التطور والوعي
والحرية
ندره اليازجي
البحث
في الوعي والحرية بحث في الوجود وفي الوجوب، في الإمكان وفي الفعل، أي
في التحقيق. فالوجود، على مستوى كوكب الأرض تغلُّف على ذاته وانغلاق،
تغلُّف يشتمل على إمكان الانفتاح والحرية. والوجوب، على المستوى ذاته
انفتاح وكشف، أي حرية. فالوجود يشير إلى تطور داخلي، في الطبيعة وفي
الإنسان، يفصح عن ذاته في حركة داخلية، هي التفاف وانطواء، تتفتَّح
أكثر فأكثر في ظاهرة ندعوها التطور.
في الوجود حركة داخلية، ملتفَّة على ذاتها ومنطوية، تفعل في ذاتها لكي
تتحرر، لتصير إلى حركة جديدة تتغلَّف على ذاتها في شكل جديد، لتحرر مرة
أخرى ضمن تسلسل غائي عظيم. وفي المسيرة التطورية الطويلة، تتعرَّف
المادة إلى ذاتها بفعل حرية يكشف الوعي الكامن، من خلالها، عن ظاهرات
جديدة تتسامى وتتجاوز مرحلة أدنى أو أولية كانت قيدًا لها أو انغلاقًا
يطويها ويُقصيها عن تحقيق كيانها. ولهذا السبب، كان التطور فعل حرية،
أي حركة داخلية، تفصح عن ذاتها بظاهرة، تنطلق إلى مجال أوسع وأعظم في
حقل الوجود لكي يصير إلى الوجوب، أي إلى ما يجب أن يكون. وهكذا، يكون
التطور حركة بطيئة هادفة، تفعل فيه طاقة منطوية لا تتعرَّف بذاتها ما
لم تتحرر من وجودها الأدنى المنطوي في صيرورة تسمو بها إلى ظاهرات
جديدة في مسيرة الحياة. وعلى هذا الأساس، تمثِّل الحرية فعل الحركة
المتطورة، وبقولي هذا، أعني أن الكون يحقق مثاله، سائرًا من الأدنى إلى
الأعلى. وليس الأدنى غير زيادة في تقليص الوعي والتغلُّف والانطواء،
وليس الأعلى غير زيادة في الوعي والكشف والانفتاح والحرية.
يقتضي هذا المبدأ الاعتراف بالقدرة الداخلية في الكون، أو بالطاقة التي
تفعل فيه، أو بالحياة التي تتحقق، أو بالروح التي تنطلق من انطوائها في
الإنسان إلى الحرية، معبِّرة عن انعتاق ضمني أسمى وأجل. ولمَّا كنَّا
نعتقد أن لاشيء يأتي من لاشيء، فإننا نعترف أن الحرية التي حقَّقتها
المتعضيات والكائنات المتطورة والمتحررة من ظاهراتها السابقة كانت
قائمة ضمنًا، في الإمكان، في سابقاتها. ولهذا، فقد كان واجبًا على
الكون، وهو وجوب، أن ينعتق من حالته الراهنة، وهو الوجود. لذا، كان
التطور وجوبًا ينتقل الكون، من خلاله، إلى وجود أفضل يعبِّر عن حالة
راهنة جديدة تتطلَّب وجودًا أفضل، هو وجوب، حتى يبلغ نهاية المطاف في
الإنسان، ظاهرة الوجود الأرضي الكبرى، والوجوب الأعظم، والتطور الغائي
الأقصى لحركة ضمنية تحرِّر الوعي من انطوائه وكثافته.
إن من يدرس شجرة الحياة، التي تمثِّل مسيرة تطور الحياة على مستوى كوكب
الأرض، يتحقق من وجود قدرة فاعلة تدرك ذاتها أكثر فأكثر في عملية
تطورية صاعدة، وتسعى إلى تحقيق المزيد من الوعي. وهكذا، فقد بدأت
الكائنات الدنيا أو الأولية البسيطة تخلع عن ذاتها انطواءً، هو عبودية،
كان يقيِّدها، وتلبس رداء جديدًا أو مظهرًا جديدًا. ولم تكن الحياة
الممثلة في هذه الكائنات لتكتفي بظاهرة معينة، بل كانت تسير إلى الأمام
لتحقيق المزيد من الحرية والمزيد من الوعي. وبهذا الطريقة، تتابعت
الأنواع ضمن الجنس، وتعددت الأشكال ضمن الحقيقة الواحدة والحياة
الواحدة، فانتهت أنواع لتحلَّ محلَّها أنواع أخرى تشتمل على سابقاتها
دون أن تكون ذاتها في أشكالها السابقة. وهكذا، لا يكون التطور مجرد
بقاء للأفضل، بمعنى الأقوى والأنسب، بل تجاوُزٌ مستمرٌّ لعملية حياتية
واحدة تبدأ بالأدنى لتنتهي بالأعلى بالإنسان. وليست هذه العملية
الحياتية إلَّا انتقالاً في حلقات متتابعة ضمن قدرة ندعوها الحياة –
الحرية – الوعي، يتخطى بواسطتها الوجود المنغلق على ذاته إلى حالة أكثر
فاعلية وسموًا في عالم الحرية والوعي والحياة. وفي هذا المنظور، يُعدُّ
التطور تكاملاً لقدرة واحدة، تتعدَّد وتتنوع في ظاهرات عديدة، وتسير،
على نحوٍ تدريجي وغائي، إلى الأعلى في تسلسل حياتي يعبِّر عن كشف للوعي
في كل سلسلة جديدة، حتى تصير إلى كيان مبدعٍ يتغلَّف على ذاته من جديد
ويطوي الطاقة كلَّها في ذاته، في عقله. وليس هذا الكيان إلَّا الإنسان.
إن مثال البذرة والشجرة، كمثال عياني بسيط، يرينا حقيقة الوجود في
صورته الناصعة. ليست الشجرة شيئًا آخر سوى البذرة في مراحل تطورها:
الجذع، والأغصان، والبراعم، والثمار هي وجود واحد يمتد من الأدنى إلى
الأعلى، ويحقق في كل مرحلة مزيدًا من الحياة والحرية والكمال. إنها لا
تحقق الحياة وهي مجرد جذع أو عندما تؤلف غصنًا، بل تكون سائرة في طريق
تحقيق ذاتها. وهي تبلغ مستوى النضج والوعي عندما تحقق الغاية التي من
أجلها وُجِدَت، هذه الغاية التي كانت قائمة في البذرة بفعل إمكان، إذ
لا شيء في الشجرة لم يكن في البذرة من قبل. لقد فعلت الشجرة الكامنة في
البذرة لكي تتحرر من ذاتيَّتها المغلقة لتنتشر في رحاب الحياة وتحقق
وجودًا أسمى بفعل الطاقة المبدعة فيها، فانطلقت ضمن سلسلة من الانعتاق
التدريجي إلى أن بلغت نضجها، أي حياتها وكمالها، لتعود إلى الانغلاق
مرة ثانية في البذرة.
في هذا المنظور ندرك أن التطور حركة ذاتية، تلقائية وداخلية، في الوجود
والإنسان، تسير، من خلاله، روح الكون، أي الطاقة التي تغلِّفها ذاتية
المادة، حتى تصل إلى تحقيق غاية الكون التي يظهر فيها الوعي من خلال
تغلُّفه، والروح من خلال المادة، والعقل من خلال كثافته في الدماغ،
والحركة من خلال السكون، الأمر الذي يجعل الكون ينشد ذاته ضمن هذه
العملية التطورية التي تتحرر فيها طاقته ليشعر بوجوده ويعي حقيقته
ومثاله. ولقد أشار العلماء–الحكماء إلى هذه الحقيقة عندما صرَّحوا بأن
تطور الحياة قد عبر مراحل كانت الحياة تكشف فيها عن ذاتها بدرجات أعلى
وأسمى بفعل الطاقة الحيوية المتضمنة في المادة والفاعلة فيها. ونحن
نوافق أولئك العلماء–الحكماء الذين أشاروا إلى عظمة التحرر في خطِّين
متعادلين ومتداخلين: خط مادي آخر طاقي–نفسي–عقلي يتقدمان معًا ليصلا
أخيرًا إلى إظهار الطاقة الكونية في الكيان الإنساني. والحق أن العقل
لم يوجد مصادفة، بل كان حصيلة تطور شاق، تغلَّف على ذاته في مادته،
التي هي الخصائص العقلية الممثلة في الدقائق الأولية العائدة لمرحلة
ماقبل تشكُّل العالم العضوي. وعلى هذا الأساس، سمت المادة بتعقيدها نحو
تحقيق ذاتها بالوعي حتى بلغت المستوى. وهكذا، يُعَدُّ الإنسان نتاج
الحرية التي وعت ذاتها من خلال المسيرة التطورية. والتطور، أي الحرية،
هو انفتاح وانعتاق دائم، وتحول إلى مستويات أكثر سموًّا في سلَّم
الارتقاء، يبغي بلوغ الحقيقة التي سُنَّت على نحو قانون في الطبيعة
لتعرف ذاتها.
تشير صورة الحرية هذه إلى المثال المتضمن في الوجود الأرضي، الذي يفعل
جاهدًا لإدراك ذاته. ولمَّا كان هذا المثال مغلَّفًا في غياهب الكثافة،
وآخذًا صورة السلب، وفاعلاً لتحرير ذاته، فإننا نميل إلى القول بوجود
إرادتين في الوجود الأرضي: إحداهما سلبية وأخرى إيجابية.
الإرادة السلبية مقاومة تبديها الكثافة المادية لتحُول دون تطور المثال
الكامن فيها، أو لتقف حائلاً بينه وبين بلوغ الغاية المرجوَّة،
والإرادة الإيجابية مقاومة يبديها المثال المنطوي، على نحو حياة أو
طاقة فاعلة، في المادة لينعتق ويتحرر. وكل صعود إلى الغاية التي تسمَّى
تطورًا، أي حرية، وكلُّ تحرر من نطاق السلب، هو صعود للوجود، ونعني أنه
انعتاق للمادة من ذاتها لتعي ذاتها. إذن، فالمادة تتطور لتتحرر من
سلبها في كل مرحلة تحقِّق فيها الإرادة الإيجابية، التي ندعوها الروح
أو الطاقة أو الحياة أو المثال، ظاهرةً جديدةً تسمو على تلك التي
سبقتها وتتضمَّنها. ففي الوجود إرادتان، سلبية وإيجابية، تتجاذبان
وتتنافران، تتقاربان وتتباعدان، تتعارضان وتتكاملان، وتصبحان، في
النهاية، إرادة إيجابية واحدة، وذلك عندما تتحرر الطاقة الكونية لتعود
بالمادة، أو بالوجود، إلى ما كان عليه. والحق أن عملية التحرر تتطلب
تدخُّل الإنسان كعنصر فعَّال في إثارة المادة للفعل والتحقيق في
مستويات الوعي والحياة أكثر فأكثر.
هكذا ندرك أن الحرية وجود ووجوب: إنها وجود منغلق على ذاته، مغلَّف
بظاهرة السلب وملتف بها، يدأب دومًا للتحرر من ذاته ليعي ذاته، وهي
وجوب، أي تعبير لما يجب أن يكون. لذا، كانت الحرية تمثيلاً للوجود كما
يجب أن يكون. وكيف يكون الوجود كما يجب أن يكون؟ إنه يجب أن يتحرر من
كثافته وتغلُّفه في سير حثيث نحو الروح، نحو الحقيقة السامية. إذن،
فالحرية فعل عقلي وأخلاقي وروحي ومعرفي.
تكلَّل وعي الوجود الأرضي بوجود الإنسان، أي بظهور الوعي. فالإنسان هو
مثال حرية الوجود المادي. هكذا، يكون مثال هذا الوجود الذي يتمخض عن
غايته الكامنة فيه، التي تغلَّف بأنواع الحياة وأشكالها التي سادت من
الأدنى إلى الأعلى، وانطلقت من الانغلاق إلى الانفتاح والوعي والروح،
أي من الكثافة إلى اللطافة، ومن الظلام إلى النور. وكما يكون الإنسان
مثال الوجود الأرضي وحريته، وكذلك تكون الحقيقة السامية مثال الإنسان
وحريته.
يمثل ظهور الإنسان مثال الكون الطبيعي المشتمل على الوعي والانغلاق،
على الروح والمادة، على المقاومة الإيجابية والسلبية، على الخير
وانعدامه. لقد عاد الإنسان يكرر كلَّ ما قام به الكون: في الإنسان،
يعيد الكون ذاته إلى نقطة انطلاقه، أي التغلُّف على ذاته في الخلية،
لينطلق إلى الإنسان وينفتح عليه في وعي وحرية. وفي المادة، ينفتح الكون
على ذاته لينفض عنه قيد ذاته عبر تلقائية فاعلة هي وعي كامن. لذا، يكون
صعود الوجود الأرضي إلى الإنسان عمليةً داخليةً تتَّسم بتوجيه داخلي
لطاقة مكنونة تفصح عن ذاتها لتعي ذاتها. ومتى وعت ذاتها، يتحقق وجود
الإنسان.
إن انطلاق الإنسان من الخلية، في رحم أمه، دليل على تغلُّفه في غيبوبة،
يبدأ من خلالها في الكشف عن ذاته في سلسلة من الوجودات المتطورة، يتحرر
ضمن كل واحد من انغلاق سابق لينفتح على حقيقة جديدة. وهكذا تكون حياة
الانسان رحلة تبدأ بالوعي الكامن، وصولاً إلى الوعي المنفتح، تبدأ
بيقظة الوعي الكامن فيه، وتنتهي بإدراكه، أو تستمر بالوعي حتى تحقق
الوعي الكوني الماثل فيها. وعلى هذا الأساس، يعدُّ الإنسان الكائن
الوحيد المسؤول لأنه يعي، أو لأنه يدرك بأنه يعي.
لمَّا كان الإنسان يسعى إلى رفع قيمة ومعنى وجوده إلى مستوى المثال،
فإن تطوره يكمن في العودة بالوجود إلى بدء انطلاقه الأول، أي كما كان
في البدء. لذا، تكون العودة بالوجود كلِّه الممثَّل فيه إلى بدء
انطلاقه الأول، أي الألف، وتقدُّمه إلى نهاية تطوره، أي إلى انعتاقه
الكامل وانفتاحه إلى الوعي، حرية.
هكذا، يحقق الإنسان ما كان قد انطلق منه. لقد انطلق من بداية، هي
الألف، وسوف يحقق نهاية، هي الياء. وليست نقطة الانطلاق إلَّا نقطة
النهاية. وهكذا، يحقق كلُّ من الوجود والإنسان نقطة البداية في نقطة
النهاية، وتكون بداية النهاية ونهاية البداية. لذا، كان الوجود
دائريًّا، تتصل فيه البداية بالنهاية.
عندما نبلغ هذه النقطة من الموضوع، نسأل أنفسنا: ما الحرية، أي
الانفتاح والكشف؟ وما الانطواء، أي الكثافة والانغلاق؟
تطرح الإجابة ذاتها علينا في صورة أولية هي: مقاومة سلبية ومقاومة
إيجابية، أو إرادة سلبية وأخرى إيجابية: هناك السلب وهناك الإيجاب.
ويتمثل الإيجاب بكلِّ القيم التي ترفع الإنسان إلى الأعلى: المحبة،
والمعرفة، والوعي، ويتمثل السلب بكلِّ ما يجذب الإنسان إلى الأسفل:
الكراهية، والجهل، والأنانية. وبكلمة موجزة، يتمثل الإيجاب بالخير
الكلِّي، ويتمثل السلب بانعدام الخير الكلِّي، يتمثل الإيجاب بالحكمة،
ويتمثل السلب بانعدام الحكمة.
تتمثل المقاومة الإيجابية، التي هي مظهر روحي للطاقة، في الحرية،
وتتمثَّل المقاومة السلبية، وهي مظهر مادي للطاقة، في الانغلاق. ويتمثل
الانغلاق في العوائق التي تسيطر على الإنسان لتبقيه في عالم كثافته
وسلب وعيه. يبدو الانغلاق في المظاهر التالية: مركزية الأنا المتمثِّلة
في كل ما يجعلها تواصل بقاءها، مثل: التملك، والكراهية، والجهل،
والتعصب، إلخ، وتبدو الحرية في كل ما يتمثَّل في القيم التي يتبنَّاها
الإنسان ليكون حاضرًا في عالم وعيه وحقيقته. وتتمثل هذه القيم، على
سبيل المثال، في التجرُّد من التملُّك، وفي المحبة والمعرفة، إلخ.
وهكذا، يعيق الانغلاق، الذي هو عبودية، كلَّ تقدم، أي كلَّ انفتاح
وتحرُّر.
تشير هذه الدراسة إلى أن الإنسان لا يزال عبدًا، لا يزال يجهل الحرية
النفسية. فهم لم يتحرر من قيوده الذاتية التي تشدُّه إلى الانغلاق في
مركزية الأنا، وتُخضعه لمقاومة المادة السلبية، إنه لا يزال يكره،
ويحارب، ويشتهي، ويتملك، ويتسلَّط، ويتعصب، ويسير في متاهات الكثافة
المادية وظلماتها، في متاهاتها وسلبياتها. وهكذا، يكون كلُّ خضوع أو
استسلام للكثافة المادية، التي هي مقاومة سلبية، نفيًا للوعي، وكلُّ
نفي للوعي عبودية. وبالمقابل، يكون كل خلاص من انغلاق الكثافة المادية
معرفة ووعيًا، وتكون كل معرفة أو وعي حرية. وهكذا، لا تتقدم الإنسانية،
أي لا تتطور، إلا في الوعي الذي يحرِّرها من إشراطاتها وقيودها
العديدة. وعندئذ، تتخلَّص الإنسانية من آلامها السلبية، ومن الشرور
الناتجة عن الجهل الملازم للتعصب والاعتقاد بامتلاك الحقيقة المطلقة،
الذي يؤدي إلى إلغاء الآخر.
هنالك، في كلِّ عمل نفعله أو تصرُّف نسلكه، في مضمار الخير الكلِّي
والوعي، حرية وانعتاق من إشراطات أنانيتنا. فلِمَ لا يفعل الإنسان، وهو
يدرك أن آلامه السلبية، المجسَّدة بالمساوئ والشرور، هي حصيلة جهله
وانغلاقه في زنزانة مركزية الأنا؟
الحرية في الإنسان تُناظِرُ الحتمية في المادة. فإذا كانت المادة، بفعل
طاقتها الداخلية التلقائية، أي بفعل الحياة المنبثة فيها، قد فعلت
لتحقيق المثال الكامن فيها الذي تجلَّى في الإنسان، فإنه جدير بالإنسان
أن يسير بمادته، من جديد، حاملاً مشعلها، لينير طريق الوجود، ويحقق
النور والضياء في فعل الوعي والمعرفة، وفي حصيلتهما: الخير والمحبة.
الإنسان يحمل، في كيانه، الحتمية والحرية: الحتمية القائمة في مادته،
وهي مقاومة سالبة، والحرية القائمة في فعله الدؤوب في الوعي، وهو
مقاومة إيجابية. ولهذا، تتدرَّج طاقة الإنسان في مراحل ثلاث متطورة:
1.
مرحلة أولى هي الحتمية: وفيها يخضع الإنسان لقوانين وُضِعَت لمادته
وفرديته، هي قوانين طبيعية وتجمُّعية.
2.
مرحلة ثانية هي العقلانية: وفيها يسعى الإنسان إلى عقلنة وجوده، أي
مادته، ليتعرَّف إليها، ويفهمها، ويتحرر من حتمية الطبيعة ومن
الإشراطات التجمُّعية التي قيَّدت عقله، ويكتمل في سرمدية الحياة
والحقيقة.
3.
مرحلة ثالثة هي المثالية السامية: وفيها يتمُّ وجوب الإنسان ويكتمل،
أكثر فأكثر، بفعل ماهية الحرية والوعي.
في المرحلة الأولى، يوجد الإنسان الذي لا يعرف الغاية من حياته، فيكون
خاضعًا للتيه في انغلاق أناه. في هذه المرحلة، يعيش الإنسان في انفعالٍ
خالٍ من الوعي، تتلاعب به الدوافع الحيوية المنفعلة، دون ارتباطه أو
اتصاله بعالم العقل. في هذه الحالة، يكون سلوكه مجرَّد انعكاسات مجردة
من الوعي. وتتمثل هذه المرحلة بالإنسان المكوَّن بحسب انفعالات الأنا.
ونذكر، على سبيل المثال: الإنسان الجاهل، المتعصب، الطامع، المستغل،
الأناني، إلخ، أي الإنسان الذي يخضع للتلقائية المنفعلة التي تتجرد من
العقلانية.
في المرحلة الثانية، يوجد الإنسان العاقل الذي يدرك، من خلال دراسته
للكون والطبيعة والوجود والمجتمع، المغزى الكامن في حياته. إنه يفعل في
نطاق عقلي يتجه إلى مزيد من المعرفة والوعي. وتتمثل هذه المرحلة
بالإنسان العاقل، العالم، وتتصف بالسعي الحثيث إلى الوعي المتماثل مع
الطبيعة والمتجاوز لها. في هذه المرحلة، يتحرر الإنسان، بفعل عقلانية،
من أناه المكوّنة والمنفعلة، من تعصُّبه، من كرهه، من جهله، من
استغلاله، من تملُّكه، من اعتقاده بامتلاك الحقيقة المطلقة، إلخ، ليصبح
كائنًا باحثًا عن الحقيقة.
في المرحلة الثالثة، يوجد الإنسان الحر، الذي يتمثل العالم والطبيعة
والكون بعقله الفوقي المنفتح، ويتحرَّر من "أناه المغلقة" كليًّا،
وينفتح على كونيَّته، ويبلغ مستوى الوعي الكوني.
هكذا، تشير الحياة إلى تطور متزايد بفعل ماهية الوعي والحرية. ويتمثل
هذا التطور في تجاوز الظلمة من خلال النور، وتجاوز الشرِّ من خلال
الخير، وتجاوز السلب من خلال الإيجاب، وتجاوز الجهل من خلال المعرفة،
وتجاوز التعصب والانغلاق من خلال الانفتاح، إلخ.
كلُّ ما في الكون ينشد الوعي والحرية: المادة، من خلال طاقتها الباطنية
الفاعلة التي تعمل بوعي مستتر، والإنسان، من خلال وعيه الكوني الكامن
والفاعل الذي يعمل بوعي كوني من خلال ظواهر الوجود المادية. لذا، كان
الوعي والحرية ثورة داخلية تفعل في الوجود وفي الإنسان، وهما انعتاق من
انطواء يغلِّفنا ويغلق علينا في حجاب يحجب عنَّا رؤية الحقيقة، وفيهما
ندرك الحقيقة كما يجب أن تكون. فالحقيقة موجودة، وهي وجود، وتتطلب
التحقيق في الوجوب، أي كما يجب أن تكون. وهكذا، يتمثل التطور في السعي
الدائم والبحث المستمر عن الحقيقة، وفي الخلاص من الحتمية، والسموِّ
إلى العقلانية المتسامية، والحياة في كونية الوجود، وحضور هذه الكونية
الوجودية في الآن، في الحاضر الأبدي.
من
كتاب حديقة الحكمة
تنضيد: شام الحلاق
*** *** ***