|
مصطفى الحلاَّج احتراق في قاعة
الانتظار
زارني الحزنُ فوق العادي،
وأورثني مزيدًا من الألم، ومزيدًا من عمق
المأساة الذاتية والوطنية. فكم من أبناء هذا
الشعب المهجَّر يموت على عتبات الغربة
والضياع! مساء
الأربعاء ذاك، في 16/12/2002، وصلني على صفحات
البريد الإلكتروني, من الأستاذ إسماعيل شموط
مباشرة، نبأ وفاة شيخ الفنانين الفلسطينيين،
النحات والرسام مصطفى الحلاج، وذلك من خلال
مقال كتبه شموط في ذكرى رحيل هذا الفنان الشيخ,
حمل عنوان: "الفنان التشكيلي الفلسطيني
مصطفى الحلاَّج يلتحق بركب الراحلين". بدأت
توًّا بالكتابة عنه بهذه الفقرة، وجثم فوق
مشاعري صمتٌ وذهول، منعاني من الاستمرار في
الكتابة عن هذا الرحيل المأساوي إلى الآن. وقد
بحثت ما استطعت عن مواد وتراثيات تدلُّني على
تاريخ هذا الراحل المهيَّأ للسفر دومًا – إلى
أن وجدت أن من الواجب عليَّ أن أكتب في ذكراه
ما أستطيع. لم
يَمُتْ هذا الذي اسمه مصطفى الحلاج، والذي
أطلقتْ عليه فلسطين اسم "شيخ التشكيليين
الفلسطينيين" – لم يَمُتْ، لكنه احترق!
احترق كشمعة خُلِقَتْ من أجل أن تقاتل الظلام.
احترق، لأنه "من الشرارة يندلع اللهيب"!
احترق كالمأساة، ليتمِّم مأساة الحلاج
الصوفية – ذاك الذي دَهَنَ وجهه وصدره ويديه
بما نزف من دمه على الصليب, ليكتمل طقسُ رحيله
المشبع بالعشق والتصوف: "ركعتان في العشق
لا يصحُّ وضوؤهما إلا بالدم"! أجل،
احترق الحلاج كقِطَعِ "جداريَّته" التي
أنجزها، حرقًا وحفرًا، على ألواح "المازونيت"
الرخيص, ليرتفع بذلك قدرًا وقدرة, وليسمو
بذاته وبقضيَّته وبعطائه إلى مصافِّ
الخالدين. احترق
الحلاج في "قاعة الانتظار": دمشق, التي
احتضن زاويةً من أزقَّتها الفقيرة بقبو
شَغَلَ زمانًا ما مكانًا سُمِيَّ "مرسم
ناجي العلي"، بعد اغتياله, كي لا تندثر وراء
ستائر النسيان كلُّ خيوط جريمة الاغتيال. نام
فيه الحلاج، ما بين عمل وتواصُل, كالشاهد الذي
يواجه الطغاة في عدمية الاستمرار والبقاء.
كان فيه – كونه "قاعة انتظار" – يستقلُّ
منه قطار العودة المسافر في اتجاه واحد نحو
فلسطين. إلا أن سكَّة "جداريَّته"
استوقفتْه لحظةُ نشوتها، لتأخذه معها في قطار
العودة المسافر في اتجاه واحد إلى النهاية! ما
التقيت به، وما رأيته في صورة منقولة حية مرةً
في حياتي! لم ألتقِ به سوى من خلال تلك الرموز
المتحركة صمتًا فوق المساحات السوداء
المطبوعة على صفحات قليلة من كتب الفنِّ
التشكيلي الفلسطيني. هذا الضالع بالتأمل
والتوغل في متاهات التكوين؛ هذا الزاحف نحو
ما تبقَّى منها، لينسج فوقها حالات من صراع
البقاء، ما بين الليل والنهار، ما بين خطوط
الضوء والمساحات السوداء – حتى إن رحيله لم
يأتِ هادئًا، ناصعًا في صمته المسكون
بالتناقض، بل حمل ملحمة أخرى على راحتَي
الصراع المنطلق بحثًا عن الحقيقة.
ولد
الفنان الفلسطيني مصطفى الحلاج سنة 1938 في
قرية سلمة من أعمال يافا. ابتلاه الزمان، كما
ابتلى أبناء فلسطين، بالاقتلاع والتهجير،
فسكنتْ أسرتُه أرض مصر. مرَّت على مصطفى
الحلاج صورٌ مشابهة لصور العذاب التي مرَّ
بها الفقراء على أرصفة مخيمات الأرض اليباب،
وعانى، كأبناء هذا الشعب الصامد، من ذلِّ
المهانة وشظف العيش. إلا أنه، مع حلول أواخر
خمسينيات القرن الماضي, التحق بكلِّية الفنون
الجميلة بالقاهرة ودرس فنَّ النحت عمدًا: أنا درست النحت عن
رغبة، لأنني كنت ذاهبًا من أجل دراسة النحت
والعمارة. فالعمارة هي أمُّ الفنون، كلِّ
الفنون. درست النحت لأنني من خلاله أستطيع أن
أرى الشيء من 360 درجة.[1] ثم
التحق، كموفد من قِبَلِ الدراسات العليا،
للاشتراك في مرسم الأقصر، جنوب مصر.
يُعتبَر
الحلاج أول فلسطيني يدرس فنَّ النحت
والغرافيك. كان الحلاج من أكثر
فنَّانينا التشكيليين العرب ثقافة. تمتَّع
بقدرة جيدة على الحديث عن الفنِّ وعن الفلسفة
والتاريخ؛ وكان صاحب بال طويل، لا يملُّ
الحديث، مهما طال، عن هموم الحركة الفنية
الفلسطينية والعربية بشكل عام، ويؤمن بأن
الفنون كلَّها تيار ثقافي واحد، كلٌّ منها
يفعل ويتفاعل مع الفنون الأخرى. كان صديقًا
للأدباء والشعراء والفنانين، وكانت جلساته
ممتعة، ومفيدة فكريًّا في الوقت ذاته.[2]
استنبط
– ذاك الضالع بالثورة والأمل والمثابرة –
وسيلة مبتكَرة للتعبير عن همِّه الفلسطيني
والوجداني. فأخذ يشطب بالسكين والإبرة وجه
ألواح الخشب الرخيص, ليحوِّلها إلى قطع
نادرة، ذات قيمة حضارية وإنسانية عالية, حيث
نسج عليها مسيرة مخزونه الفلسفي والمأساوي,
في جدلية شعرية تشكيلية قائمة على الحوار ما
بين الأبيض والأسود المحترق، باحثًا فيها،
ومن خلالها، عن مصداقية التاريخ والإنسان
والأرض والزمان – إلى أن تقاطعتْ أجزاءُ
العطاء والعمل بوتيرة النار المُعَدَّة
لإحراق المساحات الخشبية, فأحرقتْ ذاته
وكيانه، وعطاءه أيضًا!
هكذا
نحن، لا نكتب إلا عن مأساتنا! فقد بحثت، مع
حلول مأساته, وعبر الكثير من المنافذ,
لأستدلَّ عليه، ولو بما يشفي القلب والضمير؛
فما وجدت سوى ما أرسله الأستاذ إسماعيل شموط
في المقال آنف الذكر، والقليل القليل فقط،
هنا وهناك! وتحدثت إلى الزميلة سامية حلبي –
وكانت في تشرين من ذاك العام قد التقتْ به لدى
زيارة إلى مرسمه, ومعها وفدٌ من متحف ARTCAR،
لتشارك جداريَّتُه في معرض "صُنِعَ في
فلسطين" – لتقول لي إن الخبر وقع عليها
وَقْعَ الصاعقة، وإن ما يقتلها حزنًا هو أن
يفارق هذا المبدع جداريَّته قبل أن يتمِّمها؛
وأكثر من ذلك, هو أن تحترق أجزاءٌ كبيرة من
جداريَّته معه، فتذهب إلى حيث مضى هو أيضًا!
أما
بعد، وقد اعتدنا أن نكتب عن المأساة والرحيل،
فقد استطعت أن أجمع ما يقرب من عشرة مقالات عن
الحلاج وجداريَّته في غضون الأشهر الماضية,
كتبها أقرب الناس إليه – وكلُّهم يذرفون
دمعًا على واقع لم يكن في الحسبان قط، لأن
تَواصُل حلم العطاء الحيِّ للجداريَّة "النهرية"،
التي وصل طولُها إلى 93 مترًا، واستمراره كان
كحلم العودة، متأصِّلاً فيه إلى ما بعد كونه
حيًّا – وهو الذي قال في سياق ذلك: سأستمر فيها مادمت
حيًّا وقادرًا على العمل. أحيانًا تتعب يدي،
فأتوقف، ثم أعود فأكمل العمل. هذه اللوحة
ستتوقف فقط عند الموت.[3] إلا
أن أحد أقرب الناس إليه يروي كيف أنهم، قبيل
رحيله، عملوا جماعةً من أجل توثيق حلمه
المستمر، فكتب يقول: لقد انشغلنا جميعًا
بموضوع تصوير تلك اللوحة العملاقة وتوثيقها.
إنها، بالفعل، عمل جبار، ليس فقط من حيث
الحجم، بل ومن حيث المحتوى والشكل الفني. موفق
قات اعتمد تصويرها بالفيديو؛ عماد صبري قام
بالتصوير الفوتوغرافي ليل نهار؛ وتعهَّدت
أنا التوضيب الكومبيوتري؛ وشارك عدد كبير آخر
من الأصدقاء في إدارة بعض أعماله اللانهائية.
كنا نشعر به، والنشاط يدبُّ فيه، ويلفُّه
الحبُّ والوطن وهاجس الإنسان.[4] أستطيع
أن أكتب المزيد عنه وعن جداريَّته وحلمه
الثائر. إلا أن ما تمَّ توثيقه منها ما هو إلا
أعظم شاهد عليه وعلى واقع المأساة. فقليل
من الرؤية المنظورة، لتكتمل الرؤيا... والسلام! *** *** *** |
|
|