على حافة الظل

روح تبتهج للسقوط الأخير

 

رنا السفكوني

 

كثيرًا ما تواطأتَ مع الذاكرة العفنة، أيها المهووس بما يسمَّى الحلم الأول.

كيف ليديَّ أن تنطقا بما يشلُّ لساني؟!

أما زلتَ ترتشفُ سُلاف الكؤوس؟

إن كنتَ كذلك، فارتشفني بكلِّ صخبكَ المجنون، وحوِّلني إلى حكاية تُفرِح كلَّ الأطفال، تُفرِح كلَّ الشهداء الذين سقطوا في غفلة عن حلمي.

أيها المهووس بكؤوس الآخرين، تراجَعْ قليلاً، وقِفْ على عتبةٍ كانت في الماضي مسقط رأسكَ دون أن تدري، واجلبْ ليَ الفرح كما كان يأتيني بكَ سابقًا.

لأقدِّر حجم خسارتي سأستنفد ما بقي ليَ من الزمن.

قد أحصي لكَ انتصاراتي التي تنفرد بما يسقط من أصابعي حين تقرأني.

فقط ما تقرأه الآن، أيها الآخر، إن شئتَ، هو أول انتصاراتي و/أو آخرها – وكثيرًا ما تتشابه بداياتُ الأشياء ونهاياتُها.

إن كنتَ ترغب، أيها الآخر المهووس برؤيتي، فانتظرْ سقوطَ المطر على رؤوس الشجر. وإنْ مللتَني، فلكَ أن تستمتع بالريح التي تُسقِطني، لأغوص في تربة مالحة أتينا منها سوية.

كما أحمل لكَ المطر، أحمل لكَ الكثير من الجفاف.

كنت تقول سابقًا: "كثيرًا ما شبَّهتكِ بشجرة توت عتيقة، كثيرًا ما استمتعتُ بأطرافكِ الشامية تتدلَّى بدلال، تحرِّض ذاكرتي على ارتكاب المحرَّمات. وحين اشتهائكِ، لا أملك إلا أن أهزَّ ساقكِ السمراء قليلاً، لتنهمري على جسدي، فلا أشتهي بعدها سوى طوفان عظيم يسرق كلَّ الأشياء سوانا."

هنا فقط، أراكَ كما الوطن النائم في حضن طفولتنا التي غربلتْها كلُّ الأقدام الغبية.

هنا فقط، كان لسقوطكَ شكلُ الياسمين النائم على أرصفة الطرقات.

وكان لسقوطي شكلُ النرجس النائم على ساقه الصغيرة.

أحاول تذكُّر المشهد الأخير للنرجس.

كيف تشعر حين يأتيكَ النرجسُ البرِّي من يَدٍ لا تتوقع قدومها؟

يومئذٍ، كنت أبحث عن وجه يلبسني لأخفي صمتيَ الفاضح. وإذا بي أقع على النرجس الذي اقتحم ذاكرتي في غفلة عن كلِّ الأشياء التي كانت مستيقظة ترقبني.

هناك قوة ما نائمة تحت أصابعكَ المتعثرة بي ليلاً.

كثيرًا ما تعثرتْ أصابعُكَ الملتهبة بي.

وكثيرًا ما تعثرتَ بحرارة الثلج المتساقط حين تشعلني شهوةٌ لا تنطفئ.

هناك مساحات تشبه اندلاع الريح في جسدي، تمرُّ على قدميكَ الغجريتين، تهديهما حرية الابتعاد عن ظلِّكَ المنثورِ تحت أعشاش النورس الصغير.

أوَّاه! كم كان لكَ من حكاياتٍ للرحيل، تتقاسمها مع كلِّ نورس مهاجر إلى حيث لا يدري.

وحيث لا أدري، فقدتك.

حيث لا أدري، اكتشفتك.

حيث لا أدري، اشتهيتُ وجهكَ النائمَ في حلمي يقظًا.

أيها الآخر:

أشتاق لطفولتي، أشتاق لصورتي القديمة، عائدةً إلى حضن أمِّي المتعبة بي أبدًا، أبلِّل تنُّورتها البالية بملح يشعلني حين يسقط من عينيَّ، وأبحث عن يَدٍ كانت في الماضي لها، لتغفوَ على شعري الممتلئ برائحة الذكريات العتيقة.

أيها الآخر:

غنِّ لي، ولو قليلاً، أينما كنتَ، وحمِّلني حقيبةً مليئة بذكريات لم أخُضْها، تكفيني لما بقي من هذا الربيع.

كم امتدَّ بنا هذا الربيع، كم حملنا ذاكرةً ممتلئة بأحلامنا المهترئة!

كيف لكَ أن تضمَّني بأوراقك، وتسحبَ رائحتي بقلم مجنون، كثيرًا ما تشاجرتَ معه حولي؟!

غنِّ...

غنِّ لي.

غنِّ لي، ولو قليلاً، أينما كنتَ، واسحبني إلى الظلِّ الخجول من ظلِّكَ.

عمِّدْني بنبيذ البحر.

عمِّدْني بعرقٍ تسلَّل من كفِّكَ حين نامتِ الكفُّ فوق الكف.

آه، أيها المبهور بوجهك أبدًا!

آه، أيها المغمور بقصائد تشبه رقص الغجر.

لم يبقَ منِّي سوى صوت خلخال في القدم، وبعض من ضحكات الغجرية تسرق من ليلها القليل من الفرح.

لم يبقَ منك سوى وجهان ألتحفهما، مرةً حين يسقط المطر في غفلة عن صاحبه، ومرةً حين يرتدُّ الفراغُ عن الفراغ، فينهض لحنًا كنتَ تدندنُه لتداعب قدمًا تنهض للرقص المجنون الذي يشبه روحكَ حين الشهوة – حتى الشهوة!

هي سجائري ترفض الاشتعال إلا بكَ! كم هو جميل الاشتعال بكَ، أيها المنفي، المستغرق في حكايا الحبِّ وقصص الجنِّ التي نرويها للأطفال.

أيها الطفل القابع فيكَ، أينما أدرتَ وجهكَ يسقط ظلُّكَ على ظلِّي، يُرغمني على البقاء طويلاً، يُرغمني على انتظار لحظة ما قبل سقوط المطر، حيث تنتشر رائحتكَ في ساحات المدينة.

لم أعرف مسبقًا أن للمطر رائحةً تغتالنا قبل سقوطه. والآن، هي رائحتكَ تعبث بي قبل سقوطي على ظلِّك المجنون.

كم تتشابه المشاهد في الذاكرة، وكم كان ارتباك يدي على جسدك يشبه ارتباك المطر حين يسقط على مساحات القمح الممتدة حتى أقصى روحي.

أيها الآخر:

لا تخذلني حين أدعوك للرقص الآن. فكثيرًا ما خذلتْنا أقدامُنا.

كثيرًا ما تناثرتْ ضحكاتُنا الخجولة على جدران فارغة، حتى من رائحتها.

كم كان للحجر رائحةٌ تشبهك. كم كان للَّيل شهوتُك في التعرِّي علنًا.

انبهاري بكَ، أيها المشروط بكلِّ المحرَّمات، كانبهاري بمدن الشهوة التي أسقطت أسماءها من معاجمنا.

تنحصر رائحتُك الآن في غربتي، وتشدُّني إلى حيث لا تعلمُ الأقدامُ أين هي.

أين أنتَ من كلِّ ذلك، أيها المستبعَد من ذاكرته عمدًا؟

كثيرون قالوا: رأيناه مرة يسقط سهوًا من إحدى الروايات العبثية. وكثيرًا ما سقطت الروايات من أيديهم دونما انتباه.

إذًا أين أنت؟

أين أنتَ، حين تصبح المدن التي نشتهي منفانا الأخير؟

أين أنتَ، حين النرجس يستلقي مذعورًا في الساحات الحمراء المشتعلة ببقايانا؟

أين أنتَ من بقايانا؟

أيها الآخر:

قِفِ الآن، وابحث عن وجه يشبهك تلتحفه الآن، وادعُني للرقص إن شئت. فقدماي لم تعودا تعرفان لغة الرفض أبدًا.

قِفِ الآن، وانتظر قدومي الأخير إليك، واسند يدكَ على الجدار حيث أنت.

اسند يدكَ على الجدار الفارغ من روحه، وافرغْ عليه ما سرق منك غفلة.

فقرب الجدار، أيها المتعب، ولدنا كما لا نشتهي.

وعلى الجدار، رسمنا كلَّ ما نشتهي.

وحيث الجدار، سقطنا ونحن لا نشتهي.

أيها الآخر:

امسح عنك تلكَ الذاكرة العفنة، وَدَعْنا سوية، على حافة الظلِّ، نبتهج للسقوط الأخير.

دعنا – ولو للمرة الأخيرة – نسقط أحرارًا، دون أن نحتار في منفانا الأخير.

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

Editorial

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال يوسف وديمة عبّود