في نقد الإلحاد السائد عربيًا
محسن المحمد
مع
تفسخ وانحطاط معظم تجارب تيارات الإسلام السياسي في العالم العربي،
ظهرت موجة من الإلحاد بدأت تسيطر على العقول كرد فعل على هذا الانحطاط
الذي تمثل في تجربة «الإخوان المسلمين» في تونس ومصر أو تجارب التيارات
الفاشية المتمثلة بـ «داعش» و«جبهة النصرة» أو «فتح الشام» وأخواتها في
سوريا والعراق. وتدل شبكات التواصل الاجتماعي على ازدياد عدد الملحدين،
حيث نلمس كثرة الصفحات والمواقع الإلحادية العربية التي تحاول أن تلجأ
إلى نمط من الإلحاد يشي بوعي زائف للمسألة الإلحادية. ومن هنا نقدنا
لهذا النمط الإلحادي، ليس من موقع الحرص على الإيمان، بل لناحية الخوف
من تعميم هذا الوعي الزائف الذي يقوم على فهم تبسيطي، بيانه أن الدين
هو المشكلة، فالإلحاد هو الحل.
وفي عملية تفكيكية لهذا الإلحاد السائد نجد أنه يرتكز على فكرتين
أساسيتين، تنطلق الأولى من نفي وجود الله، والثانية من نفي الدين
كنتيجة لازمة عن الأولى. ولذلك سينحصر نقدنا لهذا النمط الإلحادي في
هاتين النقطتين.
يعتقد الملحد أنه بنفيه لوجود الله قد تخلص من المفاهيم الغيبية
والماورائية واقترب من الواقعية والعلمية، لكن التدقيق في أسس هذا
النفي يبين أنه غارق ومنغمس في الغيبيات ومبتعد عن الواقع. فالإلحاد
القائم على نفي وجود الله يجعل من الله مشكلته الأساسية، كما هو حال
المؤمن، أي أن الملحد والمؤمن ينطلقان من أرضية غيبية واحدة تتمثل في
فكرة الله كجوهر مفارق، ولكن الأول ينفيها والثاني يؤكدها. وبمعنى آخر،
إذا كان الايمان إقرارًا إيجابيًا بالإله، فالإلحاد يأخذ الوجه المقابل
للعملة، أي، وجه الإقرار السلبي. وهذا هو الدرس الذي يمكن أن نستخلصه
من ماركس في نقده لإلحاد اليسار الهيغلي (الشبيه بالنمط الإلحادي الذي
ننقد)، حيث وضَّح أن هذا الإلحاد هو المرحلة الأخيرة من الربوبية،
وبالتالي أعلى درجات الإيمان[1].
وفي هذا الخصوص وضمن السياق نفسه، يكتب مهدي عامل مؤكدًا بصيغة لا تدع
مجالاً للشك:
ديني الفكر الذي يتحدد الله كمحور لمشكلته الأساسية، سواء أكان
إيمانيًا أم إلحاديًا [...] فهو إذًا ديني، حتى لو قال بالإلحاد، لأنه
قائم على تربة الفكر الديني[2].
نفي الله أم الدين
وإذا انتقلنا إلى التجارب الإلحادية، كتجربة الدول "الاشتراكية"
السابقة في أوروبا الشرقية والتي ساد فيها إلحاد شبيه بالإلحاد الذي
ننقد، فإننا سنكون أمام دحض لفكرة مفادها أن التخلص من الله هو تخلص من
المثالية والغيبية. وخير مثال على ذلك هو الحقبة الستالينية، حيث حلَّ
محلَّ تقديسِ عبادة الله تقديسٌ لمؤسسي الماركسية (ماركس وأنجلز
ولينين). وبدلًا من الدين تحولت نصوص مؤسسي الماركسية (كما صاغتها
الأيديولوجية الستالينية) إلى نصوص مقدسة "دينية" لا يأتيها الباطل
أبدًا. يكتب الياس مرقص في هذا السياق:
يمكن أن ينتهي فلان من الإله والآلهة ليقيم إلهًا آخر وآلهة أخرى،
نصف شعوب المسكونة ليس عندها "الله"، على الأقل إلهنا المسيحي –
الإسلامي – اليهودي، ولكن فيها مثالية وضلال. ونصف الآخرين خلصوا من
الله، لا من المثالية والضلال، ربما غرقوا فيهما أكثر[3].
ينتقل هذا النمط الإلحادي من نفي الله كمفهوم غيبي إلى نفي الدين
المرتبط به، وبهذا الترابط يظهر الدين كحالة غيبية ماورائية فحسب،
وبالتالي يتم إهمال مسألة أساسية، وهي أن الدين حالة اجتماعية محددة
بظرف تاريخي وببنية اجتماعية اقتصادية محددة. وبهذا الإهمال نكون أمام
مسألتين، تتعلق المسألة الأولى بنفي الإنجازات التاريخية التي حققها
الدين كحالة اجتماعية أفرزت كثيرًا من المفاهيم الفكرية المساعدة على
نهضة البشرية، لا سيما في البدايات الأولى لظهورها. هكذا، ينظر إلى
المحرمات الدينية مثلاً كعمليات ساهمت في انتقال البشرية من الحالة
الهمجية الحيوانية إلى الحياة المنظمة القانونية. وتتعلق المسألة
الثانية بأنه بنفي الدين كحالة غيبية وإهماله كحالة اجتماعية يسود وهم
عند أنصار هذا النمط الإلحادي قائم على فكرة مفادها أنه بنفي الدين
يتحرر الإنسان والإنسانية من الشرور. ولكن التدقيق الواقعي يبين أن نفي
الدين لا يخلص المجتمع من شرور المؤسسات الدينية، لأن مشكلة هذه
المؤسسات ليست مع نفي الدين، وإنما تكمن في تهديد مصلحتها المادية
وامتيازاتها السلطوية. وقد وضح ماركس هذه الفكرة في مقدمة كتابه رأس
المال. ففي معرض حديثه عن أعداء البحث العلمي الحر في الاقتصاد
السياسي، يرى أن الألحاد لا يمثل مشكلة أمام الكنيسة الإنكليزية، ولا
حتى هدم بنود إيمانها، إنما يتمثل الخوف بالنسبة إليها في مصلحتها
المادية الخاصة. يكتب ماركس بهذا الصدد:
فالكنيسة الإنكليزية العليا تصفح بالأحرى على التعدي على 38 من 39
بندًا من بنود رمز إيمانها ولا تصفح عن التعدي على 39/1 من دخلها
النقدي. وأن الإلحاد ذاته في أيامنا هو إثم بسيط بالمقارنة مع نقد
العلاقات التقليدية للملكية[4].
المشكلة ليست «دينية»
كما أن نفي الدين لا يقدم شيئًا ملموسًا على مستوى مواجهة التيارات
الدينية الفاشية («داعش» و«النصرة» نموذجًا)، لأن المشكلة في هذه
التيارات ليست مشكلة دينية بل مشكلة سياسية اجتماعية. فالدين هنا وسيلة
وأداة لا أكثر ولا أقل، والبحث عن السبب العميق لظهور هذه التيارات
الفاشية يجب أن يتركز على البنية الاجتماعية الاقتصادية التي نشأت في
فضائها هذه التيارات، أي في مراكز وأطراف النظام الرأسمالي، وفي سياسة
وأيديولوجية البرجوازية (أو النخب) المسيطرة في المراكز والأطراف،
بدليل أن الإرهاب (أو الفاشية) ليس مقترنًا بتيارات دينية. وخير مثال
الحركة النازية الألمانية والفاشية الإيطالية، فهي حركات قومية عنصرية
لا دينية. يكتب الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني هوركهايمر في هذا
الصدد:
الفاشية لا تتعارض مع المجتمع البرجوازي، بل هي، في ظل شروط تاريخية
بعينها، الشكل الملائم لهذا المجتمع[5].
ويضيف:
من لا يرغب في أن يتحدث عن الرأسمالية، ينبغي أن يلزم الصمت كذلك
فيما يتعلق بالفاشية[6].
وعلى النحو ذاته نقول: من لا يرغب في أن يتحدث عن الرأسمالية في
المراكز والأطراف، ينبغي أن يلزم الصمت كذلك فيما يتعلق بالفاشية
المتأسلمة ("داعش" وأخواته).
وأخيرًا، إن تحديد الدين كحالة اجتماعية هو الذي يساعدنا على الاقتراب
من معالجة المشكلات التي تأخذ مظهرًا دينيًا، بمعنى أن نقد الدين لا
يتم بنفيه على اعتبار أنه وعي غيبي مفارق (كما يحدد النمط الإلحادي
السائد)، بل يتم على أرضية موقع هذا التيار الديني أو ذاك في الصراع
القائم على المستوى الوطني والاجتماعي. فالدين (أو تياراته) كحالة
اجتماعية يأخذ طابعًا وطنيًا ديموقراطيًا إذا كان في موقع التغيير
الثوري أو في موقع مواجهة الإمبريالية والأنظمة التابعة لها وجيوبها
الوظيفية كالكيان الصهيوني، أو كان في موقع الدفاع عن المرأة وحريتها
أو الدفاع عن المهمشين، فيما إذا مثل إحدى أدوات الإمبريالية وجيوبها
أو كان في موقع الدفاع عن الاقتصاد الرأسمالي ومفرزاته المعادية
للحريات عندها يكون رجعيًا على طول الخط. فالمشكلة ليست مع الله وليست
دينية، بل هي دائمًا سياسية مادية تاريخية.
*** *** ***
عن جريدة السفير