روح حرَّة!
حسن شوتام
1
عندما وقفتُ أمام الشباك الأوتوماتيكي، راودتني رغبة صريحة في طبع عينه
الحمراء الدقيقة بوسطاي! منعتني فقط بطاقتي المدفوعة في أحد جانبيه
واستغراقها في عملية السحب. إنها روحي الحرَّة. روح تشتهي الانطلاق...
تأبى الانتظار وتسارع في تحطيم الموانع! وأكثر ما يقلقها حدَّ
استعانتها بالجسد وحواسه لإعلان ثورتها؛ تلك الثقوب والحفر المترصدة
لحركتها وسفرها الأثيري كلَّما سكن الجسد. تلك العيون المفتوحة أبدًا
كالهاوية تشدُّها قسرًا إلى موانئ الراحة والأمان وهي النقطة التي
باركت لجج المحيطات وتناقلت سُبلها صلوات وأشواق الملاَّحين في أعالي
البحار!
أخذت الأوراق المالية ثم خرجت من مجال مسح العدسة الدقيقة لأعانق فضاء
يتأرَّج هواؤه بطيب الورد البلدي. روحي هنا غير محاصرة رغم وجود
كاميرات ثابتة ومتحركة وخارج النطاق المرئي. يسهل اقتحام روحك الحرَّة
وتفكيكها عندما تصير رقمًا في بطاقة أو نسمة في بيانات الاحصاء على
أنَّ المسألة تغدو أصعب لمَّا تنصهر في بوتقة الحياة وتضيع في زحمة
الرؤوس الحالكة واندفاعها اليومي. روحي الحرَّة تسترخي في مثل هذه
الأجواء، لا تنتظر أحدًا ولا تستجدي أحدًا. ثمة ربما أحشاء رئفة تبكي
خلاصها ولربما عين رحيمة تنتظر رجوعها. لكن من يستطيع إيقاف روح حيَّة
لا تعي البتة انطفاءها. روح حرَّة تؤمن فقط باشتعالها واستهلاكها
اللحظي لأوكسجين الحياة!
2
أتواجد الآن في باحة خاصة بسيارات الأجرة، والغريب أن هذه الأخيرة أضحت
موقفًا لجمهرة من المسافرين ومستودعًا لأمتعتهم وحقائبهم المكدَّسة دون
أثر لعجلات تُدار ولا صوت فرملات تُكبح ولا رقم سيارة يُنادى به عاليًا
كما العادة. الباحة خالية تمامًا والانتظار وحده سيد الموقف! من حسن
حظي أن الوسيط المكلَّف بحراسة المحطة وضبط حركة السيارات وفق ترتيب
مُحدَّد يقف على بعد ذراع مني فقط وفي يده قلم ورزمة أوراق صغيرة تشبه
إلى حدٍّ بعيد تذاكر السفر؛ يعتمدها على الدوام عندما يفوق عدد
المسافرين المُتاح من سيارات الأجرة وتسمح له بتعيين نوبة كل مجموعة
مُؤلَّفة من ستة أفراد. سألته عن سبب هذا الاحتباس البشري فأخبرني
والدهشة تعلو وجهه أن الدخول المدرسي من وراء هذه الحالة. استغربتُ
بدوري لأن أزمة المواصلات تشتدُّ قبل الأعياد الدينية بأيام وبعدها
مباشرة وقلَّما تحدث لأسباب أخرى في مثل هذه البلدات الصغيرة. أخذت منه
ورقة لأنحشر في مجموعة قبل أن يستتب المكان أكثر بالمسافرين. ذكَّرني
قبل أن أبتعد عنه بأنني مع المجموعة الثالثة.
3
دفعتُ الورقة الصغيرة تحت الصينية التي أحضرها نادل المقهى المقابل
لساحة المحطة ثم بدأت في ارتشاف الشاي مُستمتعًا بنكهة النعناع
ومتأمِّلاً هذا الحضور البشري بدهشة ممزوجة بالإعجاب، فليس أجمل من شعب
يستنفر الهِمم لصدِّ الحماقة ويوقظ النفوس المتعطشة للمعرفة والحكمة
والمتشوِّقة لدخول دراسي جديد مثلما يشتاق المؤمن الدخول في راحة الله.
وليس أقبح من "أمة ضحكت من جهلها الأمم"! هل طيُّ واقعنا الحافل
بالهزائم ومضات لانبعاث جامع؟
أخذت رشفة أخيرة طويلة من حافة الكوب ثم وضعته على الصينية بقوة مقصودة
مَنْعًا لتداعي الأفكار وتوارد الأسئلة. بيد أن روحي اللعينة وافتني
بترجمة آنية لوقع كوب الشاي الفارغ وصدى رفيقته الصينية: طيُّ واقعنا
الحافل بالهزائم... مزيدًا من الكؤوس والولائم! تجاهلت الخاطر اللاَّذع
حتى لا يستحيل قرارًا قهريًا أردِّدهُ كلَّما جلست إلى طاولة لأحتسي
كوب شاي. عندما رفعت هامتي لأواجه عراء الباحة فاجأني أمران: دخول ثلاث
سيارات أجرة إلى المحطة مرَّة واحدة وضياع ورقتي الصغيرة!
4
الوسيط يتجبَّر في الميدان. لا ينظر إلى الوجوه. عينه فقط على الأوراق.
الوسيط جمع البراعة من أطرافها، براعة في ضبط عدد المسافرين، براعة في
توزيعهم إلى مجموعات صغيرة وضمِّهم كخُشيْبات بورقة صغيرة مُرقّمة،
براعة في عدِّ وتفكيك أوراقهم المالية، براعة في تكديسهم داخل المرسيدس
وإخراجهم من المحطة بإضافة السابع؛ السائق رقم الكمال! المجموعة الأولى
انتقلت إلى فضاء وفصل جديد. المجموعة الثانية أيضًا بنفس البراعة وعلى
وجه السرعة. يحدث ذلك جبريًّا وكأنهم أرقام على جدول العدِّ. مسافر
وحيد ثم ثان وثالث لا يمنحك فرصة ترك الفصل البسيط. بوجود الرابع، يعظم
أمَلُك.. فأنت في زمرة الفصل الألفي.. بمجيء الخامس والسادس وطلعة
السائق بالضرورة تصيرون سبعة.. هنيئًا أيها المسافر ستدخل فصل الملايين
وتغادر المحطة البائسة حيث أقف أنا وزمرة المساكين!
-
الورقة... الورقة... نعم.. نعم.. وي!
اللَّئيم يُحصي الأوراق مُقطِّب الجبين، لا يرضى بغير الورقة. أذكِّره
بأني أنا المستفسِر عن سرِّ الاحتباس البشري في باحة المحطة منذ حين
وبأنَّ يده المعروقة تلك منحتني التذكرة؛ الورقة التي انفلتت من ثقل
الصينية في غفلة منِّي. الخسيس يتلذَّذ بانتظاري على مرأى من الجميع
وكسابق عادته لا يتطلَّع في وجوه المسافرين وكأنه يتَّقي بذلك عيونًا
تُذكِّره بأنه من عِداد المُتعبين!
"الورقة دليلي آسّي محمد!! خُذ تذكرة أخرى". المجموعة الرابعة!
المنحطُّ عدَّاد لا يرحم! تركتُ يده المُتصلِّبة مُعلَّقة وقد جمعتُ
أمري على الرحيل.
5
تحملني روحي المشتعلة إليكَ. بعيدًا عن الزحمة، قريبًا من الرحمة. رحمة
الملء ورحابة الفصل الخامس. فصل العميان والحمقى. فصل المغضوب عليهم
والضالين. فصل عابري السبيل التائهين. فصل المدمنين ومضاجعي الذكور
الحالمين. أمشي الهوينى لا ألوي على أحد وكلَّما تقدَّمتُ تعطش روحي
أكثر فأكثر لرذاذ حضورك الماكر المجهول. تُراني أخطأت عندما استسلمت
لدعوتك وتفيَّأت بجناحيك العريضين الآسرين؟ بغيض لذيذ لعبك حبيبي
ومُسلِّي... تتركني للفح الفراغ والصمت في عزِّ احتقان البوح وفي كلِّ
مرَّة تذيقني الأمرَّين قبل أن تسقيني عسلك السحري مُجدَّد الاحتقان؟
ألهذا السبب جدَّ في طلبك المفتونون في الجزر البعيدة والمنازل
المهجورة وتحت القناطر المنسية؟ من حسن حظي أن أشرق وجهك ذات ليلة لي
أنا المُبتلى في غرفة بسيطة من فندق... لعمري إني حسن الحظ!
-
ورزازات؟!
أخرجني سائق سيارة "بيكوب" من شرودي وحتى قبل أن يشير إليَّ بالصعود
ألقيت جسدي بخفَّة داخل العربة مُتِّخذًا عجلة احتياط مسطبة للقعود.
ولولا تنبُّهي لوجود سائح يشاركني المقصورة المفتوحة لأعلنت بأعلى صوتي
أني إليك قادم وكلِّي رغبة في خوض المغامرة حتى آخرها هذه المرَّة.
لست أدري من سيفرغ الآخر من احتقانه لكني موقن أنه على طاولة قدس
أقداسنا؛ في الغرفة الصغيرة سنبارك معًا نزالنا الأخير ولقاءنا الأخير.
2014
*** *** ***