عرض كتاب بيير بورديو: أسباب عملية - إعادة النظر بالفلسفة
إميل جعبري
يصعب
أن يفي عرض مختصر سريع انتقائي كتابًا بعمق وأهمية وإشكالية هذا الكتاب
حقه، لا بل قد يسيء له وذلك لأسباب عدة في مقدمتها أنه قلما توجد جملة
فيه ليس لها نصيب من الأهمية والارتباط بالفكرة العامة، غير أن المأمول
أن يدفع هذا العرض المهتمين إلى قراءة الكتاب وتجديد اكتشاف عالم بيير
بورديو.
يبدأ الكاتب بعرض منهجه المعتمَد وقوامه تطبيق "الفلسفة العلائقية"
التي يسمها بأنها فلسفة كل العلوم الحديثة على العلوم الاجتماعية ليزيح
جانبًا التفكير العادي الرتيب "نصفَ العالِم" في العالَم الاجتماعي. ثم
فلسفة الفعل التي تأخذ بعين الاعتبار الإمكانات المحتملة المسجلة في
أجساد الفاعلين وفي بنية الأوضاع التي يقيمون فيها علاقاتهم.
هذه الفلسفة الموجودة مكثفة في عدد قليل من المفاهيم الأساسية هي
السيماء والحقل والرأسمال، وحجر الزاوية فيها العلاقة ذات الاتجاه
المزدوج بين البنيات الموضوعية (بنيات الحقول الاجتماعية) وبين بنيات
الداخلين إلى الحقول (بنيات السيماء).
وربما يكون أحد أهم الأهداف التي يحددها بيير بورديو لتحليل علم
الاجتماع الذي يصفه بأنه لا يراعي أبدًا النرجسية ويقوم بعملية قطع
جذري مع صورة المجاملة المغروسة في الوجود الإنساني، أن يكون الأداة
الأكثر سطوعًا لمعرفة الذات باعتبارها كائنًا اجتماعيًا، أي كائنا
فريدًا، كما أنه يقدم بعض الأدوات الأكثر فاعلية في بلوغ الحرية ومعرفة
الحتميات الاجتماعية التي تسمح بالفوز ضد الحتميات.
أساسُ مفهوم المجال كما يقدمه بورديو هو مجموعة من الأوضاع المميزة
والمتواجدة معًا، يوجد بعضها خارج بعض ويحدد بعضها بعضًا.
ويرى أن المجال الاجتماعي مبني بحيث يكون الفاعلون أو المجموعات موزعين
فيه حسب مبدأين للتفرقة: رأس المال الاقتصادي ورأس المال الثقافي
اللذان يشكلان حجم رأس المال الكلي الذي يحوزه الفاعلون ويتوزعون في
المجال الاجتماعي حسب الوزن النسبي لأنواع رأس المال، الاقتصادي
والثقافي، داخل الحجم الكلي لرأسمالهم.
ينتقل بورديو من مفهوم المجال إلى مفهوم السيماء (العادة)
habitus
وهو مفهوم عميق وواسع للبنيات الفردية والاجتماعية
قدمه بورديو (وعمل عليه مع الكثير من الفلاسفة والمفكرين عبر التاريخ
منذ أرسطو حتى تشومسكي) بأنه ذلك المبدأ المولد والموحد الذي يترجم
الخصائص الباطنة والعلائقية لوضع ما إلى أسلوب في العيش موحد، أي
مجموعة موحدة من اختيارات الأشخاص والممتلكات والممارسات.
وإحدى وظائف مفهوم السيماء الاجتماعية هي بيان وحدة الأسلوب الذي يوحد
ما بين الممارسات والملكيات لفاعل مفرد أو لفئة من الفاعلين.
ثم يتحرك بورديو إلى منطق الطبقات ليخوض في مفاهيم ماركس محلِّلا
ومنتقدًا: يؤهل التجاور في المجال الاجتماعي للتقارب، فالناس المقيمون
في داخل قطاع محدود سيكونون أكثر قرابة (باعتبار خصائصهم واستعداداتهم
وأذواقهم) وأكثر ميلاً للتقارب وأكثر سهولة في التقريب والتحريك. ولكن
ذلك لا يعني أنهم يكونون طبقة بالمعنى الذي حدده ماركس، أي جماعة تتحرك
باتجاه أهداف مشتركة وعلى الأخص ضد طبقة أخرى.
يرى بورديو أن النظرية الماركسية ترتكب خطأ مماثلا للخطأ الذي عابه
ماركس نفسه على هيجل: إنها تقوم "بقفزة مميتة" من الوجود في النظرية
إلى الوجود في الواقع العملي، أو حسب تعبير ماركس "من أشياء المنطق إلى
منطق الأشياء".
إن ماركس الذي زاول أكثر من أي منظِّر آخر مفعول النظرية بوصفه مفعولًا
سياسيًا أصيلًا، ينصب على إتاحة النظر إلى "واقع" لا يعتبر موجودًا
بصورة تامة إلا إذا عرِف واعترِف به، قد أغفل تسجيل هذا المفعول في
نظريته. فالطبقة الواقعية لا توجد واقعيًا (خارج الورق) إلا بمقدار ما
يتم تحقيقها، أي تعبئتها كحصيلة لكفاح رمزي وسياسي.
إن الحل لمشكلة الطبقات الاجتماعية (وهو موجود كما يزعم بورديو) لا
يأتي من الرأي المتهافت الذي يزعم أن المجتمعات الصناعية (الأميركية أو
اليابانية أو الفرنسية) لم تعد إلا طبقة متوسطة هائلة، والذي يحاول
إنكار وجود الطبقات والاختلافات الموجودة في كل مكان، أي في المجال
الاجتماعي الذي توجد فيه الطبقات الاجتماعية في حالة نوعا ما افتراضية،
كشكل مرسوم بالنقط ليس كمعطية ولكن كشيء يتعلق الأمر بفعله.
الرأسمال الجديد
إن الحائزين على رأس المال التعليمي هم الميالون إلى نفاد الصبر
والتمرد ضد امتيازات حائزي رأس المال السياسي، وهم الأقدر على مواجهة
النخبة بشعاراتهم نفسها في المساواة والكفاءة التي هي أساس الشرعية
التي يدعيها النظام.
قد تكون هذه الحقيقة من أهم النقاط التي تدفع لدراسة وفهم الرؤية
العميقة لبيير بورديو بشأن المؤسسة التعليمية ورأس المال الثقافي، حيث
تساهم المؤسسة في إعادة توزيع رأس المال الثقافي من خلال آليات شديدة
التعقيد تحدث في إطار العلاقة بين استراتيجيات العائلات والمنطق الخاص
للمؤسسة التعليمية.
إذ كلما كان رأس المال الثقافي للعائلات أكثر أهمية كان وزنه النسبي
أكبر من رأس المال الاقتصادي، وهذا ما يسمح بفهم الأهمية المتزايدة
التي تعطيها العائلات المتميزة ومن بينها عائلات المثقفين أو المعلمين
أو أصحاب المهن الحرة للتعليم في جميع البلدان الصناعية.
وهذا ما يسمح ليس فقط بفهم كيف تحفظ المجتمعات الصناعية استمراريتها
ولكن أيضًا كيف تتغير تحت تأثير التناقضات الخاصة بنمط إعادة الإنتاج
التعليمي. (حركة طلاب 1968 في فرنسا مثلاً).
تمارس المدرسة على المراهقين تأثير القدر: إذ تفرض المؤسسة التعليمية
أحكامها بقسوة نفسية شديدة تصفُّ عبرها التلاميذ في تراتبية واحدة، يجد
المستبعدون في نهايتها أنفسهم محكومًا عليهم طبقا لمعيار مقبول ومقر
جماعيًا، أي لا يناقش ولم يناقش نفسيًا، وهو الذكاء: ولهذا في الغالب
لا يجدون سبيلاً لاسترداد هوية مهددة إلا بالقطيعة العنيفة مع النظام
التعليمي والنظام الاجتماعي.
تتصرف المؤسسة التعليمية بطريقة شيطان ماكسويل: فهو يحفظ النظام
الموجود مسبقًا أي يحتفظ بالهوة التي تفصل بين التلاميذ الحاصلين على
كميات غير متكافئة من رأس المال الثقافي، وبشكل أكثر تحديدًا يقوم
النظام التعليمي عبر سلسلة من عمليات الفرز بالاحتفاظ بالفوارق
الاجتماعية الموجودة.
على هذه الأرضية المتحركة يمكن لعلم الاجتماع - إن أتيح له - أن يتنبأ
بأن أساس الصراعات الكبرى يكمن مستقبلًا في العلاقة المتوترة أكثر
فأكثر بين أرستقراطية الدولة الكبيرة المحتكرة للمراكز الكبرى في
السلطة والبنوك والصناعة والسياسة، وبين حاملي الشهادات الأدنى مرتبة
في الدولة (ساموراي الثقافة الصغار) الذين سيتذرعون بمبررات كونية
جديدة في نضالهم من أجل زيادة عددهم في السلطة، كما فعل ذلك نبلاء
الأقاليم الصغار في فرنسا وحتى بداية الثورة الفرنسية.
المجال الاجتماعي ومجال السلطة
ينطوي مفهوم المجال على مبدأ التعامل العلائقي للعالم الاجتماعي، أي إن
الواقع الاجتماعي قائم على علاقات التخارج بين مكوناته المختلفة.
وعندما يصف بورديو المجال الاجتماعي الكلي كحقل، فهو يعنيه كمجال للقوى
مفروض بالضرورة على الفاعلين، الداخلين فيه، وكمجال للنضالات التي
يتصادم داخلها الفاعلون بوسائل وغايات مختلفة حسب وضعهم في بنية مجال
القوى، مساهمين بذلك في حفظ البنية - أو تعديلها.
بذلك فإن أحد مسببات النضالات بين مجموعة من الفاعلين أو المؤسسات التي
يجمعها حيازتها لكمية من رأس مال محدد (اقتصادي أو ثقافي على الخصوص)
هو حفظ أو تعديل معدل التبادل بين مختلف أنواع رأس المال وبالتالي
السلطة على الهيئات البيروقراطية التي من اختصاصها تغيير هذا المعدل
بواسطة إجراءات إدارية - "ليست السيادة نتيجة مباشرة وبسيطة لفعل
تمارسه مجموعة من الفاعلين(الطبقة السائدة ) يتقلدون سلطة قمعية، لكنها
نتيجة غير مباشرة لمجموعة معقدة من الأفعال التي تتولد في شبكة الضغوط
التي يتعرض لها كل واحد من السائدين من أقرانه، وهكذا يكون السائدون
مسودين بواسطة الحقل الذي من خلاله يمارسون سيادتهم".
رغم أن هذه الفكرة تستبطن التبرير للسلطات القمعية أو على الأقل
للأفراد أو المؤسسات فيها إلا أنها تظهر أهمية النضال على مستوى الحقل
(لاسيما اقتصاديًا وثقافيًا..) لتحقيق تغيير حقيقي أو ثوري.
روح الدولة: نشأة الحقل البيروقراطي وبنيته
تنتج الدولة فكرًا يكفل عدم معرفة حقيقتها الأكثر أساسية؟
يبدأ بورديو تحليل هذه الفكرة من معرفته لما يسميها إحدى السلطات
العظمى للدولة وهي فرض مقولاتها عن طريق المدرسة، مستشهدا بفقرة من
رواية المعلمون القدامى لتوماس برنار:
المدرسة مدرسة الدولة، نجعل من الشباب فيها مخلوقات للدولة، أي لا شيء
آخر سوى خدم للدولة. عندما دخلت المدرسة، دخلت الدولة، ولأن الدولة
تدمر الكائنات فقد دخلت مؤسسة تدمير الكائنات... أدخلتني الدولة فيها
بالقوة، كما فعلت مع الآخرين، وجعلتني طائعًا لها، وخلقت مني إنسانًا
مدولنًا، إنسانًا مقننًا ومسجلًا ومروضًا وحامل شهادة، ومفسدًا
ومكتئبًا كالآخرين. عندما نرى بشرًا فإننا لا نرى إلا بشرًا مدولنين،
خدامًا للدولة يخدمونها طوال حياتهم، وبالتالي يخدمون طوال حياتهم ما
هو مضاد للطبيعة.
إذن، الدولة هي حصيلة مسار تركيز أنواع مختلفة من رأس المال، رأس مال
القوة البدنية أو أدوات القمع (جيش، شرطة) ورأس مال اقتصادي ورأس مال
ثقافي أو بالأحرى معلوماتي، ورأس مال رمزي، تركيزًا يشكل بحد ذاته
الدولة كحائز على نوع من ما وراء – رأس المال معطيًا سلطة على أنواع
رأس المال الأخرى وعلى من يحوزونها. إن تركيز أنواع رأس المال المختلفة
يقود بالفعل إلى انبثاق رأس مال خاص دولتي تمامًا يسمح للدولة بممارسة
السلطة على الحقول المختلفة وعلى الأنواع المختلفة الخاصة من رأس
المال.
يترتب على ذلك أن بناء الدولة يتم في الوقت نفسه مع بناء حقل السلطة
على مختلف أنواع رأس المال الأخرى وعلى إعادة إنتاجها من خلال المؤسسة
التعليمية على الأقل.
يعرض بورديو لأفكاره بشأن تشكل الدولة مقدمًا تحليلًا عميقًا لا يغني
أي اختصار عن قراءته ليس لأنه يحاور علماء اجتماع بارزين في التاريخ
الحديث (ماركس، دوركهايم، فيبر ...) فحسب إنما للشمولية والإحاطة
والتميز الذي يتصف به.
بناء الدولة للعقول
يبني الفاعلون الاجتماعيون العالم الاجتماعي بوساطة بنى معرفية قابلة
لأن تطبق على كل شيء في العالم وبالأخص على البنى الاجتماعية.
... لكي نفهم حقًا الإذعان المباشر الذي يحصل عليه نظام الدولة ينبغي
القطيعة مع ثقافوية تراث الكانطية - الجديدة وإدراك أن البنى المعرفية
ليست أشكالًا للوعي، ولكن استعدادات للجسد، وأن الطاعة التي نتحلى بها
أمام إيعازات الدولة لا يمكن فهمها إلا كإذعان آلي أمام قوةٍ ما وليس
قبولًا واعيًا بنظام ما.
إن هذا الإذعان من قبل المسودين لبنى نظام اجتماعي تكون البنى العقلية
نتاجًا له، هو ما تمنع الماركسية نفسها من فهمه لأنها تظل حبيسة داخل
التراث الثقافوي لفلسفات الوعي: في مفهوم الوعي الزائف الذي تتبناه
لتعرض آثار السيطرة الرمزية.
إن الخضوع للأمر الواقع هو نتاج الاتفاق بين البنى المعرفية التي طبعها
التاريخ الجمعي والتاريخ الفردي في الأجساد وبين البنى الموضوعية
للعالم التي تنطبق عليه هذه البنى المعرفية. لا تفرض بداهة أوامر
الدولة نفسها بمثل هذه القوة إلا لأن الدولة قد فرضت البنى المعرفية
التي تُدرك من خلالها.
(ينبغي أن يُعمل من هذا المنظور على تحليل الشروط التي تبرر التضحية
العظمى: الموت من أجل الوطن).
ليس الاعتراف بالشرعية فعلا حرًا للوعي الحصيف كما يعتقد ماكس فيبر.
إنه يمتد بجذوره إلى الاتفاق المباشر بين البنى المندمجة التي أصبحت لا
واعية والبنى الموضوعية.
ليس هناك ما هو أدعى للدهشة للذين يراعون أمور البشر بعيون فلسفية من
أن يروا السهولة التي تخضع فيها الأغلبية لحكم الأقلية، وأن يراقبوا
الخضوع الضمني الذي يجعل البشر ينكرون مشاعرهم وانفعالاتهم لصالح
حكامهم. عندما نتساءل عبر أي وسائل تم تحقيق هذا الأمر المدهش، نجد أنه
طالما أن القوة توجد دائمًا في صف المحكومين فإن الحكام لا يجدون ما
يدعمهم سوى الرأي. وبالتالي تقوم الحكومة على الرأي وحده، وهذه القاعدة
تمتد من أكثر الحكومات استبدادًا وأكثرها عسكرية حتى أكثرها ليبرالية
وأكثرها شعبية.
وهكذا فما الرأي إلا وجهة نظر المسيطرين التي تفرض نفسها كوجهة نظر
كونية، وجهة نظر من يسيطرون عن طريق سيطرتهم على الدولة والذين صاغوا
وجهة نظرهم الخاصة في صورة وجهة نظر كونية في إطار صنعهم للدولة.
إن راهنية وإلحاح وجدة أفكار بيير بورديو من الناحيتين العملية
والنظرية، واختراقها الأسوار السرية لتابوهات الدولة ومقولاتها
السائدة، ومحاولته تحليل آليات الفعل الاجتماعي، وإمكانية الاستناد
إليها لإحداث تغييرات باتت ملحة لكسر طوق الحتمية الخانق الذي يسوق
البشرية بشكل عام والبلدان المتخلفة التابعة بشكل خاص في مهاوٍ شديدة
الخطورة، كل هذا وغيره يدفع لقراءة بورديو قراءة متعددة المستويات،
نأمل أن يساهم هذا العرض لجزء من كتابه في التحريض عليها.
*** *** ***