|
التأويل بين السِّيميائيات والتفكيكية*
عَرَفَ القارئُ العربي أُمبرتو إيكو كروائي أولاً من خلال ترجمة روايته الشهيرة اسم الوردة. لكن إيكو الناقد لم يُعرَف إلا في مرحلة لاحقة، نظرًا لتأخر ترجمة أعماله النقدية إلى العربية، على الرغم من المساهمة الهامة التي قدَّمها في مجاله نظرية التأويل والدراسات السيميولوجية. وفي محاولة للتعريف بمساهمات إيكو النقدية، قام المترجم سعيد بنكراد بترجمة كتابه التأويل بين السيميائيات والتفكيكية، كما وَضَعَ مقدمةً تعرِّف بجذوره الفكرية والمصادر أو المرجعيات التي استند إليها في صياغة مفهومات التأويل وقضاياه التي يقدِّمها في هذا الكتاب، مما يشكِّل إضاءة هامة لخلفيات إيكو النقدية والمعرفية ولعناصر هذه القضية التي يناقشها ويكشف عنها في هذا الكتاب.
تعود جذور إيكو الفكرية في أصولها الأولى والأساسية إلى السيميائي الأمريكي تشارلز سندرز بيرس (وليس بورس، كما أوْرَدَ المترجم)، خاصة فيما يتعلق بسيرورة إنتاج الدلالة واشتغال العلامات. والتأويل لديه قد يتطلب المضيَّ إلى حدوده القصوى، أو قد نحيطه بمجموعة من الحواجز والقيود لأننا نرى فيها دليلاً على فهم ما تريد العلامة أن تقوله؛ وفي كلا الحالتين فإن الذي يبقى ثابتًا هو أهمية التأويل وضرورته. ويركز إيكو في صياغته لقضايا التأويل على معطيات تطبيقية تنتمي إلى التفكيكية، أو التأويل المضاعف، وإلى الـsemiosis التأويلية، كما يسمِّيها هو. ويمثل التأويل لديه صياغاتٍ جديدة لقضايا فلسفية ومعرفية قديمة جدًّا. كما أن الاعتدال في التأويل أو التطرف لا يتم تفسيرهما على أساس ما يقوله النص، أو حوله؛ إذ يجب البحث فيما هو أعم وأشمل عبر العودة إلى وقائع لها علاقة بموقف الإنسان من العالم، والله، والحقيقة، والمعرفة، وتاريخ الحضارات والثقافات. لكن إيكو يقف عند حالتين من التأويل: الحالة الأولى يكون فيها التأويل محكومًا بمرجعياته وحدوده وقوانينه الضابطة، حيث تحيل كلُّ علامة إلى أخرى، وفق مبدأ المتَّصَل الذي يحكم الكون الإنساني؛ وهنا تتحكم بالتأويل فرضياتٌ خاصة بالقراءة. أما الحالة الثانية فـ"يدخل التأويلُ فيها متاهاتٍ لا تحكمها أيةُ غاية" (ص11)، لأن النص يبقى عبارة عن مرجعيات متداخلة، تعمل على إدراج التأويل داخل المسيرات الدلالية الممكنة كلِّها، وضمن السياقات كلِّها. والتأويل هنا لا يسعى إلى غاية محددة، لأن الغاية تبقى هي الإحالات ذاتها. ويندرج هذا التأويل في إطار الفلسفة والتاريخ والسياسة؛ وكذلك التأويل الثاني. لكن التأويل الأول يُرَدُّ إلى أصول حضارية، يتداخل فيها السياسيُّ مع المنطق والتاريخ؛ إذ إن الحدود هي أصل البناء. في الفصل الأول يدرس إيكو العلاقة بين التأويل والتاريخ، فيذكر أن أول مَن تنبأ بزمن القارئ هو كاسيتيه في العام 1975، في كتابه زمن القارئ. وكان إيكو في العام 1962 قد أصدر كتابه العمل المفتوح، دافع فيه عن الدور الفعَّال للمؤوِّل في قراءة النصوص ذات الطبيعة الجمالية. وبعد أن يتحدث عن مفهوم الـsemiosis الذي طرحه، يدرس علاقة التأويل اللامحدود بالهرمسية، التي انطلقت من أن جميع الكتب تحتوي على جزئية بسيطة من الحقيقة؛ ولذلك، فإن كلَّ كتاب يثبت ما يقوله الآخر، وجميع الكتب تقول الحقيقة، حتى لو أدى ذلك إلى تناقُضها. فالكلمة في الأساس هي إيحاء أو مجاز، والمعرفة السرَّانية هي معرفة عميقة. إن التأويل في الهرمسية غير محدود، في حين أن الغنوصية تذهب إلى أن اللغة هي التي تتحدث بالنيابة عن الكاتب؛ وعليه فإن الكاتب لا يعرف ما يقوله، وعلى القارئ أن يتخيل أن كلَّ سطر يخفي دلالة ما. التأويل المضاعف للنصوص يؤكد إيكو أنه ليست هناك قاعدة يمكن على أساسها أن نحدد التأويل الجيد. إلا أن ما يجب القيام به للكشف عن التناظر الدلالي هو النظر في ثيمة الخطاب؛ وعند إدراك هذه الثيمة، فإن التعرف إلى تناظر دلالي سيكون هو الدليل النصِّي على "الغاية" الفعلية للخطاب. وتحديد مضمون الخطاب يشكِّل موقفًا تأويليًّا له. ويضيف إيكو: "إن التعرف إلى قصدية النصِّ هو التعرف إلى استراتيجية سيميائية." (ص 78) يقوم التعرف إلى قصدية النص على إخضاع هذه القصدية لسلطة النصِّ باعتباره كلاً منسجمًا. وفيما يخص وضع المؤلِّف، الذي عملت البنيويةُ على استبعاده كليًّا عند دراسة النص، يؤكد إيكو أن القيام بهذا الأمر فظيع، باعتبار "الكاتب المسكين" لا موقع له داخل تاريخ التأويل، لأن هناك حالات لسيرورة الإبلاغ يصبح فيها التعرفُ إلى نوايا الكاتب أمرًا في غاية الأهمية، كما هو الأمر في عملية التواصل اليومي. من هنا تكون دراسة العلاقة بين المؤلِّف والنص أمرًا في غاية الأهمية على صعيد ممارسة التأويل؛ إذ إن المؤلِّف عندما يكتب نصًّا لعدد كبير من القراء فإنه يدرك أن هذا النص لن يؤوَّل وفقًا لرغباته، بل على أساس استراتيجية معقدة من التفاعلات التي تستوعب القراء "بمؤهلاتهم اللسانية، باعتبارها موروثًا اجتماعيًّا" (ص 86). والإرث الاجتماعي لا يحيل على لغة بعينها، باعتبارها نسقًا من القواعد وحسب، بل هي تشمل الموسوعة العامة التي أنتجها الاستعمالُ الخاص لهذه اللغة، أي المواصفات الثقافية التي أنتجتْها اللغة، وتاريخ التأويلات السابقة. وعليه، فإن فعل القراءة هو تفاعُل مركَّب بين أهلية القارئ وبين الأهلية التي يستدعيها النص لكي يُقرأ قراءةً اقتصادية. إن قصدية شفافة توجد بين قصدية الكاتب الصعبة الإدراك وقصدية القارئ؛ وهي قصدية تدحض أيَّ تأويل مدهش. ويقدِّم إيكو هنا أمثلة من تجربته الروائية وموقع التأويل المختلف والمفاجئ الذي كان يقدِّمه قرَّاؤه لهذه الروايات وشخصياتها وأحداثها. ويرى إيكو أنه بين خفايا التاريخ الخاص بإنتاج نصٍّ ما وبين متاهات قراءاته المقبلة يمثل النص، في حدِّ ذاته، حضورًا مكثفًا للمؤلِّف. التأويل بين بيرس ودريدا يناقش إيكو تاريخ التأويل الذي يتمثَّل بتيارين: الأول بينهما عُنِيَ بالكشف عن الدلالة التي أرادها المؤلِّف، أو بالكشف عن طابعها الموضوعي، بعيدًا عن فعل التأويل؛ أما الثاني فينطلق من كون النصِّ يحتمل كلَّ تأويل. وهو يرى أن هذين المثالين يؤكدان التعصب الإبستمولوجي. وبعد أن يتحدث عن المتاهة الهرمسية التي تتميز بقدرتها على الانتقال من مدلول إلى آخر دون ضابط أو رقيب، يتناول سيميائيات بيرس التي تقوم على مبدأ العلامة التي تفيد معرفتُها معرفة شيء آخر، لأن العلامة تحتوي على مجمل مكوِّناتها الأكثر قِدَمًا؛ وهذه المكونات هي مجرد احتمال semiosis في سياق محدد. فالتأويل سيرورة تنتهي في مرحلة ما إلى إنتاج معرفة خاصة، أرقى من المعرفة التي شكَّلتْ نقطة انطلاق هذه السيرورة. إن النص لدى دريدا هو آلةٌ تنتج سلسلة من الإحالات اللامتناهية. ويؤكد إيكو أن دريدا سعى إلى تأسيس ممارسة فلسفية أكثر منها نقدية. ولعل دريدا أراد، من خلال الحديث عن السلسلة اللامتناهية للإحالات التي يقوم بها النص، البرهنة على سلطة اللغة ذات القدرة على القول أكثر مما تدل عليه ألفاظُها مباشرة. وعلى مستوى تأويل الاستعارة، يناقش إيكو قضيتي التوليد والتأويل، ويرى أنه بقدر ما يكون الابتكار الاستعاري أصيلاً يؤدي إلى خَرْقِ العادات البلاغية السابقة: "فمن العسير ابتكار استعارة جديدة استنادًا إلى قواعد معروفة." (ص 145) فالمؤوِّل النموذجي للاستعارة هو الذي ينطلق من موقع الذي يسمعها لأول مرة؛ كما أن التعامل مع الاستعارة يجب أن ينطلق مما يمكن الاصطلاح على تسميته بـ"درجة صفر اللغة" (ر. بارت)، ويؤكد أنه للوصول إلى نتيجة تأويلية يجب تنشيط خاصية أو خاصيتين من بين الأكثر تمثيلية، وإقصاء ما تبقى. ويتحدد معنى الاستعارة في تصور عدة عوالم ممكنة. من جهة ثانية، فإن الاستعارة لا تتعلق بالمرجع الواقعي، ولا بالكون المعياري للعوالم الممكنة؛ في حين أن هناك مَن يرى أن لها علاقة بتجربتنا الداخلية وبسيرورة انفعالاتنا. وعلى صعيد مفهوم سوريل للاستعارة، فإن الأخيرة لا ترتبط بمعنى الجملة، بل بمعنى المتكلِّم، لأن تأويل الاستعارة مرتبط بقرار صادر عن قصدية المتكلِّم، والتأويل الاستعاري ينبثق من التفاعل بين المؤوِّل والنص؛ لكن نتيجة التأويل تفرضها طبيعةُ النصِّ والإطار العام للمعارف الموسوعية لثقافة ما. ويضيف المترجم في نهاية الكتاب فصلاً بعنوان "دفاعًا عن التأويل المضاعف" بقلم جوناثان كالر، يثني فيه كالر على مفهوم الـsemiosis، أو "التأويلات القصوى" عند إيكو، انطلاقًا من تأكيده على أن هذه التأويلات هي التي يجب أن تحظى بالاهتمام لأنها تملك القدرة على الكشف عن العلاقات والترابُطات التي لم يتم الكشف عنها من قبلُ أو التي لم يُفَكَّر فيها. والتأويل المضاعف عنده هو إعادة بناء قصدية النص. فإيكو في هذا المنهج، كما يرى كالر، يسعى للتعرف إلى "السُّنَن والميكانيزمات المنتجة للدلالة داخل مناطق متعددة من الحياة الاجتماعية" (ص 181). لكن كالر ينتقد موقفي إيكو ورورتي من التفكيكية؛ إذ يراها الأول تتحدد على دلالة النص، على ما يود القارئ أن يدل عليه، في حين أن رورتي يؤكد أن النصَّ يحتوي على بنيات يجب الكشف عنها. أما التفكيكية فتربط الدلالة بالسياق، أي أنها نتاج علاقات داخل النص، أو بين النصوص؛ أما السياق فيظل غير محدود. *** *** *** * أمبرتو إيكو، التأويل بين السيميائيات والتفكيكية، بترجمة سعيد بنكراد، منشورات المركز الثقافي العربي، بيروت والدار البيضاء، 2000. |
|
|