اللاهوت المعاصر والأديان الأخرى

الله يعمل في كلِّ الشعوب

 

كلُّ دين، وخصوصًا ما كان "سماويًّا"، يحمل صورة عن نفسه، وصورة عن الأديان الأخرى. وغالبًا ما كانت هذه الصور، تاريخيًّا، مصدر نزاع وتكفير متبادل. فبعض اللاهوتيين المسيحيين يرى أن "لا خلاص خارج الكنيسة"، فيما يرى بعضٌ آخر من الفقهاء المسلمين أن الإسلام وحده "دين الحق"، فيُقصي عن الفوز بالجنة كلَّ مخالف ومختلف دينيًّا. صفحة "أديان ومذاهب" تُفرِد محورًا عن الموضوع يدخل في ما اصطُلِحَ على تسميته بـ"لاهوت الأديان"، بنشرها هذه الدراسة للدكتور جورج صبرا، تليها الأسبوع المقبل دراسة للشيخ نجف علي ميرزائي عن "التعدُّدية الدينية"*.

***

جورج صبرا**

 

ليس في المسيحية عقيدة رسمية حول "الأديان"، مع أن الكنائس المسيحية وُجِدَتْ بين أديان وتراثات إيمانية مختلفة، وتواجهتْ معها عبر العصور. إن مقولة "الأديان"، في ذاتها، مقولة حديثة في الفكر المسيحي. هناك طبعًا مواقف مسيحية لاهوتية كلاسيكية من بعض الأديان. ولعلَّ المفهوم المسيحي التقليدي عن اليهودية هو من أكثر المفاهيم المسيحية المتطورة حيال دين آخر – هذا إذا صحَّ تعبير "دين آخر" على اليهودية (القديمة)، كونها تشترك مع المسيحية في الأسفار المقدسة. كما أن هناك مواقفَ مسيحية لاهوتية قديمة من الإسلام، خصوصًا في الشرق المسيحي. وقبل ذلك، كان هنالك تعاطٍ لاهوتي مهمٌّ جدًّا بين الإيمان المسيحي والاتجاهات الفلسفية الدينية لبعض المدارس الفكرية الهلِّنستية، كالأفلاطونية الحديثة والغنوصية والرواقية وغيرها. لكن كلَّ هذا لا ينفي التأكيد أن اللاهوت المسيحي حول حقيقة الأديان الأخرى والخلاص فيها هو من نتاج العصر الحديث.

إن الوعي المسيحي الجدِّي بأن ثمة بشرًا آخرين ينظِّمون حياتهم بطُرُق مثيرة للإعجاب، ويسعون إلى الحقيقة، ويتوقون إلى الخلاص ضمن تلك الطرق أو الأديان، هو وعي حديث العهد. لم تكن الأديان الأخرى، قبل العصر الحديث، تشكِّل سياقًا أو خلفية مهمَّة للاَّهوت المسيحي. لم يكن اللاَّهوت المسيحي يشعر أن وجود أديان أخرى يشكِّل تحديًا بالنسبة لفهم المسيحية ذاتها. لكن الأمر بدأ يتغيَّر بعد رحلات الاستكشاف الأوروبية في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وبعد الإرساليات المسيحية إلى الشرقين الأقصى والأوسط، وبعد تطورات فكرية في القرن التاسع عشر، عَنِيَتْ وعيَ تاريخانية كلِّ فكر بشري، بل كل حدث وواقع وظاهرة بشرية، وتاليًا، وعي نسبيَّتها. هناك فرع لاهوتي اليوم اسمه "لاهوت الأديان" يعالج مسائل حول علاقة المسيحية بالأديان الأخرى، فيسأل: هل ثمة حقيقة خارج المسيحية؟ ما علاقة الحقيقة خارج المسيحية، إنْ وُجِدَتْ، بيسوع المسيح وبالكنيسة؟ هل ثمة خلاص في الأديان الأخرى أو بواسطتها؟ هل يمكن أن تعترف المسيحية بشرعية أديان أخرى أم تتعامل مع أفرادها فقط؟

يمكن تمييز ثلاثة مواقف أساسية كبرى في اللاهوت المسيحي المعاصر حول "الأديان الأخرى": هناك موقف حَصْري exclusivist، وموقف تعدُّدي pluralist، وموقف شمولي inclusivist.

الموقف الحَصْري

يكتسب الموقف الحَصْري تسميتَه من كونه يحَصْر الخلاص والحقَّ في المسيحية. الإيمان المسيحي هو الحق، وكلُّ الأديان الأخرى والتراثات الإيمانية الأخرى باطل. الخلاص يتأتى من الإيمان بيسوع وحده، ولا خلاص إلا به. ألم يعلن الرسول بطرس أنه "ليس بأحد غيره الخلاص، لأن ليس اسم آخر تحت السماء قد أُعطِيَ بين الناس به ينبغي أن نخلص." (أعمال الرسل 4: 12)؟ وهناك أقوال وأفكار كثيرة مشابهة في الكتاب المقدس تُفسَّر حَصْريًّا. كما أن هناك تعبيرات تاريخية لهذا الموقف الحَصْري، أشهرها عبارة "لا خلاص خارج الكنيسة"، التي فُسِّرتْ بتشدُّد لافت من جانب باباوات ومجامع كنسية. أورِد منها ما أعلنه مجمع فلورنسا (1438-1445) من أن

الكنيسة الرومانية المقدسة تؤمن وتعترف وتعلِّم أنه لا يستطيع البشر أن ينالوا الحياة الأبدية إنْ بقَوْا خارج الكنيسة الكاثوليكية؛ وليس فقط الوثنيون بل أيضًا اليهود والهراطقة والمنشقون – فكلُّهم مصيرهم إلى "النار الأبدية المُعَدَّة لإبليس وملائكته" [متى 41:25]، إلا إذا انضمُّوا إلى الكنيسة قبل مماتهم.

المهمُّ في الأمر أن الموقف الحَصْري له تعبيرات كلاسيكية عبر التاريخ؛ وهو لا يقتصر على كنيسة واحدة. والإنجيليون الأصوليون هم أيضًا من أتباع النظرية الحَصْرية: الخلاص والحق في المسيحية الكتابية فقط، وكلُّ الأديان والطرق الأخرى باطلة وتؤدي إلى الهلاك.

في النظرة الحَصْرية هناك حذر شديد – إن لم نقلْ رفضًا مبدئيًّا – للانفتاح على الأديان الأخرى أو الحوار معها – إلا إذا كان الهدف تبشير الآخرين لتنصيرهم. وكلُّ انفتاح وحوار بغير هذا الهدف إنما هو خيانة لكشف الله في يسوع المسيح، ومساومة على الحقيقة، لأن ذلك يفترض أن ثمة حقيقة خارج المسيح أو الكنيسة، أو ثمة ما يمكن تعلُّمه من الآخرين. الموقف الحَصْري المتشدِّد شائع بين المسيحيين من جميع الطوائف؛ ولعل قوَّته تكمن في ولائه المطلق لنهائية يسوع المسيح. لكنه موقف لم يعد قادرًا أن يقف في وجه النقد اللاهوتي والكتابي له.

هذا الموقف لا يميِّز بين يسوع المسيح – كشف الله النهائي – وأفكار البشر وتعبيراتهم عن المسيح؛ لا يميِّز بين محتوى الكشف الإلهي والوسائط الإنسانية التاريخية التي بواسطتها يأتينا ذلك الكشف. فالمسيح هو الحقيقة النهائية؛ ولكن المسيح لا يؤسَر في معادلة واحدة، أو صياغة واحدة، أو تعبير واحد، أو عقيدة أو كتاب أو مؤسَّسة واحدة، بحيث نستطيع السيطرة عليه، وادِّعاء امتلاكه كليًّا. ثم إن في الكتاب المقدس شواهد عدة على أن الله "لم يترك نفسه بلا شاهد" (أعمال 14: 17) في العالم، وأن كلمة الله الذي تجسَّد في يسوع هو النور الذي ينير كلَّ العالم وكلَّ إنسان (يوحنا 1: 9).

الموقف التعدُّدي

إن الموقف الحَصْري، وما يستتبع من نتائج حول حَصْر الحقيقة والخلاص في المسيحية وحدها، وما قد يستجر ذلك من تفوُّق واستعلاء للمسيحية على الأديان الأخرى، هو تمامًا ما يريد أتباع الموقف التعدُّدي تجنُّبه، بل تخطِّيه. ينطلق الموقف التعدُّدي من كون المسيحية أحد الأديان العالمية العديدة؛ لكنها، ككلِّ الأديان الأخرى، لها واقع تاريخي معيَّن يستجيب، بطريقته الخاصة، للحقيقة النهائية في هذا الكون. غير أن الاستجابة المسيحية ليست الاستجابة الوحيدة الشرعية أو الممكنة: يشدِّد اللاهوتيون التعدُّديون على أن وعي النسبية التاريخية الأساسية لكلِّ الأحداث ولكلِّ معرفة يقودنا إلى إزالة الوهم بأن ثمة تعبيرًا بشريًّا واحدًا، أو طريقًا واحدة إلى الحقيقة النهائية للوجود، تكون صالحة لكلِّ أنواع البشر في كلِّ الأزمان والأمكنة. إن الله أكبر بكثير من تصوراتنا وتعبيراتنا وقدراتنا المعرفية. الله سرٌّ لا يُسبَرُ غورُه؛ وهو يكشف ذاته للبشر في صور مختلفة في أديان وأوضاع مختلفة. التركيز في الموقف التعدُّدي هو على "الله": كلُّ الأديان تتمحور حول "الله"، أو حول حقيقة نهائية مطلقة. بالنسبة للمسيحيين، يسوع هو الذي يكشف لهم هذه الحقيقة النهائية ويوصلهم إليها؛ ولكن بالنسبة لغير المسيحيين هناك طُرُقٌ أخرى، وربما تجسُّدات أخرى للحقيقة الإلهية. ويؤكد التعدُّديون على أن كلَّ الأديان هي مجالات خلاص وتحرير لأتباعها.

يصرُّ التعدُّديون على أن المسيحية هي استجابة مشروعة للحقيقة النهائية، كما يصرُّون على المسيحيين أن يستمروا فيها ويحيوها، كما عرفوا الحقَّ فيها في الله الآب المتجلِّي في تعاليم يسوع. ويُفترَض بالأديان الأخرى أن تفعل الشيء عينه. يمكن – بل يجب – أن يتمَّ ذلك من دون تنافس وعداء، لأن الطريق الصحيح للعلاقة بين الأديان هو التفاعل والحوار، وليس ادِّعاء التفوُّق ومحاولة ابتلاع الآخر. أما في ما يتعلق بنهائية يسوع المسيح وفرادته، فيؤكد التعدُّديون أن يسوع هو حقًّا كشف الله الخلاصي، لكنه ليس بالضرورة وحده كشف الله الخلاصي. ليس يسوع هو الحقيقة الإلهية الكاملة والنهائية والفائقة، ولكنه يأتينا حقًّا برسالة عالمية وحاسمة لا غنى عنها. إنه كلمة الله الخلاصية، ولكنه ليس كلمة الله الخلاصية الوحيدة؛ وهذا يعني أن ثمة إظهارات أخرى للحقيقة النهائية، إلى جانب يسوع.

هذا شرح فيه شيء من التبسيط للموقف التعدُّدي، لأن هذا الموقف هو نفسه متعدُّد، ولا يساوي بسذاجة بين جميع الأديان، كما لا ينكر أن في الأديان أمورًا سلبية. لكن النظرة التعدُّدية هي في الجوهر واحدة. ولكي يعتنق اللاهوتُ المسيحي الموقفَ التعدُّدي، بما يتضمَّن من اعتراف بحقيقة الأديان الأخرى والخلاص فيها، المستقلَّيْن عن المسيحية، عليه أن يعيد النظر في عقيدة المسيح Christology إعادة نظر أساسية، تؤدِّي في النهاية إلى إعادة الإطاحة بالاعتقاد المسيحي أن الله كشف ذاته وأعطى ذاته في يسوع المسيح حصرًا.

الموقف التعدُّدي يرسو في النهاية على المفهوم النسبي للحقيقة. والسؤال المطروح يصبح: هل يتوافق هذا الموقف مع شهادة الكتاب المقدس واختبار الإيمان المسيحي؟

الموقف الشمولي

إن الاتجاهات الكبرى للاَّهوت المسيحي حول الأديان الأخرى تندرج اليوم تحت ما يمكن تسميته بالموقف الشمولي. فهذا الموقف يتجنب انغلاقية الموقف الحَصْري ونظرته الضيقة إلى حقيقة الله وعلاقته بالعالم كلِّه، كما يتجنب الإطاحة بمركزية يسوع المسيح ونهائيته في تعدُّدية تساوي بين جميع الأديان بشكل مبدئي. إن معظم اللاهوتيين الإنجيليين الكبار اليوم هم شموليون؛ وكذلك المجمع الفاتيكاني الثاني، ولاهوتيون كاثوليك وأرثوذكس كثيرون. الشمولية تعني أن ثمة حقيقة وخلاصًا عند الآخرين وفي أديانهم، ولكن ليس باستقلال عن المسيح. فالمسيحية، في شكل أو في آخر، تشمل الأديان الأخرى، وتشمل الحقَّ والخلاص فيها.

إن الموقف الشمولي موقف قديم، وليس وليد العصر الحديث، كما قد يظن بعضهم. فهو يعود إلى أوائل الفكر المسيحي، المبني على لاهوت "الكلمة" أو الـLogos في إنجيل يوحنا، كما نجده، مثلاً، عند يوستينوس الشهيد وإريناوس: فالأول تحدث عن شذرات (أو "بذور") الكلمة الإلهية الموجودة عند الذين لم يعرفوا المسيح؛ والثاني تكلَّم على البشر الذين لم يعرفوا المسيح، لكنهم عاشوا بمحبة الله ومخافته، ومارسوا البرَّ والتقوى تجاه الله والقريب – فهم سينالون الملكوت أيضًا. طبعًا ليس هناك نظرية لاهوتية متطورة في موضوع الأديان الأخرى في الكتابات القديمة؛ لكن الفكرة الشمولية موجودة بوضوح عند بعض آباء الكنيسة، مع أنها غالبًا ما تتناول الذين عاشوا قبل مجيء المسيح وليس من أتوا من بعده، ولم يؤمنوا به.

إن الموقف الشمولي المعاصر هو تطوير وتوسيع وتعميق لهذه النظرة الشمولية التي نجدها في التراث المسيحي القديم. لكن الموقف الشمولي متعدُّد الاتجاهات والنظرات، لن يتسع هذا البحث لذكرها كلِّها، أو حتى لذكر معظمها؛ لذلك سأكتفي بعرض موجز لثلاثة اتجاهات لاهوتية شمولية لها أثرها في لاهوت الأديان المعاصر:

أ‌.       النظرة التدرُّجية أو التطورية: يقول هذا الاتجاه اللاهوتي بأن العلاقة بين الإيمان المسيحي والأديان الأخرى هي علاقة الناقص بالمكتمل. فالأديان الأخرى هي إعداد لقبول حقيقة المسيح؛ وكلُّها سوف يجد اكتماله ويتحقَّق في إنجيل يسوع المسيح. نهائية المسيح هي بمثابة قمة السلَّم أو أعلى حلقة في السلسلة. يندرج اسم اللاهوتي فريدريك شلايرماخر هنا، كما الفيلسوف الألماني هيغل الذي قرأ تاريخ الأديان كلَّه كحركة تقدمية في اتجاه واحد. كلُّ دين عبَّر عن لحظة خلاقة، ثم تطوَّر وارتقى إلى ما هو أعلى منه، حتى اكتمل التطور في المسيحية. بحسب بعض أتباع المفهوم التدرُّجي للأديان، لا يلعب التسلسل الزمني دورًا كبيرًا؛ فقد يكون هناك دين ظهر بعد المسيحية، لكنه، في محتواه وجوهره، سابق على المسيحية. إن النموذج الأساسي لهذه النظرة هو المفهوم التقليدي للعلاقة بين اليهودية والمسيحية: اليهودية كانت إعدادًا للمسيحية التي ورثتْها وأكملتْها.

هناك طبعًا اعتراضات مهمة على هذا المفهوم، ليس أقلها أن الدراسات الموضوعية والمعمَّقة للأديان الأخرى تُظهِر أنه لا يمكن ترتيبها في تراتبية هرمية ذات اتجاه واحد. إن محاور الأديان الأساسية مختلفة؛ ولكي نفهم كلَّ دين كما يفهم هو ذاته، علينا أن نقاربه من الداخل، وليس كمرحلة إعدادية للمسيحية.

ب‌.  نظرة الإيمان الضمني: ترتبط هذه النظرة باسم اللاهوتي الكاثوليكي كارل راهنر، الذي علَّم بأن نعمة الله وكشفه موجودان وفاعلان كشرطين لا بدَّ منهما لوجود الخليقة على الإطلاق؛ أي أنهما موجودان وفاعلان في الخليقة وفي البشر جميعًا، حتى لو لم يُعلَنا صراحةً ونهائيًّا إلا في حَدَثِ يسوع المسيح. إن للمؤمنين من الأديان الأخرى، بحسب هذا الموقف الشمولي، مدخلاً إلى نعمة الله السابقة، رغم أنهم قد لا يعرفون شيئًا عن المسيح، أو لأسباب معينة ومشروعة قد رفضوا البشارة المسيحية. كلُّ من يحيا بصدق وإخلاص، بحسب النور المعطى له من الله، بحسب ضميره الصالح، هو "مسيحي مجهول الاسم" (غير مسمَّى). إذًا، هناك إيمان ضمني خارج الكنيسة؛ وكلُّ من عنده هذا الإيمان الضمني هو مسيحي مجهول الاسم؛ والإيمان عند هؤلاء البشر هو أيضًا من عمل الله. والأديان العالمية يمكن أن تكون أقنية للتعبير عن هذا الإيمان الضمني، وتاليًا، يمكن أن تكون وسائط خلاص. إذا كانت الأديان تؤدي دورًا يساعد على إقامة علاقة صحيحة مع الله، رغم نواقصها وشوائبها، فإنها أديان شرعية تؤدي إلى الخلاص.

لكن موقف راهنر ليس في النهاية تعدُّديا أو نسبيًّا، لأنه يصرُّ على أن المسيحية هي الدين المطلق للجميع؛ وما هو مجهول الاسم وغير منظَّم ومبعثر وضمني عند الآخرين قد كُشِفَ كليًّا وصراحةً في يسوع وفي الكنيسة. وعندما تسنح الفرصة، ينبغي على المؤمن الضمني أن يصير مؤمنًا صراحةً، وينضمَّ إلى الكنيسة، حيث ينعم بالحقيقة الكاملة.

لقد كان لفكر كارل راهنر حول الأديان الأخرى أثرٌ مهم على المجمع الفاتيكاني الثاني، كما على الكثيرين من اللاهوتيين الكاثوليك؛ لكنه تعرَّض أيضا لانتقادات كثيرة، خصوصًا بالنسبة لمفهوم المسيحيين مجهولي الاسم. قال بعضهم إن هذا موقف لاهوتي "استعماري"، يفرض على الجميع صفة المسيحية، من حيث يدرون أو لا يدرون. فلماذا لا يقول البوذي، مثلاً، إن المسيحيين هم "بوذيون مجهولو الاسم"؟ لكن جاذبية نظرة راهنر وقوَّتها تكمنان في أنه استطاع أن يعترف بالحقيقة عند الآخرين، وبإمكان الخلاص لهم، من دون أن يساوم على نهائية يسوع المسيح أو يتخطَّاها. كما أن موقف راهنر لا يؤدي إلى التخلِّي عن التبشير، لأن هدف التبشير هو إخراج الإيمان الضمني إلى العلن.

ت‌.  نظرة الكشف النهائي: في الجانب الإنجيلي، يبرز اسم اللاهوتي الألماني ولفهارت باتنبرغ، كأحد أهم اللاهوتيين الشموليين في نهاية القرن العشرين. ينطلق باتنبرغ من أن جميع البشر يتوقون إلى النهاية المطلقة التي سوف تضفي معنًى على كلِّ ما سبق، وتنير كلَّ ما حدث. ويؤمن المسيحيون بأن تلك النهاية حدثت في قيامة يسوع المسيح، إلا أننا نرتقب حدوثها للعالم كلِّه. كلُّ الأديان هي الآن ناقصة وغير مكتملة، بما فيها المسيحية. لكن المسيحية ذاقت النهاية المطلقة، واختبرت الكشف النهائي في المسيح؛ لذلك فهي تحتوي على الحقيقة النهائية وعلى الخلاص. لكن ذلك لا يعني أن المسيحية حَصْرية في نظرتها إلى الأديان الأخرى. يرى باتنبرغ أن شهادة الكتاب المقدس لا تبرِّر الحَصْرية ولا تؤيِّدها، خصوصًا في ضوء متى 8: 11، حيث يقول يسوع "إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب، ويتكئون مع إبراهيم واسحق ويعقوب في ملكوت السموات"؛ وأيضًا في ضوء متى 25: 31 وما يتبع، حيث تجتمع أمام كرسي الديَّان كلُّ الشعوب، فيقضي بينها على أساس ما فعلتْه ليسوع في بني البشر، وليس على أساس معرفتها أو عدم معرفتها الشخصية بيسوع وبالكنيسة والأسرار وما إليها. يسوع هو مقياس الخلاص؛ ولكن هذا لا يعني أن على المخلِّص أن يكون التقى بيسوع بالوسائط التاريخية المعروفة. كلُّ البشر وكلُّ الشعوب سوف تُدان بحسب تعاليم يسوع، حتى الذين لم يلتقوا به قط.

يعلِّم باتنبرغ أن كثيرين من غير المسيحيين سوف ينالون الخلاص في اليوم الأخير؛ لكن الاشتراك في الخلاص الآن مؤمَّن في الكنيسة فقط. بالمعمودية والإيمان يتَّحد البشر بالمسيح، وينالون تأكيد الخلاص، شرط أن يحيوا حياتهم وفق معموديتهم وإيمانهم المسيحي. إن الثقة بالخلاص غير ممكنة حاليًّا خارج الكنيسة؛ ولكن هذا لا يمنع أن يكون هناك كثيرون سينالون الخلاص في اليوم الأخير، وهم ما عرفوا يسوع قط. لكن كلَّ مَن ينال الخلاص إنما يناله على أساس توافُق حياته مع تعاليم يسوع. وللأديان دورٌ ممكن هنا: فإذا كانت الأديان الأخرى مجالاً يساهم في توافق حياة أتباعها مع تعاليم يسوع، فهي تلعب دورًا في إمكان الخلاص؛ لكن الخلاص ليس بواسطتها. يبقى مقياس الخلاص وواسطته ومعيار الاشتراك فيه هو مدى قرب الأديان الأخرى من رسالة يسوع أو بُعدها عنها. والأديان هنا مختلفة؛ فيجب فحص كلِّ دين على حدة بالنسبة لهذا الموضوع. المقياس هو حبُّ القريب، المؤسَّس على رسالة الملكوت عند يسوع.

الخلاصة

يصوِّر بعض التعدُّديين الدينيين العلاقة بين المواقف الثلاثة وكأنها علاقة تطورية زمنيًّا وفكريًّا. فالموقف التقليدي هو الحَصْري؛ لكنْ يُتخلَّى عنه في الموقف الشمولي، لتنفتح المسيحية على عمل الله خارج الكنيسة وخارج الإيمان الصريح. غير أن هذا الانفتاح يبقى ناقصًا وغير وافٍ، إلى أن يؤدي إلى الاعتراف الكامل بأن في الأديان الأخرى كشفًا إلهيًّا خاصًّا؛ وهي طُرُق خلاص لأتباعها، باستقلال عن المسيح والكشف الإلهي فيه. يعطي هذا الانطباع بأن الموقف التعدُّدي هو الموقف الناضج والنتيجة المنطقية لمسار لاهوتي يتطور. لكن في هذا التصوير للأمر تبسيطًا كبيرًا؛ بل إن فيه فهمًا خاطئًا لحقيقة الأمر. ثمة ثلاث سمات طبعتْ المسيحية منذ بداياتها في علاقتها مع الغير؛ وهذه السمات أسهمت، إلى حدٍّ كبير، في تشكيل المواقف من الأديان الأخرى أو أتباع الطُّرُق الأخرى.

أولاً: كانت المسيحية، منذ البدء، حركة إرسالية انطلقتْ إلى الآخرين ومدَّتْ لهم يد الشراكة بهدف تعريف العالم بالربِّ والمخلِّص يسوع المسيح. وهذه الانطلاقة إلى الآخرين غالبًا ما عَنَتْ أن المسيحية تفاعلتْ مع الحضارات والاتجاهات الدينية للآخرين، تعلَّمتْ منهم وأثَّرتْ فيهم، ثم خرجتْ من التفاعل والصراع معهم مسيحية متجددة وغنية. فالمسيحية التي تفاعلتْ مع الفكر اليوناني أو الحضارة الهلِّنستية، مثلاً، اغتنتْ وتغيَّرت بعض الشيء، أو عبَّرتْ عن نفسها بطريقة جديدة.

ثانيًا: اتَّسمت المسيحية، منذ البداية أيضًا، بتشدُّد وعداء، وفي بعض الأحيان بممارسات عنفية، عندما رفض الآخرون الرسالة المسيحية أو حاولوا تشويهها أو تمييعها أو التخلِّي عنها؛ ومن هنا مصدر الحَصْرية في المسيحية. ونرى عبر التاريخ أن الموقف الحَصْري المتشدِّد وعباراته الشهيرة، مثل "لا خلاص خارج الكنيسة" و"ليس بأحد غيره الخلاص"، إنما قيلت لمن كان رفيق الدرب، ثم حاد عنه، أو من كان في الكنيسة وحاول شقَّها أو الخروج على تعليمها. التشدُّد كان غالبًا موجَّهًا للداخل، لأهل البيت، ولم يكن في الدرجة الأولى مقصودًا به أتباع الأديان الأخرى التي لم تعرف المسيح.

ثالثًا: أقرَّتْ المسيحية، منذ بداياتها أيضًا، بعمل لله في الشعوب الأخرى وفي حضاراتها، خصوصًا في ضوء مقدمة إنجيل يوحنا التي تتحدث عن "الكلمة" الذي "به كان كلُّ شيء" والذي ينير العالم كلَّه. في المسيحية اعتراف مبدئي واحترام لعمل روح الله وكلمته في الكون كلِّه، حتى الذي لم يعرف المسيح ولم يعترف به. أورِد هنا القول المنسوب إلى القديس أمبروزيوس: "كلٌّ حقٍّ، كائنًا من كان قائلُه، هو من الروح القدس." من هنا مصدر الموقف الشمولي. النظرة حيال الآخرين غير المسيحيين يحدِّدها هذا الاعتراف بعمل الله الخالق في جميع البشر. لذلك فالشمولية هي، في قناعتي، عنوان العلاقة المسيحية مع الآخرين. أما الحَصْرية فهي إجراء بيتي داخلي لِمَن عرف المسيح واعترف به، ثم ضلَّ أو شكَّك أو حاول المساومة والتمييع.

الشمولية والحَصْرية، في مقصدهما الأساسي، حركتان، بل موقفان، لا مفرَّ منهما في المسيحية، بسبب طبيعة المسيحية ذاتها. لكن التعدُّدية الدينية شيء آخر تمامًا، ولا يمكن اعتبارها النتيجة المنطقية للتخلِّي عن الحَصْرية أو تحقيقًا كاملاً لمقصد الشمولية. الموقف التعدُّدي الديني هو موقف جديد ومنفصل، لأنه يتخلَّى عن نهائية يسوع المسيح، وعن كونه هو الخلاص، ليعتبره مجرَّد طريق للخلاص، إلى جانب طرق أخرى. للمسيحية قدرة كبيرة على التفاعل مع الغير والتأثر به، إلى حدِّ إعادة صياغة الذات، كما حصل مرارًا عبر التاريخ؛ لكن ثمة فرقًا بين إعادة صياغة الذات أو التعبير عن الجوهر بطريقة أخرى، وبين ضياع الذات أو التعبير عن جوهر آخر. وهذا ما أعتقد أنه حاصِل في مدرسة التعدُّد الديني. أن نقول ونعتقد، كمسيحيين، بأن جميع الأديان كشف إلهي، وأن فيها خلاصًا مستقلاً عن كشف الله الآب في يسوع المسيح، لهو تخلٍّ عن جوهر المسيحية. هناك حقٌّ في الأديان الأخرى، وهناك إمكان خلاص لأتباعها؛ ولكن الحقَّ فيها لا يمكن أن يكون مستقلاً عن ملء الحقِّ الذي هو المسيح، والخلاص الذي فيها هو خلاص المسيح، بشكل أو بآخر.

غنيٌّ عن القول إن أتباع الموقف الشمولي هم أيضا دُعاة حوار بين الأديان؛ وكلُّهم يشدِّدون على الحوار المبني، أولاً، على الانفتاح والاحترام المتبادل، وعلى نقد الذات. فالحوار الحقيقي ليس مجرد وسيلة للتعريف بالذات تجاه الآخرين، ولحضِّهم على مواجهة شوائب أديانهم ونقائصها، بل يهدف أيضًا إلى تجديد الذات وإصلاحها والعمل مع الآخرين. فمع أننا، كمسيحيين، نؤمن أن الحقيقة النهائية معطاة لنا، إلا أن هذه الثقة إنما تصيب الحقيقة لجهة المحتوى. أما شكل الحقيقة، أي طُرُق التعبير عنها وصياغتها وممارستها، فهذه أمور غير مُنزَلة، وهي عرضة للتشويه، وفي حاجة دائمة للتجديد والنقد والإصلاح. "لنا هذا الكنز في أوانٍ خزفية" يذكِّرنا الرسول بولس (2 كورنثوس 4: 7). إن وعينا المستمر لـ"خزفية" الأواني التي تحتوي على الحقيقة إنما ينمِّي فينا روح الانفتاح والتواضع والصبر والتسامح. وما هذه سوى سمات الحوار الأصيل مع الأديان الأخرى.

*** *** ***

عن النهار، الأحد 10 آذار 2002


* مقال الشيخ نجف علي ميرزائي بعنوان "لا دين يحتكر الحقيقة" منشور في "مرصد" معابر، إصدار تشرين الثاني 2003: http://maaber.50megs.com/issue_november03/lookout3.htm. (المحرِّر)

** الدكتور جورج صبرا هو أستاذ اللاهوت وعميد كلِّية مدرسة الشرق الأدنى للاَّهوت، بيروت.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود