|
مقدمة لدراسة
السِّرَّانية المقارنة محاولة* توضيح المقصود هنا بكلمة
"سرَّانية"[1]
(la mystique
بالفرنسية، mysticism
بالإنكليزية) هو
المدلول المضمون في مشتقِّها اللغوي من كلمة mustèrion اليونانية التي
تعني "السر". والسرُّ، بهذه الدلالة،
لا يشير إلى الأمر الخفي أو المجهول، الذي لا
يجوز الاطلاعُ عليه إلا للصفوة أو للقلة
المختارة، بقدر ما يشير إلى موضوع معرفي،
كلما توغل العارف في تقصِّيه، تراءت له
إمكانات معرفية أعظم وأعماق جديدة بكر تدعوه
إلى سبرها. من هذا المنطلق، نفضِّل تجنب
أخذ مصطلح "سرانيَّة" على محمل فلسفة
الدين أو ظواهريَّته (= فينومينولوجياه) التي
تحاول أحيانًا استبعاد كلِّ علاقة ممكنة
للسرَّانية بمدارس الأسرار Mysteries
القديمة، فتعتبرها ظاهرة خاصة أو اختبارًا
داخليًّا ذاتيًّا محضًا، وبذلك تعزل هذه
الخبرة الإنسانية الراقية عن القوانين
والسيرورات الفاعلة في الطبيعة وتقطع كلَّ
صلة له بها.[2]
ففي رأينا أن السرَّانية و"علم الباطن" Esoteric
Science الذي
تلقِّنه مدارس الأسرار، متى بلغ كلٌّ
منهما درجة معينة من العمق، أصبحا وجهين
لعملة واحدة وصورتين لخبرة كلِّية لا تتجزأ. "السرَّاني" the
mystic، إذن،
هو مَن تسنَّم قمم الرؤيا الداخلية وتعمَّق
في اكتناه أسرار النفس البشرية؛ وهو،
أيضًا، مَن دخل في وصال جوهري مع منبع كلِّ
وجود وحياة، وعرف، على هَدْيٍ من نوره، أسرار
الحياة والكون. مدى الفكر من الواضح، في ضوء ما
ذُكِر، أن جهود الباحث في تاريخ الأديان لن
تثمر عن تأليف ديني ما، أيًّا كان نوعه، ما لم
تكلِّلها خبرة داخلية عميقة. فالفهم الفكري
وحده، كما يلوح لنا، لا يقودنا إلى تجاوز
حَصْرنا للخبرة الدينية في إطار العقائد
والشرائع التقليدية التي تشكِّل وجهها
الظاهر وإلى النظر، عِبْر هذه العقائد
والشرائع، إلى ما يتعدَّاها. بيد أننا نتساءل
هنا: ما هو مدى الفكر؟ وفيمَ ينحصر دوره؟ وأين
تنتهي مهمَّته ليفسح المجال لـ"شيء ما"
يعلوه ويشمله؟ الفكر، كما هو معلوم،
أداة للتحليل والتجزئة والتعريف؛ والتعريف definition
يعني التحديد والتعيين. كلُّ تعريف دقيق
ميسِّر للفهم (أو حائل دونه!) يستند أول ما
يستند إلى التعيين الصارم للحدود الدقيقة
لفكرة ما؛ ويتحقق ذلك عبر إدراك ضمني
للطريقة التي تتعارض بها هذه الفكرة مع
نقيضتها. ذلكم هو مفهوم دفندفا dvandva
القديم في المنقول الهندوسي الذي يشير إلى
زوجَي الأضداد الماثل دومًا في كلِّ عملية
إدراك: بدون الظلام ليس بمستطاعنا أن نتصور
النور، بدون الترح ليس لنا أن نعرف الفرح،
بدون الألم والكرب لا يمكننا أن نشعر بالهناء
والسرور. انطلاقًا من هذه
المقولة، يمكننا تفسير عجز الإواليات mechanisms
الفكرية التي تقوم عليها محاكمتُنا عن
استشفاف الحقائق العميقة للحياة. فهذه
الحقائق متأصِّلة في الوحدة الجوهرية
الأصلية للوجود، وتتملَّص من العمليات "التشريحية"
للعقل العملي practical reason. لقد
تابع الفيلسوف الفرنسي برغسون، على خطى كانط،
نقد "العقل العملي"، فأشار إلى أن الوعي
لا يمكن أن يتناول بالمعرفة إلا ظواهر الكون
التي انقضتْ[3]؛
وبعبارة أخرى، تستغرق الذات العارفة، في
اللحظة التي ترصد فيها ظاهرة ما، في علائق
جديدة مع الموضوعات الجديدة التي تتراءى لها.
وبهذا يكون تعقُّل شيء ما أشبَه، في سياقه،
بما يراه امرؤٌ يراقب مشهدًا من نافذة قطار
متحرك! طبيعة السرَّانية وحدها السرَّانية،
فيما نرى، يمكن أن تشكِّل الأرضية الحيوية أو
الأساس المشترك للتفاهم والتعاون بين مختلف
المدارس الروحية. قد يبدو هذا المقترَب،
للوهلة الأولى، منافيًا للمنطق، وحتى
محكومًا عليه سلفًا بالفشل. فالتجربة
السرَّانية، كما يعتقد الكثيرون، اختبار
فردي وذاتي إلى أبعد الحدود، ولا يتعذر نقلها
إلى الآخرين وحسب، بل ويصعب أيضًا التعبير
عنها أو وصفها، الأمر الذي يجعل تعميم فهم
قيمتها ومراميها على الناس كافة شيئًا
مستحيلاً – ناهيكم عن كون هذا الفهم، كما
يزعم بعضهم، اختبارًا ينحصر في فئة معينة من
الناس دون سواها. الخبرة السرَّانية،
على ما يبدو، تستعصي على الوصف؛ فكيف يمكن
لاختبار فردي بالتعريف أن يكون وسيلة
للمصالحة العالمية ولقاء الإنسان بالإنسان؟ ثمة مؤلَّفات، منها
القديم جدًّا ومنها الحديث نسبيًّا، نجدها في
آداب جميع الأمم والشعوب بغير استثناء، تبحث
في الخبرة السرَّانية على اختلاف أبعادها
وسِماتها، بدءًا من نشوء العالم Cosmogony في
المنقولات المختلفة وانتهاءً بمناهج علم نفس
الأعماق Depth Psychology
والفيزياء الطليعية. ولعلنا لا نجانب الصواب
إن قلنا إن بعض مكتشفات العلوم الفيزيائية
تتقاطع مع المنقولات المشرقية القديمة في
وجهها الباطن، من حيث وصفُها لكونٍ تتَّحد
فيه الأشياء في الجوهر، وتعبِّر ديالكتيكا
الأضداد عن الوحدة الأصلية غير
المتمايزة، ويُعتبَر الزمان والمكان نسبيين
ومن صنع الذهن، وتتفاعل الظاهرات تفاعلاً
ديناميًّا يفصح عن لانهائية الممكنات
الكامنة في الوحدة الأصلية، ويرتبط المكان
بوجود المادة، وتولد القُسَيْمات الأولية elementary
particles
وتفنى في "رقصة" للطاقة لا تنتهي.[4]
ومع ذلك فإن بحثنا عن حقائق لا تقبل التحقق
منها بوسائل الاستقصاء المباشرة، من جهة،
وضرورة تحديد موقفنا من الحياة، من جهة أخرى،
يقضيان بعدم قبولنا لهذه الحقائق ما لم
تتوافق مع التجربة ومع الاستنتاجات المنطقية
اللازمة عنها. لذا ينبغي علينا إمعان النظر
فيما يدعوه برغسون "معطيات الوعي المباشرة"
les données immédiates
de la conscience. يمكننا، بهذا الصدد،
أن نشير إلى أهمية التصنيف الهندوسي النقلي
في وصف أشواط الخبرة الروحية؛ وهو تصنيف دقيق
وموفَّق وجدير، إذا أحسنَّا فهمه، بأن يلقي
ضوءًا جديدًا على المسألة برمَّتها. فهنالك،
بحسب المنقول الفيداوي (نسبة إلى أسفار الـفيدا
الهندية وعقائدها)، ثلاث درجات للخبرة
التأملية الروحية (دهِيانا dhyāna): 1.
تُعرَف أدناها
باسم سْتهولا–دهِيانا sthūla-dhyāna،
وفيها تشاهَد رؤى لآلهة أو لكائنات مصوَّرة
أو مشخَّصة، أو تُسمَع أصوات تبلِّغ رسائل
محددة؛ وعلى مستوى أعلى، 2. هنالك خبرة بيجو–دهِيانا bīju-dhyāna التي تتلاشى فيها الشخوص والصور، فيشاهد الرائي أنوارًا وألوانًا متنوعة وسابحة ويسمع ألحانًا موسيقية سماوية؛ وأخيرًا، 3. هنالك الدرجة العليا: سُكْشما–دهِيانا sukshmā-dhyāna، حيث يزول كلُّ شيء إلا الشعور الفائق بالوحدة مع حقيقة عظمى، هائلة، يتخطَّى اختبارُ ماهيَّتها أو كينونتها المطلقة في شدَّته كلَّ خبرة إنسانية أخرى. إن جميع شهادات
المدارس السرَّانية الكبرى، والحق يقال،
تصرُّ على هذه النظرة (على اختلاف تعبيراتها)،
بحيث يمكننا التمسُّك بها مبدئيًّا لتقديم
فرضية مقبولة تصلح لطَرْق موضوعنا، وتنسجم،
في الوقت نفسه، مع مكتشفات المدارس الحديثة
في علم نفس الأعماق، ولا سيما علم النفس
المركَّب Complex Psychology
وعلم النفس العبرشخصي Transpersonal
Psychology. إن سبرًا جديًّا
وصادقًا لما ندعوه "وعينا الفردي"
يدعونا إلى الاعتقاد بأن هذا الوعي مكوَّن،
في صورة رئيسية، من ذاكراتنا المتراكمة وما
ترسَّب فينا من بقايا اتصالاتنا السابقة
بالمحيط. إن تراكم هذه الذاكرات هو ما
نتوسَّم فيه ذواتنا. فكلٌّ منا يتوهم
أنه اليوم الشخص عينه الذي كان إياه بالأمس؛
لذا فإننا، نتيجة تأثُّر كلِّ تجربة عابرة
نخوضها بما يدعوه علماء النفس بـ"الكتلة
المُدرِكة" apperceptive mass
(وهي محصِّلة جميع تجاربنا التي نقابل بها
الأحداث والكائنات ونحاول من خلالها فهم
طبيعة هذه الأحداث والكائنات ومعناها)،
نقيِّد فهمنا الآنيَّ المباشر لكلِّ ما يستجد
في حقل إدراكنا ("الموجود" what
is،
بحسب تعبير كريشنامورتي) بماضينا كلِّه. إن
كلَّ يوم يأتينا بحصاد جديد من الخبرة
والمعرفة، نضيف به عارضة جديدة إلى سُلَّم
الوعي الذي لا نشاهد الحياة في كلِّيتها إلا
من قمَّته. ومع ذلك فإن كلاً منا يتمسك بوَهْم
أنه يظل دومًا الشخصَ عينه أو "مركز
الارتباط" correlation center نفسه
مع الكون. بيد أن ثمة واقعًا لا
مجال للارتياب في صحَّته، ألا وهو أن ارتباط
المرء بالكون، أو بالصور، أو بالأصوات، أو
بالمؤثرات المختلفة التي تصله منه، مبني على
فهمه للتجارب السابقة وتفسيره لها. أما
الخبرة السرَّانية فهي مختلفة كلَّ الاختلاف
عن التجارب الحواسية؛ فكيف لنا أن نفسِّرها؟ لقد تقدَّمنا بطرح،
فيه شيء من الجرأة، يقوم على اعتبار الخبرة
السرَّانية معيارًا يتفق عليه جميع الباحثين
الروحيين الذين يضعون نصب أعينهم السعي إلى
السلام والتلاقي الثقافي والتعاون والتقدم
الروحي للجنس البشري قاطبة. عالمية السرَّانية إن الدرس الأول الذي
نخرج به من الدراسات التي تستهدف المقارنة
بين مختلف المدارس السرَّانية هو عالميَّتها!
فلقد ظهر سرَّانيون ذوو تجارب روحية رائعة
ومتفرِّدة في كلِّ الأزمنة والبلدان. وإننا
لنجد رائين كبارًا في عصر الفيدا في الهند، في
مصر الفراعنة الحكماء، في الشرق الأدنى
القديم، في اليونان ما قبل الكلاسيكية
والكلاسيكية، في آسيا العظيمة المترامية
الأطراف، في القارة السوداء، وحتى بين "هنود"
أمريكا الأصليين والعشائر السيبيرية
والإسكيمو وسكان بحر الجنوب من الماوري
والميلانيسيين، الذين قد يدهشنا أن نلمس
لديهم خبرات سرَّانية من مستوى رفيع. يمكننا،
انطلاقًا من هذه الأبحاث الموسَّعة، أن
نستخلص أن روح الإنسان تاقت منذ الأزل إلى
تحقيق تجربة الاتصال مع الحقيقة الكامنة في
كلِّ شيء والمتسامية على كلِّ شيء. التجربة
السرَّانية، إذن، خبرة إنسانية عالمية! يدعونا ذلك إلى
استنتاج بأن جميع البشر مزوَّدون بالقدرة على
استشفاف العلاقات مع عالم، أو عوالم، لا
تَطالُها حواسنا المادية. ويبدو أن فشل
العديد من الناس في وعي الكثير من اختباراتهم
النفسية و"الروحية" لا يعود إلى حرمانهم
من القدرة المذكورة، بقدر ما يعود إلى
إشراطات وقيود وعادات مادية وذهنية – أكانت
من إفراز النمط المعيشي الاستهلاكي لمدنية
اليوم أم لم تكن – تعيق كلَّ نمو طبيعي متناغم
للقدرات الروحية لدى الإنسان. ذلكم هو النداء
السرَّاني العظيم الأول. فكما تقول القديسة
تيريزا الآفيلية: "إن الله يدعو إلى نعمته
البشر أجمعين." أما النداء العظيم
الثاني للسرَّانية العالمية فهو انضواء
اختبارات للوعي البشري من أنماط مختلفة مع
الحقائق المتسامية تحت عنوان شامل هو "الخبرة
الروحية". ويكاد الراؤون الكبار جميعًا، من
الشرق كانوا أم من الغرب – على وجود تنوع كبير
في لغات التعبير –، يُجمِعون على التصنيف
الهندوسي الثلاثي للخبرات الروحية الذي
أتينا على ذكره. فقد شدَّد القديس أغناطيوس،
مثلاً، على ظهور الصور الإلهية في الرؤى
الروحية، ولا سيما المتعلِّق منها بصلب يسوع؛
بينما شجبه القديس يوحنا الصليبي (وغيره)، حتى
إنه ذهب إلى حدِّ إعلانها – أي الصور – عوائق
على طريق الوصال الحق مع الله، كما حذَّر منها
في مواضع أخرى، مؤكدًا أن بعضها تفتعله قوى
السلب الشيطانية – تلك القوى التي لا تدخر
وسعًا في منع السرَّاني من المضي قُدُمًا على
درب جلجثته الروحية أو معراجه الباطن.[5] العلم يؤيِّد المنقولات القديمة هذا الحذر أمام
رؤى الشخوص والأشياء، مهما تراءت مجيدةً
وسامية، هام جدًّا من أجل تقدُّمنا في فهم
طبيعة الإنسان الباطنة ومستقبله الروحي. كلُّ
شيء، بحسب المنقول الفيدَنْتي "اللاثنوي"
Advaita Vēdanta،
يقع في مجال مَـهَـمايا Mahāmāyā، أو "الوهم
الكوني".[6] وتجد هذه
العقيدة اليوم سندًا في علم النفس الحديث
الذي بدأ، بدوره، يتساوق مع آخر ما توصَّلتْ
إليه الفيزياء الطليعية. فقد تمَّتْ اليوم
البرهنة على أن الصور الذهنية التي ندركها
إنْ هي برمَّتها إلا تشكيلات من بناء حواسنا
تحت تأثير الذبذبات الصادرة عن الأصل
المجهول، أو الكينونة المطلقة التي هي "جوهر"
noumenon كلِّ
الأشياء والكائنات. لقد
صار علماء النفس اليوم شبه مستيقنين أنه بدون
العينين اللتين تبصران ليس ثمة ألوان في
الطبيعة، وأنه لا أصوات ثمة بدون أذن تلتقط
الذبذبات وتحرِّض الدماغ على التعرف إلى ما
تلتقطه بمساعدة قوائم التصنيف التي تعوَّد
صاحب هذه الأذن على التعامُل من خلالها مع
العالم. لقد صرح أفلاطون،
بعبقريته الفذة، بأن الحق لا لون له، ولا
صوت، ولا حرارة، ولا ملمس، إنما يمكن للنفس
العليا (الروحانية) للإنسان أن تختبره. ولقد
بتنا اليوم نقبل بهذا الرأي لأنه يستند إلى
البحث العلمي. فالكون الذي نعيه، والذي فيه
نحيا ونفكِّر، هو كون من ابتداعنا نحن، من "خلقنا"
نحن، إلى حدٍّ ما، من حيث إن وعينا له "يتلوَّن"
بلون نفسنا، إذا جاز التعبير. لقد أصاب
الفيلسوف ألفرد ن. وايتهِد إذ قال إن على
الشعراء، بدلاً من أن يتغنوا بجمال الوردة أو
بتغريد البلبل، أن يتوجَّهوا بإعجابهم إلى
أنفسهم لأنهم في الواقع هم الذين يخلقون
المحاسن التي يبصرونها في الوردة أو في تغريد
العصفور؛ وهو قول يكافئ عبارة الشيخ الأكبر
ابن عربي: "لون الماء من لون الإناء." وفي
حين يُرينا علم النفس أن الخبرات الحواسية
تعود بخصائصها إلى قدرات حواسنا ومحدودية
إمكاناتها، من جهة، وتقوم هذه الحواس نفسها
بصنعها، من جهة أخرى، فإن الفيزياء الحديثة
تعلِّمنا، بدورها، أن جميع الكتل المادية
تتألف من حركات قُسَيْمات دقيقة غير مرئية،
لا تشكِّل إلا جزءًا مهملاً مما نتوهم أنه
أجسام صلبة كثيفة صمَّاء. درجات الوعي إن لتطور هذه النظرة
الحديثة إلى طبيعة الكون أهمية بالغة لأنها
تزودنا بتبصُّرٍ لإمكانية التأليف بين الشرق
والغرب، بين المنقولات الروحية وعقائد مدارس
الأسرار، من ناحية، وبين معطيات العلم
التجريبي الحديث، من ناحية أخرى. فـالعلم
الحديث يكاد ينسجم تمامًا مع "تصورات"
السرَّانيين حول وجود درجات أو "مراتب"
من التجارب الواعية، يبتعد فيها الإدراك عن
الحقيقة الباطنة للأشياء كلما تصوَّر
وتعيَّن. إن إدراكنا نفسه، متى تقيَّد
بتصور أو بتعيين مسبقين، يصبح نقابًا يحجب
الحقيقة العارية للحقِّ عن بصيرتنا الداخلية. تتوافق هذه
المعطيات، مرة أخرى، مع التصنيف الفيدَنْتي
الهندوسي لحالات الوعي إلى أربع: 1.
جَـغْـرَة jagrat: وعي الصحو الذي
نخضع فيه لأوهام الحواس مادمنا مقيَّدين بها؛ 2. سفَـبْـنا svapna: حالة الحلم التي نعيد فيها خلق الصور التي ندركها في حالة الصحو؛ 3. سُـشُـبْـتي sushupti: حالة الهجوع العميق الخالي من الأحلام التي يقف فيها العقل على عتبة الحقيقة الكونية؛ وأخيرًا، 4.
طوريا tūria:
حالة الاتحاد مع الحقيقة نفسها، أو
وعيها الكامل الذي تنتفي فيه كلُّ ثنائية بين
المدرِك والمدرَك. الخلاف الوحيد بين
هذا التمييز النقلي الدقيق، من ناحية، وبين
الفكر الغربي، من ناحية أخرى، هو في ميل هذا
الأخير إلى تصنيف جميع الصور الذهنية في خانة
واحدة، سواء تلك التي يتم بناؤها إبان وعي
الصحو أو التي يُعاد تشكيلها في حالات الحلم؛
وكذلك في عدم تمييزه بين البُنى الذهنية
اللاصورية لفكر رجل العلم التي تسبح في عالَم
من النظام والقوانين، من جانب، و"ليل النفس
المظلم" (التعبير للقديس يوحنا الصليبي)
الذي يتكلَّم عليه كبار السرَّانيين، وفيه
يتم محو كلِّ نوع من أنواع الوعي الشخصي
بذوبان الذات الواعية في محيط الحقيقة
اللامتناهي، من جانب آخر. محاولة لتعليل عدم تطابُق الكشوف
السرَّانية من أهم القضايا التي
تواجهها السرَّانية قضية اكتناه مصدر الرؤى
المتعالية للرائين ومعرفة منشئها. لماذا يبصر
هؤلاء، إبان أحوال الوَجْد ecstasy،
صورًا لكيانات روحانية تتخذ صورًا جسمانية،
مادية، مثل كرشنا أو البوذا أو يسوع أو الخضر،
مادامت الأجسام "المادية"، في معالمها
الخارجية وخصائصها، نتاجًا لما يدعوه
اللاهوت المسيحي "الملكة التحليلية للنفس"،
أي قدرتها على خلق صور مجرَّدة تستدعي
شَبَهًا ماديًّا في أذهان البشر؟ ينجم هذا الأمر، فيما
نرى، عن إوالية خلق المعاني في ذهننا البشري
المقيَّد المشروط. فـوعينا لطبيعة الأشياء
المحيطة بنا هو عملية استحضار غير مَوْعيَّة
لصور ذهنية سبق لنا أن كوَّناها عن هذه
الأشياء، نعرف من خلالها، بالمقارنة،
أن القلم ليس دواة وأن المنضدة ليست كتابًا.
نحن نعلم ذلك لأننا طوَّرنا فينا هذه القدرة
على الاستحضار عبر تجاربنا الماضية؛ وبذلك
نحكم على طبيعة سائر الأشياء التي نصادفها
بتصنيفها في خانة المدرَكات السابقة
المشابهة. إن هذا السبب هو علَّة إحساسنا
بالضيق حيال الأشياء الجديدة التي لا نجد لها
موضعًا يناسبها في سجلاتنا الذاكرتية
المألوفة، فنسارع إلى فتح مصنَّف خاص بها أو
إلى رفض وجودها من أساسه. ولا يخفى الدور
السلبي لمحاكمة كهذه في التعتيم على إدراك
الأشياء إدراكًا جديدًا وعلى رؤيتها "كما
هي" (كريشنامورتي). لسنا ندري إن كان ثمة
تفسير آخر لعدم التطابُق بين خبرات
السرَّانيين من مختلف المدارس الروحية. فهُم،
عندما يصفون الصور "المقدسة" التي
تتجلَّى عليهم، يُضفون عليها الصفات الدينية
المألوفة لديهم التي تحدَّرتْ إليهم من إرثهم
الثقافي. على هذا الأساس، يشاهد المتعبِّد
الهندوسي (الـبهكتا bhakta)
الإله فشنو أو شيفا أو دورغا إلخ، ويشاهد
المسيحي يسوع أو مريم العذراء أو أحد
القديسين، والبوذي أحد البوذاوات الكبار،
والمسلم حورية من حوريات الجنة أو حتى النبي
محمد بشخصه. إن هذا يرجع إلى ميل
البشر إلى الانقياد، طوعًا ومن حيث لا يدرون،
إلى استخدام أسمى الصور الذهنية التي
يعرفونها، بحكم موروثهم الثقافي، بخلعها على
مضمون خبرتهم. لكن الخبرة على المستويات
العليا للرؤيا أو الكشف تنحو إلى إقصاء
الصور، مهما بلغ جلالها، وإلى التجريد
المتدرِّج حتى بلوغ النور الخالص الذي لا صور
فيه ولا شخوص ولا أسماء.[7] تأسيسًا على ما
تقدَّم، يبدو أن عبارة فولتير الساخرة: "إذا
كان الله قد خلق الإنسان على صورته فقد ردَّ
الإنسانُ له ذلك بالمثل" تصحُّ كذلك على
المستوى النفسي للخبرة الداخلية.[8]
من هنا فإننا نميل، رغم عدم نفينا لوجود
تجلِّيات حقيقية لأرواح عليا في رؤى الأولياء
والقديسين والسرَّانيين، إلى عدم الإقرار
بوجود حقيقي لآلهة مشخَّصة، وننحو إلى تعليل
ظهور الصور السماوية في هذه الرؤى بكونها، في
الغالب الأعمِّ، أمثلة متنوعة على إسقاطات projections
– من نمط رفيع – للذهن البشري. في ضوء السرَّانية
المقارنة، يبقى كلُّ "كشف" revelation
(من كلمة velum
اللاتينية التي تعني "حجاب")، مهما بلغ
شأنه، محاولة بشرية لإلقاء "حجاب جديد" re-veal
على الحقيقة المطلقة التي لا تقبل الوصف؛
وهو، في أحسن الأحوال، تقريب أو رمز رفيع، على
الإنسان أن يُعمِل بصيرته فيه، محاكِمًا مدى
تماسكه أمام فحص مَلَكَة "التمييز الروحي"
(فيفيكا viveka بالسنسكريتية)
عنه، في محاولة لاختلاس لمحة من الحقيقة
السامية التي يحاول الرائي وصفها – وهي
العصيَّة على الوصف! عندما يتم فهم النقطة
السابقة حقَّ فهمها ينهار التعصب والتزمُّت
والثرثرة والجدال العقيم، وتحتل النصوص
والصور الدينية موقعها السليم، فتُعتبَر
مجرَّد "محاولات" لتأويل الرؤى أو
التعبير عنها بلغاتنا البشرية المحدودة ليس
إلا. ذلكم هو الإسهام
العظيم للسرَّانية في التقريب بين الخبرات
الروحية الإنسانية. لكنها لن تستطيع أن
تقدِّم لنا هذه الخدمة ما لم تَصِرْ تجربة حية.
فوحده الرائي العظيم يستطيع خرق التقاليد
الراسخة التي بَلِيَ الكثيرُ منها. ومن غير
المعقول أن نطالب جميع المتعبِّدين أن
ينحُّوا جانبًا تبجيلهم للكتب وللآلهة
المشخَّصة، لأنها في نظرهم الأقوى، وهي التي
تشكِّل نظرتهم الدينية الوحيدة إلى الوجود
والحضور الحَصْري للمقدَّس في حياتهم
الأرضية. حسبنا، في هذا
المقام، أن نقول: "من له أذنان للسمع فليسمع"! *** *** *** *
صياغة نهائية لمحاضرة شبه مرتجلة قُدِّمتْ
ضمن فعاليات حلقة "أصدقاء المحبة" في
أواخر الثمانينات ونُشِرَتْ صياغةٌ أولية
لها في عدد 10 نيسان 1990 من صحيفة الأنوار
البيروتية. (المحرِّر) [1]
استفدنا هذه الكلمة، التي تَنْسِبُ إلى "سر"،
من كتب بعض المذاهب الباطنية الإسلامية
نظرًا لقرابتها الاشتقاقية من المصطلح
الغربي المقابل، لكننا أضفينا عليها معنًى
مستقلاً؛ كذلك تجنَّبنا، في هذه المحاضرة،
استعمال مصطلحي "تصوف" و"صوفي"
لأنهما يحيلان في الذهن على الفور إلى
الخبرة السرَّانية في الإسلام حصرًا (التصوف)؛
في حين أن المقصود هو الخبرة الروحية
الفردية كمعرفة إنسانية أصيلة شاملة،
نجدها في الأديان كافة، مثلما بتنا نصادفها
اليوم خارج نطاق الأديان لدى أشخاص مؤمنين،
لكنْ غير متديِّنين أو ليسوا ملتزمين بفروض
الدين وشعائره، أو حتى "غير مؤمنين"
على الإطلاق. [2]
من هنا إضفاء صفة "فائق
للطبيعة" supernatural
على كلِّ ما يمتُّ إلى الخبرة السرَّانية
بصلة؛ وهذا ناجم برأينا عن نظرة ضيقة جدًّا
إلى "الطبيعة"، تحصرها في الوجود
المادي المحسوس وحده؛ في حين أن الفيزياء
الحديثة الطليعية باتت مستيقنة من أن "المادة"
نفسها ذات طبيعة "غير مادية" بمفهوم
القرن التاسع عشر للمادة. [3]
راجع كتابه مقالة في معطيات الوعي
المباشرة. [4]
راجع: ندره اليازجي، المبدأ
الكلِّي: لقاء الحكمة القديمة والعلم
الحديث، طب 2 (منشورات اتحاد الكتاب
العرب، دمشق) للوقوف على العديد من سمات
التأليف المعرفي بين الحكمة القديمة
والعلم الحديث في كلٍّ من الفيزياء وعلم
النفس والفلسفة ونظرية التطور إلخ. [5]
راجع العهد الجديد، الرسالة
الثانية إلى الكورنثيين 11: 15، حيث يقول
القديس بولس إن "الشيطان نفسه يتزيَّا
بزيِّ ملاك النور". [6]
كلمة فـيـدنـتـا Vēdanta
تعني "نهاية الفيدا"، وأدفَيْتا advaita
تعني "اللاثَـنَـويـة"؛
فالأدْفَـيْـتـا فيدنتا بهذه المثابة هي
مدرسة التوحيد المطلق في الهندوسية. أما
المقصود بـ"الوهم" فهو ببساطة أن العالَم
ليس ما يبدو للحواس البشرية للوهلة
الأولى. [7]
من أسطع الأمثلة على ذلك مثال
الحكيم الهندوسي راماكرشنا الذي كان يبصر
المبدأ المؤنث للوجود على هيئة الإلهة
المرعبة كالي التي تفترس أطفالها؛ وقد ظلت
هذه الصورة مستحوذة عليه، حتى ساعده الراهب
الفيدَنْتي توتا بوري على اختراقها بأن
أحدث له جرحًا بين عينيه وطلب منه التركيز
على الألم، وبذلك مكَّنه من ولوج عالم
الوعي الأحدي الخالص الذي تتوارى فيه
الرموز والصور. [8]
في هذا السياق، واستكمالاً
للموضوع، نستشهد، بترجمة الأستاذ نهاد
خياطة، بالشاعر الإغريقي كسينوفانس (565-470 ق
م) الذي حدس الأمر، على ما يبدو، حدسًا
قويًّا: لو
كان للثيران أو السباع أو الخيل أيْدٍ
كأيدي البشر تستطيع
بها أن ترسم الصور وتنحت التماثيل، إذن
لخلقت على صورتها وجوهًا وأشكالاً إلهية، فتكون
آلهة الخيل كالخيل، وآلهة البقر كالبقر [...]
|
|
|