حديث المقبرة
محمد حبيب
في
طريقه إلى العمل ومنه، كان يستوقفه صخب القهقهات التي يسمعها كلما مر
بمقبرة ليلاً، أو في فترات النهار الهادئة. وفي كل مرة كان يقول لنفسه
غدًا سأستطلع الأمر، غدًا سيكون لدي الوقت الكافي
لذلك. ومضت
أيام وسنون دخل فيها مقابر كثيرة في جنازات لأقارب وجيران وأصدقاء،
لكنه في تلك اللحظات كان ينسى أمر القهقهات. كان يشغله الحزن أو ألم
الفقد عن سماعها، وربما كانت سعادته بقيامه بواجبه تجاه أولئك الأموات
تنسيه أمرها. وهكذا بقي الحال على ما هو عليه، يسمعها يوميًا، وعلى
الرغم من ذلك لم يدخل مقبرة ليعرف قصة تلك القهقهات المتشابهة.
اليوم، عندما وقف على نافذة البيت الجديد، على بعد آلاف الأميال،
اكتشفت أن ما ظنه حديقة عالية السور، لم يكن سوى مقبرة جميلة. حتى أنها
كانت أجمل من بعض الحدائق هناك. القبور هنا منظمة بطريقة هندسية تشبه
كثيرًا طريقة تنظيم الحدائق؛ حتى المقاعد الحجرية الموزعة تحت الأشجار
الكبيرة على جوانب المقبرة تشبه مقاعد الحدائق. والممرات بين كل مجموعة
من القبور تجعل من هذه المقبرة الكبيرة إلى حد ما، مكانًا جميلاً
للتنزه.
مثل شخص منوم مغناطيسيًا، استدار ومشى بهدوء، لبس حذاءه، وخرج. عندما
وصل الدرجة العاشرة والأخيرة من السلم، وقبل أن يضع قدمه على الرصيف،
تذكر علبة السجائر. عاد ليجلب علبة السجائر، فوجد نفسه واقفًا أمام
الموقد يصنع فنجانًا من القهوة ليأخذه معه إلى المقبرة ويستمتع بشربه
هناك، على أحد المقاعد الحجرية.
وقف على الرصيف عند ممر المشاة، علبة السجائر في جيبه وفنجان القهوة في
يده اليسرى، لأنه سيحتاج اليد اليمنى ليفتح باب المقبرة الحديدي. نظر
باتجاه باص النقل العام، وهذه عملية إرسال واستقبال بصرية- متعارف
عليها هنا- تعني أنه سيعبر الشارع عندما يوقف السائق الباص ليسمح له
بالمرور. لكن بدا أن سائق الباص، الذي نظر إلى يمين ويسار معبر المشاة،
لم يره.
بعد مرور الباص، عبَرَ الشارع، وهو يتساءل عن السبب الذي جعل سائق
الباص يتجاهله. وصل المقبرة، فتح البوابة ودخل. كان في المقبرة بعض
الزوار، وكلهم متقدمون في السن، يزورون أحبتهم الراقدين هنا، ويضعون
باقات الزهور فوق قبورهم التي لا يدل عليها سوى شاهدة القبر. كانت
المقبرة مقسمة إلى جزر، مربعات ومستطيلات، كل واحدة منها تحتوي على
بضعة قبور، لا يميز أحدها عن الآخر سوى شاهدة القبر المصنوعة من حجر
الغرانيت الفاخر. يبدو أن هذه تجارة مربحة ورائجة؛ ولو لم تكن كذلك لما
تفنن صانعوها بأشكالها وطولها وسماكتها بهذه الطريقة الفنية التي تدل
على الحالة المالية لأسرة ساكني تلك القبور.
مشى في الممرات بين جزر القبور، ثم جلس تحت شجرة كبيرة في منتصف السور
الشرقي من المقبرة. أشعل سيجارة وسحب منها نفسًا عميقًا، ثم شرب رشفة
من فنجان القهوة. وراح يراقب حركة الزوار وطريقة تعاملهم الرقيقة مع
باقات الزهور التي يضعونها فوق القبور. كان البعض منهم قد جلب معه
أدوات حفر صغيرة، تساعده على صنع حفرة في طبقة الحصى الناعم التي تغطي
جُزُرَ القبور كلها دون استثناء، ثم يضعون باقة الزهور- وكأنهم
يزرعونها ويأملون أن تبقى نضرة ريثما يستبدلونها في الأسبوع القادم.
عندما ساد الصمت، سمع القهقهات من جديد. في البدء ظن أنه يحلم، وشعر
بالخوف! هل هو هنا حقًا، أم أنه لا يزال هناك وصخب القهقهات الشبيهة
بتلك التي كان يسمعها هناك هو نهاية ذلك الحلم. تلفت حوله. لا يوجد في
المقبرة سكارى، ولا صغار يلعبون. والزوار في المقبرة يتحركون بمنتهى
الأناقة والوقار، حتى بدى له أنهم لا يصدرون أي صوت، ولا يسمعون أيضًا
تلك القهقهات.
وقف، وأصاخ السمع ليعرف الجهة التي تصدر منها تلك القهقهات. مصدرها هو
الركن الغربي في المقبرة حيث توجد أكبر الأشجار. نهض وسار بهدوءٍ غريب؛
لم يفهمه هو نفسه. حتى أنه تساءل كيف لا يستعجله الفضول الآن كما
يستعجله عادة تجاه أمور أخرى. وكيف أنه لم يشعر بالخوف؟ كانت القهقهات
تصبح أعلى كلما اقترب من المكان.
عندما وصل إلى الركن الغربي، رآهم جالسين في الممر بين جزيرتين. ظلال
رمادية اللون، من مختلف الأعمار، رغم أنهم كانوا أشبه بنسخ كربونية من
ناحية الحجم والملامح.
لم ترتعد فرائصه، ولم تسرِ قشعريرة الخوف أو الصدمة في جسده. وقف
يتأملهم بحياد فاجأه هو نفسه. بدا له أنهم لم ينتبهوا إلى وجوده، لأنهم
كانوا مشغولين بالاستماع إلى ظلٍ جديد في المقبرة، وكان يبدو أكبرهم
سنًا.
استأنف الظل الجديد كلامه بعد نوبة ضحك طويلة: "ما هذا السؤال الغبي؟
طبعًا لقد فرغ الدود من التهامي، وإلا لما استطعت الانضمام إليكم.
أتعلمون، كنت أتمنى لو كانت أسنان الديدان أقوى، لتنتهي مني بسرعة. حتى
أنني اقترحت عليها أن تسن أسنانها وتعود لتأكلني بسرعة. هل تتصورون ما
كان رد تلك الديدان الفاجرة؟ قالت لي إن المشكلة ليست في أسنانها بل في
لحمي القاسي جدًا."
سأله أصغرهم: "ومن كان منكم على حق؟".
ضحك الجميع من جديد. بينما تفاجأ هو بالسؤال. واغتنم انشغال الآخرين
بالضحك ليجد جوابًا للسؤال اللئيم ذاك.
عندما هدأت الضحكات أخيرًا، قال: "أعتقد أن تلك الديدان كانت فتية جدًا
وأقل من أن تأكل خبرة خمسين عامًا في أكل لحم البشر."
ثم وجه كلامه إلى أحدهم قائلاً: "ما رأيك أيها الرجل الصالح؟ هل تذكر
كيف أكلتك بلقمة واحدة؟".
"أتذكر أن أحد أعضاء لجنة المبايعات في الشركة أكلني، لكنني لم أكن
أعرف أنك أنت. طبعًا لا بد أن تتذكر أنك أكلتني من الوراء، ولذلك لم
أستطع أن أرى وجهك."
"صحيح، كان لا بد من أكلك من الوراء، لأنه لم يكن سهلاً أبدًا التغلب
عليك وجهًا لوجه."
ضحك الجميع.
غريب كيف أنهم يضحكون من كل شيء، حتى مما يبعث على البكاء لا الضحك!
قال أصغرهم: "ربما تكون إذن أنت من أكل أبي، أيضًا؟"
أطلق الظل قهقهة فاجرة، ثم عاد يحدق في وجه السائل، وقال: "لقد أكلت
لحم الكثيرين، لكن إن قلت لي ما اسم أبيك سأخبرك إن كان من بين أطباقي
الشهية التي استمتعت بها."
قال الظل الفتي: "لقد كان أبي نائب رئيس غرفة الصناعة."
ضحك الظل الخمسيني ضحكته الفاجرة من جديد، وكانت هذه المرة أطول. وكان
يقطعها لينظر في وجه الظل الفتي ويسأله: "أحقًا أنت ابن نائب رئيس غرفة
الصناعة ؟"
كان الظل الفتي يكتفي بهز رأسه، مؤكدًا أنه ابن نائب رئيس غرفة
الصناعة.
عندما انتهت نوبة ضحك الظل الخمسيني، وباقي الظلال من بعده، قال: "نعم،
لقد أكلت لحم والدك لكن عن طريق التسلسل."
"كيف ذلك."
"من الحق، إن أول من أكل لحم والدك هو مدير غرفة الصناعة، أي صهرك زوج
أختك. لأن أباك لم يوافق على استيراد صفقة الزيوت التي ستضرب أسعار
الزيوت المحلية الأفضل منها نوعية. لقد كان صهرك، مدير غرفة الصناعة،
صديقي الحميم. وبعد أن أكل والدك، اختلفت معه حول حصته من صفقة الزيوت
الغذائية المستوردة. وعندما لم يرضَ بما أعطيته له من تلك الصفقة،
أكلته هو أيضًا قبل أن يغدر بي ويأكلني. وهكذا أكلت والدك."
ضحك الظل الفتي، وسأله: "وماذا ستأكل الآن؟"
فقال له: "سآكل مما تأكلون طبعًا."
تعالت ضحكات الجميع، وقالوا بصوت واحد بدا مثل صوت جوقة موسيقية: "نأكل
الانتظار."
فقال: "هناك ما يكفي الجميع إذن".
كان يستمع إلى حديثهم وهو فاغر الفم ويتساءل، أهذه حال الأموات؟ لا ثأر
ولا حمية قبلية أو عائلية؟ يضحكون من كل شيء، ويتبادلون أطراف الحديث
مثل أصدقاء أوفياء! أجنونٌ هذا أم فلسفة حياة أخرى لا علم لنا بها بعد؟
تقدم بضع خطوات، وعندما أصبح على مسافة ثلاث خطوات منهم توقف، ثم تنحنح
وقال: "وماذا تشربون عندما تعطشون؟"
نظروا إليه جميعًا. بدا له أنهم يقومون بفعل روتيني واحترافي في آن
معًا. ثم تبادلوا النظر فيما بينهم، وقالوا جميعًا، بصوت واحد، بدا له
مثل صوت الجوقة أيضًا: "لا تُتْعِبْ نَفْسَكَ، نحن لا نُشْرِكُ الظلالَ
الواقفةَ في أَحاديثنا."
*** *** ***