|
في
سردابي
أفكار من وحي
الرواية ما دفعني إلى
الكتابة، للمرة الأولى، في
هذا المجال هو التذكير بالأدب الخالد، الصالح
لكلِّ زمان، الذي أمسى اليوم مغبونًا وبعيدًا
عن الذاكرة. وما دفعني إلى الكتابة، ثانيًا،
وتحديدًا عن الأديب الروسي العظيم
دوستويفسكي، هو الردُّ على رأي أحدهم في إحدى
قصصي: "لا بأس بها لو أنها جاءت في صيغة
المتكلِّم."
لذلك اخترت روايته في
سردابي التي اعتُبِرَتْ طليعةً للأعمال
الروائية الكبرى للكاتب. فقد استند معظمُها
إلى الكثير من الأفكار التي وَرَدَتْ في
الرواية. وقد جاءت بلغة المتكلِّم (السرد
الذاتي)، يبوح فيها بأدقِّ مكنونات أفكاره،
التي اهتزَّتْ لها أوساطُ المجتمع في روسيا
آنذاك. تلتْها
الجريمة والعقاب التي اعتمدها العالِم
النفساني
الشهير فرويد في تحليلاته البسيكولوجية حول
الجريمة وأبعادها النفسية والاجتماعية. *** في البدء سوف استعرض
أهم المحطَّات الأدبية في حياة دوستويفسكي: انفتحتْ أبوابُ
مجتمع سانت بطرسبرغ الأدبي في وجه هذا
العبقري الجلف، القادم من الأقاليم بعد تركه
الهندسة العسكرية. وقد اضطر
مجتمعُ العاصمة المتحذلق أن يقرَّ بأدبه سماعًا بعد نشر روايته الفقراء
– المثيل. فها هو ذا تورغينييف يُسبِغ عليه
صداقته الحميمة، والناقد بيلنسكي يستقبل
مخطوطاته بحماسة بالغة. لكن دوستويفسكي سرعان
ما ملَّ نقدهما وعدم فهمهما لأفكاره الثورية
الجديدة، فحلَّ روابطه القديمة مع جميع
أصدقائه، وشرع يحضر اجتماعات يوم الجمعة التي
كان يعقدها بتراشيفسكي. لم تكن تلك الأيام
في روسيا رضيَّة لذوي الميول الراديكالية،
كما في أوروبا التي تميزت بالثورات آنذاك.
وهكذا، في نيسان من العام 1849، أوقِظ
دوستويفسكي من نومه، لا ليكلَّل بالغار، بل
بالشوك! فقد جاء ضباط القيصر لاعتقاله،
ونُفِيَ إثر ذلك إلى مستعمرة عقابية في أومسك
في سيبيريا لمدة أربعة أعوام، تلتْها خدمتُه
الإلزامية في الجيش. وبذلك دامت فترة انعزاله
عن العاصمة الأدبية والثقافية عشر سنوات. ولم
يحدث لأيِّ كاتب آخر انقطاعٌ قسري طويل بين
كتابات شبابه وبين كتابات نضجه كما حدث له. بعد سنوات النفي، عاد
الكاتب رجلاً مختلفًا من جوانب كثيرة. ويظهر
أن مأساته لم تورثه المرارة والحقد، بل
أرجعتْه إلى الواقع، فتلمَّس خطاه بحذر؛ لكن
القلب الثوري ظلَّ يخفق في صدر صاحب السوابق.
والحق أن للاندفاع إلى تحدِّي نظام الأشياء
القائم، مضافةً إليه الحاجةُ إلى التلاؤم
معه، الفضلَ في إنماء الفكر المتسائل الذي
يوجِّه سائر رواياته الكبرى. أحد أوائل الأعمال
التي نشرها بعد عودته هو ذكريات من بيت
الموتى؛ وهو صيغة أدبية لتجربته في مستوطنة
أومسك العقابية. وثمة نفحات جديدة هنا: عالَم
الجريمة والمجرمين والعقاب وأثره؛ وأخيرًا –
وهو الأهم – الاهتمام بالـ"رجل القوي"،
الرجل ذي الإرادة. ويتابع دوستويفسكي
في رواية مُذَلُّون مُهانون السخرية من
نفسه، ومن شخصه المفضل السابق "الحالم".
ويستمر هجومه على سوء تطبيق المثالية في قصة
أليمة، التي هي عرض ساخر للِّيبرالية
المتسلِّطة. لكن الانفصال الحقيقي عن عالمه
السابق يأتي مع رواية في سردابي.* * والعلامة الفارقة في
تاريخ أدبه، بين ما قبل
هذه الرواية وما بعدها،
مفتاحٌ لكلِّ أعماله الروائية التالية، حيث
يندمج في بطل في سردابي استبطانُ الحالم
الذي تشوبه المرارة، وتمجيدُ الإرادة، وروحُ
الرفض لذلك المثالي المخدوع، من أمثال جيله (جيل
الأربعين) – جيل شيللر، بمثالية الرومانسية
وقوالبها الجامدة. فرجل السرداب يشنُّ هجومه
على الرومانسيين، ويتَّهمهم بالنفاق في
دعوتهم إلى المثاليات، مع تكالبهم على الأمور
المادية. وقد كثَّف موقفه هذا في العنوان
الساخر الذي وضعه
للجزء الثاني: "بمناسبة الثلج الذائب" –
ويقصد به الإشارة إلى كتابات أتباع "المدرسة
الطبيعانية" في الأربعينات. * وأولى الأحداث التي
يرويها "رجل السرداب" أنه موظف مسحوق،
لديه رغبة في أن يلبس ملابس أغلى مما تسمح به
مصادرُ رزقه؛
إذ تبدو الملابس "رمزًا للكرامة الإنسانية"،
كما في قصة المعطف لغوغول. لكن بطل
السرداب لا يتصف بالوداعة وبالدونية، بل
يستبدل بهما دوستويفسكي تأكيد الذات
العدواني. فهو لا يحتاج إلى الملابس إلا لسدِّ
حاجات نفسية، وذلك لكي يتمكَّن من مواجهة أحد
الضباط مواجهة الندِّ للند ومن الردِّ
على إهاناته. إنه "مقلوب" بطل غوغول
العاطفي: فهذا
الموظف ليس مجرد ضحية؛ إنه بداية ثورة ضد
قوالب جامدة دأبتْ على تقييد أمثاله. إنه يرفض
أن يعامَل معاملة موضوع؛ فهو ذات من طرفه هو.
وبهذه الرواية لم يعد "المُذَلُّون
المُهانون" بعد رجل السرداب كما كانوا من
قبل. إن المقارعة
الفلسفية لرجل السرداب (التي تحتل الجزء
الأول الأكبر) موجَّهة نحو جهتين، موجهة ضدَّ
الأفكار السائدة وقت كتابة الرواية (1840-1860)،
حيث تمتد فترة من الضياع. فقد
نُفِيَ دوستويفسكي في أواخر الأربعينات،
وعاد إلى الجوِّ الاجتماعي الذي نشأ في
الستينات، فكان أقدر من غيره على رؤية الفارق
بين الجيلين: بين الاتجاه الجمالي المثالي
للجيل السابق وبين الموقف النفعي لجيل
الشباب، المشغول بمبدأ "المصلحة الذاتية
هي منبع السلوك البشري". من هنا فقد دعا إلى
أخلاق قائمة على المصلحة الذاتية المستنيرة،
أسماها "الأنانية العقلانية"! يهزأ رجل
السرداب من الجيلين، مركِّزًا هجومه على
الجيل الجديد وأسُس أخلاقه،
قائلاً: وحينما يبرهنون لكم
على أن قطرة واحدة من شحمكم أنتم يجب في
الواقع أن تكون أغلى عندكم مئة ألف مرة من
أقرانكم من المخلوقات البشرية – وهذا بعينه
الذي سيؤدي إلى نسف ما هو فضائل وواجبات –
فليس لكم حيلة في دفع هذا البرهان. ذلك أن ضعفي
الاثنين أربعة؛ وهذا من الرياضيات – فإياكم
أن تحاولوا الاعتراض. ويرمز إلى مجتمع
العقلانيين الكامل، المدجَّج بالحجج
العلمية، بقصر من الكريستال، حيث تُستبعَد
أية إمكانية للحياة الفردية الحقيقية. يضاف
إلى هذا أن الكمال الذي يتصف به قصر الكريستال
هو بالذات علامة على لاإنسانيته. إذ يحتج رجل
السرداب بأن البشر يكرهون الكمال، وبأن
الإنسان لا يحب أن يبني فقط، بل يحب أن يهدم
أيضًا. يقول: ربما أنني أخاف هذا
البناء لأنه من الكريستال، بسبب أنه قائم
بحيث لا يمكن هدمه أبدًا، وبسبب أنه ليس
باستطاعة المرء أن يمدَّ لسانه له،
حتى خُلسةً. ثم يقول أيضًا: من ذا الذي يريد أن
يقيِّد الإرادة بلائحة؟ إن العلم الإنساني
سينتهي بتحطيم الإنسان نفسه. فهو سينزل به إلى
مستوى مفتاح من مفاتيح البيانو أو الأرغن،
ولن يتمكَّن الإنسان بعدئذٍ من أن يريد أو
يشتهي؛ لن يكون باستطاعته إلا أن يصوغ
المعادلات. ثم يقول: لكن هذا لا يمكن أن
يحدث أبدًا. فالأفضل للإنسان، قبل أن يُمسَخ
على هذه الصورة، أن يُجَنَّ، أو أن يعيش
بطريقة ما بحسب مقتضيات إرادته غير العقلية.
وسيأمر بهدم قصر الكريستال لكي يستطيع العودة
إلى الحياة المنطلقة التي عاشها من قبل. فكمال
القصر بنظره أعظم نواقصه لأنه لا يسمح بأيِّ
تقدم؛ إنه نهاية مسدودة لطاقات البشر الفعلية، أو صيغة مغلقة مثل: 2 × 2 = 4. * ويبدع الكاتب العظيم
حين يؤمن بأنه حتى الكمال ذاته ليس في الحقيقة
كمالاً إذا لم يأخذ في الحسبان قضية الإرادة
والحرية الإنسانيتين ضدَّ مقولات أنشأها
منظِّرون جامدون، ويرفض أن يسمح بالتضييق على
الرغبات الإنسانية، لا بمقتضيات العقل ولا
بقوانين العالم الطبيعي، ويحتج على ضرورة كون
الأربعة ضعفَي الاثنين: يا للسماوات! فيمَ
تعنيني قوانين الطبيعة والرياضيات إذا كانت
واقعةُ
أن ضعفَي الاثنين أربعة لا تعجبني؟! صحيح أنني
لا أستطيع خرق هذا الجدار برأسي إذا كانت قواي
لا تكفي لهذا العمل، لكنني أرفض الخضوع له
لمجرَّد أنه جدار صخري قائم أمامي. إنني
لأودُّ أن تكون معادلة 2 × 2 = 5 ممكنة. وفي قوله هذا يردُّ
على ما جاء في رواية ما العمل؟
لتشرنيشيفسكي: نقول نحن الروس: لا
يمكنك خرق الجدار برأسك. إننا شعب ذكي، يا
جولي، وأنت ترين كم أعيش بهدوء لأنني... إن ثورة رجل السرداب
ليست اجتماعية أو سياسية فقط؛ بل هو متمرِّد
ضدَّ الميتافيزيقا أيضًا، راغب في دفع
القدرات الإنسانية إلى أقصى حدودها قائلاً: من السخف والغباء أن
نظنَّ قَبْليًّا أن ثمة قوانين طبيعية سوف
تبقى ألغازًا لا يكتشفها الإنسان. وهنا ينتقل إلى
المجابهة الأكثر خطرًا، وهي ما يتعلق
بالأفكار الدينية: لماذا إذن خُلِقْتُ
تجيش في نفسي هذه الرغبات؟ أكيد أنني لم
أُخْلَقْ لألاحظ أنني خُدِعْتُ عندما
خُلِقْتُ هكذا. أيكون الهدف هو هذا حقًّا؟ لا
أظن ذلك أبدًا. إنه الاشتباه الديني
عند رجل السرداب، مطعَّمًا بالأزمة التي
تحتلُّ روايات دوستويفسكي كلَّها: الانتصار
للإنسان–الإله مقابل الانتصار لإله الإنسان؛
أي، بعبارة أخرى، الإنسان رافعًا ذاته إلى
الألوهية بإلحاده، مقابل الإله هابطًا من
عليائه، كالإنسان في المسيح. * إن رجل السرداب مريض
طبعًا، لكن
مرضه ليس جسديًّا، كما يدَّعي – في
كبده وأسنانه ومعدته؛
إنه مرض نفسي: إذ يجد لذة في وجع أسنانه. ولذته
في الألم تشير إلى ميول سادية–مازوخية
تتحكَّم في فلسفته وسلوكه. إنه الوعي الفائق
الحساسية الذي يسميه "وجدانًا"؛ وهو
البوتقة التي تتفاعل فيها أفكارُه وأعمالُه،
وهو نتيجة المعاناة والعذاب. يقول: إنني مقتنع بأن
الإنسان لن يتخلَّى أبدًا عن العذاب الحقيقي،
أي عن التخريب والفوضى؛ فالعذاب علَّة
الوجدان. وهنا يسعى رجل
السرداب إلى إسقاط خيباته على الإنسانية
كلِّها، ليُشرِكَ القارئ. فثمة "رجل
سرداب" قابع
داخل كلِّ واحد منا، نحن قُرَّاء الرواية. * أما صلب الإبداع في
هذه الرواية من الناحية الأدبية فهو التخيُّل
الأدبي في أوسع معانيه، خصوصًا عندما يختلق
قُرَّاء خياليين يستطيع أن يدخل في نزاع معهم؛ بل ويختلق
اعتراضات قُرَّائه على أفكاره، إذ يستهينون
بحججه، فيرد عليهم قائلاً: إن كلماتكم هذه
اصطنعتُها أنا كلَّها. لقد ظللت أربعين عامًا
أسترق السمع إلى أحاديثكم من خلال شقٍّ صغير.
لقد أنشأتُها من بنات أفكاري. ثم يروي كيف يهرب من
سردابه إلى العالم الواقعي، فيرتكب الموبقات
وينغمس في الفسق والمجون. وتفسيره لهذه
التصرفات أنها منبثقة من الوجدان الذي
يُحدِثُ الملل؛ والملل يُحدِثُ الوسواس،
فيضطر إلى اختلاق الحياة. وهو يتحدث
عن ذهابه إلى وليمة لأحد الضباط، فيتصرف
تصرفات تسمِّم الجوَّ، فيضطر إلى المغادرة،
مُرافَقًا باستياء الناس. ثم يروي لنا
العلاقة التي تنشأ بينه وبين ليزا، البائسة
الفقيرة التي ينقذها من بيع نفسها، فيعطيها
النقود دون مقابل، ويحلِّل فعلته تلك بأنها
ليست ناتجة عن الشهامة، وإنما هي فعل خبيث
مستقى من الكتب. فرجل
السرداب، إذن، لا يقصد من المغامرات التي
يرويها لنا أن نأخذها على مأخذ الحوادث
الفعلية، بل هي مجرد ثمرات لتخيُّلاته. وليس
للقُرَّاء أن يتنحَّوا جانبًا؛ فهم داخل
الصورة. يقول: لقد فقدنا جميعًا
عادة الحياة. كلُّنا يمشي مكبًّا على وجهه،
متعثِّرًا. شَبَبْنا دون أن نتعوَّد على
الحياة، بحيث بتنا نشعر تجاه الحياة الحقيقية
الواقعية بالاشمئزاز. ولقد وصلنا إلى درجة
نعتبر فيها الحياة الواقعية الحقيقية محنة
شاقة، وأجْمَعْنا على أن الأفضل لنا أن نعيش
بحسب توجيهات كتاب. يعيِّر رجل السرداب
قُرَّاءه بما يعتبره خنوعهم تجاه الحياة.
ويتوجَّه هنا إلى المثقَّفين الروس جميعًا،
ويتَّهمهم بأنهم محشوُّون بالمجرَّدات،
مفصومون عن معاناة الشعب الروسي، عاجزون عن
العيش بغير
الإرشادات: لقد ولدنا أمواتًا.
ونحن، منذ زمن طويل، لا نولد من آباء أحياء. وقد صار
يعجبنا هذا، شيئًا فشيئًا، ووصلنا إلى أن
نستمرئه. وبما أنه يتكلَّم على
أفكار ضدَّ تسلُّط العقل والجمود، فقد
شبَّهها بالسمفونية الموسيقية، تتناغم
أحيانًا، وتتنافر أحيانًا أخرى. فالموسيقى هي
أقرب ما تكون إلى العاطفة والمشاعر. ولعلَّه
إبداع أدبي آخر من إبداعات دوستويفسكي. * زبدة القول هي أن
رواية في سردابي إرهاص لكثير من
الموضوعات التي سوف نصادفها في الروايات
العظمى التي تلتْها. فالجدار، العائق
الميتافيزيقي، الذي يحدُّ من الإرادة
الإنسانية والذي يرمز إلى استبداد الطبقة
السائدة وجمودها، يُعتبَر بدايةً لمعالجة
مجالات طغيان أخرى سوف يشرحها في الجريمة
والعقاب، الشياطين، الأبله، الإخوة
كارامازوف. وسوف يغوص عميقًا في تحليل
الإنسان، من حيث هو مكوَّن اجتماعي–نفسي
للعلاقات السياسية والاجتماعية والأخلاقية
لعصره، بل ولكلِّ العصور. *** ختامًا، سأروي هذه
النكتة بمناسبة حديثي عن الكاتب. سألت مرة
شاعرنا فايز خضور: -
أي شعر تقرأ؟
أجاب: -
أنا لا أقرأ
الشعر إلا قليلاً... فسألت من جديد: -
وماذا تقرأ إذن؟
أجاب: -
أستمتع بقراءة
دوستويفسكي! * وهذه أيضًا: زارتني طالبة في
السنة الثالثة من دراسة الأدب الإنكليزي،
فسألتني: -
ماذا تكتبين؟
أجبت: -
مقالة عن
دوستويفسكي... فسألتني: -
من هو
دوستويفسكي؟! *** **ٍ* *** * يترجم بعضهم العنوان بـملحوظات
من القبو. (المحرِّر) |
|
|