حكمة غير شائعة*

سمير كوسا

ذاع صيت الفيزيائي فريتيوف كابرا بعد نشر كتابه الأول طاو الفيزياء. وقد قارن في هذا الكتاب الرؤية الجديدة للطبيعة التي تنبثق عن نظريات الفيزياء الحديثة، كالفيزياء الكوانتية والفيزياء النسبية ومشتقاتهما، مع الرؤية التي تنبثق عن الفلسفات الشرقية، كالهندوسية والبوذية والطاوية إلخ. واستنتج كابرا أن الرؤيتين تتفقان على أن الطبيعة كلٌّ واحد حيوي وذكي.

غلاف طاو الفيزياء

كان هذا الكتاب، على الرغم من أنه لم يكن الأول من نوعه، أحد المؤثرات في ولادة تيار فلسفي واجتماعي نشيط ما فتئ يترسَّخ يومًا بعد يوم، وإن لم يكن دائمًا على الصورة الصحيحة. فقد بُسِّطَتْ أفكارُ كابرا وغيره من الروَّاد وحُرِّفَ معناها الأصلي، فصار كتاب كابرا يعني لدى غالبية ساحقة: الفيزياء برهنت على التصوف! – في حين أن مقارنة كابرا اقتصرت على رؤية التصوف الشرقي للمادة.

استمر كابرا في نشاطه الفكري، ساعيًا لتطبيق منظور الفيزياء الحديث على بقية العلوم الإنسانية والصحيحة. لكنه سرعان ما استنتج أن مسعاه ليس صحيحًا تمامًا. فلماذا على بقية العلوم أن تقلِّد الفيزياء؟ أو أن تأخذ منها نموذجًا مثاليًّا؟ اكتشف كابرا مفهومًا أشمل من محاولته الأولى، ألا وهو نظرية المنظومات Systems Theory.

يدرس علم المنظومات الكلِّيات، ويعتبر أن الكلَّ يساوي أكثر من مجموع أجزائه. فمثلاً، إذا جمعنا الخواص الفردية للخلايا العصبية لما حصلنا على المخِّ بخواصه المعروفة. بعبارة أخرى، لا يمكن لنا أن نفسر المخ من خلال خواص الخلايا المركِّبة له. وذلكم هو الواقع في الأجسام الحية كافة. ويشتمل هذا العلم على عدة مبادئ أهمها: التنظيم الذاتي auto-organization – وهو قدرة منظومة على أن تنظِّم ذاتها بذاتها، والتجاوز الذاتي self-transcendence – وهو قدرة منظومة على التطور والانتقال إلى مرحلة أعلى.

فريتيوف كابرا

استنتج كابرا من خلال بحثه أن الأزمة التي شهدتْها الفيزياء لا تنحصر فيها. فهذه الأزمة الوجودية والتصورية تعمُّ بقية العلوم، وخاصة حياتنا الاجتماعية التي تغرق في المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. ويرى كابرا أن السبب الرئيسي لهذه الأزمات ينتج عن إهمال الكلِّ لصالح رؤية فردية اختزالية للأشياء.

وقد جعل كابرا من علم المنظومات محور ثورة تصورية جديدة تشمل كلَّ العلوم، من فيزياء، وبيولوجيا، وطب، واقتصاد، وسياسة، إلخ، عمل على صياغتها في كتاب رائع صدر في العام 1981 بعنوان المنعطف. حاول كابرا في هذا الكتاب منح الحركات البيئية، والنسائية، وحركات حقوق الإنسان، وحركات الطب البديل، إلخ، قاعدة تصورية متماسكة، تُبيِّن النقاط المشتركة لهذه الحركات ووحدتها العميقة وموقعها في الحركة الفكرية والعلمية والاجتماعية.

غلاف المنعطف

وفي كتابه حكمة غير شائعة، يسترد كابرا تطوره الفكري الذي قاده من بحثه الأول إلى تأسيس معهد إلموود الذي يدعم الحركات السابقة، ثم لاحقًا مركز للتوعية الإيكولوجية. وإن كان هذا الكتاب لا يحتوي على أفكار جديدة كسابقيه، فإن المؤلِّف ينشر الكثير من محادثاته مع بعض كبار علماء عصرنا ومفكِّريه ممَّن ساهموا في بَلْوَرَة أفكاره وتطورها ويعلِّق عليها.

غلاف حكمة غير شائعة

ويجد القارئ محادثات شيقة وهامة: حول الفيزياء والتصور الجديد للطبيعة مع ف. هايزنبرغ (أحد عمالقة القرن العشرين) وجفري شو؛ حول التطور الداخلي مع الفيلسوف والحكيم ج. كريشنامورتي؛ حول علم النفس والطبِّ النفسي مع ستانيسلاف غروف ورونالد لنغ؛ حول الرؤيا المنظومية والأنثروبولوجية مع غريغوري بتسون؛ حول الطبِّ البديل مع كارل سايمونتون ومارغريت لوك؛ حول الاقتصاد البديل مع شوماخر وهيزل هندرسون؛ إضافة إلى أحاديث أخرى، كتلك التي جمعت اختصاصيين مختلفين حول الطب والعلاج، إضافة إلى لقاء مع إنديرا غاندي.

إنه لكتاب شائق مليء بالأفكار المنيرة، ويهم، في رأيي – نظرًا لشموليَّته – كلَّ قارئ.

*** *** ***