|
وادي الطقوس الشاعر يهيم في القفار لم
يكن ضروريًّا أن يغمز الشاعر من
قناة القارئ "الحديث"، ولا من قناة "الحداثة"،
في تقديمه لـوادي الطقوس – "أناشيده
الشعرية" الجديدة. فـ"الراعي" الذي
يطلب لنفسه أن يعدَّ النجوم الجالسة خلف
السحب، أو أن يجمعها في سلال عينيه وخياله
ومشاعره، يجب ألا يكون مهمومًا كيف يأخذ
القرَّاءُ – وإنْ بدا له أنهم يخطئون –
الأشياءَ والكائناتِ بعد تقديمها إليهم؛ بل
ربما يجب أن يسترعيه فقط إذا كان استطاع أن
يراها ويعدَّها جيدًا، وأن يقدِّمها إليهم
أجمل مما هي، أو مختلفة عمَّا هي، إذا استطاع.
بهذا
الانتباه التوضيحي والبديهي أبدأ بقراءة وادي
الطقوس*
للشاعر فؤاد رفقة، من دون أن أغفل وصفَه
المتواضع لأوتار نشيده بأنها "قديمة".
وسأجيبه فورًا بأن الخمرة الجيدة من شأنها أن
تكون معتَّقة؛ ولن تكون ضرورة الجدَّة
الآنيَّة مدعاة افتخار وتباهٍ أكيدين في كلِّ
الأحوال. في
هذا الكتاب لا يخرج فؤاد رفقة على خطِّه
الشعري، وأقول "دربه". بل أقول إنه
يعبِّدها بشغف الغنائيين ورثاء الرومانسيين
الحالمين والودعاء القلوب، شأنه شأن
الغارقين في التأمل الطقوسي والفلسفي في
أحوال الذات والكون، على تعبيراتٍ تقترب من
أولئك الذين يصلُّون ويرفعون الأدعية، أو
الذين يرسلون الأبخرة، فتتصاعد نظراتُها
بلطف روحاني متخلِّص من الصوت المجلجل. ففؤاد
رفقة يُخلِص لمكانه وللغته، ويزداد ولعًا
بطبيعة العوالم الحميمة والذكريات والطفولة
التي تتألف منها حياتُه الشعرية. عوالم ذات
معجم لغوي وشعري أليف، يتشكَّل، في غالبيته،
من دلالات الأرض والطبيعة والتأمل والصلاة
والغناء، على سلاسة لا تتحمَّل أوزارًا تُعمي
الرؤية أو تعتِّم السبيل. وإذ
يمعن المغنِّي في السير صيَّادًا في البراري
والقفار، حاملاً وتره ونشيده، فإنه يروي
حكاية (أو يرثي) الرماد والجسد والأرض
والطفولة والحبَّ والحلم والرجوع والشعر.
وإذا كان ينزل إلى "وادي الطقوس" فلا
بدَّ أنه حاملٌ معه في نزوله العُدَّة التي
تُشعِر القارئ بالأزمنة المتقادمة، حيث
معبدٌ وكاهنات وطقوس جنائزية ودخان محرقات
وأصوات وصدًى يعبر الليل حتى تخوم الراحلين.
حتى لكأنَّ فضاء النشيد يصير مسرحًا يتداوله
المنشدون بألبستهم الأثيرية وأجسادهم
المتفلِّتة من قيود الأعمار. أكثر
ما يبرق في هذا الكتاب الشعورُ بانقضاء الوقت
والرحيل وعدم العودة. فثمة الذين خرجوا
بالقوس والنشَّاب، وبالمجاذيف والأشرعة،
وبالمناجل والحراب، وبالقناديل والشموع –
هؤلاء جميعًا سافروا إلى الصيد في القفار
والأنواء والكهوف والأغوار – ولم يعودوا.
هؤلاء هم الرفاق الذين خرجوا بالأناشيد
والأوتار إلى الصيد، إلى معابر الأنهار –
وهاجروا. هم الأنسام والآلهة القديمة، وقد
تناثروا كالمرايا، كنفخة ريح بين الجبال. فهل
من لغة لهذا سوى المراثي لتعداد السنابل التي
كانها الرفاق، خفَّاقةً بين السماء والأرض،
فكانوا اللغات وكانوا الجسور. وهذا
ما يفعله "نشيد الرماد"، مثلاً، حين
يخاطب رفقة الأزمنة التي تحصد الناس والأشياء
بمناجل أقدارها. لكنها لغة تنوح بخَفَر
رؤيوي، لا ببكاء متألِّم للفقدان، على غرار
الألم الذي يلتهم الناس حيال مفقوديهم. هو
رثائي في المعنى التراجيدي والفلسفي الذي
يخاطب الوجود برمَّته، ويواجهه بأسئلته
ونهاياته، التي لا تنفع فيها مسائل العقل
والمنطق. لكنه رثاء مَن يؤمن ومَن يرجو، لأنه
يعرف أن خُطى الرفاق هي بمثابة الخميرة التي
تجري في السواقي من أجل أن يفيض الحقلُ بالزرع
وتعلو البيادر. فهؤلاء هم الرغيف وخمور العرس
والزيت؛ وهؤلاء هم الطريق وهم العكَّاز. وهذه
كلُّها تعابير من معجم فؤاد رفقة، ولا سبيل
إلى الكتاب بدونها. وفي
"نشيد الجسد"، يحضر الزمان – زمان
الأزمنة – ليصير الجسدُ الدخانَ، ويطفئ
الحنين، ويمضي كعشب السطوح. لماذا؟ لأن الجسد
لا يكفي. لأنه، وإن كان يطلُّ كصارية مضيئة،
فهو سيغيب؛ بل هو يغيب فعلاً كصارية مطفأة.
فمَن للجسد سوى الأرض ونشيدها؟ فهي عشيقته.
وهي الفصول أيضًا، و"غالبًا ما تنتهي
بالعبور إليكَ يا ألله"! وتأويل هذه الرغبة
هي للشاعر. وفي
"نشيد الطفولة والحب"، يشعل الشاعر
نجمةً من الحنين إلى تلك الطفولة التي تسهر
وتلامس الجرح وتبتعد. طبعًا، ثمة أزمنة
متعددة هنا، من الورود، إلى الوهج في الجسد،
إلى الجنون الإلهي؛ وهي تلفت إلى تلك النجوم
التي كانت تومئ إلى عشبة الطفولة، فتعبر
العتبة إلى سياج الدار، إلى الحقول، إلى
المشارف، إلى العالم الريحي، وبلا خريطة، إلى
مغاور الطقوس. أما الحلم فكأنه، بالأحرى، "التذكُّر":
تذكُّر الزمن الظليل، زمن الرفيق الراحل؛
وكأنه أيضًا السؤال الذي لن يعود. لكنه ليس
تذكُّرًا فحسب، بل هو حلم أيضًا بالكون الذي
يضجُّ بالمنجل حاصدًا الزرع، وبالنجوم،
وبالعالم السفلي، وبالخليج الأجرد، وبالغبش
والسكون الحجري. إنه حلم–رحيل إلى وادي
الطقوس. لكن
لا بدَّ من الرجوع، عبر الأرض، من بلاد الغبار.
وهو رجوع الرفاق الذين خطوتُهم صداها "ورق
الغيم للسهول الجريحة"؛ وهو رجوع إلى زمن
الشعر ونشيده. فـ"من غابة الجسد/ يفيض
الغناء"، و"بالغناء العاشق الحروف/ تفيق
الشعوب"، يقول الشاعر، و"ترتفع المنائر"
و"تبحر السفن"، و"إلى البحار تنتقل
الجبال،/ فأين حبة الخردل/ وأين الرفاق؟"
السؤال يكاد يكون بلا رجاء، مع أن الشاعر
يغمِّس خبزَه بخمرة السيد؛ فـ"في القفار
يهيم الشاعر،/ ومن كهف إلى كهف/ بلا أوتار". لماذا
يسلس الشاعر قياد الأناشيد للأصوات
الجنائزية إنْ لم يكن يرى أن الأناشيد – وهي
الحياة نفسها – تُملي عليه ذلك؟ ولماذا يا
ترى تفعل ذلك، إن لم تكن مغمورةً بالقلق
الوجودي الذي يلفُّ الكون ويجعل الشفقَ
يتبرعم بلا لغة، والشاعرَ يهيم في القفار
خلوًا من الأوتار؟! إنه
القلق طبعًا؛ وهو القلق الشعري الذي طالما
انتمى إليه فؤاد رفقة، مغسولاً برجاء
الانبثاق والولادة. *** *** *** عن ملحق النهار، السبت 5 كانون الثاني
2002 * فؤاد رفقة، وادي الطقوس: أناشيد شعرية،
دار نلسن، أسوج، 2002. |
|
|