|
ظلُّك الممتدُّ في أقصى حنيني!* كلَّما
قرأتُ لشاعرة سورية معاصرة تحضُرُني سنية
صالح فور انتهائي من القراءة... وفي أحيان،
تحضُرُني خلالها! والمفارقة
أن الشعر أنثى، والنثر رجل – كما يُقال. ومع
ذاك، فإن الشاعرات في تاريخ الثقافة العربية
– والعالمية – يمكن عدُّهن على أطراف
الأصابع! ثمة عندنا، بالطبع، مريانا مرَّاش،
منذ منتصف القرن التاسع عشر في حلب. وميِّزتها
الفنية: ريادتها – فحسب؛ وأيضًا، صالونها
الأدبي، الذي استبق صالون مي زيادة بعقود. انتظرنا
طويلاً، ربما، حتى أتيحت للشِّعر السوري
المعاصر – ولنا – تجربةٌ بخصوصية تجربة سنية
صالح الشعرية، من حيث إنها لا تشبه سوى نفسها!
ثم انتظرنا طويلاً، حتى أتيحت لنا متابعةُ
شاعرات سوريات، منذ الثمانينيات، في دأبهنَّ
لتشكيل وإنجاز صوتهنَّ الشِّعريَّ الخاص.
منهنَّ – حتى لا أتورط فأنسى إحداهنَّ – رشا
عمران في ديوانها الثالث – والثالث ضلع
المثلث المستحيل؛ أما الثالثة فثابتة! – من
حيث اختارت رشا عمران الشِّعرَ دربًا لاحتمال
كينونتها، برزخًا لأسئلة عصيَّة، حبرًا من
هواجسها فوق جسد البياض!
الثنائيات
بوصفها متوالية شعرية كما تحضر
المرأةُ في شعر الرجل، يحضر الرجلُ هاهنا، في
شعر رشا عمران – والقصيدة ثالثهما! بعد القراءة،
أخرج من النصوص، لأقف على تخومها؛ أتقصَّى
اشتغال رشا عمران، بناءً ودلالة. الأهمُّ:
انزياحُ مجازاتها، وذاك الاستبدال اللاواعي
بين قيمتين من قيم الوجود والكينونة، لحظة
تتشكَّل داخل الذات، وفي سرير القصيدة، على
هيئة ثنائيات متوالية. يتمُّ استبدالُ واحدة
"الموت" بأخرى، "الحب"، كلما أوشك
الحبُّ على التحقق والاكتمال. وكذا القصيدة،
الشعر بإطلاقه. لا أدري لِمَ احتاجت رشا عمران
لتأكيد هذا مرتين: حيث
الشِّعر/ والموت/ يعلوان/ فوق سماء مظلمة
(ص 13) وفي الصفحة 87: ما
معنى الشِّعر/ حين يعجز أن يشفي/ من... الموت؟! يتبدَّى "الموت"
هاهنا، وفي أغلب القصائد، كانغماس: في
القصيدة، إلى أقصاها؛ وفي الحبِّ، إلى درجة
الخوف من اكتماله – فإذا اكتمل الحبُّ صار
موتًا! – وفي الرجل، إلى هاجس فقدانه، في
انزياح دلالي، يصير الرجلُ فيه مُعادِلاً
مجازيًّا للشعر وللموت معًا: هل
كان عليكَ/ أن تأتي كما الشِّعر/ بخيلاً...
حاسِبًا خطواتِه؟/ لو جئتَ كالموت/ هكذا...
كاملاً/ دفعةً واحدة ولأن القصيدة
تكره اليقين، ويتفاداه الشِّعرُ باحتمالاته،
تعترف رشا عمران: أحيانًا/
شعرتُ أن وجهكَ/ لا يكفيني/ فكَّرتُ بكَ/ موتي
الساخر بلا ملامح مع ذلك، فحين
لا تكون أنت، فإن مدينتي "مدينة ميتة"،
والموت وحده "يشهر حقيقته الساطعة". لا
مناص من الموت، إذن، بالقصيدة–الرجل: بخطاي
الثابتةِ عبرتُ بنا/ نحو ذلك الغامض المتَّصل
مع الموت/ بأذرع مجنونة وهذا "الغامض
المتَّصل مع الموت" هو الحب، الذي تتعدَّد
أسماؤه في الديوان. تتساءل الشاعرة: ما
الذي أردتُه وأنا أدخل معكَ/ تلك العاصفة؟!/
كنتُ/ كَمَنْ يوقِف خديعة الحياة الحبُّ "عاصفة"،
ربما "توقِف خديعة الحياة" التي هي
الموت؛ وهي جنون، خطيئة عذبة إلى منتهاها، من
حيث إن الرجل والمرأة قد أرادا فقط التواطؤ
مع الرعشة الأولى/ لتلك الخديعة وفي مقطع آخر: نتقاسم
هذا الجنون من حيث إن
كليهما جسدان/
يتخفَّفان من الموت/ بكلام قليل... أو... كثير والكلام
كلامُهما وكلامُ القصيدة، حيث لا
يقدر سوى الموت/ أن يجرف ذاك المجرى/ الموشومَ
باسمكَ الأزلي أتنقَّل بين
قصائد الديوان ومقاطعها، ذهابًا وإيابًا،
كما لو أنني أقرأ قصيدة واحدة. وكلُّ هذه
المقتطفات كنت قد أرفقتُها بأرقام صفحاتها،
ثم عدلت عن ذلك، كاستحالة إحصاء الخيوط في
نسيج. ما بين لحمتها وسداها، سأكتفي بالإحالة
إلى أرقام بعض الصفحات حتى لا يتَّهمني أحدٌ
بإعادة تنضيد الديوان كما أرغب! تقول رشا
عمران وتكتب: لأنني
أحبُّك/ ألاحق موتي (ص 55) أو تقول: أتعدَّد
كما الموت/ كيفما اختلفتْ دروبُك/ إليَّ
(ص 44) وتقول عن تلك الليلة: كنت
أسمعُك تنام/ متواطئًا مع تألُّق الموت
(ص 79) حيث لم
نكن سوى رغبتنا/ في تبادل الموت (ص
83) وحيث الحقيقةُ
وحدَها... تَغرِفُ من معدِنِ الموت (ص
81) وليس ثمة إلا وهم
الطمأنينة، وهم المعرفة/ ثبات الموت (ص
80) كثيرة هي
المقاطع التي تغرس فيها رشا عمران أشجارَ
الموت في حقول الحبِّ وفي بساتين القصيدة: حيث
لا شيء يعلو... إلانا/ نحن الممتزجَيْن/
بالحضور الشَّهيِّ للثمار الزرقاء (ص 29) ثنائية
الحضور–الغياب وهما، أيضًا،
كمثل خيطين من صوف المجاز في سنَّارة
الشاعرة، على مقعد قبالة بحر الرجل وأملاحه.
أما شواطئه "هو" فـ ليست
سوى ظلٍّ فيَّ/ يخشى/ أن يعكس معناه وستسأل النارَ
طويلاً: كيف
نحن معًا/ وكلُّ هذا الغياب؟! وفي مقطع آخر: كنتُ،
كلَّما اقترب الغيابُ بأغواره الناصعة/ أقترب
منك ومن بعدُ
سيهجس الرجلُ في قصيدة رشا عمران "أهطل
كحبة تين"، التي تتبادل فيها الشاعرة مع
الرجل ضمائرَ الخطاب الشعري: تغرسين
فيَّ وجهَكِ الشجريَّ/ وشهوتَك القلقة/
وحضورَكِ الذي يخترقني وفي مرة ثانية: تمنحين
لأصابعي/ الغياب وحين تستردُّ
الشاعرة ضميرَ خطابها الشعري من الرجل في "النهار
كلِّه" – إذ لا يكفيها الليل كلُّه، على
عادة النساء منذ شهرزاد! – تذهب رشا عمران في
تلك الثنائية إلى منتهاها: عليَّ
أن أصدِّق/ أنكَ/ وأنَّ وجودَكَ/ مُثقَلان
بعذوبة المستحيل وأنكَ كنتَ
زمني/ الذي ينضج كي يغيب وأننا ظلان
منغمران بالحضور، بالغياب وفي لحظة
شعرية تالية، أو سابقة، أو راهنة: كأنكَ
اقتربتَ منِّي لتبتعد/ كأنِّي اقتربتُ منكَ
لتبتعد فـ... على
غموض حضوركَ/ طريقي/ نحو موتٍ فيَّ/ اعتدتُ
عليه أما أنت، حين
تتحقق، فمالك تختفي/
تمامًا/ مثل نجمة أوَّلِ الفجر بينما ذاك
الرجل/ برحيله الصَّامت/ ترك بعض الزيت/ في
مصباحي... لأراك والرؤيا
قصيدة، رجلٌ غائب–حاضر: تنهض
من جسمكَ/ وتسبقني إلى القصيدة بهذا تأخذنا
رشا عمران عبر الثنائيات، أقواسًا، لا تلبث
أن تبدأ من حيث منتهاها. وتهجس الشاعرة
أحيانًا: أرجو
أن لا أفقدكَ/ كيلا يهجرَني الشِّعر وأحيانًا
أكثر، تهجس رشا عمران: أخشى
أن يهجرني الشِّعر/ فأفقدكَ وتلك أيضًا
إحدى ثنائيات رشا عمران في "ظلِّها
الممتدِّ في أقصى حنينه"! أو... إلى أقصاه! *** *** *** * رشا عمران، ظلُّك الممتد في أقصى حنيني،
منشورات رؤى ثقافية ودار الينابيع، دمشق،
2003، 113 صفحة من القطع المتوسط.
|
|
|