أطوار صورة الله
في التوراة 14: الدين في عصر القضاة وعصر الملوكية
فراس السوَّاح
جادل
بعض الباحثين في أن الاسم إسرائيل الذي ورد في نقاش الفرعون مرنفتاح
نحو عام 1207 ق.م. في الإشارة إلى مجموعة بشرية في فلسطين، يعني: إيل
يحكم[1].
وفي الواقع فإن هذا الاسم يلائم نمط حياة تلك الجماعات الزراعية
والرعوية التي كانت آخذةً في الاستيطان في مناطق الهضاب المركزية خلال
عصر الحديد الأول. فهذه الجماعات لم تشكل لنفسها سلطةً سياسيةً مركزية
وبقيت بعيدةً عن نفوذ ممالك الدول الكنعانية في الأودية والسهول من أجل
حقها في الحرية، وكانت ترى في الإله الكنعاني إيل حاكمًا وحيدًا لها
ورمزًا لعدم خضوعها لأي حاكم سواء أكان من داخل أم من خارج. وعندما
انضمت جماعة الخروج إلى هذا المجتمع الناشئ، جاءت معها بإلهٍ آخر كان
رمزًا أيضًا لحريتها عندما كانت تتجول في البوادي الجنوبية، فهذا الإله
لم يكن ينتمي لمجمع الآلهة المصرية ولا لمجمع الآلهة الكنعانية. ومع
الاندماج التدريجي لجماعة الخروج في مجتمع إسرائيل أو "إيل يحكم"، أخذ
الإلهان بالاندماج وتمازجت خصائصهما ووظائفهما في شخصية إلهية مزدوجة
وواحدة في آنٍ معًا، ساعدت هذا المجتمع المتنوع على تخطي الولاءات
العشائرية، وترسيخ التضامن الاجتماعي، والحفاظ على الحرية. وقد ذكَّرهم
القاضي جدعون بهذه الحرية وبأن الحكم هو لله وحده، عندما أرادوا جعله
ملكًا فرفض وقال لهم: "لا أتسلط أنا عليكم ولا يتسلط ابني عليكم. يهوه
يتسلط عليكم." (القضاة8: 22- 23). وفي واقع الأمر فإن منصب القضاء
لإسرائيل في ذلك الوقت لم يكن منصبًا سياسيًا أو عسكريًا إلا في حال
التعرض لخطر خارجي، عندها يقوم القاضي أو القائد العسكري الذي يعينه
بلم شمل العشائر وحشد القوة من المتطوعين لمواجهة هذا الخطر، وعندما
تنتهي الأزمة تعود الأمور إلى سابق عهدها وتنحل الأحلاف العسكرية التي
انعقدت بعد زوال الحاجة الطارئة التي دعت إليها، ويبقى إيل-يهوه حاكمًا
لا تنافسه في حكمه سلطةٌ بشرية. من هنا فقد اعتبر يهوه الطلب الذي تقدم
به الشعب إلى النبي صموئيل آخر القضاة لكي يجعل عليهم ملكًا، بمثابة
رفضٍ لحكمه وقال لصموئيل: "إنهم لم يرفضوك بل إياي رفضوا لكي لا أحكم
عليهم." (1صموئيل 8: 7).
ويتجلى حكم يهوه
لشعبه على عدة مستويات. فعلى المستوى العسكري كان يتدخل إلى جانبهم في
المعارك على ما رأينا في حرب جدعون ضد المديانيين، عندما جعل يهوه
جدعون ينتصر بثلاثمئة مقاتل فقط بعد أن صرف بقية المتجردين للقتال
وعددهم اثنان وثلاثون ألفًا (القضاة: 7). وكذلك في حرب دبورة وباراق ضد
سيسرا، عندما رفد بني إسرائيل بمعونةٍ سماوية (القضاة4: 5 و19-23).
وكان روح يهوه يحل على المنتدبين لقيادة الشعب ويوجههم (القضاة3: 10،
6: 34، 11: 29. 1صموئيل 11: 6)، أو على أنبياء منذورين يكونون صلة وصلٍ
بينه وبين الشعب مثل دبورة وصموئيل.
هذه اللامركزية في
الحكم والسياسة ترافقت مع لامركزية في العبادة أيضًا. فخلال عصر القضاة
لم يكن في الهضاب المركزية مؤسسة دينية أو مركز ديني واحد لجميع
القبائل، وإنما عدد من المراكز أو المقامات الدينية التي يختص كل منها
بقبيلة أو بمنطقة، كما هو الحال في مقام قبيلة دان (القضاة: 18)، أو
مقام الفرع الشرقي لقبيلة منسي في شرقي الأردن (يشوع 22: 10- 34). ولم
يبدأ مقام بلدة شيلوه يتخذ صفةً شبه مركزية إلا في أواخر عصر القضاة
(1صموئيل 1: 1- 3). وهذا يعني أننا أمام نوع من التعددية اليهوية تشبه
التعددية البعلية. فكما كان البعل يُعبد في أماكن متعددة وتحت أسماء
متعددة مثل: بعل فغور، وبعل حرمون، وبعل بريت.. الخ، كذلك كان يهوه:
يهوه في حبرون، يهوه في شيلوه.. الخ.
وكما يمكن أن نتوقع
في منطقة متخلخلة بالسكان وتعيش على اقتصاديات الكفاف، فإن هذه
المقامات الدينية لم تكن على شكل معابد كبيرة بسبب نقص الموارد المالية
اللازمة لبنائها ولإعالة شريحة متفرعة من الكهان لخدمتها، وإنما اتخذت
شكل المقام الديني الكنعاني المكشوف الخاص بسكان المناطق الزراعية
والمعروف في التوراة باسم المرتَفَعة. ويأتي هذا الاسم إما من موقع
المقام فوق التلال والمرتفعات، أو من تجهيزه على مصطبة اصطناعية
بارتفاعٍ لا يزيد عن المترين يُصعد إليها بدرج (انظر الشكل رقم 1).
وعلى عكس المعبد فإن المرتفعة لا سقف لها ولا جدران، وربما أحاط بها من
الخارج سورٌ قليل الارتفاع من شأنه فصل المنطقة المقدسة عن محيطها
الدنيوي. وعندما يعلو شأن هذه المرتفعة ويُخصص لخدمتها كهنةٌ متفرغون،
يُلحق بها عدد من الغرف خارج السور.
ولقد كشفت التنقيبات
الأثرية عن عدد قليل حتى الآن من هذه المواقع التي فُسرت على أنها
مرتفعات، لعل أهمها ما كشف عنه المنقب إ. مازار في تل دوثان ودعاه
بمقام الثور، نسبةً إلى تمثال صغيرٍ من البرونز يمثل ثورًا من النوع
الأناضولي المدعو زيبو وُجد بين أنقاض المكان. يرجع هذا المقام بتاريخه
إلى القرن الثاني عشر، وقد بُني على تلة وأحاط به سورٌ منخفض، وجُهز
بأثاثٍ طقسي يحتوي على نصبٍ حجري، ومذبح، ومنصب نذري، وأوعية طبخٍ من
أجل تحضير الوجبة الطقسية، كما عُثر في الموقع على بقايا عظام حيوانات
القرابين[2]. وكما سنرى فيما
بعد فإن تمثال الثور الذي عُثر عليه في هذا الموقع، يرمز إلى الإله إيل
الذي حمل لقب الثور في أكثر من نص ميثولوجي وصلنا من موقع مدينة
أوغاريت.
هذه المنشأة الدينية
كانت تناسب الأوضاع الاقتصادية والديموغرافية لسكان المرتفعات أكثر من
المعابد، فهي قليلة الكلفة من جهة وتخدم اللامركزية الدينية السائدة
بحيث تستطيع كل قبيلة اتخاذ مرتفعة خاصة بها تكون مركزًا لاحتفالاتها
وطقوسها الدينية. وكما رأينا في مرتفعة تل دوثان أعلاه، فإن الأثاث
الطقسي للمرتفعة بسيط ويتألف من كل أو بعض العناصر التالية:
-
نصب حجري يرمز إلى الألوهة المذكرة.
-
مذبح مبني بلبنات من طين مشوي أو من حجارة، ويتخذ شكل بلاطة حجرية
واحدة تُسال فوقها دماء القرابين.
-
منصب نذري مصنوع من الفخار يركب على فوهته العليا إناء توضع فيه
التقدمات.
-
أوعية منزلية متعددة الاستعمالات من أجل تحضير الوجبة الطقسية.
وهنالك عنصر لم نعثر
له على أثرٍ في مواقع هذه المقامات ولكننا نعلم بوجوده من النص
التوراتي، وهو "العشيرة" (بالعبرية أ ث ي ر ة) الذي يتكون من شجرة
مزروعة إلى جانب المذبح أو جذع شجرة مقطوع يغرس في الأرض لينوب مناب
الشجرة الحية، ويرمز كلاهما إلى الألوهة المؤنثة. ويُعزى فقدان هذا
العنصر في المواقع المكتشفة إلى أن مادة الخشب عرضة للتحلل بمرور
الزمن.
ولدينا شواهد قليلة
أيضًا على وجود مُصلى عائلي صغير يشغل إحدى غرف المنزل، على طريقة
المصلى العائلي الذي اتخذه ميخا لنفسه في سفر القضاة: 17 ودعاه بيت
الآلهة. ومن نماذج هذا المصلى ما عُثر عليه في القرية الصغيرة التي
بنيت فوق تل عاي إلى الشمال الشرقي من موقع أورشليم. ويتألف هذا المصلى
من غرفةٍ واحدةٍ أُفرزت لغرض العبادة، رُفعت على مستدير جدرانها مصاطب
منخفضة لوضع الأدوات الطقسية. ومن هذه الأدوات التي بقيت لنا منصب نذري
فخاري، وأوعية فخارية من تلك التي توضع عادة على فوهة المنصب، وتمثالين
حيوانيين صغيرين (= دُمى) وقطع زينة متنوعة[3].
وفي الحقيقة فإننا
لا نستطيع خلال هذه الفترة التمييز أركيولوجيًا بين مقام ديني مكرس
ليهوه ومقام آخر مكرس لإله كنعاني. ذلك أن يهوه بدخوله عالم الآلهة
الكنعانية قد دخل في الوقت نفسه إلى عالم المنظومة الرمزية الدينية
لآلهة كنعان، وهي منظومة ذات علاقة بالخصب الذي يشكل الهَمَّ الأول
للسكان الزراعيين. وبذلك فقد صار من الصعب التمييز بين طقوسه وطقوس أي
ألوهة أخرى، على الرغم من احتفاظه بسمته الأساسية كإلهٍ محاربٍ ومدمر،
وهي سمة يشترك بها مع الإله بعل بما هو إلهٌ للعاصفة. ولسوف نرى فيما
بعد أن دخول يهوه في المنظومة الرمزية لآلهة كنعان، قد دفعه إلى التخلي
عن تبتله الجنسي والاقتران بالإلهة عشيرة إلهة كنعان والزوجة السابقة
لإيل. وسنرى أيضًا كيف دخل رمز عشيرة الشجري إلى قدس أقداس هيكل
أورشليم، مثلما دخل أيضًا النصب الحجري إلى معبد يهوه الآخر بموقع عراد
في يهوذا.
وإذا كان هنالك من
رمزية ليهوه متصلة به كإله يفعل في التاريخ (الخروج من مصر.. الخ) خارج
أفكار المحررين التوراتيين، فإن هذه الرمزية قد ضاعت تدريجيًا في خضم
الرمزية الخصبوية. ولا أدلَّ على ذلك من أن الأعياد السنوية التي تؤشر
للسنة الطقسية في التوراة هي أعياد متصلة بالدورة الزراعية. نقرأ في
سفر الخروج على لسان يهوه مخاطبًا موسى: "ثلاث مراتٍ تُعيَّد لي في
السنة. تحفظ عيد الفطير، تأكل (خبزًا) فطيرًا سبعة أيامٍ في وقت شهر
أبيب لأنه فيه خرجت من مصر. وعيد الحصادِ (حصاد) أبكار غلاتك التي تزرع
في الحقل. وعيد الجمع في نهاية السنة عندما تجمع غلاتك من الحقل."
(الخروج23: 14- 16).
وعلى ما نفهم من
السياقات اللاحقة فإن عيد الفطير هو عيد الفصح الذي يُحتفل به في أواسط
شهر نيسان/ أبريل، وهو عيدٌ ربيعي معروف في جميع أنحاء الشرق القديم
(عيد النيروز في فارس، عيد رأس السنة البابلية، عيد شم النسيم في مصر..
الخ). أما عيد الحصاد الذي يدعى أيضًا عيد الأسابيع لأنه يأتي بعد سبعة
أسابيع من عيد الفصح، فهو أيضًا عيدٌ زراعي يرجع إلى العصر الحجري
الحديث، وما زالت آثاره باقيةً إلى يومنا هذا لدى جميع زُرَّاع الحبوب
في العالم. وأما عيد الجمع الذي يدعى أيضًا عيد المظال وعيد يهوه
(بالعبرية حج يهوه)، فيأتي عقب جني محصول العنب والتين وغيرهما من
الفاكهة الصيفية فيما بين أواخر شهر أيلول/ سبتمبر وأوائل شهر تشرين
الأول/ أكتوبر، وهو عيد الكرمة وآلهة الخمر لدى الكنعانيين ولدى
اليونان والرومان. وما زالت بعض المناطق اللبنانية المعروفة بزراعة
الكروم وإنتاج النبيذ مثل زحلة، تحتفل إلى يومنا هذا بعيد الكرمة في
أواخر شهر أيلول. ولدينا مقطع من سفر اللاويين يصف ما يجري في هذا
العيد: "أما اليوم الخامس عشر من الشهر السابع ففيه عندما تجمعون غلة
الأرض تعيِّدون عيدًا للرب سبعة أيام. في اليوم الأول عطلة وفي اليوم
الثامن عطلة. وتأخذون لأنفسكم في اليوم الأول ثمر أشجارٍ وسعف نخلٍ
وأغصان شجرٍ وصفصافًا نهريًا، وتفرحون أمام الرب إلهكم سبعة أيام... في
مظالٍّ تسكنون سبعة أيام، لكي تعلم أجيالكم أني في مظال أسكَنْتُ بني
إسرائيل لمَّا أخرجتهم من مصر." (اللاويين 23: 39- 43 راجع أيضًا ما
ورد في سفر نحميا 8: 13- 17 من وصفٍ لهذا العيد). وكانت الفتيات يخرجن
في هذا العيد للرقص بين الشبان العزبان الذين يأتون لأجل الالتقاء
بالفتيات واختيار زوجات لهم (القضاة21: 19- 22). ومما يشير إلى الأصل
الكنعاني القديم لهذا العيد أن أهل مدينة شكيم الكنعانية خلال عصر
القضاة كان لهم عيد مماثل يُقام بعد جني محصول الكرمة يعمدون فيه إلى
دوس العنب المقطوف وتحضير النبيذ منه، ويأكلون ويشربون الخمر ويفرحون
(القضاة9: 26- 27).
هذه الأعياد
الزراعية التقليدية لم تكن تحمل في الأصل أي رمزية تاريخية ذات صلة
بتحرير بني إسرائيل أو خروجهم من مصر أو إظلالهم في سيناء خلال
تجوالهم. وقد أقحم المحررون التوراتيون هذه الرمزية التاريخية على
الأعياد الخصبوية في الفترات المتأخرة من أجل إيجاد تفسير لتبني بني
إسرائيل لها. كما أنه من غير المحتمل أن تكون هذه الأعياد الزراعية قد
فُرضت ضمن بنود الشريعة الموسوية على رعاة متبدين لم يعرفوا الزراعة
ولا الحياة الحضرية بعد، وهي لم تدخل إلى الرمزية الدينية اليهوية إلا
بعد أن تماثل الإله يهوه مع الإله بعل وصار مثله سيدًا للأرض الزراعية
على ما سنرى في حينه.
إن موضوع الأعياد
هذا يعيدنا مرة أخرى إلى أصول الشريعة الموسوية. فالأعياد شأنها شأن
بقية بنود الشريعة لم تنزل على موسى في سيناء، والعبرانيون الذين
التحقوا بسكان الهضاب المركزية في عصر الحديد الأول (أو عصر القضاة
بالتعبير التوراتي)، لم يسمعوا بهذه الشريعة ولم يكن بين أيديهم قوانين
مدونة في ثقافة لم تكن قد استخدمت الكتابة بعد، وإنما كانوا يتَّبعون
الأعراف والتقاليد السائدة بينهم قبلاً، وتلك المعمول بها في المناطق
التي وفدوا إليها. أي أن شريعة موسى برمتها لم تُفرض من الأعلى وإنما
تطورت تدريجيًا من الأسفل، من أجل تنظيم الحياة في مجتمع آخذٍ في
التركيب والتعقيد، إلى أن تم أخيرًا ربطها بديانة يهوه.
هنالك أمر آخر يبديه
لنا دين سكان المرتفعات على المستوى العائلي في عصر الحديد الأول، وهو
غياب اسم الإله يهوه من أسماء العلم التي تحمل في أحد شطريها اسمًا
إلهيًا. فمعظم هذه الأسماء يحمل اسم الإله إيل وفي أحيانٍ قليلة اسم
الإله بعل. والباحثون في تاريخ الأديان يعولون كثيرًا على طبيعة أسماء
العلم من أجل اكتناه طبيعة العقائد الشعبية وعباداتها. لننظر على سبيل
المثال أسماء رؤساء القبائل الإسرائيلية كما عدَّدها محرر سفر العدد في
إصحاحه الأول. إن كل الأسماء المركبة في هذه القائمة تحتوي في أحد
شطريها على اسم الإله إيل أو أحد ألقابه مثل صور أو شداي:
1.
أليصور بن شديئور = إيل صور بن شداي أور
2.
شلوميئيل بن صوريشداي = شلومي إيل بن صوري شداي
3.
نثنائيل بن صوغر = نثنا-إيل
4.
أليشمع بن عميهود = إيل-يشمع
5.
جمليئيل بن فدهصور = جملي-إيل بن فده صور
6.
فجعئيل بن عكرن = فجع-إيل
7.
الياساف بن دعوئيل = إيلي أساف بن دعو-إيل
ونحن إذا قارنا هذه
الذخيرة من الأسماء التوراتية المبكرة مع أقدم الأسماء الكنعانية
الموثقة لنا في سجلات مدينة إيبلا السورية العائدة إلى أواسط الألف
الثالث قبل الميلاد، لتأكد لنا أن الأسماء التوراتية إنما تعكس تقليدًا
سوريًا مغرقًا في القدم. وفيما يلي نماذج من هذه الأسماء الإيبلائية[4]:
1. إش-را-إيلي
2. إش-ما-إيلي
3. دان-إيل
4. إي-سار-إيلي
5. إنا-إيلي |
6. إيلي-رامو
7. مي-كا-إيل
8. إب-لول-إيل
9. إيلي-رامو |
وفي الواقع فإنه لم
يتيسر لنا من عصر ما قبل الملوكية سوى اثنان اسمين مركبين يحتويان في
أحد شطريهما على الاسم يهوه مختصرًا بصيغة "يا" أو "يو"، وهما يشوع بن
نون (يا – شوع) خليفة موسى، ويوكابد (يو- كابد) أم موسى، والأرجح أن
هذين الاسمين ينتميان إلى الذخيرة الاسمية الأقدم عهدًا، ولا علاقة
لهما بالاسم يهوه، لأن اسم يشوع موثق لنا من عصر مدينة إيبلا بصيغة
يشوعو[5]. وقد فسر لنا عالم
الأكاديات الإيطالي ألفونسو آركي معنى صيغة "يا" التي ترد في أول أسماء
الأعلام أو في آخرها باعتبارها أداة تدليل وتصغير، وهي عادة شائعة في
ذلك الوقت ونجدها في الأسماء الواردة في وثائق ماري في مطلع الألف
الثاني قبل الميلاد[6]. في سياق عصر
الحديد تبدأ الأسماء التي تحتوي على الاسم يهوه بالتزايد إلى أن طغت
على الأسماء التي تحتوي على الاسم إيل في أواخر عصر الملوكية (القرن
السابع ق.م).
ولعلنا واجدين في
قصة هجرة سبط دان من موطنه على الساحل إلى المناطق الداخلية خير مثال
على الطبيعة التعددية لدين إسرائيل في عصر القضاة. والقصة تبدأ برجل
اسمه ميخا من سبط أفرايم جعل لنفسه مقامًا دينيًا منزليًا ووضع فيه
تمثالين لإلهين لم يفصح لنا النص عن هويتهما، ويُرجح أنهما لبعل
وعشيرة. ثم إن ميخا أوكل أحد أولاده بخدمة المقام وجعله كاهنًا. "فكان
لميخا بيت للآلهة" على حد تعبير النص. وبعد ذلك مر به رجل متغرب من سبط
اللاويين الكهنة، فقال له ميخا: أقم عندي وكن لي كاهنًا وأنا أعطيك
أجرًا وثيابًا وقوتًا. فرضي اللاوي بالإقامة عنده. فقال ميخا: "الآن
علمتُ أن الرب يحسن إليَّ لأنه صار لي اللاوي كاهنًا". في تلك الأيام
كان بنو دان يطلبون مكانًا للسكنى فمروا ببيت ميخا ورأوا مقامه الديني
والتمثالين، واتفقوا على نهبها ليضعوها في مقامهم الديني بعد
استقرارهم. وعندما اعترض الكاهن اللاوي قالوا له: اخرس وقم معنا وكن
لنا كاهنًا. أهو خيرٌ لك أن تكون كاهنًا لبيت رجلٍ واحد، أم تكون
كاهنًا لسبطٍ ولعشيرةٍ في إسرائيل؟ فطاب قلب الكاهن ومشى معهم. فتتبعهم
ميخا وهو يصرخ: آلهتي، آلهتي التي عملتُ، قد أخذتموها مع الكاهن وذهبتم
فماذا لي بعدُ. ولما رأى أنه لا يقدر عليهم رجع إلى بيته. أما هم
فتابعوا مسيرتهم شمالاً إلى مدينةٍ تدعى لايش تابعة لمملكة صيدون،
شعبها مطمئن وأرضها خصبة ولكنهم بعيدون عن الصيدونيين وليس لهم علاقة
مع أحد. فضربوهم بحد السيف وأفنوهم وأخذوا مدينتهم ودعوها دان باسم
أبيهم دان الذي وُلد ليعقوب. وجعل بنو دان لأنفسهم مقامًا دينيًا وضعوا
فيه الأثاث الطقسي الذي سرقوه. وبقي هذا المقام قائمًا طيلة المدة التي
كان فيها بيت يهوه قائمًا في شيلوة (القضاة: 17- 18).
في عصر المملكة
الموحدة نجد أصنام الآلهة موجودة في بيت داود، الشاب الذي مسحه الرب
ملكًا على إسرائيل بدلاً عن شاؤل. نقرأ في سفر صموئيل الأول: " فأرسل
شاؤل رُسلاً إلى بيت داود ليراقبوه ويقتلوه في الصباح. فأخبرته ميكال
زوجته قائلة: إن كنت لا تنجو بنفسك هذه الليلة فإنك تُقتل غدًا.
فأنزلتْ ميكال داود من الكوة فذهب هاربًا ونجا. وأخذت ميكال الترافيم
ووضعته في الفراش ووضعت لبدة المعزى تحت رأسه وغطته بثوب" (19: 11-13).
والترافيم المذكور هنا، هو نوع من أصنام الآلهة الخاصة بالبيوت، ويبلغ
حجمها في بعض الأحيان حجم الإنسان الحقيقي. (بخصوص أصنام الترافيم راجع
المواضع التالية في التوراة: التكوين 31: 9 و34 و35. وصموئيل الأول 15:
23). وكان الملك سليمان باني هيكل الرب في أورشليم من عبدة الآلهة
السورية. نقرأ في سفر الملوك الأول:
وكان في زمن شيخوخة سليمان، أن نساءه أمَلْن قلبه وراء آلهة أخرى،
ولم يكن قلبه كاملاً مع الرب إلهه. فذهب سليمان وراء عشتاروت إلهة
الصيدونيين وملكوم رجسِ العمونيين، وعمل سليمان الشر في عيني الرب...
(11: 4-7).
بعد انهيار مملكة
سليمان وانقسامها إلى مملكة إسرائيل ومملكة يهوذا، كان ملوك إسرائيل
وعامتها يعبدون الآلهة السورية حتى دمار عاصمتهم السامرة عام 721 ق.م.
أما يهوذا فإن المقطع التالي من سفر الملوك الثاني يعطي صورة حية عن
حالة هيكل سليمان في أورشليم الذي امتلأ بُنصب ورموز آلهة الخصب
الكنعانيين:
وأمر يوشيا الملكُ الكاهنَ العظيم حلقيا وكهنة الفرقة الثانية أن
يُخرجوا من هيكل الرب جميع الآنية المصنوعة للبعل وللسارية ولكل أجناء
السماء وأحرقها خارج أورشليم، ولاشى كهنة الأصنام الذين جعلهم ملوك
يهوذا ليوقدوا على المرتفعات في مدن يهوذا وما يحيط بأورشليم. (23:
4-6).
وبعد السبي يحدثنا
النبي حزقيال عن تحول هيكل الرب إلى مكان لعبادة الآلهة الأجنبية وأداء
طقوس الخصب التموزية فيه:
وقال لي ادخل وانظر الرجاسات الشريرة التي هم عاملوها هنا. فدخلت
ونظرت وإذا كل أصنام بيت إسرائيل مرسومة على الحائط على دائره، وواقف
قدَّامهم سبعون رجلاً من شيوخ بني إسرائيل وكل واحد مجمرته في يده وعطر
عنان البخور صاعد إلى مدخل باب بيت الرب الذي من جهة الشمال، وإذا هناك
نسوة جالسات يبكين على (الإله) تموز. (حزقيال 8: 7-16).
هذا وتكمل التنقيبات
الأثرية هذه الصورة التي رسمها محرر سفر الملوك للمشهد الديني في
المملكتين، فكل ما كشفت عنه هذه التنقيبات من معابد ومقامات دينية
ينتمي إلى المنظومة الدينية الكنعانية لا إلى المنظومة الدينية
التوراتية. ولعل أبرزها ذلك المعبد الكبير الذي اكتشف في مدينة عراد
القديمة الواقعة في شمال النقب، وهو عبارة عن معبد سوري كنعاني في
تصميمه، وفي قدس الأقداس منه (= القاعة الداخلية) هنا لك نصبان حجريان
يرمزان للألوهة الكنعانية من النوع الذي حرمته الشريعة التوراتية
وأمامهما مذبحان للبخور. وقد وجدت في الموقع نقوش كتابية تدل على أن
المكان كان يدعى بيت يهوه. الأمر الذي يدل على أن يهوه كان يعبد في
مملكة يهوذا كواحد من الآلهة الكنعانية الفلسطينية، لا سيما وأن المعبد
كان في الخدمة خلال القرن الثامن قبل الميلاد، وهي الفترة التي شهدت
نشوء مملكة يهوذا التاريخية.
*** *** ***