وراء التَّاريخ، تحت المستقبل

 

أدونيس

 

1

ربَّما سيُقالُ في المستقبل عن التَّاريخ الرَّاهن الذي تكتبه، على الأخص، السِّياسةُ الأمريكية، وتشارك فيه السِّياسَةُ العربيَّة والسِّياسةُ الإسرائيليَّة بنصيبٍ كبير، إنَّه ليس إلاَّ بلاغةً تُعمِّمها وسائلُ الإعلام الكثيرة المتنوِّعة للتوكيد على أمرين:

1.    العالم سلعةٌ.

2.    السِّياسة – لغةً – هي فنُّ التَّسْليع.

2

إذا كانت الولايات المتَّحدة تشطر العالم، اليوم، شَطْرين: معها وضِدَّها، فإنها تمزِّق العربَ أشْتاتًا، فيما توجِّه أعمالَهم وأفكارَهم إلى درجةٍ تبدو معها كأنَّها مقيمة في "البيت العربي". وهي إقامَةٌ تُقيم حاجزًا ضَخْمًا بين الأنظمة والشعوب.

3

سألني مرَّةً أحدُ الأصدقاء الأمريكيين من مثقَّفي اليسار سؤالين لم أجب عنهما، أطرحهما بدوري على الوعي العربي:

1.    لماذا يبدو الحكَّام العرب، في تعاملهم مع الولايات المتَّحدة، كأنَّهم رؤساء شركاتٍ لا رؤساء بلدان؟

2.    لماذا يبدون كأنَّهم قادة أحزابٍ وقبائل، لا قادة شعوبٍ تمتلك تراثًا حضاريًّا عظيمًا؟

4

صحيحٌ أنَّ الولايات المتَّحدة تكاد أن تصبحَ اليوم، بقوَّتها الماديَّة والثقافيَّة، إمبراطوريَّةً ترسم حدودَها كما تشاء، وتحوِّل هيمنتَها إلى نَوْعٍ من الحق.

صحيحٌ أن مقاومةَ مثلِ هذه الهيمنة الإمبراطورية ليست بالأمْر السَّهل، خصوصًا في الحالة العربيَّة–الإسلاميَّة التي تفتقد النَّواة الصَّلبة في هذه المقاومة: الوحدة الكاملة بين الأنظمة وشعوبها. فهذه الحالة تنهض على "وحدةٍ" من نوع آخر: وحدة السُّلطة والقوَّة العسكريَّة القامعة. وهي نفسها "الوحدة" التي تجعل من البلدان العربيَّة–الإسلاميَّة فرائسَ سهلةً جدًّا للهيمنة الأمريكية. وهي نفسها "الوحدة" التي تلغي علاقات الحوار الحقيقي والنِّدِّية بين الولايات المتحدة والبلدان العربيَّة–الإسلاميَّة، وتُحِلُّ محلَّها علاقات السيِّد والمَسود، الآمر والطَّائع، المهدِّد والخاضع.

و"طبيعيٌّ"، إذًا، أن تفرض الولايات المتحدة سياستَها (العسكريَّة والاقتصاديَّة والثقافيَّة) على البلدان العربيَّة–الإسلاميَّة، وأن تمارسَ هذا "الفَرْضَ" دون أيَّة مقاومة. كأن هذه البلدان مجرَّدُ "ضَواحٍ" و"أكواخٍ" حول العاصمة الأمريكيَّة.

5

المشكلة في هذا الإطار ليست في: "كيف تتحرَّر البلدان العربيَّة–الإسلاميَّة من الهيمنة الأمريكيَّة" بقدر ما هي في: "كيف يتحرَّر بعضُ العرب والمسلمين من "عبادة" السُّلطة، ويقتنعون بأنها لا تؤخذ بقوة العسكر والمال، بل بقوَّة الشعب، وبأنها، تبعًا لذلك، ليست امتيازًا، بل مسؤولية"؟

ذلك أنَّ "الكيف" الأول مرهونٌ بهذا "الكيف" الثَّاني.

6

ربما يجب علينا، أحيانًا، أن نسألَ أسئلةً بسيطةً، أوَّليةً، وساذَجة:

هل يستحقُّ الوصولُ إلى السُّلطة أو البقاءُ فيها، أيًّا كانت "عظمتُها" أو كان "سِحْرُها"، الثَّمنَ الذي يدفعه العربُ والمسلمون: التخلُّف، التفكُّك، الانهيار؟

ولقد اخْتُبرتِ السُّلطةُ – وبخاصَّة "الثورية" – في النصف الثاني من القرن المنصرم. وهو اختبارٌ يؤكِّد أن العرب ازدادوا انهيارًا على جميع المستويات، وأنَّ أصحاب السُّلطة بينهم ازدادوا، بالمقابل، تمسُّكًا بها – على جميع المستويات أيضًا.

لماذا؟

هل يعكس موقفُ "عُبَّاد" السُّلطة هؤلاء "تقليدًا" دينيًّا–ثقافيًّا؟ – تقليدًا لا يعترف إلا بما هو "قائمٌ"، "موروثٌ" و"خاصٌّ" بفئةٍ دون أخرى؟

هل يُلغي من دائرة اهتمامه وفكره معانيَ تنطوي عليها كلماتٌ كمثل: الشعب، الوطن، الدِّيموقراطية، الحريَّة، العدالة، الفكر، الفن، إلخ؟

هل يرى أصحابُ هذا الموقف أنَّ العمل الإنساني من أجل الممكن إخلالٌ بالخضوع إلى مشيئة الله الواقعة؟ أو أنَّ البحثَ عن الممكن جريمةٌ في حَقِّ الواقع، وأنَّ المطالبة بتغيير السُّلطة هي، تبعًا لذلك، شكلٌ من أشكال الجريمة؟

هل يرون أنَّ كتابةَ الممكن مَحْوٌ لكتابة الواقع، وأنَّ أخطاء الحاضر أهون من الوقوع في مغامرة البحث عن المستقبل؟

أم ترانا، جميعًا، لا نريد أن نعرف، ولا أن نتعرَّف، ولا أن نعترف؟ وإنما نريد أن نرفع "تاريخَنا" بيتًا ضَخْمًا وأن نجلس فيه – ندَّخِرُ، ونلهو، ونتذكَّر.

7

أضيف إلى هذا كلِّه أن هذه "العُقدة السُّلطوية" الخاصَّة بالعرب تحوِّلهم إلى أدواتٍ يَلتهم بعضُها بعضًا، ويُلغي بعضُها بعضًا. وتحوِّل ثقافتَهم إلى لَغْوٍ في الثَّناء والهجاء. وتحوِّل كتاباتهم إلى "مجازرَ" فيما بينهم – "لغويةٍ" حينًا، و"دمويَّةٍ" حينًا آخر.

وفي ذلك، يتحوَّلون موضوعيًّا (من حيث إنهم يشلُّون قُدراتِهم هم بنفسهم) إلى أدواتٍ "تقوِّي" الولايات المتَّحدة في فَرْضِ إرادتها عليهم، عندما تشاء، وفقًا لما تشاء، و"تُضعِف" القوى العالمية التي تناهض الهيمنةَ الأمريكيَّة.

اللاَّحرية، اللاَّديموقراطيَّة، اللاَّإنسانيَّة، اللاَّإبداعيَّة – هذه كلُّها حليفٌ موضوعي لهذه الهيمنة. وهي اسمٌ آخر للطغيان ولواحديَّة الفِكر والرَّأي، ولازْدراءِ الإنسان وحقوقه.

هكذا سيقال، تاريخيًّا، إن العربَ دعموا الولايات المتحدة في إقامة إمبراطوريَّتها العدوانية، الفارغة إلاَّ من المال والسِّلاح؛ وفي إقامة حدودٍ جديدةٍ بين البشر: حدود "الخير" و"الشرِّ"، حدود "الدِّين" و"السَّماء"؛ وفي تحوُّل الولايات المتحدة إلى نقطةٍ مركزيةٍ كونيَّةٍ جاذبة؛ وفي النَّظر إلى الاستعمار بوصفه "مُحرِّرًا" و"حاميًا".

8

هل الفكر الذي لا هدفَ له غير أن يبدع أساليبَ الهيمنة، وطُرُقَها، ووسائلها التقنيَّة–العسكريَّة، هو فكرٌ حَقًّا؟

سؤالٌ أطرحه على المفكِّرين الأمريكيين.

9

-       ما النَّتيجة، إذًا، أو ما الغاية من سياسة الولايات المتحدة – بالنسبة إلى العرب؟

-       هي أن يظلَّ العرب "وراء" التَّاريخ، و"تحت" المستقبل.

10

تخلق الولايات المُتَّحدة، بسياستها الإمبراطوريَّة، لكلِّ مفكِّرٍ حرٍّ في العالم، عذابًا يتخطَّى شخصَه، ويتجاوز عواطفَه الخاصَّة وآلامَه الخاصَّة.

تخلق عذابًا حضاريًّا.

تخلق عذابًا على مستوى الإنسان والكون.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود