والمطهِّر في الوقت نفسه – أصبحنا مع "البلاد"، بين ماضيها المجيد وحاضرها البائس: "الصباح اليانع"/"المساء المتعب"؛ ثم مع "أنا" الشاعر التي هي "بقايا جمرات تحت الرماد المتكاثف"! ألا فمن بقايا الجمر تولد القصيدة الحصنية، "من رعشة وغناء"؛ وإليها ينحاز الشاعر، لأنها معنى وجوده، مثلما هي حضوره الجمالي الخالد بين "البقاء والنقاء"، شعرًا يتفرَّد بأصالته المميزة، شأن كلِّ حالة إبداعية. وأنَّى تجولتَ في رحاب عالمه الشعري، من الغلاف للغلاف في الديوانين، تجد نفسك دائمًا أمام هذه الأركان: - النفَس التصوفي؛ - الرهبة الكونية؛ - الوطن الممزَّق؛ و - الأنا الضائعة بحثًا عن الذات والشعر والتسامي معًا. ويمكن لك أن تضيف إلى معالم الركن الأخير – "الأنا" – أنها إذا عانقت الحزن فهي أبعد ما تكون عن الكآبة؛ بل إن فيها حضورًا حسيًّا دافقًا، خاصة في حالة الحب، حيث "الزغب الملكي فوق المحارة"، وحيث "الخليج الدهري في أبهاء الملكوت يفيض فجأة بالماء"، وحيث، في قصيدة أخرى، "صمغ من قيامته يقوم"! فالحب طقس عبادة وخلق، حتى – بل خصوصًا – مع وجود النزعة التصوفية المتسامية. 2. الأداة الشعرية أداة كلِّ إبداع أدبي: كلمة. والكلمة أصوات تتناغم وتتجاوب، وتزداد غنًى في أيامنا هذه بحضورها المنظور على بياض الورق. وإذا كانت الكلمة في جميع أنواع الإبداع الأدبي تشف عن معانيها، فهي في الإبداع الشعري الشكلُ والمضمون، الدال والمدلول: إنها غاية الغايات؛ وحضورُها الكثيف، جرسًا وإيقاعًا، وشكلاً مرسومًا مع تطور الطباعة، هو شرطها الأول والأخير. فإلى الجحيم بكلِّ التأويلات والتفسيرات متى حضرت الكلمة ورسخت في كيان المتلقِّي حساسيةً وذائقةً جمالية. مَن يستطيع تلخيص لوحة؟ إنها حضور مادي عضوي، خطوطًا وألوانًا ومساحاتٍ تشكيلية. ومَن يقدر على نقل قصيدة بغير كلماتها الأصلية؟ منذ اللحظة التي يبدأ فيها الدارس العيني بشرح مطلق قصيدة، يكون قد تقمَّص جلد طبيب رمبرانت الذي يعطي درسًا في التشريح لطلابه؛ والتشريح – ومثله "الشرح"، والله أعلم! – لا يكون إلا لجثة، ولا يتم أصولاً إلا في مشرحة! ألا فإن الناقد الحق هو الذي يقول إعجابه ومحبته، وربما أحيانًا عتبه الودود؛ أي أنه ينقل تلقِّيه والانطباعات التي تمثَّلتْ في وجدانه. نعم، يتمتع الناقد – ربما – بالقدرة على استبطان ذلك التلقِّي عبر التحليل والقياس والمقارنة؛ فهو أقدر من القارئ العابر – على الأرجح – في هذا المجال، علمًا أن القارئ العابر هو الحَكَم الأول والأخير، مهما بلغ عجزُه عن فهم الانطباعات "الغامضة" التي تولدت لديه. ونحن، من جانبنا، نود الآن أن نقول تلقِّينا الأول لهذه المادة الشعرية. فقد حضرت في الوعي، بادئ الأمر، كلماتٌ جميلة، ملونة بجميع الأحاسيس النضرة: فهي المنظور، المسموع، الملموس، المتذوَّق، المشموم! إنها النضارة الأولى للأشياء والانطباعات والعواطف، المتقدمة على كلِّ تحليل عقلاني جاف. مثلاً؟ كل ما أوردناه سابقًا؛ وكل ما يمكن أن تقع عليه العين فهو تقليب الصفحات لا على التعيين في الديوانين معًا: مَن رسولي إلى شفاه الخزامى/ طاويات على الظمأ/ أنْ سلامًا يا خزامى/ والماء يعطش إذ ينقى/ ويأتيك واردًا يا خزامى...[5] وما كان كانَ/ وليس بوسعي أن أتذكر أكثر/ القلب أحمر/ والنفس زرقاءْ/ والعشق بينهما مائل للبنفسج/ والعقلُ: لا لون للعقل/ فهو يشف كمثل الإناءْ...[6] وسوف يعاني شتاتًا جديدًا/ فتيبس فوق ربابته راحتاه/ وتنشف في شفتي نايه شفتاه/ ويرشف خمرته/ فيحسُّ بطعمٍ مريرٍ...[7] هي نماذج أخذناها اعتباطًا، فما خذلتْ ما توهَّمناه من حضور كثيف لجميع الحواس: السمع، والنظر، والشم، والذوق، واللمس. وهو حضور حسِّي جميل بكلماته الموحية المنتقاة، حتى في غمرة الألم؛ وهذا ما يؤكد تفرُّد الحصني في هذا المجال، بما أعاد إلى الكلمة الشعرية، بالإضافة إلى التعبير والإيحاء، شكلَها الجميل، وجهَها الرائق الصافي، دون ديباجة إنشائية مطنطنة، وبعيدًا عن جميع أركان البلاغة المستحاثة. الشعر غايته الغوص حتى الأعماق، بما يهز كلَّ الكوامن الراقدة ويفجِّرها – هذا صحيح؛ ولكن من غاياته أيضًا – وهو ما يتناساه الكثيرون – توفير المتعة الجمالية. وهنا، يسد الحصني هذا النقص، ويأتي ليهزَّ وعي المتلقِّي ويثوِّره، إنما من بعد توفير التذوق الممتع. ونحن قد همس صوتٌ في الأعماق لدى المقاربة الأولى لشعره يهتف: "سلامٌ عليك أيها الشعر الجميل!"، فجعلنا هذا الهتاف عنوان دراستنا. فليغفر لنا القارئ بُعد العنوان عن "الوقار الأكاديمي"! على أن القصيدة الحصنية تعتمد في معماريتها، بالإضافة إلى فيض الأحاسيس المتجسدة في كلمات جميلة، على أركان رديفة يمكن لنا تبويبُها على التوالي: أ. وحدة الصورة الشعرية على امتداد القصيدة؛ ب. المنحى الأسطوري أحيانًا؛ ت. التضمينات أو التناص باستمرار؛ و ث. تأرجح الوجدان الشعري بين التراث والحداثة. فلنفصِّل ما قلناه بعض الشيء: أ. أما القصيدة الحصنية، فهي كالقصيدة الخضُّورية (نسبة إلى فايز خضُّور): لوحة متكاملة، دون الضياع في متاهة "التعبيرات المصورة" التي قد يخيل لبعض الشعراء أنها صور شعرية، وما هي، في أحوال كثيرة، إلا قسر تصويري. وتتمايز القصيدتان، الحصنية والخضُّورية، بلجوء الأولى إلى نضارة التعبيرات الحسية، بينما تعمد الثانية إلى الكلمات الذهنية والعاطفية المنقضَّة كطعن السكاكين. ب. وإذا كان خضُّور قد مضى بعيدًا في معركته الملحمية مع الشعر والوجود والوطن، فإن الحصني يقف عند التلقِّي الحسِّي الأسطوري للرموز الأولى في الوجود: فالماء عنده والشجر والشمس والتراب حضور لا ينتهي. والماء، تحديدًا، يحمل كلَّ مدلولاته الجنسية: "ماء الياقوت"، مثلاً، هو ماء الرجل؛ وكنَّا رأينا "ماء المرأة" في "خليج دهري". والتقاط هذه الرموز في ديوانيه قد يصلح مادة تعليمية للبرهان على نماذج كارل يونغ الأسطورية الأولى archetypes المعشِّشة في اللاوعي الجمعي. وهذا، في حدِّ ذاته، يستوجب دراسة مستقلة، غنية التنوع والإسقاطات والإشكالات. ت. وث. ولا ينتهي الحصني في قصائده من التضمين والتناص، لكن في خلق جديد، من بعد تمثُّلٍ شديد الخصوصية. ويمكن لنا قراءة هذه الحالة من خلال التأرجُح الإبداعي بين المدَّخر التراثي الكامن في أعماق اللاوعي وبين النزوع الواعي؛ وهو لدى الحصني نزوع راسخ إلى الحداثة بفعل موقف فكري وجمالي اختياري، بالإضافة إلى القراءات الكثيرة في هذا الميدان. وربما كان ألصقها بالخصوصية الحصنية عبد الباسط الصوفي، من طرف، يقابله فايز خضور، من طرف آخر، مع ظلال لا شبهة فيها من مؤثرات الراحل محمد عمران. هذا التأرجُح في عفوية وصدق مع النفس ميلاً إلى القديم حينًا، وإلى الحديث حينًا، وإلى الإبداع الأصيل دائمًا، هو ما يجعل الحصني، دون أدنى تناقُض، ينتج القصيدتين: العمودية والمرسَلة، على حدٍّ سواء، وصولاً إلى إنتاج "معلَّقته" الحديثة في ديوان ماء الياقوت تحت عنوان: "طاغوت القصيدة". أجل، صوت الإبداع الداخلي "طاغوت" وضغوط دفينة لا يمكن مقاومتها! على أية حال، فهذه المعلَّقة الحصنية تستوجب وقفة متأنية ودراسة تفصيلية على حدة. كلمات قليلة في تجوالنا على عالم الحصني وأدواته داخل محراب الشعر الجميل. إنها الخطوط العريضة والأطُر الجمالية التي لا غنى عنها، قبل الولوج إلى خبايا جميع التفاصيل والجزئيات – وما أكثرها في هذين العملين المتميزين والمتمايزين بكلِّ أصالة داخل حركة الشعر السوري الحديث. وإلى أن نعود إلى تلك التفاصيل الغنية، نكون قد وقفنا على الأعتاب، وأجَلْنا نظراتِ الدهشة والإعجاب – وهذا أضعف الإيمان! *** *** *** [1] صدر في طبعته الأولى في العام 1994 عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، عمان، وفي طبعته الثانية في العام 1998 عن مركز الإنماء الحضاري، حلب. [2] صدر في العام 2000 عن دار الكنوز الأدبية، بيروت. [3] فاتحة ينام في الأيقونة. [4] من قصيدة "لها كل هذا الغناء". [5] ماء الياقوت، ص 71. [6] ينام في الأيقونة، ص 70؛ إشارة إلى قول ابن عربي: "لون الماء من لون الإناء." [7] ينام في الأيقونة، 81. |
|
|