ذكريات وتأمُّلات "جزراوية"

 

أكرم أنطاكي

 

كل شيء على ما يرام

يا سيدتي المركيزة

كل شيء على ما يرام

كل شيء على ما يرام...

(أغنية فرنسية ساخرة)

 

1

على هامش الاضطرابات الأخيرة...

ما جرى مؤخرًا في البلاد، بدءًا من القامشلي والحسكة، وصولاً إلى دمشق وحلب وضواحيها، يُعيدني إلى أيام يرجع بعضُها، ربما، إلى ما يقارب الثلاثين سنة من الآن. وبالتالي، فإن ما أتفكَّر فيه ههنا هو مجرَّد انطباعات وأحداث متقطِّعة، سُجِّلَتْ في معظمها آنذاك، حين جعلتْني الحياة أتعرَّف إلى تلك المناطق الفقيرة والمهملة من بلادنا. وهي انطباعات خاصة وأحداث متفرقة قد لا يكون لبعضها علاقة مباشرة بالموضوع.

2

Доброе утро!

كان ذلك في أوائل العام 1974، بعدما انتهيت من أداء خدمة العلم، وبدأت عملاً جديدًا كمهندس لدى "شركة الأعمال الإنشائية" في مشروع سكة حديد دير الزور – الحسكة – القامشلي – عملاً التحقت به، على ما أذكر، في 06/02/1974.

وصلت إلى المخيِّم المُعَدِّ للورشة، حيث مركز عملنا، والواقع في منطقة جرداء وسط البادية، على بعد 10 كم من مدينة الحسكة. اسم المكان – ولست أعرف السبب في ذلك – كان "صباح الخير" أو Доброе утро ["دوبرايْ أوترا"]، كما كان يدعوه الخبراء الروس العاملون معنا في المشروع.

وكان أول مَن التقيت به صديقي من الكلِّية (معاون مدير الموقع) عزيز داود الذي انقطعت عنه منذ تخرُّجنا. كان جالسًا على سريره يخطُّ رسالة؛ وحين سألته عمَّا يكتب، ضحك وأجابني:

-       أكتب رسالة لصديقي وزميلنا المهندس ... [لم أعد أذكر اسمه]، لأن هذا الأحمق (مثلك تمامًا يا أكرم) أخبرني أنه يفكر في المجيء إلى هنا لكي يعمل معنا...

-       وبِمَ أجبته؟

-       أنا أصف له الطبيعة الخضراء الجميلة المحيطة بنا لأقنعه بالإسراع في المجيء...

-       لكن... أين ترى هذه الخضرة، وكلُّ ما حولنا هو تلك البادية الجرداء وغبارها؟!

-       انظر إلى حوض الخبِّيزة الذي إلى جانبي، وتأمَّل الخضرة ههنا!

كان هذا هو انطباعي المؤثر الأول عن هذه المنطقة، حيث مركز عملنا. أما انطباعي الثاني فكان حين تعرفت إلى طبَّاخ الورشة الملقَّب بـ"أبو جوزيف".

-       استمع فقط، يا أكرم، ودعه يتكلَّم.

كان هذا ما وشوشني به بركات ظاظا (رحمه الله) حين جلسنا معًا إلى مائدة المطعم. ثم استدار، موجِّهًا كلامه إلى ذلك العجوز ذي التقاطيع الحادة الواقف أمامنا ليسأله:

-       اجلس وحدِّثنا، يا أبو جوزيف... حدِّثنا كيف أصبحت ذات يوم شيوعيًّا...

وابتسم أبو جوزيف ابتسامة عريضة، ثم تربَّع أمامنا بكلِّ أبهة، ليكرِّر، للمرة الـ...، تلك القصة التي كان يعيدها على مسامع كلِّ قادم جديد يتعرف إليه...

-       ... أنا من "مشتى الحلو"، كما تعلمون... كان هذا في أواسط الخمسينات... في حينه كنت ما أزال شابًّا عندما أقنعني أحد الأصدقاء بحضور حفل للشيوعيين – حفل سيلقي فيه "ابن ضيعتنا"، الأستاذ دانيال نعمي، خطابًا هامًا. فحضرت الحفل، وأعجبت بالخطاب الذي صفَّقت له كثيرًا (رغم أني لم أفهم منه شيئًا)... وقررت، بعد ذلك بفترة وجيزة، الانتساب إلى الحزب الشيوعي، علَّني أجني من هذا نفعًا ماديًّا لي ولعائلتي... فالشيوعيون في بلدتنا كانوا أقوياء في حينه، كما تعلمون...

-       ثم ماذا يا أبو جوزيف؟

-       ثم ماذا! ثم ماذا! انتسبت إلى الحزب، فرحبوا بي لأني كنت فقيرًا معدمًا، ولأن الحزب، كما قالوا لي يومئذٍ، هو حزب للفقراء من أمثالي... ودعوني يومها للذهاب معهم إلى قرية مجاورة في المنطقة... إلى "حب نمرة"، حيث كان يقام مهرجان، وحيث رحَّب بنا الرفاق، وغدُّونا صفيحة ولبن... وحيث ألقى الرفيق دانيال وآخرون خطبًا لم أفهم منها شيئًا، وصفَّقتُ لها كثيرًا... فقد كنت يومها مسرورًا جدًّا... لأنه ليس كلَّ يوم آكل صفيحة...

-       ثم ماذا يا أبو جوزيف؟ لماذا انسحبت بعدها من الحزب؟

-       لأنه، بعد هذا بأيام، أخبرونا أن وفدًا من "حب نمرة" ومن "المشتايي" ومن ضيع مجاورة أخرى سيأتي إلى عندنا ليردَّ الزيارة، ولأنه، كما تقضي التقاليد، من الواجب أن نستقبلهم استقبالاً لائقًا وأن نغدِّيهم... فكُلِّفَ كلُّ رفيق بإحضار شيء من أجل هذا... وكُلِّفْتُ أنا بإحضار خمسة كيلوات من الخبز وثلاثة كيلوات من اللبن!!! ورجعت إلى بيتي مطأطئ الرأس حزينًا، أفكِّر في تلك الورطة التي علقت بها... لم أستطع النوم في تلك الليلة... من أين سأحضر لهم خمسة كيلوات خبز وثلاثة كيلوات لبن؟! وكيف ومن أين سأدفع ثمنها؟! ثم... ألله يستر! ماذا يمكن أن يطلبوا منِّي بعد هذا؟! ونظرت إلى أم جوزيف وإلى الأولاد وإلى وجوههم الشاحبة وثيابهم المهترئة... واتخذت قراري...

-       وماذا كان قرارك يا أبو جوزيف؟

-       ذهبت إلى مسؤولي الحزبي، وأخبرته أني قررت الانسحاب من الحزب الشيوعي!

أما انطباعي الثالث، الأهم والأعمق، الذي تكوَّن خلال الأشهر الخمسة التي قضيتها في تلك المنطقة التي لم أكن أعرفها من قبل، فكان من خلال التعرُّف إلى طبيعتها وإلى أهلها. فهذه كانت المرة الأولى التي أرى فيها الحسكة والقامشلي وما حولهما.

كان معظم عمال الورشة، حيث كنَّا نعمل، من أبناء المنطقة: خليط عجيب من الأكراد والأرمن و... "الشوايا"...

لأنه هكذا كانوا يسمُّون تلك الفئة الأفقر والأكثر تخلفًا من البدو الذين لم يتحضَّروا إلى الآن. فالأكراد في ورشتنا كانوا عمالاً من أصول فلاحية، لا يتقنون العربية ولا يحملون، في معظمهم، الهوية السورية. أما المسيحيون الأرمن من أبناء المنطقة، الذين كانوا أرقى منهم قليلاً، فكانوا نجَّارين و/أو حدادين...

وأقرأ ذات يوم، مكتوبًا بالطبشور الأحمر داخل إحدى العبَّارات، أنْ ههنا "... في هذه العبَّارة نـ... كوكو ويرونت وضحة"! أتذكر هذا جيدًا، لأني تعرفت إلى كوكو ويرونت، اللذين كانا من أفضل نجَّاري البيتون في ورشتنا؛ كما عرفت أيضًا وضحة، التي كانت ابنة أحد حراسنا الشوايا والتي كانت تبيع "مفاتنها" لمن يعجبها و/أو يُعجَب بها من عمال الورشة ومهندسيها!

نعم، مازلت أتذكر جيدًا تلك المنطقة البائسة المسكينة وسكانها، وما قيل لي من أن غالبية سكان مدينة القامشلي، آنذاك، كانوا من المسيحيين (السريان والكلدان والآشوريين وبعض الأرمن)، الذين كانت تسكن إلى جوارهم أقلِّيات كبيرة نسبيًّا من الأكراد ومن البدو... ومن أن بوسعي، إن شئت، التوجُّه من هنا مباشرة إلى تركيا عن "طريق القشق" لشراء بعض الأغراض. فمنطقة الحدود مفتوحة هناك؛ والأتراك غالبًا ما يأتون إلى عندنا للتبضُّع و/أو لأسباب أمنية أخرى، كما نذهب نحن إلى عندهم للتبضُّع...

أما مدينة الحسكة فكانت ذات تركيبة مشابهة لتركيبة القامشلي؛ لكن نسبة العرب البدو فيها كانت أكبر. والمَعْلَم السياحي الوحيد فيها آنذاك كان "الفندق الزراعي" الذي كنَّا نذهب إليه مرتين في الأسبوع للعشاء و/أو لاحتساء البيرة.

وأنا أعلم اليوم، كما يعلم الجميع، أن الأحوال تغيرت: فمسيحيو المنطقة هاجروا، في معظمهم، إلى أمريكا أو السويد أو إلى المدن الداخلية في البلد، وأضحى الباقون منهم، بالتالي، مجرَّد أقلِّية صغيرة، بينما أصبح الأكراد هم الأكثرية الساحقة.

وكانت المشكلة المستعصية التي خبرتها مباشرة آنذاك، والتي لم تجد حلاً إلى الآن، هي مشكلة الأكراد غير المجنَّسين...

-       لأنهم، في معظمهم، ليسوا من سورية؛ إنما هربوا إلى هنا من تركيا أو من العراق...

هذا ما قاله لي، في حينه، مدير إحدى النواحي الذي كان من دير الزور، والذي التقيت به مصادفة في النادي الزراعي في الحسكة.

-       لأنهم، في معظمهم، من أبناء هذه المنطقة غير الواضحة الحدود والمعالم، حيث يتم الانتقال بسهولة فائقة من هذا الطرف إلى ذاك.

هذا ما أجابني به أحد "الرفاق" حين سألته عن الموضوع.

يومذاك، كان الحزب الشيوعي السوري، القوي نسبيًّا بين الأكراد والمسيحيين، يطالب بتجنيس أكراد المنطقة ومنحهم الهوية السورية. وكانت الدولة (و"حزبها القائد") ترفض هذا الحلَّ الذي نسيه (أو تناساه) الشيوعيون بعدئذٍ! والحديث كان يجري عن "حزام عربي" يُحاط به أكراد المنطقة، يضمن لها، من منظور السلطة، أكثريةً عربيةً، من جهة، ويشكِّل فاصلاً بينهم وبين أكراد تركيا والعراق، من جهة ثانية... مشروع فاشل من جملة تلك المشاريع "الصميدعية" غير المعقولة، التي لم تستطع دولتنا طبعًا تنفيذها... وأيضًا...

تقع الحسكة والقامشلي، وكذلك معظم القرى والمناطق السكنية المأهولة هناك، على نهر الخابور الذي ينبع من داخل الأراضي التركية على مقربة من الحدود – هذا النهر الذي كان يسير متدفقًا داخل الأراضي السورية ليروي سهولها الغنية (افتراضيًّا)، حيث يُزرَع القمح والشعير والقطن، قبل أن يصبَّ في نهر الفرات قرب دير الزور، عند منطقة البصيرة، حيث كانت شركتنا تبني جسرًا صغيرًا...

 جسر البصيرة على نهر الخابور - عام 1974

وكان جسر البصيرة، الذي تعهَّدتْه شركتنا، يعاني من مشكلة فنية هامة ومستعصية الحلِّ، تعود إلى خطأ تصميمي في فتحته المائية، التي كانت أصغر من أن تستوعب كامل تدفق المياه أيام الفيضان، الأمر الذي كان يعرِّض مساند الجسر للحتِّ الشديد... مشكلة حاولتْ شركتنا جاهدة حلَّها، بمعونة الخبراء الروس، عن طريق رصف جوانب النهر وقاعه في الموقع بالغابيونات والحجارة... مشكلة حلَّت نفسها بنفسها مع الأيام، حين توقف نهر الخابور عن التدفق، بعد أن شُفِطَتْ مياهُه من ينابيعها، من قِبَلِنا ومن قِبَل الأتراك القاطنين قرب هذه الينابيع في المناطق الحدودية.

3

الميادين 1975: الانطباعات الأولى

في أواسط العام 1974، كلَّفني مدير الشركة، المهندس هاشم العبيسي (رحمه الله)، بمهمة الإشراف على جسر البصيرة، من جهة، إضافة إلى التنسيق المحلِّي بين الشركة وبين تلك المجموعة من الخبراء الروس الذين كنَّا تَعَاقَدْنا معهم على الدراسة والإشراف على تنفيذ جسرين على نهر الفرات: في الميادين (جنوب شرق دير الزور) وفي قره قوزاك (شمال شرق حلب ومنبج)، من جهة أخرى.

وأجد نفسي لأول مرة هناك، راكبًا سيارة جيب "واز" تسير ببطء على ذلك الطريق السيئ التعبيد والواصل بين دير الزور والميادين. كنت أقاوم النعاس وأنا أتابع الأسماء الغريبة لتلك القرى الفقيرة وهي تتكرَّر أمامي، والتي كان آخرها بقرص فوقاني ثم بقرص تحتاني، قبل أن أطلب من السائق، الذي كان اسمه قدري ... – وكان من أكراد عفرين – أن يتوقف قليلاً، لأني قررت معاينة منظر غريب لم أكن رأيت مثله من قبل.

هناك، كانت مدرسة ابتدائية تتألف من غرفتين؛ وأمامها أستاذ يلقِّن تلاميذه درسًا في الهواء الطلق. وأكتشف أن إحدى هاتين الغرفتين كانت تُستعمَل لمعيشة الأستاذ، بينما كانت الثانية تُستعمَل، من حيث المبدأ، للتدريس. وأكتشف أن الدرس الذي كان يلقِّنه الأستاذ لتلاميذه إنما هو في الحقيقة لثلاثة صفوف في آنٍ واحد: الصف الأول، وكان طلابه حوالى العشرة نيامًا (أي درس قيلولة)؛ بينما كان طلاب الصف الثاني يكتبون (أي درس نسخ أو كتابة)؛ أما الأستاذ فكان يشرح درسًا في الحساب لطلاب الصف الثالث الذين كانوا يستمعون إليه متثائبين! توقفت قليلاً، ثم سرعان ما انسحبت لأن الطلاب بدؤوا يتلهَّوْن في النظر إلينا، مما أغضب الأستاذ الذي بدأ يرمقنا بنظرات شزرة.

وبعد "بقرص تحتاني"، كانت هناك قرية أخرى؛ ثم الميادين "ترحِّب بنا"... وأنظر إلى ما حولي متعجبًا: فها أنا ذا الآن في تلك البلدة، حيث عمل خالي إميل أستاذًا في الأربعينات؛ تلك البلدة البائسة والكئيبة المؤلَّفة من شارعين أساسيين متقاطعين عموديًّا. وعند التقاطع، في الجهة اليمنى، كان يوجد مقهى. وأيضًا، كانت توجد في البلدة آنذاك، إضافة إلى بيوتها الريفية المبنية من البيتون القميء والبلوك أو اللِّبن، بعض الأبنية الحكومية، كبناء البلدية ومدرسة ومستوصف وبعض الأبنية السكنية الخاصة الأرقى، العائدة، ربما، لبعض أغنياء المنطقة.

ونسأل عن منزل الدكتور محمود الشعيبي، الذي حصلنا على عنوانه من صديق لنا في دير الزور، لنتدبَّر عن طريقه استئجار منزلين للخبراء وللعمل...

لأني فضَّلتُ، في حينه، الإقامة في "كرفانة" الورشة، التي اتخذت من إحدى غرفها مكانًا لمنامتي، بينما جعلت من الأخرى مكتبًا للعمل – والعمل كان تلك التحريات الجيولوجية والأعمال المَساحية التي باشرنا بها فور وصول الخبراء الروس، عندما أرسل لنا هاشم الحفَّارة والرافعة الصغيرة والزورق والعوامات وكلَّ ما يستلزمه الأمر من معدات تمكِّننا من الحفر في مجرى النهر... وفيما يلي بعض انطباعاتي عن تلك المنطقة وعن عملنا فيها آنذاك:

لست نادمًا لاختياري النوم في البرَّاكة. فهنا، على الأقل، بوسعي القراءة قبل النوم وأنا أستمع إلى أصوات نقيق الضفادع. أما السائق كدري (بالكردية) فكان ينام على الأرض في غرفة المكتب، بينما ينام حارس الموقع (الشاوي) أبو أحمد في خيمته...

العمال الذين تعاقدنا معهم آنذاك من أبناء المنطقة: ستة شباب في مقتبل العمر، لطفاء جدًّا – وخاصة منهم ذلك المدعو محمود العليوي، الذي بدا أكثرهم جدية وذكاء. وكانوا جميعًا من الشوايا...

 قلعة الميادين

أصبحت هنا مولعًا بزيارة المواقع الأثرية الكثيرة جدًّا في المنطقة... في أعلى الهضبة المشرفة على الميادين، توجد قلعة أيوبية متداعية... وفي بقرص، قبل الميادين، هناك موقع آخر هو عبارة عن آثار قرية تعود، كما قيل لنا، إلى العصر الحجري، أي إلى الألفية الخامسة ق م؛ وكانت تنقِّب فيها آنذاك بعثة هولندية (لم يرحِّبوا بنا)... وفي العشارة، الواقعة على نهر الفرات بعد 10 كم جنوب شرق الميادين، هناك موقع ثالث سومري، كانت تنقِّب فيه بعثة أمريكية (أيضًا لم يرحِّبوا بنا). أما أجمل وأهم ما رأيت فكانت آثار الصالحية، تلك المدينة الرومانية على ضفاف الفرات، التي عُرِفَتْ ذات يوم بـ"دورا أوروبوس"، حيث تم اكتشاف كنيس يهودي قديم [موجود الآن في متحف دمشق الوطني]، و... آثار ماري، الأبعد منها قليلاً في اتجاه البوكمال، التي اكتشفها الفرنسيون أيام الانتداب. وألاحظ أن السكان المحليين بدؤوا يهتمون بآثار منطقتهم.

وهنالك على الطريق، بين الميادين والبوكمال، إلى جانب الفرات مباشرة، قرية اسمها العطشانة! وأتساءل حول كيف ولماذا هي "عطشانة"، وهي على بعد خمسين مترًا فقط من النهر؟!

سمعت اليوم شائعة قوية تتحدث عن وجود بترول في البادية جنوب الميادين...

يبدو لي وكأن لا علاقة لسكان المنطقة بالدولة السورية. فمشاعرهم ضعيفة جدًّا تجاهها، سواء من حيث الانتماء و/أو من حيث الولاء... ربما لأنهم، بحكم أصولهم وارتباطاتهم البدوية، يشعرون أنهم أكثر قربًا إلى عشائرهم التي في العراق... هنا أشعر بنفسي وكأني في العراق...

الدكتور محمود شخص جدير بالاهتمام. هو يعرف الفرنسية جيدًا. وكان درس الطب، كما أخبرني، في سويسرا في الخمسينات، ثم عاد بعدئذٍ من جنيف إلى الميادين (يا إلهي، ما الذي أعاده إلى هنا؟!). وكان، كما أخبرني وهو يضحك، من البعثيين الأوائل... من أصدقاء ميشيل عفلق وصلاح البيطار وجلال السيد...

تعرفت اليوم إلى أستاذَيْ مدرسة حكومية ابتدائية (كتلك التي توقفت عندها لدى قدومي إلى البلدة للمرة الأولى). طلبا منِّي الإذن بأن أعبر بهما النهر معنا في الزورق كلَّ صباح كي يلتحقا بمدرستهما الواقعة على الطرف الآخر من النهر (أي في الجزيرة)، ثم بأن نعيدهما في المساء إلى الميادين (أي إلى الشامية). وقد عرضا عليَّ بعض المال مقابل هذا، لكنِّي رفضت بحزم ووافقت على نقلهم مجانًا... لكن ما لفت انتباهي هو أنهما من منطقة حماه وأنهما، أيضًا وخاصةً، من "الإخوان المسلمين"...

أنهينا أعمال التحريات في موقع الميادين في 15 آب 1974، وباشرنا بعد أسبوع تحرياتنا في موقع...

4

قره قوزاك: انطباعات أولية

فيما يلي بعض من انطباعاتي الأولية المتعلِّقة بتلك المنطقة الممتدة ما بين حلب ومنبج وقره قوزاك على نهر الفرات، حيث عملت ما بين أواخر آب وأواسط كانون الأول 1974:

أول ما يلحظه المرء في قره قوزاك، في أعلى المسار من موقع الجسر، هو جزيرة صغيرة تقع وسط النهر ويرفرف عليها العلم التركي... لأنه، كما علمت، تعود ملكية هذا الموقع إلى تركيا التي وضعت فيه مفرزة من عشرة عساكر وضابط من أجل حراسة مزار أحد الأولياء الأتراك... وعلمت أيضًا أنه يتم استبدال عناصر هذه المفرزة مرة كلَّ شهرين...

عمَّالنا للتحريات الجيولوجية والمساحة كانوا خمسة في بادئ الأمر. وقد جئنا بهم جميعًا من الميادين: أقصد محمود العليوي ورفاقه الذين تعاقدوا معنا بأجر زهيد، لأنه لم يكن يوجد عمل لهم في منطقتهم. [كانوا في الأصل ستة، لكني استثنيت من هذه الشلة آنذاك محمودًا (الآخر) لأنه كان أقلَّهم ذكاءً، من وجهة نظري.] وقد أقمنا "الكمب" – الكرفانات والخيام والسيارات – قرب "كازية" [محطة وقود] تقع خارج منبج، على الطريق العام المتجه إلى جرابلس (موقع عملنا). أما أنا فكنت أنام في حلب، حيث استأجرت منزلاً لي ولزوجتي. هنا صار بوسعي العودة إلى منزلي كلَّ مساء؛ فقره قوزاك تبعد فقط حوالى الـ35 كم عن حلب...

وصلت اليوم إلى الورشة، ولاحظت أن العمال مرتبكون، وينظرون إليَّ متبسمين، لكنْ بقلق... تقدم منِّي محمود العليوي وأخبرني أن زميله محمود (الآخر) من الميادين [ذلك الذي استثنيته من العمل معنا في قره قوزاك] ينتظرني في المكتب. ودخلت إلى المكتب... حيث وجدت محمودًا جالسًا على أحد الكراسي، وقد وضع صرة الثياب التي معه على مكتبي. ومعه كانت تجلس أيضًا على الأرض زوجته، التي كانت تحتضن ابنها الرضيع، ووالدته... ونظر إليَّ محمود عابسًا، وقال لي بلا مقدمات: "أريد أن أعمل!"

وشعرت بالخجل الشديد من نفسي، وبرغبة في البكاء... "يا إلهي، ما الذي فعلت؟! وكيف استثنيته وحيدًا من العمل واصطحبت رفاقه؟!" كان موقفي مخجلاً فعلاً، ولا أُحْسَدُ عليه. وأفكر بسرعة أنه، سواء كانت هناك ضرورة لوجوده أم لم تكن، فإنه لم يكن أمامي إلا حلٌّ وحيد... قلت له:

-       أهلاً بك يا محمود! التحق مباشرة برفاقك...

تبدو المنطقة هنا أغنى من منطقة الميادين. ربما كان هذا بسبب وقوعها قرب حلب؛ فهي أيضًا منطقة زراعية. لكن يبدو أن النشاط الرئيسي لسكانها لا علاقة له كثيرًا بالزراعة، حيث غالبًا ما كنت ألحظ على الطريق سيارات عناصر المكافحة الذين كانوا يوقفونا أحيانًا للتأكد من أننا لا نحمل مهرَّبات.

وصلت ذات صباح إلى موقع الورشة (قرب الكازية)، فرأيت العمال (أيضًا) مضطربين، فسألتهم عن السبب: "ما الأمر يا شباب؟ ولماذا أنتم على هذه الحال؟!" وبدأ محمود العليوي الكلام ليقصَّ عليَّ ما حدث معهم في الليلة الفائتة، عندما قاطعه رفاقه وأصبحوا يكلِّمونني جميعًا، في آنٍ واحد وبانفعال شديد. وما أخبروني هو أنه وصلت إلى هنا، بعد منتصف الليل، حوالى العشرين حافلة كبيرة محمَّلة ومغطاة بالشوادر. ونزل منها سائقوها ومعهم أناس ملثَّمون ومسلَّحون يحملون جميعًا الرشاشات، وطوَّقوا المكان... ثم قاموا بتعبئة سياراتهم بالوقود... وبعد هذا غادروا وهم يضحكون...

-       دخيلك، يا أستاذ، لقد صرنا نخاف... انقلنا من هنا...

وأفكر في الموضوع الذي كان من الواضح أنه عبارة عن "تهريبة" هامة... وأقرِّر نقلهم إلى موقع العمل نفسه، إلى قره قوزاك على ضفة النهر، بعد أن أحضرت من حلب إلى هناك، بالاتفاق مع هاشم، مولِّدة كهربائية صغيرة وصهريج ماء.

طريفٌ هو التهريب في هذه المنطقة القريبة من الحدود التركية، وطريفة فعالية دولتنا وجماركنا في مكافحته! لأنه، كما سبق وأشرت، غالبًا ما كنَّا نصادف على الطريق سيارات المكافحة وهي تتحرَّى؛ ولكن، أحيانًا أيضًا، كنَّا نلحظ الاختفاء التام لسيارات المكافحة مدة يوم كامل أو بضع ساعات، نلحظ خلالها ازدياد نشاط السيارات المحمَّلة بالمهرَّبات، تعود الأمور بعدها إلى حالها من جديد... وقد كان هذا الأمر، المعروف جدًّا في تلك المنطقة – كما في منطقة البقيعة عند الحدود اللبنانية – يدعى بـ"شراء الطريق"!

غالبية سكان المنطقة هنا من البدو "المتحضِّر". لكن في المنطقة أيضًا، وخاصةً في منطقة منبج وبالقرب منها، يوجد الكثير من الأكراد والشركس وبعض المسيحيين؛ وجميعهم كانوا مزارعين و/أو تجار. كذلك الأمر في جرابلس، التي زرتها ذات يوم وتركت فيَّ انطباعًا بأنها كانت، حتى ماضٍ ليس ببعيد، بلدة جميلة ومزدهرة... أيام فرنسا...

زرت جرابلس آنذاك لأنه كان يجب علينا القيام بقياسات مائية على النهر قرب الحدود التركية. ويُعيدني موضوع تلك القياسات المائية إلى المشكلة التي واجهتْنا في حينه، المتعلقة بالمنسوب المفترَض للجسر الذي نزمع على إنشاءه. لأنه، وقد انتهى تقريبًا العمل في سدِّ الطبقة (أو لنقل ما كان يدعى بالمرحلة الأولى منه حتى المنسوب + 308، على ما أذكر)، كان إنشاء الجسر يتطلَّب التحوُّط لما سيأتي، أي أخذ بعين الاعتبار المرحلة الثانية (الممكنة) لتطور السدِّ (حتى المنسوب + 320)، وتوقُّع الحدِّ الأعظم لما يمكن أن يأتينا من مياه من تركيا. وأتذكر أنه، بعد مراسلات مكثَّفة بين شركتنا وبين الجهات المختصة عن طريق رئاسة مجلس الوزراء، اتُّخِذَ قرارٌ ببناء جسر قره قوزاك، مع أخذ بعين الاعتبار المرحلة الثانية من سدِّ الطبقة. كلُّ هذا كان جيدًا جدًّا ولكن... بعد أن انتهى بناء الجسر في قره قوزاك، يبدو أن قرارًا آخر اتُّخِذَ بالاستعاضة عن المرحلة الثانية من سدِّ الطبقة بسدٍّ آخر يقع في منطقة يوسف باشا؛ مما صار يعني، على أرض الواقع، أن مياه السدِّ الجديد ستغمر الجسر الذي بنيناه، وأنهم سيبنون مكانه جسرًا جديدًا... بسيطة، نحن أغنياء!

غادرتُ قره قوزاك في أواسط كانون الأول 1974بعد أن أنهينا أعمال التحريات. أما في الثاني من كانون الثاني 1975 فقد سافرت إلى موسكو للمشاركة في دراسة جسرَي الميادين وقره قوزاك، ومكثت هناك ستة أشهر...

5

جسر الميادين (1975-1978)

كنت أسير متمهلاً في حيِّ الصالحية في دمشق، متدرِّجًا إلى مكتبي، عندما استوقفني رجلٌ كهل أمسك بي بقوة وصاح بلهفة:

-       يا أستاذ أكرم... يا أستاذ أكرم... كدت لا أعرفك!

وعرفته فجأة! لقد كان أحد هؤلاء العمال الستة الذين أضحوا من بعدُ من أعزِّ أصدقائي. ذلك المحمود (الآخر) من الميادين... كان هذا في العام 1999، أي بعد انقضاء 21 سنة على انتهاء الجسر هناك... وتعانقنا بحرارة، بينما كان محمود يردِّد باكيًا:

-       يا أستاذ... يا أستاذ... لماذا تركتنا؟!

لأني، بعد انتهاء الجسر، كنت تركتهم فعلاً ولم أعد بعدئذٍ إلى المنطقة... لكني مازلت، حتى هذه اللحظة، أشعر بغصة حين أتذكر تلك الأيام، كما أشعر بالحنين – تلك الأيام التي أسجِّل حولها بعض الملاحظات:

بدأت تهيئة موقع العمل قبل وصول الخبراء، عندما صادفتْني أولى المشاكل، المتمثِّلة بالمتطلَّبات الخاصة جدًّا لمدير الناحية، الذي جاءني إلى الورشة، محاولاً وضع اليد على مقلع الحصى العائد لنا أو مشاركتنا فيه. ورفضت طلبه، وكادت الأمور أن تتطور بيننا بشكل لا تُحمَد عقباه بالنسبة لي. لكنْ، لست أدري كيف خطرت ببالي فكرة أن اقترح عليه الذهاب إلى السيد محافظ دير الزور للاحتكام. فقَبِل الاقتراح مباشرة، مما جعلني أتشاءم مسبقًا من نتيجة ذلك التحكيم الذي كنت أتوقَّعه لصالحه. وذهبنا معًا لمقابلة المحافظ الذي استقبلنا مباشرة؛ ثم، بعد أن استمع إلينا يعرض كلٌّ منَّا وجهة نظره، سارع ليأمر مدير الناحية – بحزم وعلى الفور – أن يبتعد عن الورشة وعن المقلع المخصَّص للجسر حصرًا. لم يجرؤ مدير الناحية أن يناقشه، وخرج وهو يجرجر خيبته؛ بينما استوقفني المحافظ قليلاً، ليقول لي بصوت منخفض:

-       ... إن أزعجك أو طلب منك أيٌّ من هؤلاء الـ... شيئًا حوِّله إليَّ...

فشكرته وخرجت حائرًا... لأن انطباعي قبل هذا اللقاء كان أن جميع المسؤولين في تلك المناطق فاسدون...

وما حصل بالفعل بعدئذٍ كان أن حاول بعض مسؤولي الدرجة الأدنى في شعبة الحزب في الميادين أو من المخابرات الاتصال بي لتأمين استعارة رافعة و/أو قلاب لخدماتهم الخاصة؛ فكنت أحوِّلهم مباشرة إلى المحافظ ليأتوني بأمر خطِّي منه، منهيًا الأمر عند هذا الحد... وأستفسر، من باب الفضول، عن شخصه، فأعرف أنه بعثي، حموي من عائلة البيطار... وأتذكر أني حدَّثت عنه هاشم، الذي كان أيضًا من حماه، فأجابني:

-       أعرفه... أعتقد أن بإمكانك الوثوق به... لأن سمعته في البلد جيدة جدًّا...

أقول هذا حين أتذكَّر تلك الأيام – ليس فقط لأن هذا المسؤول حماني إبان تلك السنوات الثلاث التي قضيتها في الميادين، وليس أيضًا لأنه خلال هذه السنوات نشأ بيننا نوع من علاقة الثقة والاحترام المتبادل، إن لم أقل شكل من أشكال الصداقة – إنما لأن الأيام والسنون التي تَلَتْ بيَّنت لي أن هذا الإنسان كان شخصًا كبيرًا فعلاً ومحترمًا جدًّا...

-       ... اجلس، يا أكرم، لأحدِّثك قليلاً عن صاحبك من بيت البيطار الذي تعرفت إليه في الميادين...

هكذا قال لي ذات مرة (أبو الخير) هاشم بعد ما يقارب العشر سنوات من ذلك التاريخ.

-       ... لقد أبعدوه، كما تعلم، عن منصبه كمحافظ وكمسؤول حزبي لأنه لم يعجبهم. فعاد إلى حماه ليدير دكان والده المتوفى الذي كان بائع زجاج. وهو مازال إلى الآن في دكانه هناك... لكن ليس هذا هو المهم، لأن المهم هو ما سأحدِّثك عنه: حين اعتُقِلَ هناك مع أبناء حيِّه، في أثناء أحداث العام 1982، كاد أن يتعرَّض للإعدام التعسفي لو لم يتعرَّف إليه أحدُ رفاقه في الحزب، فينبِّه الضباط المسؤولين عن فِرَقِ الإعدام بأن هذا الشخص "رفيق" وأنه كان محافظًا ومسؤولاً حزبيًّا بعثيًّا مرموقًا؛ فأخرجوه من بين الجمع ليعفوا عنه... لكن، هل تتصور يا أكرم ماذا كان موقفه في تلك اللحظة؟ لقد رفض العفو إن لم يشمل جميع أبناء حيِّه! وهذا ما حصل... مازال في الدنيا خير يا أكرم، مازال في الدنيا خير...

هذا ما كان يردِّده أمامي صديقي ومعلِّمي هاشم قبل فترة وجيزة من وفاته... وهذا ما يخطر ببالي كلَّ مرة أتذكر فيها هاشمًا و/أو صديقنا المشترك محافظ دير الزور آنذاك... صديقنا الذي حدَّثنا ذات يوم بألم شديد – وكنت في زيارة له مع هاشم – عن معمل الورق الذي كان ينشأ في دير الزور:

- تصور، يا أبو الخير، تصور أن هذا المعمل الذي ينشئونه الآن هنا، ويكلِّف مئات ملايين الدولارات، لن يعمل لأنه ليست لدينا في بلد مواد أولية لتشغيله...

"مازال في الدنيا خير..." لأن هذا ما أفكِّر فيه أيضًا كلَّ مرة أتذكر فيها الدكتور محمود الشعيبي الذي جاءني ذات ليلة إلى مكان إقامتي طالبًا التحدث معي على انفراد... ونتدرَّج معًا في الشوارع الخاوية لتلك البلدة (الميادين) التي تنام مع مغيب الشمس...

-       سمعت، يا أكرم، أنهم يعتقلون أفرادًا من جماعتك...

-       لا يا دكتور... مَن يُعتقَل ليس من جماعتي؛ فأنا من ذلك الجناح من الحزب الشيوعي المشترِك في الحكومة، وهم يعتقلون من يعارض الحكومة من رفاقنا السابقين الآخرين، أقصد جماعة رياض...

-       على كلٍّ، ليست عندي أية مشكلة، حيث يمكنني إخفاؤك سنوات حين تشاء. فلا تخف...

فشكرته على نبل موقفه وتركته معجبًا... لأني مازلت، إلى الآن، أحلم حين أتفكَّر في ذلك الإنسان الكبير الذي درس في جنيف، ثم عاد ليمارس مهنته وينهي حياته في بلدته الميادين... وأتذكَّر الحال عندما اجتاح وباء الكوليرا المنطقة، وكيف لم يمت أحد هناك بفضله... نعم، بفضله وبفضل جهوده، لأن المنطقة كان موبوءة مئة بالمئة... لم يمت أحد لأن الدكتور محمود كان يعلِّم الناس، بمحبة وصمت، كيف يمكنهم مجابهة هذا "المرض البسيط" بفعالية!

"مازالت الدنيا بخير..." هذا ما أتفكَّر فيه كلما تفكَّرت بمحمود العليوي وبرفاقه الذين تعلَّموا في أثناء بناء الجسر استعمال وقيادة بعض أعقد الآليات والمعدات الهندسية، والذين، لولا جهودهم، لما تمَّ العمل. فمحمود العليوي أصبح السائق الرئيسي للرافعة الجسرية (150 طن) الأكبر في البلد إلى الآن... ومحمود (الآخر) تعلَّم استعمال النيفو (جهاز مساحي)...

 

"مازال في الدنيا خير..." لكن الأمور لم تكن آنذاك بهذه السهولة، لا بالنسبة لي ولا بالنسبة للآخرين... ورغم هذا، أتذكَّر تلك الأيام بحنين. ففي تلك البلدة المنعزلة على ضفاف الفرات، ومن خلال احتكاكي بهؤلاء البشر، على اختلاف مستوياتهم وانتماءاتهم، تطوَّر وعيي الإنساني بصمت وبهدوء...

وأتذكَّر كيف تمردتُ للمرة الأولى على قرار حزبي، حيث انسحبت من الفرعية التي شُكِّلَتْ لقيادة الرفاق في موقع الجسر، المؤلَّفة من رفيقين من العمال الأكراد (من القامشلي) – أحدهما كان يدعى أبو ماجد – ومنِّي، وكان يقودها رفيق مسؤول من منطقية دير الزور. فحين عرَّف الرفيق المسؤول مهام الفرعية بأنه "قيادة العمل في موقع الجسر"، اعترضت مباشرة وبحدَّة قائلاً:

-       كلا، يا رفاق، كلا. إن مهمة الفرعية هي قيادة الرفاق وتوعيتهم سياسيًّا. أما قيادة العمل فهذه مهمتي، وأنا المسؤول عنها شخصيًّا تجاه إدارة الشركة...

وأعتذر لهذا السبب عن أن أكون عضوًا في الفرعية، و/أو أن تكون لي أية صلة حزبية مباشرة معها. فصلتي، كما زعمت في حينه – وهذا لم يكن صحيحًا تمامًا – إنما هي مع قيادة الحزب في دمشق مباشرة... وقد فاجأ موقفي هذا الرفاق في الموقع. لكن بالنسبة لي، تبيَّن أنه كان موقفًا صحيحًا.

العدد الإجمالي لعمال الورشة حوالى الـ125، نصفهم من الشوايا من أبناء المنطقة. بعضهم كان شيوعيًّا، إن لم يكن صديقًا للحزب؛ ونصفهم الآخر من أكراد الجزيرة الذين كانوا، في معظمهم، كما قيل لي، رفاقًا أو أصدقاءً لحزبنا "العظيم"! وكانت هذه التركيبة غير المتجانسة هي المشكلة الأساسية التي واجهتها في أثناء عملي هناك، لأن الأكراد، رفاقًا أم غير رفاق، كانوا منغلقين على أنفسهم، ولا يحتكون بالشوايا، ولا يتحدثون فيما بينهم إلا بالكردية. كذلك، في المقابل، كان إخوانهم العرب يبادلونهم السلوك بمثله. وهذا ما أخافني، وأثبتت الأيام أن تخوُّفي كان في محلِّه...

ذات يوم، وبشكل مفاجئ، رأيتهم يهجمون بعضهم على بعض، والكلُّ شاهر عصاه أو سكينه! ولست أدري ما الذي حلَّ بي، فجعلني أسارع إلى الحيلولة بينهم، مستدعيًا الشرطة التي اعتقلت مؤقتًا ثلاثة أو أربعة من الجانبين... بعد هذا الحادث، اتخذتُ قرارًا، نفَّذته بحزم حتى آخر يوم لي في الورشة؛ قرارًا يقضي بأن يسلِّم كلُّ عامل يدخل الورشة سلاحه للحارس عند الدخول ويسترجعه عند الخروج. وامتثل الجميع لهذا القرار، وإنْ مع بعض الامتعاض من جانب قسم منهم... كانوا جميعًا مسلَّحين إما بمسدس و/أو بخنجر... وأستعيد اليوم هذه الأمور بحزن، لأني، إن كنت نجحت آنذاك في فرض التعايش ومنع الاقتتال ضمن نطاق العمل، إلا أني لم أنجح كما يجب في التقريب بينهم...

وأستعيد، بهذه المناسبة، حديثًا لي مع أبو ماجد، المسؤول الحزبي عن الشيوعيين في الورشة:

-       يا أبو ماجد، لماذا لا تحتكُّون مع الشوايا؟! لماذا لا تحاولون مصادقتهم؟ بعضهم، إن لم أقل معظمهم، جيد جدًّا، يا أبو ماجد...

فينظر أبو ماجد إليَّ شزرًا ويجيبني:

-       هؤلاء قوميون وشوفينيون يا رفيق...

وأجيبه بحدة، منهيًا الحديث معه:

-       إنهم مثلكم تمامًا، يا أبو ماجد... مثلكم تمامًا...

وأكتشف أن العصبية القومية و/أو العشائرية هي المصيبة الأولى لهذه المناطق، الغنية بمواردها والفقيرة بوعي ناسها، الطيبين والبؤساء في معظمهم. وهذه العصبية – أو لنقل هذا اللاوعي – لم يحاول أحد التطرُّق إليه ولا معالجته بمحبة وإنسانية كما يجب، وخاصة مسؤولو دولتنا الكريمة الذين كان معظمهم مشغولاً بالاغتناء.

لم يحاول أحد، بكلِّ أسف، أن يتخذ من الدكتور محمود ولا من ذلك الشيخ المتصوِّف الورع، أستاذ اللغة العربية في ثانوية الميادين آنذاك، مثلاً له. فهؤلاء لم يكونوا المثل، إنما المثل، حتى تاريخه، كان الرفيق خالد بكداش في نظر العمال الرفاق الأكراد، والملاَّ مصطفى البرزاني، في نظر غير الرفاق. أما في نظر الشوايا، فكان المثل قد أصبح شخصًا يدعى صدام حسين!

أولئك "الشوايا"، الذين كانوا يشكِّلون الغالبية العظمى من سكان تلك المنطقة، بدءًا من جنوب الحسكة، مرورًا بدير الزور وحتى البوكمال، والذين لم يكونوا مدركين لما كان يجري من أحداث آنذاك – حين زار السادات إسرائيل وأصبح خائنًا من منظورنا، و/أو حين هاجم "بطلهم" صدام حسين إيران، مشعلاً بذلك حرب السنوات الثماني...

زارني اليوم للتعارف الضابط المسؤول عن قوات الهجَّانة في المنطقة... وعلمت أنه يستخدم جنوده لبناء فيلَّته الخاصة في بلدته البوكمال... لم يحصل بيننا أيُّ تواصُل. فنحن، على ما يبدو، ننتمي إلى عالمين مختلفين...

جاءني اليوم السائق قدري وهو يضحك، لأن "وضحة"، الصبية البدوية التي كانت تسكن قرب بيت الخبراء، أرسلت إليَّ معه قصيدةً غزلية!

تعرَّفتُ اليوم إلى هذا الشيخ الدجَّال، الذي كان يضرب نفسه بالشيش ويسيطر ببهلوانيَّاته على عقول المئات من أبناء المنطقة البسطاء. كان يضرب نفسه يومئذٍ وهو ينظر إليَّ تحديدًا... لأنه، بعد انتهاء "عرضه"، استدار نحوي ليطلب منِّي إعطاءه طنًّا من الإسمنت – ما جعلني أدير له ظهري وأغادر المكان...

في أوائل العام 1978، كادت الحرب أن تندلع بيننا وبين العراق "الشقيق"، الذي كان يحكمه جناح آخر من حزب البعث. وتوجَّهتْ قوات هامة من جيشنا إلى المنطقة لتواجه (احتمالاً) قوات "الخائن" صدام حسين الذي أوشك على مهاجمتنا. وصارت المنطقة، من كثرة العسكر المنتشر فيها، وكأنها على وشك التحول إلى ساحة قتال. وأقام يومها الدكتور محمود في منزله مأدبة عشاء للترحيب بقادة قواتنا الباسلة المتوجِّهين إلى "الجبهة العراقية"، ولبَّى الجميع الدعوة. ويعود إلى مخيِّلتي من تلك المأدبة مشهد مؤلم، حين سأل الدكتور محمود قائد تلك القوات (كان على ما أذكر من بيت زيُّود):

-       قل لي، بربِّك، يا سيدي: لماذا يدعس البسطار دائمًا على القلم؟!

فيضحك هذا الأخير بعنجهية ويجيبه:

-       لأنه لا يوجد قلم، يا دكتور... لأنه لا يوجد قلم...

وينظر إليَّ الدكتور وعيناه مغرورقتان بالدموع، ثم يشيح بوجهه عنِّي، ويغيِّر موضوع الحديث.

مازلت، إلى اليوم، أتذكَّر الميادين وناسها، وخاصة منهم أصدقائي محمود العليوي ومحمود (الآخر) الذين لم أرهم منذ ذلك الحين...

6

القنطري – تل تمر: 1980–1982

كانت هذه آخر مرة عملت فيها في المنطقة بعد أن غيرت مواقعي، فانقطعت عن التنظيم الحزبي – وإن كنت مازلت صديقًا. كما غادرت "شركة الأعمال الإنشائية"، وأصبحت أعمل لدى شركة لبنانية خاصة تدعى "دار الهندسة – نزيه طالب"، كمهندس مقيم مشرف على تنفيذ الطريق الموازي للحدود التركية والممتد ما بين مخفر القنطري شمال الرقة وقرية تل تمر جنوب الحسكة، على نهر الخابور. عن تلك الفترة وتلك المنطقة سجَّلتُ التأملات والملاحظات التالية:

لا توجد ههنا حدود فعلية بيننا وبين الأتراك سوى خط سكة الحديد الذي يقع، في معظمه، على الجانب التركي. أما معظم السكان فهم من الأكراد ومن البدو (الشوايا).

توقَّفنا اليوم في إحدى القرى لنأخذ بعض الماء للسيارة. لم يكن فيها إلا بعض المنازل من اللِّبن، وبئر ماء، وبعض الشجيرات... كانت قرية كردية بائسة، ومعظم سكانها لا يعرف العربية على الإطلاق...

لفت انتباهي ذلك البدوي الوحيد الذي كنَّا نصادفه على طريقنا جالسًا قرب خيمته الواقعة على رأس إحدى التلال... ثم أصبحنا نلوِّح له بالسلام، فيرده علينا ويلوِّح لنا بالمجيء إليه لـ"نسولف ونشرب الشاي"... وقررتُ ذات يوم زيارته في مضربه. وأسأله – وكنت والسائق الذي معي نشرب الشاي معه – عمَّا يفعل هنا؟ فيجيبني مبتسمًا:

-       آني من ربع لورنس الشعلان...

[أي، لمن يعرف المنطقة ويفهم ماذا تعنيه هذه الكلمات: "آني أيضًا مهرِّب".]

لفت انتباهي اليوم مضرب صغير للبدو: فقط ثلاث خيام، وفيه فقط بعض النساء يعملن، وبعض الماعز ترعى و/أو تُحلَب. فتوجَّهنا إلى هناك، حيث استقبلتنا بدوية عجوز وقدَّمتْ لنا الشاي. كانت إحدى بناتها – وهي شابة ضخمة الجثة – تعمل في كنس الأرض قرب الخيمة. ويسألها عامل المساحة الذي كان معي (أنطوان أبراهمشه من حلب على ما أذكر):

-       هذه ابنتك يا حجة؟ فتجيبه:

-       نعم، هل أعجبتك؟ فقال لها:

-       نعم، يا حجة، هل تزوجينني إياها؟ فضحكت وقالت:

-       ادفع صياغها وخذها...

-       لكنِّي مسيحي يا حجة...

فترد عليه قائلةً:

-       قلت لك ادفع صياغها وخذها...

الآن فهمت لماذا يقولون إن البدو "غير متديِّنين"...

ما يلفت الانتباه في هذه المنطقة، وخاصةً في أيام مواسم الحصاد، هو مضارب "النَّوَر"، أو لنقل مضارب "الحجِّيات"، كما يسمونهنَّ هناك – "بيوت الدعارة" تلك، البائسة والمتنقِّلة بين مدن وقرى تلك المناطق، وحتى ما بين الحدود. لكن، ما لفت انتباهي أكثر كانت سيارات المرسيدس الحكومية، التي غالبًا ما كنت أراها واقفة أمام هذه المضارب.

-       يا أستاذ، كلَّ مسؤولي الحزب، وحتى السيد المحافظ، يأتون إلى هنا يوميًّا لـ"يتفرَّجوا" على الحجِّيات...

قريبًا من تل تمر، في منطقة جبل سنجار، تعرَّفتُ إلى أكراد من طائفة دينية طريفة؛ كانوا يسمونهم بـ"اليزيديين"...

-       هؤلاء يعبدون الشيطان يا أستاذ...

هذا ما قاله لي بصوت منخفض أحد عمالنا الشوايا. واليزيديون، كما لاحظت، كانوا لطفاء ودمثين جدًّا – ربما لأن "الشيطان" الذي يعبدون لم يكن شريرًا إلى هذا الحد! هذا ما أفكِّر فيه اليوم حين أتذكَّرهم...

أنهيت عملي في مشروع القنطري – تل تمر في أواخر العام 1982، وعدت إلى دمشق، حيث تعاقدت مع "الشركة العامة للدراسات" ومديرها الدكتور المهندس فؤاد بشور رحمه الله.

7

خاتمة

أصبح عمري اليوم حوالى الستين عامًا. لم يبقَ في منزلنا في دمَّر، حيث نعيش منذ العام 1983، إلا أنا وزوجتي وابننا طارق (26 سنة) الذي لم يتزوَّج بعد. أما ابنتاي، لنا (28 سنة) ونورا (توأم طارق)، فقد تزوجتا: لنا تزوَّجت في دمشق من شاب يدعى بولس، ورُزِقَتْ ابنتين هما شام وغزل؛ ونورا تزوَّجت في أمريكا من شاب آشوري، وولد لها ابن سمَّتْه ألكس... كلُّ شيء يبدو على ما يرام بالنسبة لي. ولكن...

لست أدري لماذا شعرت ذات يوم برغبة في البكاء حين سألتني ابنتي لنا – وكانت قبلئذٍ في رحلة مع زوجها وبعد الأصدقاء إلى منطقة دير الزور والميادين:

-       بابا... لقد مررنا البارحة فوق جسرك في الميادين. إنه جسر جميل فعلاً! لكن، هل تستطيع أن تشرح لي سبب الارتجاج الذي نشعر به حين نمرُّ فوق كلِّ مسند من مساند الجسر؟!

وأجيبها بنزق:

-       لأن مساند الجسر، يا بابا، هي من مادة النيوبرين؛ وهذه مصنوعة من الكاوتشوك المضغوط ومن الصفيح. وهي تجف مع الوقت؛ أو لنقل إن عمرها الفنِّي هو خمس سنوات... بعدها يجب أن تُغيَّر. لكنهم، على ما يبدو، لم يستبدلوا بها أخرى منذ انتهى الجسر في العام 1978؛ وبالتالي، صارت اليوم قاسية كالحجر، عوضًا عن أن تكون لدنة... لأن "كلَّ شيء على ما يرام" في بلدنا، يا بابا... "كلَّ شيء على ما يرام"...

دمشق، 24/03/2004

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود