بين الإيمان والشعائر*

 

جورج ناصيف

 

لنجزم، بداية، أن الإيمان، من غير تَمَظْهُرِه في شعائر ورموز مخصوصة، يغدو ضربًا من التأمل الفلسفي الفردي، مما لا يصحُّ اعتبارُه ممارسة دينية. فالدين، تعريفًا، معتقدات تكتسب ممارستُها شكلاً طقوسيًّا محددًا. والشعائر، في الأنثروبولوجيا الدينية، تعيد تقديم أو استرجاع حَدَثٍ إلهي تأسيسيٍّ حدث مرَّةً في التاريخ أو التصور؛ فيستعيده المؤمنون به بمَشاهد طقوسية ورموز.

والشعائر أعمال وممارسات تنظِّم العلاقات بين الإنساني والإلهي، أعمال رمزية مرمَّزة codifiés، تنقل حدثًا في الزمان، وتتناقله الأجيال. يتجلَّى ذلك، على وجه خاص، في شعائر الدخول initiation في الجماعة، وشعائر الذبائح الدموية أو النباتية المرفوعة على المذبح، وشعائر تطهير الفرد. بهذا المعنى، تهدف الشعائر إلى إعادة تقديس الزمن، إلى تهيئة المسرح البشري المباشر.

والشعائرُ لازمتْ المعتقداتِ البدائية، مثلما لازمتْ الأديانَ الإبراهيمية: ففي ديانات البعل والخصوبة طقوس عبادة، من ابتهالات وذبائح ومواسم زمنية؛ وإبراهيم حتمًا صلَّى كي يبني مذبحًا للربِّ الذي تجلَّى له (تكوين 12: 7)، ومثله اسحق ويعقوب.

وللشعائر في المسيحية وظائف:

-       وظيفة التعبير الملموس، الجسدي، عن الإيمان، من صوم وصلاة واصطباغ واشتراك في المقدَّسات وسجود وما إليها. فالجسد يشارك، في تناغم مع الروح، ليشكِّلا كيانًا واحدًا في العبادة.

-       وظيفة الانخراط في الدورة الطقسية الكنسية، اليومية والأسبوعية والسنوية، مُتَمَحْوِرَةً حول الفصح، موسم المواسم. فالمؤمن، ينتقل من دورة الزمان الدَّهري إلى دورة الزمان القدسيِّ، حيث الأيام مكرَّسة على تذكار القديسين، والأسابيع مواقيت بين الميلاد والفصح والصعود والعنصرة، وما يتخلَّل الدورات الطقسية الكبرى من أحداث خلاصية، كالبشارة ودخول السيد إلى الهيكل والظهور الإلهي والتجلِّي.

-       وظيفة العبادة العامة وسط الجماعة ومعها: فالشركة ليست مع الله وحده، بل مع الآخرين. والصلاة ليست فعلاً إفراديًّا فقط، يتم في المخدع بعيدًا عن العيون، بل مشاركة كذلك لأعضاء الجسد الآخرين، أي أبناء الكنيسة، في الابتهال واقتبال المقدَّسات. فالجماعة كلُّها تصلِّي، وكلُّها تتقبل المعمَّد الجديد، وكلُّها تبارك الزواج الجديد (كما يعقوب وسارة)، وكلُّها تصلِّي للراقد على رجاء القيامة والحياة الأبدية. حتى الصلوات الفردية التي يتلوها المؤمن، فهي مصاغة بصيغة الـ"نحن": "أبانا الذي في السماوات"، "أيها الثالوث القدوس ارحمنا"، "أعطِنا أيها السيد..."، إلخ. إن الدخول في الشعائر يعادل الدخول في عضوية الكنيسة. لذلك درجت الكنيسة الأولى على وضع عتبة أولى قبل العضوية الكاملة، تتمثَّل في جماعة "الموعوظين" الذين تجري تهيئتُهم لاقتبال العماد المقدَّس، أي العضوية في جسد المسيح. هذه الشعائرية تهدف أساسًا إلى رسم حدود الجماعة، تمييزًا لها عن سائر الجماعات، من أجل تشكيل وعي خاص بالذات، بالفرادة والخصوصية والاختلاف.

بهذا المعنى تؤدي الشعائر دورًا في التعريف بالجماعة، بتسويرها وأفرادها عن سواها، وصدِّ التأثيرات الخارجية عن الكتلة المتجانسة. لذلك كانت، في وجه منها، انتباذًا وقطيعة مع الآخرين. لكن هذا الخطر العفوي في الشعائرية – وهو خطر حاضر بقوة – هو الذي يُملي، في اعتقادنا، ضرورة التعرُّف الجدِّي على شعائر الآخرين، وصولاً إلى تذوُّقها واكتشاف حلاواتها، ابتغاء التواصل وعيش المشتركات، كما ابتغاء إدراك الفرادة. فإذا كانت كلُّ شعيرة مخصوصة بدين أو مذهب، إلا أن الذهاب أبعد من شكلها وبنائها الطقوسي، يكشف جذرها المشترك مع شعائر الآخرين التي تبدو ظاهرًا متعارضة معها:

-       فالصوم، على تنوع أشكاله وشروطه، ينبع من تصور واحد للعالم، ويتطلَّع إلى مقصد واحد: الكفِّ عما ليس الله.

-       وشعائر الصلاة، بل ومواقيتها، لا تختلف مضمونيًّا، بما هي طلب أو شكر أو استرحام أو تهليل.

-       والحج، إذا ارتُقِيَ به، كان حجًّا إلى ربِّ البيت، قبل البيت.

-       والزكاة اسم آخر لافتقاد القريب بالرحمة.

-       وفي عاشوراء كثير من المتشابهات مع آلام السيد.

-       والوضوء اغتسال القلب قبل البدن.

ومَن يذوق الترتيل، كيف لا ينتشي بالتجويد؟ ومن يدخل سرَّ الأيقونة، كيف لا يُدخِل المتجلِّيات الإلهيات في الخطوط التي ترسم اسم الله؟

شعائر كلُّ دين تسوِّره وتعرِّضه للانكشاف، في آنٍ، تبعًا لمن يتلقَّى الكشف الإلهي. يبقى للعين أن تبصر. وللقلب أن يحدس. وللعقل أن يعقل. فالآخر، الذي يبدو غريبًا أو مستهجَنًا في شعائره، هو قريب وأليف متى تجاوزنا خارج الشعائر وأسوارها إلى بواطنها والمكنونات.

ليس ذلك توليفًا بين الشعائر، لكنه إدراك أن الشعائر مرقاةٌ إلى واحد، تتعدَّد إليه السُّبُل، ولا تتنافر. الشعائر إعلانُ ولاءٍ للواحد الباري. فمتى كان يقينًا أن الله إله السماوات والأرض، ما عليها ومَن عليها، ذهبنا إلى الشعائر المختلفة باعتبارها أنغامًا خاصة في مغنَّاة واحدة ينشدها جوق البشر.

وبائس من لا يستطيب سوى الناي، أو لا يطرب إلا للبوق. فالله تسبِّح له المسكونة بكلِّ آلات الطرب.

*** *** ***

عن النهار، الأحد 4 أيار 2003


* مساهمة قُدِّمَتْ في ندوة أقامتْها جامعة سيدة اللويزة في 11 نيسان 2003.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود