|
الحرية
والقومية جئت
مجذوبًا إلى كلمة "حرية"...*
قلت
أمس إنني جئت إلى هذه الحلقة لأنها تتعلق
بالحرية – وهي أسمى هدف للمرء في حياته، لأن
الحياة، في نظري، انغلاق فانطلاق: تنغلق
الحياة في البيضة، لتنطلق منها نسرًا أو
هزارًا؛ وتنغلق في البذرة، لتنطلق زهرة أو
عشبة أو شجرة أرز؛ وتنغلق في الرَّحِم،
لتنطلق إنسانًا أو فيلاً أو خلدًا... وفي كلِّ
حال، إنه انغلاق فانطلاق. فإذا عرفنا أن وراء
الانغلاق والانطلاق نظامًا شاملاً، وَجَبَ
علينا أن ندرس ما وراء هذا الانغلاق
والانطلاق. ولست أجهل بأن هنالك مَن يقول
أنْ ليس هناك نظام من هذا النوع، وهناك مَن
يقول بأن وراء كلِّ نظام منظِّمًا. هناك
عالمان: عالم مصادفات، وعالم كلُّه نظام. إذا
اخترتم الأول فأنا لست منكم؛ أما إذا كان
هنالك نظام ومنظِّم أصبح لحياتي وحياتكم قيمة
تتعدَّى كلَّ المعاني. ولولا هذا النظام لما
انطلق الطير من البيض، والنبات من البذرة،
ولانتهت الحياة من زمان. إذًا هنالك هدف بعد الموت؛
وأستطيع أن أستنبطه من نفسي، وفي نفسي. خذوا،
مثلاً، الأشواق التي تسيطر علينا: هناك جوع
مادي وجوع روحي؛ ولو أن غاية الجوع أن يؤدي
بنا إلى الموت لما كنَّا نأكل. إننا نأكل
طمعًا في الحياة، لا حبًّا بالموت. لو كان
الموت هدف الحياة لكان على الحياة أن تنتهي من
زمان. وإذا متنا فنحن ننام، لنعود فننطلق إلى
الحياة من جديد. لقد وجد الإنسان نفسه منغلقًا
ضمن جسد من لحم ودم: العين تبصر إلى حدٍّ، ولا
تتعدَّى ذلك الحد؛ والرِّجل تسير بسرعة
معلومة... ولكننا ما رضينا بهذا الانغلاق،
وظللنا نفكِّر، حتى أصبح لأرجلنا أجنحة؛
وضايقتنا حدود النظر، فاخترعنا الراديو،
واخترعنا المجهر لنرى ما لا تراه العين،
والتلسكوب لنرى أبعد مما ترى... ومع ذلك، لم نرضَ – ولن نرضى –
بما توصَّلنا إليه من انطلاق؛ إذ ما نبغيه هو
انطلاق من حدود وسدود وقيود. وسنمضي حتى
نتغلَّب على كلِّ عقبة في طريقنا، وسنمضي إلى
آخر الزمان منطلقين، لنصل إلى الحرية الكاملة.
وهذه الحرية ليست حرية السياسة، ولا حرية
الاقتصاد، بل حرية الإنسان في التغلُّب على
جميع العقبات. إن ما أدركناه حتى اليوم من
معرفة وحرية لا يزال في البداية، ومازلنا
ننطلق من انغلاق إلى انغلاق آخر... هذا العالم
ما يزال يضيق بي! أريد أن أعرف ما وراء السمع
وما وراء البصر؛ أريد أن أعرف آخر نجمة في
الفضاء... ومجرَّد إرادتي دليل على استطاعتي
ذلك. إن جوع الإنسان إلى الشيء دليل على وجود
هذا الشيء. مثلاً: جوع الإنسان إلى التفاحة
دليل على وجودها. كذلك عندما أجوع إلى الحرية
فذلك دليل على أن الحرية موجودة. وبالنسبة إلى هذه الحرية،
أبيِّن أن هذه القوميات التي تحدثتم عنها لا
قيمة لها عندي، لأنني لا أحسُّ نفسي مرتبطًا
بأرض واحدة. فأنا لست مواطن بلد، ولا مواطن
الأرض حتى، بل مواطن المسكونة. أين أنتم من
هذه الإنسانية التي لا شطوط لها؟! إن القوميات والسياسات
والاقتصاديات بثور على وجه الإنسانية، ولكن
لها قيمتها؛ فمتى زالت أشرق الوجه. أنتم الذين
تتكلَّمون عن الحرية، كيف تعودون وتقيِّدون
أنفسكم، فيقول واحدكم: أنا ابن هذه الأرض وابن
هذه الأمَّة. أنا لا أنكر أنني عربي من صميم
العروبة؛ ولكن ليس في ذلك ما يشرِّفني أو
يخفضني. فأنا أشرف بنفسي وأذلُّ بنفسي. قبل أن تتحدثوا عن القومية
تحدثوا عن أنفسكم؛ وقبل أن تُحرِّروا
وتنقُّوا العالم حرِّروا ونقُّوا أنفسكم... *** *** *** * انعقدت في يومي 23 و24 أيار 1956،
برعاية المركز الإقليمي في الشرق الأوسط
للمنظمة العالمية لحرية الثقافة، حلقة
دراسات حول "الحرية"، شارك فيها: د.
كريم عزقول، أ. غسان تويني، د. نقولا زيادة،
أ. جوزف مغيزل، أ. كمال جنبلاط. وقد شارك أ.
ميخائيل نعيمه فيها بصفة مستمع، وألقى
المداخلة التالية في ختام إحدى الجلسات. (المحرِّر)
|
|
|