الأقلية الرديئة
جولان حاجي
ثمة
أقليات أخرى. الأحياء أقلية الأموات. المقابر في بلداننا حدائق نضرة
العشب هذا الربيع، والحدائق مدافن. حولنا ووراءنا ميتات كثيرة، وموتنا
الشخصي يتقدَّمنا إلى المستقبل. سنكون وحدنا المنتصبين سائرين بين
القبور، في هذا الحاضر الدامي، بينما الجمهور الغفير المستلقي في ظلمات
الأرض وظلمات الماضي لا يرانا. نفكر فيهم، ونقارن أعمارنا بأعمارهم
المكتوبة أو المحفورة في الشواهد، ولا نقول (إذا لم يكن موظفو السجلات
المدنية قد غيروا تواريخ ميلادنا) إننا انتبهنا إلى فراغ الطرف الثاني
من العدد الذي سيلخصنا، وكيف ستأتي يد لتكتبه وتضع بين رقمين ذاك
الفاصل الصغير الذي سيختزل حياة بأكملها.
مئات الآلاف قتلوا خلال الأعوام الأربعة الأخيرة في نكبات سورية
والعراق. هذا الرقم المجرد، في تمامه الرياضي كرقم "طبيعي"، لا يردُّنا
إلى الواقع. إنه يثبت مهارة القتلة. أصدقاؤنا وأقرباؤنا قليلون وسط
الذين لاقوا حتوفهم، الكثرة هم المجهولون الذين لا نعرفهم البتة،
وبعضنا يسمي الموتى الناجين الذين ارتاحوا حقًا. نواصل العيش وكأن
الموت لا يحدث. الإعلانات لا تعبأ بشيء، القوانين، الأحزاب. إنه مجرد
حدث كريه يتكرر بلا اسم، وما كان تواتر المذابح ممكنًا قبل تجريد
القتلى من إنسانيتهم، قبل إخفائهم ومحو أسمائهم. الجريمة نفسها لم تعد
إنسانية وهذه المسافة تفصل بين القاتل وضحيته. إننا نُقتل لأننا رخيصون
ومبذولون في عصر الموت الذي لن نلقاه يعمل بهذا الدأب في مدن البلدان
المجاورة أو في أوروبا. لا مهلة للحداد، إننا ننام مع الموت ونصحو
عليه، في الشاشات والقصائد والأغنيات، نتجاهله ونتناساه، وفي وفرته ما
عدنا نذكر جرائم الشرف أو منصات الإعدام في ساحات هذه العاصمة أو تلك،
ولا نتوقف عند صفحات الوفيات في الجرائد.
لا يزال الناجون والهاربون أحياء مثلنا، أبقتهم المصادفات على قيد هذه
الحياة، ما زلَّت قدمهم على درج، ولم ينزلقوا تحت عجلات قطار، ولم
تضربهم صاعقة في البراري التي خاضوا وحولها. إنهم نحن أيضًا. ليست
النجاة بالضرورة فرصة أو حظوة أو امتيازًا أو انتصارًا على أحد، إذ
وحدهم "المنتصرون" الذين يقتلون لكي ينجوا يحبون مشاهدة الصرعى،
ويبهجهم أن يروا أعداءهم مقتولين بأسلحتهم أو حتى بأيديهم. الجثث هي
الانتصار.
ربما أدرك الذين قتلهم البحث عن النجاة كيف يتعادى الجميع في الخطر،
وكيف يتقاتل الهالكون على رمق الحياة الأخير، وكيف في لحظة الذعر
الخاطفة يفرح الناجي، لأنه لم يكن القتيل ثم يشعره فرحه بالذنب. بقينا
أحياء، لا لأننا أبطال ظلّوا واقفين بينما يتهاوى الجميع من حولهم، إذ
لا فرادة في هذه النجاة ولا ندرة؛ كنا نصون هشاشتنا ونواري خزينا ونمنع
أنفسنا من التبعثر أينما كنا. كانت حياتنا ملك الآخرين، وأمسى موتنا
البائس مرآة حياتنا البائسة، انتقامًا يائسًا من حياة لم ننلها ودفنّا
مع بقاياها هواننا. نسمع دائمًا من يتكلم باسم الموتى، باسمهم لا نصفح
ولا نغفر ومن أجلهم ننتقم؛ نسمع أنهم لن يرضوا ولا يحق لأحد أن يهدر
دماء الشهداء، كأن الموتى لا يموتون، والمتحدثين يدركون مشاعر القتيل
وينفذون حقًا وصاياه. الخطباء لا يحاورون الموتى ولا يسامرونهم، ربما
لأن الخطباء يجهلون الحوار. هذا ابتزاز للموتى ومتاجرة بأفكارهم
وأحاسيسهم المحتملة فيما لو كانوا على قيد هذه الحياة، مثلما يتاجر
اللصوص بزراعة الأعضاء.
الموتى يوبخوننا بعد مجاورة الرب، يدخلون مناماتنا ويتقلد أبناؤنا
أسماءهم. المساس بالحياة شاقٌّ؛ لأن الموتى لمسوها وشغلوها. إنهم في كل
مكان، يلقمون أجسادهم شراهة الأرض، أو يطعمون بها الجرذان والأسماك
والغربان والكلاب الشاردة، تدفنهم الحرب في الحقول وعلى جنبات الطرقات،
وتعلق رؤوسهم فوق العتبات، تدفنهم في البوادي وباحات السجون، في قيعان
الأنهار وعلى أكتاف الجبال والمقابر البحرية، وتمحو الأمطار رفاتهم،
وتحلق توابيتهم في ثلاجات الطائرات من قارة إلى قارة.
موت المقتلَعين فاقد معناه. بتشييع لاجئ في مخيم، يردد المشيعون أن
الصالحين يمضون في غير أوانهم ويبقى الأوغاد. وفي الأثناء، يتبادل
الأحياء إطلاق الأحكام على بعضهم البعض، ولا يتوانون ولا يتورعون عن
ذلك، فيحكم الخيِّرون الذين هم الجميع على من تبقَّى من الجميع بحكم هو
الرداءة أو الجريمة. نطلق الأحكام كما يطلق الرصاص، سريعة باتة،
والمنتهى مثل روايات المركيز دو ساد هو الوصول إلى سلسلة من جلادين
وأشياء، سلع الأخبار العاجلة معروضة في فيلم وثائقي طويل ومريع ولم يعد
أحد راغبًا في متابعته.
*** *** ***
العربي الجديد