نهاية زمن الحروب

 

خالص جلبي

 

كلُّ مَن سمع الأخبار في خريف العام 2001 م تخيَّل أن القيامة قامت! فقد «زلزلت الأرض زلزالها» في مانهاتن، و«أخرجت أمريكا أثقالها» من الأسلحة. ومع قرع الطبول، عند تقاطُع جبال الهندكوش مع طريق الحرير، يقلِّب العالم المتعب وجهه في السماء، «فينقلب إليه البصر خاسئًا وهو حسير». فالطائرات الأمريكية حلَّقتْ، والجيوش زحفتْ، وحاملات الطائرات أقلعتْ. ولكن بعد أن انقشع الغبار عن ناطحات السحاب التي «دُكَّتْ دكَّا فكانت هباءً منبثَّا»، تبرز إلى السطح ثلاثة مفاصل تروي العكس تمامًا، وأن المخاض الإنساني يقترب أكثر من قبلُ إلى شاطئ السلام.

بعضهم ينقل، «مقلِّدًا» عن صحف أمريكا، أنها أول حروب القرن الواحد والعشرين. لكني أرى، على العكس، مؤشِّرات عميقة – تدعو للتفاؤل أكثر من التشاؤم – إلى موت مؤسَّسة الحرب، وإلى أن ما يحصل لا يزيد عن اختلاجات المحتضر الأخيرة قبل تسليم الروح. وكما يقول عالم النفس السلوكي سكينِّر، إن الجيش المنهزم يُظهِر بعض المقاومة النهائية قبل الاستسلام. وكذلك العواطف الشريرة وموت المؤسَّسات في التاريخ: فإذعانها الأخير يخضع لتوترات هائجة في المخطَّط البياني قبل النهاية. وكلامي هذا يشبه الجنون، ولن يُسمَع الآن بين قعقعة السلاح وقرع الطبول. ولكن فلنرَ ونحلِّل، في ضوء مشكاة النبوَّة، ثلاث وقائع تؤكد أن زمن الحروب انتهى: الأولى من مانهاتن؛ والثانية من طبيعة العملية التي جرت في 11 سبتمبر؛ والثالثة من باكستان.

ولنبدأ من الثالثة: إن الإنسان لا يملك نفسه من الضحك حينما يسمع أن السلاح «النهائي» والقنبلة النووية «الإسلامية» (التي ليست إسلامية – فالقنابل لا دين لها!) قد خذلت أصحابها في الامتحان الأعظم، كما حصل في حروب كوريا وفييتنام وكوبا. فبعد أن أنفقت باكستان المليارات من جيب شعب فقير على بناء الصنم النووي، وبدأت تتعبَّد له حتى يكون جاهزًا ليوم الفصل – «وما أدراك ما يوم الفصل ويلٌ يومئذٍ للمكذِّبين»! – كذَّبهم السلاح النووي وخذلهم؛ وإذا بباكستان، «الدولة النووية»، ترتجف مفاصلها هلعًا، وتخاف أن تتعرض منشآتها النووية للخطر، فتستسلم في تناقض يصل إلى حجم نكتة كبيرة، ولكن لا يضحك لها أحد! ونحن نعلم أن الذي ينفق أمواله ليكدِّس السلاح حتى ينفعه يوم الحرب، ثَبَتَ أن سلاحه لم يُجْدِه نفعًا، بل كان سببًا في الاستسلام. والسبب بسيط، وهو أن صُنَّاع القرار في باكستان غادروا بقنبلتهم النووية، ودخلوا بها إلى غابة الأقوياء، «من فرعون وأصحاب الرس وثمود، فأحبط عملهم كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا».

وأما العبرة الثانية فهي أن الانتحاريين الذين فجَّروا أمريكا لم يكونوا قوة عظمى، ولا كائنات خارج أرضية من المريخ، بل عصبة من الشباب قصفوا رموز الوحش الرأسمالي المالية والعسكرية – حسب عقيدتهم – في ضربة «لا تُبْقي ولا تذر لواحة للبشر»، قام عليها 19 من المنفِّذين حسب التحقيقات الفيدرالية. وهذا يعني أن زمن المواجهات العسكرية والجيوش الجرارة وحاملات الطائرات وصواريخ الكروز والتوماهوك انتهى دورها. وإن صحَّتْ بعض الروايات عن عدم وجود انتحاريين، بل تمت برمجة الطائرات أن تضرب آليًّا، ويفقد الملاحون السيطرة عليها، وينعقد لسان كلِّ الأجهزة، بما فيها أجراس الإنذار والصندوق الأسود، فهو مؤشر لدخول عصر إلكتروني، تدور فيه حروب من نوع جديد، تعتمد الذكاء الصنعي والتكنولوجيا الحديثة ومشاعر البشر. وما يواجه الدول اليوم هو مجموعات صغيرة حسنة التنظيم والتدريب وإدراك أسرار التكنولوجيا الحديثة.

ما حصل في 11 سبتمبر هو ذلك المزيج المدهش من «التعصب والإنجاز المذهل» وتلك الخلطة التفجيرية المخيفة من «الإيديولوجيا والتكنولوجيا». وهذا ينقل مسار الحرب إلى سكة جديدة يمكن أن توصَف بأنها حرب، حيث تتوقف الحروب القديمة وتبدأ مواجهات جديدة من «التدافُع». وحلُّها لا يتم بجرعة إرهاب أكبر، أو بمعالجة الانحراف بالجريمة، وقتل المريض بدل علاجه، وتطبيق العقوبة بدل معرفة الدافع، أو الإعداد للانتقام أكثر من العدل. إن الإمبراطوريات انهارت على نفس الطريق حينما طُبِّقَ الحدُّ على الضعيف وتُرِكَ الأمير. فهذا «أول الشرِّ وباب هلاك الأمم»، كما نصَّ على ذلك الحديث.

وهذا يضغط المنطق للبحث عن جذور المشكلة: إنه لن يكون هناك سلام أو طمأنينة مادام العالم مكوَّنًا من شريحتين: مستكبِرين ومستضعَفين (الأولى مكوَّنة من 20 في المائة من الأغنياء يأكلون 80 في المائة من خيرات العالم)، وماداموا لا يحتكمون إلى كلمة السواء. يقول جاك عتالي في كتابه آفاق المستقبل إن هناك خمسة مخاطر تهدد الجنس البشري: السلاح النووي، والتلاعب بالجينات، والمخدِّرات، وتلوث البيئة؛ ولكن أخطرها هو الانشقاق بين الشمال والجنوب، حيث يزداد الأغنياء غنًى والفقراء فقرًا. ويؤكد ذلك كتاب فخ العولمة، حيث يعيش المترفون من وراء جدران عالية يحرسهم رجال غِلاظ شِداد مسلَّحون.

ولكن المتكبِّرين في العادة لا يسمعون، «وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً». إن أمريكا اليوم تفتح خزائنها وتفرش 40 مليار دولار لمكافحة الإرهاب – ولعلها لو أنفقت أقل منه لقضت على الإرهاب كلِّه. وهذا يؤكد أن «العدل أقل كلفة من الظلم»؛ وهو درس للأنظمة العربية على أن الإنفاق على الاستخبارات يضرُّ أكثر مما ينفع. ولكن جَرَتْ سُنَّة الله أن «المترفين حق عليهم العذاب فدُمِّروا تدميرا».

وأما العبرة الأولى فهي حجم التدمير ومعاناة الناس. فقد هوى برجان يمثل كلُّ واحد مدينة متوسطة الحجم؛ ومع أن الناس تدافعوا إلى سلالم النجاة بين الحرق والدخان والتصدُّع، فقد دُفِنَ تحت الأنقاض الآلاف من الناس. وهذا يشير إلى هشاشة الحضارة وسهولة النيل منها. وإذا كانت القوى العظمى سابقًا قد طورت أسلحتها النووية فإن مجموعات صغيرة مدرَّبة تستطيع اليوم أن تخنق الآلاف في أنفاق المترو، أو تهدم ناطحات السحاب على رؤوس أصحابها، أو تفجر قنبلة بكتريولوجية من نوع الجمرة الخبيثة في وسط مدينة كبيرة.

فالحضارة، كما نرى، صعبٌ بناؤها وسهلٌ تحطيمها. ويمكن قتل الإنسان في لحظة، ولكن تربيته تتطلب عشرين سنة. وكذلك فإن الحضارة هي نتاج إنساني هشُّ البنيان، ولا تمثِّل إلا غلالة واهية وقشرة رقيقة من الجلد تغطي جسم الوحش الإنساني الذي خرج من الغابة قبل عشرة آلاف سنة فقط، بعد أن بقي يطارد الوحوش والوحوش تطارده ستة ملايين من السنين ولم يكن شيئًا مذكورًا. وبتعبير المؤرِّخ ديورانت في كتابه دروس التاريخ: «الحضارة نظام اجتماعي يقوم بنشر الإبداع الثقافي؛ وهي نسيج متشابك ومعقد وغير ثابت من العلاقات الإنسانية، نسيج يتسم بالجهد في صنعه والسهولة في تدميره.» وهذا يفسِّر «لماذا يمتلئ التاريخ بركام أنقاض الحضارات». فليست هناك من حضارة تملك المناعة ضد الموت: وإن «الموت الذي تفرُّون منه فإنه ملاقيكم».

إن يوم 11 سبتمبر 2001 هو انعطاف جديد، يؤكِّد «عبثية الحرب»، وهشاشة الحضارة، وسهولة النيل منها على يد أناس قليلي العدد، ويؤكِّد أيضًا أن بناء الأصنام النووية يرهن أصحابَها للقوة. إن بن لادن يتكلَّم من عصر أبي تمَّام، يوم كان «السيف أصدق أنباء من الكتب». كما أن بوش نطق بنفس اللغة، مستخدمًا مصطلحات المواجهة في العصور الصليبية، في وقت يتحوَّل فيه العالم إلى قرية إلكترونية ودماغ جماعي مشترك لا انفكاك فيه بين البشر ولا يمكن أن يكون انفكاك. وكما يقول غورباتشوف في كتابه البيريسترويكا، إن تطور العصر النووي يفرض تطورًا موازيًا في التفكير، أو بتعبير المؤرخ البريطاني توينبي: «الخمر الجديدة لا توضع في زقاق عتيقة»؛ فلا الوعاء يمسك ولا الخمر تبقى. وهو مثل إنجيلي، يُقصَد به اليوم أن الأفكار الجديدة تحتاج إلى مؤسَّسات جديدة وبنى حضارية توازيها. وهكذا فالرق كان لا بدَّ أن ينتهي مع الآلة الصناعية التي تلغي دور عضلة الرقيق، والصناعة أن تولِّد الديموقراطية واللامركزية.

إن خطوة الأوربيين في إرسال وفد رفيع المستوى إلى العالم العربي والإسلامي مؤشِّر نضج بأن العالم ودَّع الحرب، وانتهى وقت تكديس الأسلحة وبناء الترسانات النووية. ولكن أمريكا اليوم تمارس دور سحرة فرعون، فتلقي حبالها وعصيَّها، فيخيَّل للناس أنها من سحرهم تسعى. ولن ينجح في هذا الامتحان الأعظم إلا من كان من مدرسة النبوَّة، وتحرَّر من علاقات القوة. لذا فإنني أقترح على حكام العالم العربي أن يبيعوا كلَّ الأسلحة المجمَّعة في ترساناتهم في المزاد العلني لمن أراد الشراء – والأصح أن يدفنوها لأنها أصبحت «خردة» تضر ولا تنفع، إلا في حرب الجيران، واستعباد الأمة، واستهلاك موارد التنمية – وأن يدرك حكام المنطقة أن قوتهم هي في شعوبهم؛ فإذا انفكوا عنها لم تُغْنِ عنهم صواريخ العالم.

والآن لماذا حدث ما حدث؟ إن أمريكا تسمح اليوم للحديث أن يمرَّ في قناة ذات ثلاث شُعَب: مَن نفَّذ العملية؟ وكيف حدث ما حدث؟ وماذا جرى؟ وأما الحديث في «لماذا؟» فكان «حجرًا محجورا»؛ وهو الذي أشار إليه الصحافي البريطاني كرستوفر هَتْشِنْز من جريدة الغارديان – مع أن الحديث في «لماذا؟» هو «الأساس» للحديث في «كيف؟». فهناك علاقة جدلية غير قابلة للانفكاك بين «كيف؟» و«لماذا؟» في متلازمة فلسفية؛ وما لم يتم الدخول للحدث من خلال تشريح وحدة «لماذا؟» فإن المرض يبقى ناشطًا لا براء منه. فالعنف لا يولِّد إلا العنف، والإرهاب لا يعالَج بالإرهاب. وعندما يقول كيسنجر، على لسان أمريكا، إن "الذين ليسوا معنا هم مع الإرهاب"، فإن هذا إرهاب للعالم كلِّه. وهو ما قاله فرعون من قبلُ: «ذروني أقتل موسى وليدع ربَّه إني أخاف أن يبدِّل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد».

اليوم تريد أمريكا التفويض الكامل من العالم للقتل. ولكن القتل لا يأتي إلا بالقتل، والدم يفجر الدم، والحقد يغذِّي الحقد، والكراهية هي بذور الخوف. وما لم يتم الخروج من الحلقة الشيطانية من الدمار المتبادل فإن المشكلة ستبقى وتنتشر مثل السرطان.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود