|
الأخلاقيات الطبية
علمانية وعالمية منذ بضعة عقود
تتواصل ثورة علوم الأحياء. وإذا كانت
تطبيقاتها لا تطاول واقعيًّا أكثرية
المواطنين حتى الآن، فوعودها وأخطارها
تعنينا جميعًا. إن تطور البيوتكنولوجيا قد
يغيِّر الإنسانية في طبيعتها، كما لم يسبق أن
حصل قط. لطالما كان هدف
العلوم الطبية محاولة تحرير الإنسان أو
حمايته من عبوديات عديدة مرتبطة بالطبيعة أو
بالصدفة – الحوادث، الأمراض، الألم،
التقدُّم في السن، الموت – ومقاومة هذه
الصعوبات على وشك أن تتجاوز مرحلة حاسمة.
وبالفعل، بإمكان التقنية اليوم أن تؤثر
مباشرة على الكائن الحي، وعلى الإنسان، وعلى
الحياة، لتغيِّرهم جذريًّا. فمن شافٍ، يدَّعي
الطبيب التحول إلى خالق. ومع إمكان قراءة
الجينوم، وتقدُّم فحوص ما قبل الولادة،
والتقنيات المساعدة على الإنجاب، والتلاعب
بالرصيد الجيني، وزرع الأعضاء، وإعادة تكوين
الأعضاء والأنسجة، أصبحت جميع الأمور التي
كانت تخرج عن سيطرة الطبِّ ممكنة وتضع
المجتمع أمام خيارات أخلاقية صعبة وجازمة. وهذا التقدم في
العلوم يحمل في طيَّاته آمالاً كبيرة بالشفاء
وتحسين مستوى المعيشة ومعدَّل الحياة. ولكن،
إلى أيِّ حدٍّ ستكون هذه الحسنات التي يحملها
العلم متساوقة مع إنسانية متنوعة وحرة؟ وإلى
أيِّ حدٍّ يمكن لهذه التحسينات المذهلة أن
تتقدم من دون أن تمسَّ بالطابع الفريد لكلِّ
كائن؟ وإلى أين يمكننا الوصول من دون أن نجعل
من جسم الإنسان آلة، أو شيئًا، أو سلعة؟ إذًا، من خلال هذا
التساؤل، يمكننا ملاحظة أن البحوث
والاكتشافات البيولوجية الطبية تثير مسائل
أخلاقية واجتماعية وقانونية لا يمكنها حلُّ
نفسها بنفسها، وذلك لأن العلم ينتمي إلى حقل الممكن،
وليس إلى حقل المشروع أو المستحب. فلا وجود
للأخلاقيات في العلم. والبحث العلمي، في
مفهومه الحَصْري، لا يعرف قوانين أو حدودًا –
إلا تلك الخاصة بتطوُّره ونجاحه. فيعود إذًا
للمجتمعات ولدول القانون، كما للمجتمع
الدولي، أن تضع حدودًا للبحث وأن تفرضها؛ كما
أنه يجب عليها أن تحدِّد قواعد وقيودًا لكي
تحمي خصوصية الإنسان وكرامته المنصوص عليهما
في الدساتير كلِّها – وهذا لمواجهة تعطش
الباحثين وشهوة الصناعيين. ومن هنا نشأت
الأخلاقيات الطبية Medical
Deontology أو
أخلاقيات علوم الأحياء Bioethics. والأخلاقيات هي
علم جديد سيبقى إبان القرن الحادي والعشرين
في القلب من جميع النقاشات السياسية
والاجتماعية. وللأخلاقيات مجال
عمل واسع، انفتح منذ حوالى ثلاثين سنة، ولا
يزال يتوسع. وقد ولدت الأخلاقيات من تساؤلات
يطرحها تطور العلم على الإنسان. فتحاول
الأخلاقيات إذًا أن تحدِّد ما يمكننا فعله،
وما يجب علينا فعله، وما يجب علينا ألا نفعله؛
أي درس الانتقال من المعرفة إلى التطبيق. ولا يمكن لعلم كهذا
أن يتوافق مع عزلة الفكر ونبذ الآخرين.
التفكير الأخلاقي لا يمكنه أن ينحصر ضمن حدود
معينة أو بلد ما؛ فالانفتاح ضروري لمواجهات
مفيدة. وقد أصبحت الأخلاقيات، تدريجًا، وسيلة
انتشار أساسية لثقافة روحية وزمنية. والتفاعل
العالمي الواسع للتفكير الأخلاقي يجعل مسائل
هذه الثقافة ورهانها أعقد في ما يتعلق
بالقواعد الأساسية والأنظمة. وحَصْر
الأخلاقيات الطبية يعني تشويهها. فمن الضروري
لكلِّ بلد معرفة ماذا يحصل في هذا المجال في
البلاد الأخرى. ويمكننا تفسير
المناقشات الحادة في مجال الأخلاقيات بطبيعة
التساؤلات التي تنبثق منها: فهذا الموضوع
يثير علاقاتنا بالحياة والموت، وحماية
الكرامة الإنسانية، وقلقًا دائمًا حيال ما
نسمِّيه "السلطة العلمية". وينعكس هذا
القلق من خلال التساؤل الآتي: إلى أيِّ حدٍّ
يمكن للباحث والطبيب أن يتصرفا بمستقبلنا
كبشر؟ وإلى أين يمكنهما المضي في تجربة
يجيزها العلم لهما، مع أنها تعنينا جميعًا؟
وهذا الاستفهام حاد إلى درجة أنه، في
مجتمعاتنا الحديثة، ذات المبادئ غير
الثابتة، ما من اختبار يبدو مستبعَدًا عن حقل
التجربة البشرية. أيجب تشريع ما يسمح العلمُ
والطبيعةُ بالقيام به؟ أو يجب، على العكس،
تحقير أيِّ تقدم علمي كلما كان ذلك في مصلحة
السلطات السياسية أو الدينية؟ وهل يمكن لبلد،
عندما تكون ديانة الدولة موجودة في دستوره،
أن يخضع لقرارات الهيئات الدولية المنبثقة من
توافق يُزعَم بأنه شامل؟ وإزاء هذه التساؤلات
والتحديات، المهم أن نعلم مَن يراقب، وكيف
ستوضع حدود البحث وتطبيق نتائجه من الآن
فصاعدًا. يقول بعضهم إنه يجب الخضوع لضمير "العلماء"!
وآخرون يفضِّلون اللجوء إلى السلطات
التشريعية في كلِّ بلد! وآخرون يلوِّحون
بالقيود العقائدية الدينية! وتاليًا، بما أن
هذه الأسئلة تثير اهتمام الفرد بقدر ما تثير
اهتمام المجتمع – وحتى الإنسانية بأكملها –
فأكثرية الدول العلمانية والديموقراطية
تعترف بأنه لا يمكن وضع حدود للتجربة إلا
بموجب قرارات عامة وديموقراطية، أي صادرة عن
هيئات تعددية ومتعددة الاختصاص، ترتكز على
المداولات، والحوار، والتوافق. ومن هنا نشأت
لجان الأخلاقيات الطبية الاستشارية. وهناك سؤال يطرح نفسه
في بلدنا – وهو طبعًا السؤال الأساسي بالنسبة
إلينا: هل للأخلاقيات وتساؤلاتها مسلك سهل في
لبنان؟ فكيف يمكننا اعتماد علم يبقى أحد
أهمِّ أهدافه التنظيم الاجتماعي اللاسياسي
واللامذهبي في بلد كلبنان يتميز بنظامه
السياسي، وأنظمته المدنية، وثقافاته،
ومذاهبه التي تجتازها حاليًّا حركات دينية
متطرفة؟ إضافة إلى ذلك، نشير إلى العوائق
والقيود الناجمة عن الأوضاع السياسية،
والاجتماعية، والاقتصادية الإقليمية، التي
تحدُّ من إمكانات الحوار بين المجتمعات
والحضارات والأديان. فكيف يمكن لهيئة
تعددية وطنية لبنانية، تأسَّست في أيار 2001
بقرار من رئيس مجلس الوزراء، ومؤلَّفة من
رجال قانون واختصاصيين في علم الاجتماع،
وأطباء، وباحثين، وفلاسفة، ورجال دين، أن
تُبرِزَ في بلدنا – في هذه الظروف – قاعدة
مبادئ أساسية تعترف بها سائر مكوِّنات
مجتمعنا التي لها وجهات نظر أخلاقية مختلفة –
وأحيانًا متناقضة – حيال التطور العلمي،
وذلك بصرف النظر عن غياب القوانين التي تتعلق
بهذه الميادين، وعن التسيُّب الإداري الذي
يخنقنا، وعن النقص شبه التام في الرقابة
المهنية؟ هل سيمكننا العمل في مجال
الأخلاقيات الطبية في وسط علماني منفتح؟
أم أننا سنضطر إلى العمل ضمن بيئة محمية
ورجعية، متَّسمة بالمذهبية؟ وتاليًا:
أيمكننا، في لبنان، أن نضع أسس ما نسمِّيه "الأخلاقيات
العلمانية" – أخلاقيات مُعَدَّة للإنسان
وفقًا لمعايير دولية مقبولة؟ في بلادنا، التي
تتنازع فيها الاعتبارات الدينية والمصالح
المالية والطائفية من أعلى "برج بابل"،
يتعيَّن علينا التمتُّع، في إطار أيِّ نقاش
يدور حول الأخلاقيات الطبية، بحكمة يسودها
الصبر والحذر وشيء من الجسارة. وعلى المشترع
والمسؤول السياسي والسلطات الدينية التيقظ
والردُّ بسرعة على التوصيات ومشاريع
القوانين التي تقترحها اللجنة اللبنانية –
علمًا أن البحث العلمي أسرع من القانون، مما
يؤدي إلى بروز فجوة خطرة بين الواقع والقانون
الرامي إلى تنظيمه. وفي الوقت الذي
تتناقش فيه برلمانات جميع الدول
الديموقراطية وتضع التشريعات، لا يزال
المسؤولون في بلادنا متردِّدين، كما ولو أن
المشاكل الطبية الأخلاقية لا تشكِّل أولوية
وطنية. فهم معتادون على تجاهل بعض الممارسات
التعسفية، التي غالبًا ما لا تكون قانونية،
ويحتمون وراء غطاء طائفتهم، وان كانوا يعلمون
أنها تتعرض للانتهاك بصورة مستمرة يومية.
وبما أنه لا يمكن للأخلاقيات أن تنتقل من خلال
هيئات تفتقر إلى المرونة، مهما كانت أهميتها،
كان علينا أن نحقِّق، منذ إنشاء لجنتنا،
عملاً يترك مكانًا لمبادرة كلٍّ منَّا ولحكمة
الجميع. قدَّمتْ لجنة
الأخلاقيات اللبنانية، بعد دراسة القوانين
والمراسيم النافذة واستشارة النقابات
والجمعيات العلمية والشخصيات الدينية
والاختصاصيين، توصيات ومشاريع قوانين إلى
الوزارات المعنية حول المواضيع الآتية: حقوق
المريض، الفحوص الجينية، المساعدة الطبية
على الإنجاب، تشكيل لجان الأخلاقيات للبحث في
المستشفيات، إلخ، إلا أنها لم تصدر بعد؛ مما
سيؤدي إلى ترسيخ الممارسات التعسفية التي
ستتجلَّى عواقبُها الوخيمة في غضون بضع سنوات.
فهل يجب أن نقبل أن يولد في بلدنا أطفال
مصابون بالثلاسيميا دون أن نتحرك؟ هل يجب
القبول بتجارة الأعضاء التي تتحدث عنها
الصحف؟ وهل يجب التساهل حيال الفحوص الجينية
غير المنظَّمة للأبوة، مع جميع المآسي التي
تنتج عنها؟ وهل يُعتبَر الإجهاض في
مستشفياتنا وعياداتنا جُرمًا، مع أنه
يمارَس؟ إلخ. قد نكون مكفوفين إن
كنا لا نرى ما هو ماثل أمامنا – هذا إن كانت
لنا أعين ترى! – نحن الذين نحاول أن نكون
كالكيكلوب بعينه الوحيدة المغمضة! يمكننا
قطعًا أن نرفع ببطء جفن هذه العين الوحيدة
ليدخل منها بصيص نور يحرق فينا جذور الخبث. تُعَدُّ الأخلاقيات
الطبية وقوانينها أفضل ضمانة لإنسانيتنا،
والوسيلة الأفضل للتعبير عن إرادتنا في إرساء
شروط "عيشنا المشترك". فالأخلاقيات
الطبية تبحث في الحدِّ الذي تبدأ عنده
إنسانيتنا وفي الحدِّ الذي تنتهي عنده. وهي،
وإن كانت تتغذى من تجاوزاتنا ومخالفاتنا
العلمية، إلا أنها تساعدنا على الحيلولة دون
انتقال الإنسان من ظلمة العصور إلى... عصر
الظلمة! *** *** *** * أمين
عام اللجنة الاستشارية الوطنية اللبنانية
للأخلاقيات.
|
|
|